الفصل الرابع

جلس هارون إلى والده وأمه وهما يشربان قهوة الصباح، وقال الحاج حامد: هيه يا هارون، ماذا تنوي أن تزرع أرض سعدون وزوجته؟

– والله يا أبي لم أُقرِّر بعد. أبحث في فكرة زراعة موالح.

– ربنا يُوفِّقك يا ابني.

– المهم أُريد أن أقول لكما شيئًا أعتقد أنكما ستفرحان له.

وقال أبوه: هيه هل آن الأوان؟

وقالت الأم في فرحة: أخيرًا نويت؟

وضحك هارون مقهقهًا وهو يقول: وهل قلتُ شيئًا؟

وقال الحاج حامد: بل قلتَ كل شيء.

وقال هارون: إذن موافقان؟

وقال الحاج: على الزواج نعم، ولكن ألَا تُخبرنا من العروس؟

قال هارون: حسبتُك عرفتَها؟

وقالت الأم: حميدة بنت سعدون عمارة.

وضحك هارون: وكيف عرفتِها؟

وقال الحاج حامد في ظُرف وابتسامة: المسألة لا تحتاج إلى ذكاء.

– وما رأيكَ يا أبويا؟

– والله لا عيب فيها إلا إدمان أبيها للخمر.

وقالت الحاجة توحيدة: ونحن ما لنا وما له؟

وقال الحاج حامد: توكَّل على الله، إن سعدون صديقي وحبيبي منذ سنوات.

وشدَّت الأم ابنها فقام من مجلسه، واحتضنته أمه في سعادة غامرة ودموع من الفرح تترقرق في عينَيها: ألف مبروك يا بني، ألف مبروك يا هارون.

وقال هارون: على مهلكِ يا أمي، ألَا نعرف أولًا إن كانت عائلة سعدون موافقةً أم لا؟

قالت الأم: لا، من هذه الجهة لا يكن عندك فكر. طبعًا موافقة.

وقال هارون: متى تستطيعان السفر إلى القاهرة؟

وقال الحاج حامد: إن شئتَ قمنا معك الآن.

وقال هارون: لا ليس إلى هذا الحد. نُكلِّمهم أولًا ونتفق على موعد.

وقال الحاج حامد: وهو كذلك.

•••

إن للفتيات في سن حميدة ووجيدة حاسة سادسة يُدركن بها أن هناك نظرةً نافذةً تُحيط بهن، وتتعرَّف ما يُحاولن أن يُخفينه من أعماق نفوسهن.

وبهذه الحاسة لم يخفَ عن حميدة ووجيدة النظرات المتلصِّصة التي كان يختلسها هارون طوال فترة الغداء.

وأدركت حميدة أنها أقرب إلى اختياره من وجيدة: كانت نظراته إليَّ أكثر تعمُّقًا. والله لا بأس به، ربما كان أكبر مني قليلًا ولكنه مناسب على أيه حال، وأحسب أنني أستطيع أن أطمئن إلى حياتي وأنا زوجة له. وأنا — والحمد لله — لا أُحب أحدًا بذاته، وإن كان توفيق قريبنا الذي لا أعرف درجة قرابته لي يُحاول أن يُشعرني باهتمامه بي، إلا أنني لا أرتاح إليه. إنه لا يعرف شيئًا عن مشاعر الحب التي يُحاول أن يتخفَّى وراءها بالنظرات التي أُحس فيها بالكذب، والكلمات التي أشعر فيها بالاصطناع الذي يفشل أن يُخفيه.

وأحسب أن توفيق بلا مشاعر على الإطلاق. وأرى أيضًا أن هارون بلا مشاعر على الإطلاق، ولكنه لا شك ذو عقل واعٍ رصين تجرِبته أكبر من سنه بكثير. ثم هو ليس فقيرًا فقر توفيق، فإن كان يُفكِّر في مال أبي وأمي فليزيد هذا المال، فليس هناك ما يدعوه أن ينهبه. أمَّا توفيق فشاب ما زال في نزق الشباب، وليس بعيدًا حين يخلص هذا المال إليَّ بعد عمر طويل أن ينهبه توفيق ليُنفقه على ملذَّات الشباب، الأمر الذي لا أخشاه مطلقًا من هارون؛ فواضح أن هارون كلِف بالثروة وَلُوع بالغنى. ولا بأس على أن يكون زوجي، فأغلب الأمر أنه سيجعلني سعيدةً في حياتي، وأنه سيجعل حياتي هذه بلا مشاكل على الإطلاق. وأنا أعرف نفسي وأعرف أنني أُحب أن أحيا حياةً راضية، وإن كنتُ أُحب الأشياء النفيسة، فلا يستطيع أحدٌ أن يُلبي هذه الرغبات التي تزخر بها نفسي إلا رجل غني، وواضح أن هارون سيُصبح ذلك الغني الذي يتمنَّى لنفسه أن يكونه.

أمَّا وجيدة فقد أحسَّت بنظرات هارون: واضح أنه اختار حميدة؛ فأنا وحميدة متقاربتان في الجمال. وطبيعي ما دام الأمر كذلك أن يختار الكبرى ما دام الاختيار قائمًا على العقل وحده، فما رآني ولا رأى حميدة قبل اليوم، وليس فيَّ شيء يجعله يُفضِّلني على حميدة.

وفيمَ العجلة؟ فكما وجدتْ حميدة هارون، أو كما وجد هارون حميدة، فالطبيعي والمعقول أن أجد من يجدني أنا أيضًا، فهنيئًا لحميدة بهارون، وهنيئًا لهارون بحميدة.

•••

لم يُدهش سعدون ولا دُهشت وفيَّة حين دقَّ جرس التليفون في منزلهما وكان المتحدِّث الحاج حامد بركات؛ فكلاهما لم يغرب عنه سرعة اقتناع هارون أن يتولَّى أرض وفيَّة كما تولَّى أرض سعدون، ورأيا في ذلك دلالةً على أنه انتوى شيئًا، ولم تستطِع وفيَّة أن تكتم ما جاش في صدرها: أتراهنني أنه ينوي أن يخطب واحدةً من البنتَين؟

– لا، لا أُراهنك فهذا أمر محتمل. وما رأيك؟

– والله الرجل لا عيب فيه.

– ربما كان أذكى ممَّا ينبغي.

– وهل هذا عيب؟

– أحيانًا كثيرةً يكون الذكاء المفرط شرًّا من الغباء.

– ما هذا الكلام؟

– عيب الأذكياء أنهم لا يُقدِّرون ذكاء الآخرين فيقعون في مشاكل لا حد لها.

– ما هذه الفلسفة؟

– تعلَّمتها من تجارِبي مع الناس، ومن كثرة ما قرأت.

– أهذا عيبه في نظرك؟

– وهو يتعجَّل الغنى.

– الله يُبارك له.

– عيب هؤلاء أنهم لا يذكرون الله كثيرًا ولا يعنيهم أن يُرضوه.

– يا أخي قل هذا الكلام لنفسك!

– الله يعلم ما بيني وبينه، أمَّا إن كنتِ تقصدين الخمرة فعقوبتها ستون جلدة، وأنا عامل حسابي أن يجلدني الملائكة الجلدات الستين، ثم سيكون كتابي بعد هذا في يميني إن شاء الله.

– عيني عليك باردة، أنت مرتب كل أمورك مع ربك.

– حسبي أني لا أوذي أحدًا.

– بل أنتَ تُؤذي أهم إنسان بالنسبة لك.

– من هذا؟

– نفسك. أنت تُحطِّم كبدك، والذي لا يحافظ على نفسه لا يستطيع على أن يُحافظ على الناس.

– المرض والموت من عند الله.

– سبحانه من عنده كل شيء، ولكن الإنسان لا ينتحر ثم يقول الموت من عند الله، هذا كفر.

– الكفر والإيمان الله وحده يعلمه.

– ألَا تخشى أن تعتدي على أحد وأنت سكران؟

– أنا لا أشرب إلا بعد أن أُصلِّي العشاء، وكل الذين حولي سكارى والحمد لله، والسكران يفهم السكران الآخر ولا يغضب منه.

– عجيبة! إننا نسمع كل يوم عن السكران الذي قتل، والسكران الذي بطح.

– أتظنين أنني يمكن أن أقتل أو أبطح؟

– المهم هل معنى هذا أن نرفض هارون؟

– أنا لم أقل نرفضه، ولكن فقط أذكر لكِ عيوبه، وأدعو الله أن يقيه شر نفسه ولهفته على جمع المال.

– ولمن سيكون هذا المال، أليس لابنتك وأحفادك؟

– يا وفيَّة المهم ليس المال، إنما المهم كيف نجمع هذا المال.

– أيسرق؟

– إذا تأكَّد أن أحدًا لن يكشف سرقته. وهناك وسائل كثيرة لجمع المال عند المنهوم، السرقة واحدة منها.

– اترك المستقبل لله.

– كان التليفون الذي دقَّه في منزلهم الحاج حامد يوم السبت، وتواعدوا على أن يتناول الحاج حامد وأسرته الغداء في بيتهم يوم الإثنَين.

•••

قال حامد: بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين، أنا يا سعدون بك أملك أربعين فدَّانًا وبيتًا في المنيرة، ولذلك لم تنَل مني الثورة سهمًا واحدًا. وأنا وأنت أصدقاء منذ زمن بعيد.

– نحمد الله ونشكر فضله.

– منذ أول قانونٍ بعتُ الأرض بعقد مُسجَّل في الشهر العقاري لهارون ابني، ولم يبقَ على ذمتي شيء إلا البيت. وهارون هو الذي يُنفق عليَّ أنا وأمه، ونحن مطالبنا لا تزيد على اللقمة والهدمة وفنجان القهوة.

– أطال الله عمرك.

– ونُريد أن نُزوِّج هارون.

– على بركة الله.

– مد يدك واقرأ معي الفاتحة على خطبة حميدة لهارون.

– على بركة الله، ولكن ألَا ترى أن نسألها؟

– طبعًا، قم فاسألها.

– قد تطلب مهلة.

– المهلة تكون حين تُريد أُسرة الخطيبة أن تسأل عن أُسرة الخاطب، وهذا لا داعي له بيننا؛ فكلٌّ منا يعرف عن الآخر كل شيء.

ولأول مرة يتدخَّل هارون قائلًا: يا أبي لا تُحرج سعدون بك.

وقالت وفيَّة: لا يا هارون، ليس هناك أي حرج، وإن كان على السؤال فسأقوم أنا وأسألها الآن.

وقال الحاج حامد: توكَّلي على الله.

وقامت وفيَّة وعادت وعلى وجهها إشراق الأم حين تفرح بابنتها وقالت: اقرأ الفاتحة يا سعدون على بركة الله.

وما هو إلا شهر وبعض شهر حتى تمَّ الزواج.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤