الفصل السابع عشر

عاد الأعراس إلى القاهرة بعد شهر العسل، وبدأت الحياة تأخذ مجراها الطبيعي بين كلٍّ من الزوجَين، وحمدوا جميعًا ما وفَّقهم الله له من اختيار. وتجاوز كلٌّ منهم الأيام الأولى ذلك الاختلاف الذي تتضح معالمه مع الحياة الجديدة، ووجد كلٌّ من الأعراس الأربعة أنه قريب في خلقه وتفكيره مع شريكه أو شريكته؛ فقد كان كلٌّ من الأربعة رَضِيَّ الخلق سمحًا لا يُحب التعقيد.

وكان من الطبيعي أن تكون الحياة بين هناء وشهاب أكثر يسرًا؛ فكلٌّ منهما يعرف الآخر منذ وُلد، فما بعجيب أن تتفق بينهما الميول والمآرب والرغبات.

أمَّا فائق وإلهام فقد وجدا بعض الصعوبات في الأيام الأولى، ثم ما لبثت الحياة أن لانت بينهما، وتجاوز كلٌّ منهما عمَّا لا يتفق وعاداته؛ فقد كانت المبادئ الأساسية في خلق كل منهما واحدة.

عاد الزوجان والزوجتان سعداء جميعًا. وبدأ شهاب يعمل مهندسًا في شركة أبيه، كما عمل فائق محاسبًا فيها أيضًا، إلا أن الأخوَين حين انفرد بهما المكان في صالون شهاب الفاخر كان بينهما حديث:

– ما رأيك يا شهاب هل سنظل نعمل في شركة أبينا؟

– أنا معك؛ فأنا لا أستطيع أن أُحقِّق ذاتي فيها.

– ولا أنا.

– نعمل حتى يجد كلٌّ منا مكانًا آخر يُرضيه فأنا لا أحب الفراغ.

– نحن متفقان.

وعلى هذا الرأي استقرَّ بهما الأمر، فكان كلٌّ منهما يعمل حتى لا يُواجه الفراغ، وكان كلٌّ منهما يبحث عن المكان الذي يجد نفسه فيه.

•••

حملت إلهام ولم تحمل هناء، ومرَّت ثلاثة أشهر دون أن تحمل، ووجد شهاب أمه تسأله عشرات المرات: هل آن لنا أن نفرح بابن لك أو ابنة كما سنفرح بمولود فائق؟ وأمام هذه الأسئلة المتلاحقة لم يجد شهاب بُدًّا من أن يذهب إلى طبيب ليتأكَّد أن ليس به ما يمنع الإنجاب. وواجهته الحقيقة المريرة، إنه لا يصلح للإنجاب أبدًا ولا يصلح معه علاج؛ فإن الذي يُعانيه مرض خلقي لا يمنعه من المعاشرة الزوجية الطبيعية، ولكن يمنعه من الإنجاب.

وقع الخبر على شهاب موقعًا عنيفًا، وعاد إلى البيت وهو يُجاهد نفسه جهادًا شاقًّا ألَّا يبدو عليه ما يعانيه من ألم. سبحانك ربي لماذا أكون شجرةً جافةً بلا ثمار؟! حسبي الله ونعم الوكيل!

ادَّعى الإجهاد وذهب إلى فراشه وكأنه سينام، ولكن النوم لم يمسَّ جفونه طول الليل، وهناء تُحس أنه يُعاني شيئًا يُخفيه. وفي الصباح ترك فراشه مبكِّرًا وأحسَّت به هناء فلحقت به، وعلى مائدة الإفطار سألته: ماذا بك يا شهاب؟

– ما رأيكِ أن نزور جدي في البلدة، إننا لم نزره منذ رجعنا من باريس؟

– لا مانع عندي، ولكن لماذا لا تقول لي ماذا بك؟ لا تقل الإجابة البلهاء لا شيء؛ فإن يكن زواجنا منذ شهور فإن معرفتي بك منذ بدأنا نعي ما حولنا أنا وأنت، فأنت ابن خالتي.

– حين نعود من عند جدي سأخبرك.

وسافرا إلى الحاج حامد، ورحَّب بهما الجدَّان ترحيبًا شديدًا، وأدرك الحاج حامد أن حفيده يُعاني مأساةً يُحاول أن يتكتَّمها. فما إن خلت بهما حجرة الاستقبال حتى نظر الجد إلى حفيده نظرةً طويلةً أدركها شهاب وقال: نعم.

– فقل ما بك.

– أنا عاجز عن الإنجاب.

– عاجز عن الإنجاب أم عن المعاشرة الزوجية؟ آه نسيت أنت طبعًا غير عاجز عن المعاشرة.

وابتسم شهاب فقد أدرك أن جده تذكَّر حادثة الآداب التي مرَّ بها، وقال شهاب: الحيوانات الصالحة للإنجاب معدومة تقريبًا.

– لا حول ولا قوة إلا بالله.

وأطرق الحاج حامد قليلًا، ثم قال: أكان يُسعدك أن تأتي بابن يصنع بكَ ما صنعه أبوك؟

– أنتَ تعرف يا جدي أنني موفور المال والحمد لله.

– وهل يتمثَّل الجود في المال فقط يا شهاب؟

وصمت شهاب قليلًا، ثم قال: لا، طبعًا.

– لا أحد يعرف أين السعادة، وإن يكن سبحانه قال: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فهو سبحانه أيضًا قال: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ. الله وحده يعرف برحمته أين يكمن الخير لعباده.

– فإذا رضيتُ أنا فما ذنب هناء.

– أخبرها وخيِّرها.

– طبعًا لن تقبل الطلاق من أجل هذا.

– هذا هو الأغلب.

– هل أُطلِّقها؟

– وهل دخلتَ إلى قلبها لتعرف أي الأمرَين أحب إليها؛ أن تبقى معك بلا أولاد أم تتزوَّج من غيرك لتنجب؟ ألَا يجوز أن يكون طلاقك لها أشد مرارةً عندها من عدم الإنجاب؟

– وكيف أدري؟

– تدري من معاملتها لك ومعاملتها للحياة، فاصبر ولا تتعجَّل.

– أمري إلى الله.

•••

وفي الطريق إلى القاهرة خطرت برأس شهاب فكرة أنس إليها ووجد فيها الخلاص من حيرته. حاولت هناء أن تعرف منه ما يشغله، ولكنه أصرَّ على الكتمان، ولم تفُز منه إلا بجملة واحدة وهما يقتربان إلى القاهرة، بعد أن ومضت هذه الفكرة في خاطره واطمأن إليها: بعد وصولنا بساعة ستعرفين كل شيء.

بلغا القاهرة وأنزل الخدمُ الحقائب وقال لها شهاب: سأذهب إلى مشوار سريع وأعود حالًا.

ما هي إلا بعض الساعة حتى كان شهاب جالسًا مع زوجته، وصمت قليلًا وهي تتحرَّق شوقًا لتعرف ما يُعانيه زوجها.

أخرج شهاب من جيبه ورقةً وأعطاها لهناء وهو يقول: اقرئي هذه.

وقرأت وتولَّاها الذهول: ما هذا؟

– ألم تقرئي؟

– لماذا؟

– لأني عرفتُ من الطبيب أنني غير قادر على الإنجاب.

– ومعنى هذا أن تكتب هذه الورقة! ألَا تسألني؟

– أعرف ما ستُجيبين به.

– إن تصرُّفك تصرُّف فارس شريف، وأنا أقبل ما صنعتَ لسر واحد لا تعرفه أنت، وأعرفه أنا لأني درست القانون.

– ما هو هذا السر؟

– إن إعطاء العصمة لي لا يمنعك حقَّك في الطلاق أنت أيضًا حين تشاء؛ فأنت لم تتنازل عن حقك في الطلاق كما يظن عامة الناس وأفلام الشاشة، وإنما معناه فقط أنك أشركتني معك في الاختيار. أنت رجل عظيم، وطظ في الأولاد.

وطفرت دمعتان من عينَيها استقبلهما بكاء عالي النشيج من شهاب، كأنه يُطلق به كل ما عاناه في هذه الأيام. وقامت الزوجة واحتضنت زوجها وراحت تربت ظهره في حب وحنان وكأنها تُعلن إليه إصرارها على الحفاظ عليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤