الفصل الخامس

كان الحاج حامد قد اشترى بيته بالمنيرة أيام الحرب العالمية الثانية، وكان يُقيم به أوقاتًا كثيرة، إلا أنه أخيرًا فضَّل أن يُقيم ببيته في قريته الحمايدة ولا يترك الريف؛ فقد كان أصدقاؤه في القاهرة أغلبهم قد اشتغل بهموم الدنيا التي تكاثرت بعد الثورة، فوجد أن في إقامته بالحمايدة ما يُعينه على قطع الوقت مع أهل البلد الذين يزورونه، وفي لعب النرد مع بعضهم وأغلب القاصدين إليه.

وربما كان مختار عمر أكثر الزائرين له انتظامًا في الزيارة. ومختار عمر مدرِّس ابتدائي أحب الحاج حامد وأنِس إليه، وكان يلعب معه النرد أحيانًا، حتى إذا ملَّاها جرى بينهما الحديث تعليقًا على ما جاء في الصحف، أو تعليقًا على ما يحدث في القرية أو في القرى المجاورة. وكان مختار يزور الحاج حامد في الصباح حين ينتهي من دروس المدرسة، ويتركه وقت الغداء ليعود إليه بعد القيلولة ليستأنفا ما انقطع من حديث الصباح أو الظهيرة. وكان هناك زائرون كُثر للحاج حامد، فهو يحظى بين أهل الحمايدة بالحب والتقدير؛ فقد كان رجلًا سمْحًا في معاملته للناس، حريصًا أن يُرضي الجميع، وكان يُعين الناس على قضاء حوائجهم. وكانوا يعرفون أنه ليس ذا ثراء؛ فلم يكن أحد يطلب إليه أن يُعينه بمال، هبةً كان هذا المال أو كان قرضًا. وكان منتداه في الصيف حديقةً غير معتنًى بها، ولكنها تقع من البيت في مكان ظليل بجوار جدار البيت. وكان هذا المنتدى في الشتاء قاعةً واسعةً داخل البيت، نظيفة الأثاث في غير أناقة. وهكذا تيسَّرت له الحياة. وكان هارون بارًّا به، يُراعي دائمًا أن يجعله هو ووالدته في غير حاجة إلى شيء. وكان إلى ذلك الحين يُلبِّي أية رغبة لهما حتى وإن لم يُبدياها، رغم أنه كان يجهد كل الجهد في الحصول على المال لكثرة الدين. وحين صدر قانون الإصلاح الزراعي كان الحاج حامد يزرع فدادينه الأربعين كلها، ولم يكن ماهرًا في الزراعة؛ ولهذا أصبحت الأرض مدينةً لبنك التسليف بدين ليس هينًا، وإن كان لا يستغرق الأرض كلها.

وقد أدرك هارون أنه لا يصلح للتعليم في سن باكرة، ولم يكن أبوه حريصًا على إرغامه أن يُكمل تعليمه؛ فقد كان قد تبيَّن فيه هوايته الشديدة للزراعة، وارتأى أن إشرافه على الأرض سيكون خيرًا له من الشهادة، خاصةً وأنه يتعثَّر دائمًا في دراسته، كما يتعثَّر أبوه في زراعته.

ترك التعليم وهو في الثالثة الثانوية، وكانت حتى ذلك الحين تُعادل الأولى الثانوية الآن. وبطبيعة الحال لم يتولَّ شأن الأرض منذ بقائه بالبيت، وإنما ظلَّت الأرض تحت رعاية أبيه. وحين صدر قانون الإصلاح الزراعي كان هارون هو فعلًا الذي يرعى الأرض ويُعامل بنك التسليف، وما كان على أبيه إلا التوقيع حين يطلب إليه هارون هذا التوقيع.

فحين صدر القانون خشي الحاج حامد أن تصدر قوانين أخرى. ولحسن حظه أو حظ هارون — إن شئت — أنه لم يكن يُؤجِّر الأرض، ولا كان يُشارك الفلَّاحين بالمزارعة فيها، وإنما كان يزرعها جميعًا لحسابه، وكذلك فعل هارون حين استقلَّ بالإشراف على الأرض.

كان هارون قد شغلته الأرض ورغبة الغنى حتى عن نفسه، وخاصةً أن حالة الزراعة في الفترة التي أعقبت القانون وما استتبعه من إجراءاتٍ جديدة في بنك التسليف، وهبوط أسعار المحاصيل، كل ذلك جعله ذاهلًا عن كل شيء، إلا أن يُواجه هذا الطوفان الجديد، وإن لم يكن خاضعًا لأهوال هذا الطوفان.

وهكذا لم يُفكِّر في الزواج إلا بعد ذلك بسنوات، وربما كان لقاؤه بحميدة هو الذي جعله يتذكَّر أنه لم يتزوَّج بعد، وأنه قد آن له أن يفعل. وما كان إلحاح أمه عنده إلا كلمةً عابرةً تلتقطها منه أذن وتُفلتها منها الأذن الأخرى. وحين تزوَّج كانت الليلة الأولى موقفًا صعبًا بالنسبة إليه وإلى حميدة في وقتٍ معًا؛ فهو مع خبرته الواسعة في معاملة الحياة والناس لم يتعوَّد أن يُعامل النساء إلا في نزوات عابرة كانت تتم في الليالي التي يقضيها بالقاهرة. أمَّا حميدة فموقفها موقف الفتاة الشريفة التي عاشت عمرها كلَّه في بيت أبيها، ولا تعرف عن الرجال إلا ما كان زميلاتها في المدرسة يتهامسن به تهامسًا خاطفًا لا يُكوِّن تجرِبةً ولا يُقدِّم علمًا، خاصةً وأنها تركت المدرسة في سن مبكرة. وكانت الليلة الأولى في بيت المنيرة؛ فقد استقرَّ الرأي أن يقضوا فيه الأيام التالية للزواج.

وحين خلت بهما الحجرة: شرَّفتِ منزلك.

– شكرًا.

– إن شاء الله سأعمل على أن تكوني سعيدةً دائمًا ولا تحملي همًّا.

– أتوقَّع هذا منك.

– وما الذي جعلكِ تتوقَّعينه؟

– الذي سمعتُه عنكَ والذي رأيتُه فيك.

– وماذا سمعت؟

– أنكَ حملتَ مسئولية بيتكَ وأنتَ في سن صغيرة، وأنكَ جادٌّ في حياتك، وأنكَ قادر على جعل الناس يُحبُّونك.

– الحمد لله! وما الذي رأيتِه فيَّ؟

– رأيتك في لقائي الوحيد بك تَزِن الكلام قبل أن تقوله، وتأبى أن تقول كلامًا إلا إذا كان له معنًى.

– أرجو الله أن تكون حياتي معكِ محقِّقةً لهذه الآراء.

– إن شاء الله.

– قولي لي.

– أقول لك.

– هل تُحبين البقاء في هذا البيت الكبير، أم نجعل الإقامة الأساسية لنا في البلد؟ فقد قال لي والدك مرةً إنكم تُحبُّون أن تقضوا في الريف بضعة أيام من حين إلى آخر.

– هذا صحيح.

– ثم إنك في البلد ستجدين أمي وأبي معكِ دائمًا، وهنا ستكونين وحدكِ في فترات طويلة، فأنت تعرفين أن دخلنا الأساسي من الزراعة، ولا بد لي أن أكون قريبًا من الأرض أغلب الوقت.

– واضح أنك تُريدني أن أُقيم في البلد؟

– ذكاء توقعتُه منك.

– أنا أُواجه حياةً جديدة، وأُريد أن يكون أساس معاملتي لكَ الصراحة والصدق.

– أُحب هذا.

– ولو أنكَ لا تفعله.

وقهقه هارون وهو يقول: وكيف عرفتِ هذا أيضًا؟

– واضح أنكَ بارع في الدوران بالحديث، وأن لكَ قدرةً على أن تجعل الرغبة التي في نفسك تُعرَض عليكَ من الذي تُحدِّثه، فيبدو الأمر كأنه عرض منه هو لا رغبة في نفسكَ أنت.

وقهقه مرةً أخرى وهو يقول: واضح أنكِ تُحاولين في ذكاء شديد أن تُحلِّلي كل جانب من جوانب نفسي.

– أنتَ منذ اليوم المحور الذي تدور عليه حياتي كلها.

– وأنتِ أيضًا.

– أشكرك، ولكن هذا مستحيل؛ فإن لكَ مشاغلكَ في الزراعة وزيادة دخلكَ ومعاملة الناس، فأنا قد أُمثِّل جانبًا هامًّا في حياتك، في حين تُمثِّل أنتَ حياتي كلها.

– ولكن كل هذه المحاور التي قد تشغلني الهدف منها أن تجعل حياتنا سعيدة.

– إن الرغبة في الغنى أغلب الأمر تكون غريزةً في النفس، وإن كانت تُحاول أن تبحث لنفسها عن مُبرِّرات أخرى.

– ماذا قرأتِ من كتب؟

– لا أُخفي عليكَ أني أُحب القراءة والروايات، بالذات العربية، والأجنبية الفرنسية بالذات؛ فقد كنتُ في مدرسة فرنسية إلى السنة الثانية الثانوية.

– أعرف، وواضح أن ثقافتكِ أكبر بكثير ممَّا حصَّلتِه في المدرسة.

– وماذا تقرأ أنت؟

– أنا كما تعرفين لم أكن تلميذًا مجدًّا …

– هذا لا شأن له بالقراءة.

– أُحب أن أقرأ في الاقتصاد.

– طبعًا.

– ولا أُخفي عنك أن قراءتي فيه تجعلني حين أتحدَّث إلى أساتذة الاقتصاد الكبار أفهم لغتهم كل الفهم.

– مُؤكَّد، وأغلب الأمر أنكَ تُجادلهم مجادلة الند للند.

– الحقيقة لا أشعر أنهم يعرفون شيئًا لا أعرفه.

– ليس هذا بغريب عليك، فما دمتَ تقرأ في الاقتصاد فأنتَ مثلهم في العلم النظري، وتزيد عليهم في الممارسة العملية.

– إنكِ ماهرة جدًّا في الحديث. لقد استطعتِ أن تبعدي بنا عن سؤالي الأول ولو أنني أحسب أنني عرفت الإجابة.

– لا شك أنكَ عرفتها.

– لكِ ما شئت، فلْتقيمي إذن في القاهرة.

– ولكن هذا لا يمنع أن أُرافقك إلى البلدة حين ترغب في ذلك.

– اتفقنا.

•••

توثَّقت الصداقة بين سعدون والحاج حامد، فكان الحاج حامد يحرص كل الحرص أن يزور سعدون كلما جاء إلى زيارة زوجة ابنه. وكان سعدون يأنس إلى الحاج حامد، وكان يُكثر من زيارته في البلدة، ويعود في نفس اليوم حتى لا تفوته جِلسة المقهى.

وجرت الحياة رخاءً في الأسرة الصغيرة الجديدة، وفي الأسرتَين الأُخريَين اللتين جمعهما النسب الجديد.

وشاء الله أن يكون زواج هارون خيرًا وبركةً على بيت سعدون؛ فلم تمضِ إلا شهور ثلاثة حتى تقدَّم لخطبة وجيدة أستاذ بدرجة مدرِّس في كلية الحقوق يملك أبواه حوالي عشرين فدَّانًا وهو ابنهما الوحيد، هو أيضًا شأن هارون في عائلة حامد. ولم يكن العريس أمجد حماد قد رأى العروس، فدبَّرت تحية هانم الأحمدي واسطة العريس اللقاء، ورضي كلٌّ من العروسَين عن الآخر. وتم الزواج بعد شهرَين من الخطبة، وسكن الزوجان حي الجيزة ليكون الزوج قريبًا من الجامعة. ولم تمرَّ سنة حتى رُزقا بهناء، ثم مرَّت سنة أُخرى ورُزقا بأيمن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤