الفصل العاشر

قال سعدون: يا هارون أنا نويت إن شاء الله أن أبيع أرضي وأرض زوجتي. وصمت هارون قليلًا. إنه سيخسر لا شك، ولكن المبالغ التي تعود عليه من الزراعة جميعًا أصبحت ضئيلةً هينةً لا قيمة لها بجانب ثروته التي أصبحت شامخة، وإن كان قد جمعها بكل الوسائل التي لا تنتسب إلى الشموخ. وبيع سعدون للأرض أمر طبيعي فقد علت به السن، فمن الطبيعي أن يضمن انتقال الثروة إلى بنته فهو لم يُرزق الولد.

– ابن عطا الله الذي اشترى أرض حماتك من أبيها، أنت تعرفه؟

– نعم نصيف، إنه ولد طيب.

– جدًّا، وإلا لانتهب الأرض التي اشتراها أبوه شراءً صوريًّا من عثمان بك الله يرحمه، فثمن الأرض اليوم تضاعف عشرات الأضعاف.

– طبعًا، وما شأن الحاج وافي؟

– كبر في السن، وأخشى أن يختاره الله، وهو طبعًا ما زال على وفائه.

– والأربعة الذين اشتروا الأرض من والدك؟

– كلهم على قيد الحياة ووافقوا على البيع.

– الحمد لله، وهل جاءك في الأرض ثمن؟

– نعم ثمن لا بأس به. طبعًا أنت لا تُفكِّر في الشراء؟

– مطلقًا، والواقع أن الزراعة كلها لم تُصبح موردًا هامًّا من مواردي المالية.

– أعلم هذا يا هارون، ويا ليتك بقيت في الزراعة!

– لماذا؟

– أنت تعمل في كل شيء؛ في المقاولات، في التصدير والاستيراد، في التجارة الداخلية والخارجية. لقد أصبح المال بالنسبة إليك غايةً لا وسيلة.

– وهل في هذا عيب؟

– العيب ليس في العمل، وإنما في طريقة العمل. والمال عظيم طالما بقي وسيلة، وكارثة حين يُصبح غاية؛ فالأرقام لا تنتهي، والمنهوم للمال يرتكب كل شيء ليُرضي جشعه.

– ماذا تعني؟

– أعني معاملتكَ مع الآخرين. أنت لا تُراعي الله، وما دمتَ لا تراعي الله فأنت لا تُفكِّر بإنسانيةٍ في معاملتك، لا يُهمُّك أن تُخرب بيوت الناس وتمحقهم محقًا لتنالَ أنت بضعة نقود.

– هذه هي قوانين السوق.

– ألَا تُفكِّر مطلقًا في قوانين الله.

– والله إن جئتَ للحق، إن هذه الفكرة لا تخطر على بالي مطلقًا.

– ومع ذلك حلفت بالله في أول جملتك.

– تعوُّد سخيف.

– أليس هو خالقنا؟

– أشك في هذا.

– فمن الخالق؟

– لا أدري، ربما كانت الطبيعة.

– كلام فارغ. الطبيعة لا عقل لها ولا إرادة.

– ما تعني؟

– أعني أن المعادلات الكيماوية التي تنتسب للطبيعة ليس لها إرادة، فإذا وضعت أكسجين مع هيدروجين لا بد أن ينتج ماء. وإذا أوصلت سلكًا كهربائيًّا سالبًا بآخر موجب لا بد أن تنتج قوةً كهربية.

– وماذا في هذا؟

– إن الله صنعها هكذا، ولكنه أبقى لنفسه الإرادة في أشياء لا تستطيع الطبيعة أن تقترب منها.

– مثل ماذا؟

– مثل إنجاب البنين. كان المفروض أنه ما دام رجل سليم قد تزوَّج من فتاة سليمة فلا بد أن يُنجبا أطفالًا، ولكن هذا لا يحدث، ولا يأتي الأطفال إلا بقوة إلهية عليا. ومثل نزول المطر؛ فقد كان المفروض أنه ما دام البخار قد تصاعد إلى السماء فلا بد أن ينزل المطر، ولكن هذا لا يحدث، فإن الله يُنزل المطر حينما يشاء. والأمثلة على وجود إرادة عظمى وقوة إلهية لا يُحيط بها البشر.

– لقد تقدَّم العلم كثيرًا.

– ولكنه عجز عن أن يجعل العقيم منجبًا، وعجز عن دفع السيل الذي لا يُبقي ولا يذر، أو إنزال المطر. وكل تقدُّم علمي كشف عن قوى إلهية كامنة في الطبيعة يُتيح الله للبشر أن يتعرَّفوا عليها بإرادته وفي اللحظة التي يُريدها. وما تدري نفسٌ ماذا تكسب غدًا، وما تدري نفسٌ بأي أرض تموت.

– أنا لا أُفكِّر في هذه الأشياء.

– لقد عجز رئيس أمريكا أكبر دولة في التاريخ أن يمنع السيول أن تُصيب بيته هو. لقد عجز علَم دولته التي وصلت إلى القمر أن يُواجه إرادة الله في السيول أو الجفاف أو البرد أو الحر أو الميلاد أو الوفاة، وتأتي سعادتك تقول الطبيعة هي التي خلقت. يا لها من خالق عاجز مخلوق بلا عقل ولا تفكير! إن هذا العالم يستحيل أن يُديره إلا قوة عليا من التفكير والتدبير، فالذي خلق الضوء خلق العينَين، والذي خلق الحديث خلق الأذنَين. أي طبيعة هزيلة هذه التي تُفكِّر فيها. كم أنت مسكين يا بني!

– المهم أنني خُلقت.

– وأنت أيضًا ستموت، فلو أن الطبيعة هي التي خلقتك أتُراها أيضًا هي التي ستُميتك؟

– لا أدري.

– فكِّر قليلًا. هل للموت معادلة كيماوية؟ أنت ترى الطفل يموت، والصبي يموت، والشاب يموت، ويبقى الشيخ العجوز المريض، وترى كما قال شوقي:

وقد ذهب الممتلي صحةً
وصحَّ السقيم فلم يذهب

– إن كل هذا الذي تقول لا يشغلني في كثير أو قليل.

– لأنكَ بعيد عن الله كل البعد. دينك وإلهك المال وحده، ولا شريك له، حتى حبك لأبيك وأمك لا وجود له، بل حبك لأبنائك الذي يجب أن يكون غريزيًّا بالسليقة ضئيل عندك بجانب حبك للمال.

– العالم كله مهموم بالمال وبالتقدُّم العلمي.

– إن العالم كله لم يستطِع أن يصل إلى سر الروح، وقد أنفق الاتحاد السوفييتي المليارات من الأموال ليصلوا إلى سر الروح حتى يُدلِّلوا به على صحة مذهبهم الإلحادي، وما زال سر الروح مستغلقًا على العالم أجمع. ألَا إنها من أمر ربي.

– أنت غاضب عليَّ.

– أنا حزين لأجلك، وحزين لأجل أبنائك الذين لا يسمعون اسم الله في بيتهم إلا في الصلاة التي تُقيمها أمهم. أنجاهم الله من كفرك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤