الفصل الثاني

حين عاد سعدون إلى بيته، استقبلته زوجته وفيَّة الزهَّار التي تزوَّجها منذ خمسة وعشرين عامًا زواجًا نمطيًّا؛ فقد كان والده عبد الهادي بك عمارة صديقًا لوالدها عثمان بك الزهَّار، وكانا متجاورَين في الأرض، وكانا يُقيمان شأن ذلك الزمان بالريف أغلب الوقت. فكانا يسهران معًا في بيت أحدهما يلعبان النرد ويلتقيان بالناس. وكان كلٌّ منهما يعرف أصدقاء الآخر معرفته بأصدقائه وبفلاحي أرضه هو؛ فكان عبد الهادي دائمًا يلتقي في مجلس عثمان الزهَّار باثنين لا يغيبان عن مجالسته؛ أحدهما عطا الله عبد السيد، وهو تاجر أقطانٍ صغير يعمل في كميات قليلة من القطن دون توسُّع في البيع أو الشراء، ولكنه كان ميسورًا كريمًا على نفسه، حسن المظهر دائمًا، وكان يلبس الجلباب البلدي الأنيق، فإن كان الشتاء يلبس معطفًا من الصوف الجيد. وكان يُجيد الحديث عالمًا بأسرار المنطقة. وكان عبد الهادي يسمع منه دائمًا أخبارًا جديدة. وكان لبيبًا في تعليقاته، ذكيًّا كل الذكاء في تفهُّمه لما يسمع. وكان يقرأ الجرائد بدقة شأن التجار ليتقصَّى أخبار السياسة صاحبة العامل الأول في أسعار التجارة وخاصةً القطن. أمَّا الرجل الثاني فقد كان الحاج وافي العسكري، وليس اسم العسكري دليلًا على أنه كان يعمل في الجيش أو الشرطة، وإنما هو اسمٌ وجده لنفسه وعُرفت به أسرته دون أن يكون له معنًى أو أصل تاريخي. وقد كان الحاج وافي من أعيان بلدة النمايلة التي بها أرض عثمان بك الزهَّار وبيته. وكان الحاج وافي يعمل في تجارة الغِلال. وكان يأبى أن يشتري أرضًا لتظل أمواله كلها سائلةً حرةً يشتري بها ما يُتاح له من صفقات. وكانت محاوراته مع عطا الله أفندي تُضفي على الجِلسة نسمات رطيبة من الضحك وخفة الروح. وقد كان أيضًا على صلات كثيرة بالناس، شأنه شأن عطا الله أفندي، وكان يعرف خباياهم. ولم يكن له إلا ولد واحد، وكان هذا يُسعده على عكس ما عُرف عن أعيان الريف من حبهم لكثرة الأبناء، في حين كان لعطا الله أربعة أبناء كلهم ذكور.

وكان عثمان بك إذا زار عبد الهادي بك وجد عنده دائمًا ناظر زراعته إبراهيم أفندي جندية، ولم يكن أفنديًّا كامل الأفندية، وإنما كان يلبس مثل عطا الله عبد السيد الجلباب البلدي والطربوش. وبالطربوش وحده اكتسب لقب أفندي كما اكتسبه أيضًا بخبرته الدقيقة بالحساب والدوبيا. والدوبيا هذه لفظة لا يعرفها أبناء الجيل الجديد … إنها طريقة خاصة للحسابات، أغلب الأمر كانت تتم بها محاسبات الزراعة.

وكان إبراهيم رجلًا أمينًا غاية الأمانة، لا عيب فيه إلا ادعاءه لنفسه من الأعمال الجلائل ما لم يقُم به، ولكن هذا في ذاته كان يُضفي على حديثه ظُرفًا يُتيح لعبد الهادي بك وجلسائه أن يتفكَّهوا به ويتندَّروا عليه. فكان يقبل دعاباتهم في سماحة، ويمضي في حديثه عن أعماله الجليلة وكأن أحدًا لم يقُل شيئًا أو يسخر ممَّا يقول.

وكان من جلسائه الشيخ متولي عبد الموجود، وكان فلَّاحًا حاذقًا في الفلاحة، ويحفظ القرآن وإن كان لا يلبس العمامة، وكان لا يملك إلا فدَّانَين يحصل منهما على محصولٍ لا تُنتجه خمسة أفدنة. وكان عبد الهادي يُغدق عليه الهدايا، وكان هو محبًّا أشد الحب لعبد الهادي بك.

وكان في مجلس عثمان أيضًا شخص آخر يجده عبد الهادي كلما زاره، وهو بلال أفندي عبد الفتاح. وكان مدرِّسًا في المدارس الإلزامية، ومحبًّا للشعر يحفظ منه الكثير وينظم منه القليل. وكان عبد الهادي وعثمان يأنسان إلى حديثه، سواء كان راويًا للشعر أو ناظمًا له. وكان لمَّاح الذهن حاضر البديهة يملك أربعة أفدنة، وكانت مع مرتبه تجعل منه واحدًا من أغنياء القرية، خاصةً وأنه كان شديد البخل إلا في ملبسه الذي كان دائمًا أنيقًا. وكانت الصداقة بين عثمان وعبد الهادي وطيدة، ولهذا لم يكُن غريبًا أن يتزوَّج سعدون وفيَّة. ولم يُلاقِ عبد الهادي بك من ابنه أي ممانعة؛ فلم يكن سعدون يعرف فتاةً أخرى، وكانت الفتيات عنده كلهنَّ متساويات لا فارق ثمة بين فتاة وفتاة، وكل ما فعله أنه سأل أباه عنها: شفتها يا أبويا؟

– طبعًا شفتها.

– حلوة؟

– قمر.

– توكَّل على الله.

ولم تكُن وفيَّة قمرًا، ولكنها أيضًا لم تكُن قبيحة. كانت فتاةً كأي فتاةٍ لا تجتذب عينَيك إذا رأيتَها، وهي أيضًا لا تجعل عينَيك تنصرفان عنها. كانت بيضاء البشرة، ذات شعر أسود لا هو بالمسترسل ولا هو أيضًا بالملبد، ذات عينَين سوداوَين في غير ضيق ولا اتساع. تلقَّت تعليمها في المدارس حتى بلغت السنة الثانية من الثانوي، ثم ضاقت بالتعليم أو ضاق بها التعليم فأقامت في بيت أبيها تنتظر العدل.

وتزوَّجت سعدون، وكان سعدون أيضًا قد ترك التعليم بعد حصوله على البكالوريا التي تقلَّبت عليها الأسماء فأصبحت توجيهيةً ثم أصبحت ثانويةً عامة.

ولم يكُن سعدون راغبًا في إكمال تعليمه، ولا كان أبوه مهتمًّا بذلك أيضًا، راجيًا أن يتفرَّغ سعدون لفلاحة الأرض.

ولكن سعدون لم يكُن يهوى الفلاحة، فما لبث بعد زواجه بسنة وبضعة أشهر أن أقام في بيت أبيه في القاهرة في حي جاردن سيتي. ولم يكُن البيت فخمًا ولا كان متواضعًا، وإنما وسط بين هذا وذاك. ولم يكُن أبوه راضيًا عن ذلك، ثم احتسب الله: ربما بعد أن أموت أنا يُضطر سعدون إلى فلاحة الأرض، فليس له مورد رزق حقيقي إلا هي وعمارة الزمالك وعمارة عابدين، وهما عمارتان قديمتان ما يلبثان أن يُهدما ويجد سعدون نفسه وجهًا لوجه مع الأرض. وماذا سيفعل في أرض زوجته، إنها سترث أيضًا؟ اتركها لله كله بأمره.

تعوَّد سعدون منذ ذهب إلى القاهرة أن يجلس في بار الأنجلو الذي يضم كثيرين من الأعيان، وكان البار في الصباح مقهًى، وفي الليل بار.

وأصبح سعدون زبونًا دائمًا له في الليل، أمَّا في الصباح فهو يعكف في البيت على القراءة، فكان يقرأ بنهَم شديد وبمتعة لا مثيل لها. ووجد نفسه في جِلسة المساء جالسًا إلى قوم لا همَّ لهم إلا شرب الخمر وتبادل الحديث المخمور، فكان لا بد له أن يُشاربهم. وأعجبته نشوة الخمر فصار يشرب، حتى إذا مرَّت به وفيَّة آخر الليل لتصحبه إلى البيت، وجدته في حالة سكر بيِّن. وضاقت بهذه الكارثة، ولكنها ما لبثت أن راضت نفسها على قَبول الأمر الواقع، فلم يكن لها حيلة إلا أن تقبل الأمر الواقع.

وأحبَّ سعدون الخمر وفُتن بمجالسة المخمورين، وتعوَّد كلما جاء السائق ليدعوه للقيام ويُبلغه أن الست تنتظره يقول له: يا مغفل، ابحث عني بعض الوقت، هل لا بد أن تجدني بهذه السرعة؟

ويُتابع الشرب، ويظل السائق رائحًا غاديًا بينه وبين وفيَّة حتى يقوم كارهًا.

ولم تمضِ سنة على مجيئه إلى القاهرة حتى حملت وفيَّة طفلتها الأولى حميدة، ولم يمضِ أكثر من عام وبعض عام حتى رُزق الزوجان بابنتهما الثانية وجيدة. ولم يكن سعدون يُهمه أن يُنجب البنين أو البنات؛ فقد أصبح لا يعنيه من الحياة إلا الكأس والقراءة التي يتفرَّغ لها نهاره كله. ولم يكن أمر سعدون خافيًا على هارون، ولكنه أبى أن يذكر له وهو يُفاوضه في الأرض معرفته بحبه لبار الأنجلو وما يشربه فيه.

كانت حميدة في العشرين من عمرها حين تمَّت الصفقة بين هارون وسعدون.

وكان سعدون إذا لم يكن مخمورًا غايةً في التعقُّل والاتزان، وكانت الخمر تُخرجه عن وقاره بعض الشيء، ولكنه لم يكُن يخرج عن أدبه قط. وكان يستطيع أن يتحكَّم في ألفاظه. وكان ذكيًّا في سُكره، فإذا أراد أن يُصارح أحد أصدقائه برأي لاذع فيه، ادعى أنه سكران وقال ما يُريد قوله.

لهم صديق اسمه عيسى حامد ثري غاية الثراء، بخيل كز غاية البخل والكزازة، ويتمتَّع شأن كل بخيل بصفاقة يشهد له بها جميع رُوَّاد المقهى. يأتي في كل ليلة ويمر على المناضد واحدةً بعد أخرى، وتدعوه كل منضدة إلى كأس أو كأسَين يشربه أو يشربهما وينتقل إلى منضدة أخرى، فما إن تنتهي دورته على المناضد حتى يكون قد نال من الويسكي كفايته دون أن يُنفق مليمًا واحدًا. وفي ليلة مرَّ كعادته بمنضدة سعدون، وكان لسان سعدون قد بدأ يتلوَّى من الخمر فيبدو كأن الويسكي قد تعتعه فنادى بأعلى صوته: مانولي!

فجاء القاهي: أفندم سعادة البك؟

– حسابنا كله الليلة عند عيسى بك حامد.

وزُلزل عيسى زلزالًا شديدًا: ماذا؟!

– أي ماذا يا أخي؟! أنت كل يوم تأتي إلى المقهى وتسكر مجانًا وتروح. ادفع مرةً الحساب عن نفسك، ألَا تُحب أن تشعر مرةً بلذة السكر على نفقتك الخاصة؟

– ولكن هذا ظلم يا سعدون بك.

– الظلم ما أفعله أنا بك أم ما تعمله أنت في زبائن المقهى كل ليلة؟ خِف ولا تثقل حتى لا يضيق بكَ أصحابكَ ورفاق كأسك.

وهكذا كان يفعل سعدون كلما عنَّ له أن يُصارح أحد الجالسين معه برأيه فيه، فكان أصدقاؤه يُحبون مجالسته كل الحب، ويضحكون ممَّا يفعله ويقوله.

وقد ارتاح سعدون كل الارتياح للصفقة التي أتمَّها مع هارون، وحين عاد إلى زوجته بعد إتمام الصفقة أخبرها بها فإذا هي تقول: مبروك يا سعدون ولكن لماذا نسيتني؟

– كيف؟

– أرضي.

– أليست أرضك مع عطا الله أفندي والحاج وافي؟

– إنها معهما بناءً على عقد بيع صوري، ولا أحصل منهما إلا على مبالغ ضئيلة. فلمَ لا تُؤجِّر الأرض لهارون ويدفع لي مثلما يدفع له؟

– والله فكرة.

•••

كان عثمان الزهَّار يُدرك أن ليس له إلا بنت واحدة، وكان يملك مائة فدَّان، لو مات عنها ما ورثت ابنته إلا نصف الأرض، ويُشاركها أخوه مجدي وأخته تفيدة في النصف الآخر. فتشاور مع زوجته بهية على أن يبيع أرضه مناصفةً لعطا الله أفندي وللحاج وافي، ويكتب كلٌّ منهما على نفسه وصل أمانة بقيمة الأرض. واستحسنت بهيَّة الفكرة، ونفَّذها عثمان فعلًا وسجَّل الأرض، ولم يمر على تسجيل الأرض سنة حتى كان عثمان قد انتقل إلى رحمة الله قبل أن يشهد ثورة ٥٢.

•••

أمَّا عبد الهادي فقد شهد ثورة ٥٢، ولحق به قانون الإصلاح الزراعي الأول. وكان يملك سبعين فدَّانًا فلم يكن واقعًا تحت طائلة القانون، ولكنه أدرك بإلهامٍ لا يدري مأتاه أن الأمر لن يقِف بالثورة عند هذا، فقال لابنه سعدون: أرى ألَّا نُبقي لكَ أكثر من خمسين فدَّانًا.

– تُريد أن تبيع عشرين فدَّانًا؟

– نبيعها ولا نبيعها.

– يجب أن تكون واثقًا من المشترين.

– لقد فكَّرتُ فيهم فعلًا.

– إبراهيم أفندي جندية ومن؟

– أنا لا أُريد أن أبيع للشخص الواحد أكثر من خمسة أفدنة.

– كلام معقول.

– طبعًا سأبيع خمسة أفدنة لوالي قطب.

– طبعًا هذا واحد منا.

– وما رأيك في الاثنَين الآخرَين؟

– موجودان.

– من؟

– ما رأيك في الشيخ متولي وبلال أفندي؟

– ونعم.

– على بركة الله.

– على بركة الله.

وتمَّ البيع الصوري لكل هؤلاء فعلًا، ولكن استمرَّ عبد الهادي يزرع حتى تُوفي. وحين ورث سعدون الأرض ظلَّ الأمر على ما كان أيام أبيه، ولم يجد هارون أيه صعوبة في تسلُّم الأفدنة السبعين كاملةً بما فيها العشرون فدَّانًا المبيعة بيعًا صوريًّا.

•••

أمَّا الحاج حامد بركات والد هارون فكان لا يملك إلا بيتًا في عابدين وأربعين فدَّانًا، وحين صدر قانون الإصلاح الزراعي الأول باع أرضه كلها لابنه هارون حتى يُعفيه من ضريبة التركات. وكان هارون في ذلك الحين قد ترك الدراسة وبقي في الأرض يفلحها ويُحاول أن يُسدِّد الديون المتراكمة عليها لبنك التسليف. ولم يكن الأمر سهلًا، ولكنه بذكائه الشديد استطاع أن يجعل أموره تسير. وكان هارون في ذلك الحين في الخامسة والعشرين من عمره، ولكن درايته بإدارة السلفيات وتأجيلها والحصول على سلفة جديدة لتسديد سلفة قديمة حلَّ موعدها، كانت داريةً واسعةً مكَّنته ومكَّنت أباه وأمه أن يعيشوا عيشةً ميسرة. وحين تمكَّن من عقد صفقته مع سعدون أحسَّ أنه على أبواب الغنى الذي يسعى له سعيًا حثيثًا، لا يردُّه عنه شيء، ولا يقِف في سبيل وصوله إليه حائل، مهما يكن هذا الحائل متصلًا بالنزاهة أو غيرها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤