الفصل السادس

ما هذا الذي حدث؟! كيف استطاع هارون أن يجحد فضل أبوَيه هذا الجحود؟ لقد أصبح لا يزورهما إلا في القليل النادر، حتى إنه كان يزور القرية ويمر بالأرض ولا يلقى والدَيه، وإنما يذهب إلى مزارعه الأُخرى.

ربما زارهما مرةً في الشهر، أو قد يمر شهران أو أكثر ولا يراهما! وكأنما كان الحاج حامد يتوقَّع هذا، ولكن الحاجة توحيدة كانت تعيسةً بهذا التجاهل من ابنها تعاسةً فاجعة.

وكان هارون قد دأب أن يسهر مع حميه سعدون، ولكنه كان لا يشرب معه إلا في القليل النادر. وفي هذه السهرات تعرَّف على عبد المجيد زين الدين، وكان زين الدين مشهورًا أنه من كبار الأغنياء. وفي ليلةٍ سأل هارون: ماذا تزرع يا هارون؟

– أُحاول زراعة الموالح.

– تحتاج إلى صبر طويل وإنفاق كبير وخبرة عميقة.

– وماذا ترى سعادتك؟

– أتعرف مكتبي في شارع قصر النيل رقم ١٤.

– عظيم.

– تمر عليَّ غدًا الساعة الثانية عشرة.

قال له في المكتب: عندي لكَ زراعة تكسب منها مبالغ خيالية.

– خيرًا؟

– الأعشاب الطبية.

– سمعتُ عنها، ولكن كيف أبيعها؟

– هذا عملي؛ فإني متعاقد مع شركات أجنبية، وإني سأشتري منكَ المحاصيل كلها، وسأدلكَ على محلَّات التقاوي وكيفية الزراعة، وأدفع لك مقدَّم ثمن المحصول حتى لا تتكلَّف أنتَ وحدك الإنفاق عليها. وتستطيع أن تُبقي في نفس الوقت على أشجار البرتقال.

– شيء عظيم.

– نكتب عقدًا؟

– عشرة عقود إذا أردت.

– سنكتب عقدًا واحدًا على أربعة أنواع من الأعشاب، وبعد أن تُجرِّب الزراعة نزيد العقود إن شاء الله.

– وهو كذلك.

وكانت فاتحة خير عميمٍ على هارون؛ فقد بدأ يزرع هذه الأعشاب وبرع في زراعتها براعةً فائقة، واستطاع أن يُبقي أشجار الموالح في الأرض، وكسب آلافًا من الجنيهات.

•••

ومرَّت سنوات ازدادت فيها ثروة هارون زيادةً فائقة، وأنجب في خلال هذه السنوات شهاب وفائق من بعده، وطبعًا فرح بولدَيه ولكن فرحه بالمكاسب كان أكبر. وكانت حياته في البيت هادئةً مطمئنة، ولم يكن ازدياد ثروته مفاجأةً لحميدة؛ فقد كانت تعرف رغبته العارمة في الغنى والاستكثار من الأموال.

•••

لم يكتفِ هارون بالمكاسب التي كانت تُدرُّها عليه عقوده مع مكتب عبد المجيد زين الدين، فتاقت نفسه إلى مكاسب أعظم، حتى وإن ضحَّى بمن كان سببًا في هذا الغنى الذي بلغه؛ فراح يُغدق المال على رفعت فوَّاز سكرتير عبد المجيد زين الدين، وقد كان مثله شَرِهًا للمال. وفي يوم:

– قل لي يا رفعت.

– تحت أمرك يا هارون بك.

– لو طلبتُ منكَ شيئًا؟

– لا أتأخَّر.

– أسماء الشركات التي يتعامل معها عبد المجيد زين الدين في الخارج.

– آه، وماذا تصنع بها؟

– مجرَّد علم.

– هارون بك أنت رجل ذكي، فأرجوكَ لا تظن أن الآخرين أغبياء.

– أُعطيك عن اسم كل شركة خمسمائة جنيه.

– ألف.

– ألف.

وعرف الأسماء وعناوينها، وسافر إليها، واستطاع في سهولة أن يُغري الشركات بالتعاقد معه على أن يكون وكيلها في مصر وفي الشرق الأوسط كله، وقد كان واثقًا من نجاح عروضه؛ لأن الأسعار التي قدَّمها كان فيها للشركة أرباح أكبر ممَّا يُحقِّقه لها عبد المجيد زين الدين.

ولم يُهم هارون أنه قطع مورد الرزق الوحيد الذي كان يعيش عليه عبد المجيد زين الدين، ولم يُهمه أيضًا أن الحياة ستُرغمه على لقائه؛ فعند المال كل شيء مباح، وكل شيء يهون.

كان لقاؤه بعبد المجيد زين الدين في المقهى مع سعدون. ولم يقُل عبد المجيد شيئًا أول الأمر، حتى إذا شرب كأسه الثالثة وسرت حُميَّاه في دمائه.

نظر إلى سعدون: سعدون.

– أفندم؟

– أُهنئك.

– خير إن شاء الله.

– لقد زوَّجت ابنتكَ الكبرى لأسفل رجل في العالم.

– أعوذ بالله لماذا هذا؟

وقال هارون: لا عليكَ يا عمي؛ فإن الخسارة مؤلمة.

فقال سعدون: هل تسبَّبت في خسارته؟

وقال عبد المجيد: خسارة هينة. خرب بيتي تمامًا.

وقال سعدون: لا حول ولا قوة إلا بالله! لماذا يا هارون؟ لماذا يا ابني أنت غير محتاج.

وقال هارون في تحَدٍّ وصلافة وجمود وجه: السوق لا يعرف إلا من يفهمه.

وقال عبد المجيد في ثورة مكبوتة: بلا شرف؟

– هذه ألفاظ لا شأن لها بالسوق.

وقال سعدون: بل التجارة شرف يا ابني. لا حول ولا قوة إلا بالله!

وقال هارون لينهي المناقشة: أستأذن أنا … سلام عليكم.

وقال عبد المجيد: الله يخرب بيتك كما خربت بيتي … مع السلامة. ولماذا السلامة؟ مع الموت والخراب إن شاء الله.

وانصرف هارون، وتجهَّم المجلس، وقال سعدون: لا علينا، نعود إلى ما كُنَّا فيه.

وعندما حان انصرافهم همس سعدون في أذن عبد المجيد: أنت بكرة في المكتب؟

– إن شاء الله.

– انتظرني الساعة الثانية عشرة.

– أهلًا وسهلًا.

سعدون في طبيعته هادئ خجول، ولعل كثرة قراءته زادت من خجله هذا.

لا يزول عنه خجله إلا حين يشرب. وكان في مجلسه من عبد المجيد أسيفًا يكاد الحياء يُرتج شفتَيه، ولكنه كان مُصمِّمًا أن يقول ما يُريد قوله: أنا آسف.

– وأنتَ ما ذنبك؟

– علي الأقل عرفتَه عن طريقي.

– كان يمكن أن أعرفه عن طريق أي إنسان.

– على كل حال أنا أشعر كأنني أنا المذنب.

– الأمر لله.

– أنا لا أستطيع أن أُعوِّضك عن الخسارة التي لحقت بك، ولكنني أرى من واجبي أن أُخفِّف وقعها عليك.

– أنا شاكر مشاعرك على كل حال.

– المشاعر في هذه المواقف لا تعني شيئًا.

– لا يملك الناس غيرها.

– عبد المجيد، لكَ عندي في كل شهر مائتا جنيه. كنتُ أتمنَّى أن أُقدِّم لكَ أكثر ولكن …

– ما هذا الذي تقول؟!

– ما سمعت.

– وكيف أقبل؟

– لتُفكِّر أولًا كيف تعيش مستورًا.

وصمت عبد المجيد وأطرق، ولم يستطِع أن يرد دمعتَين تحدَّرتا على وجنتَيه.

– لا أستطيع في حالتي التي أنا عليها اليوم أن أمتنع، فإن تكن كرامتي ترفض فحاجتي تلح.

– أخوك ويقف إلى جانبك.

– ونعم الأخ!

– سلام عليكم.

– مع ألف سلامة مع الشكر … لا أستطيع …

واختنق مرةً أخرى بالبكاء.

– السلام عليكم.

•••

ولم يقُل سعدون شيئًا لهارون عمَّا صنعه مع عبد المجيد، فكان شأن هارون عجيبًا معه؛ فقد زاد من المبالغ التي كان متفقًا عليها معه ومع حماته دون أن يطلب ذلك؛ ربما لأنه كان يعلم أن إباحة الأرض له ليزرعها قائمة على توكيل من صاحبَي الأرض الصوريَّين، فكان في مقدور سعدون وزوجته أن يأمرا عطا الله أفندي والحاج وافي بأن يُسقطا التوكيل عن هارون كما يُسقطه عنه سعدون نفسه. وإذا فقد هارون هذه الأرض فإنه يفقد شيئًا ليس هينًا، ولو أنه استولى بنفس الطريقة على أرض أُخرى كثيرة، أصحابها يُقيمون بعيدًا عنها ولا قدرة لهم على مواجهة الزراعة، ولكن مساحة الأرض المتاحة له من حميه وحماته ليست بالشيء القليل، وهو أيضًا حريص ألَّا يُسيء إلى بيته، ولا يُنغِّصه من ناحيته مُنغِّص. فلو أن حماته وحماه لم يرضيا عنه لأثار هذا ما لا يُحب له أن يثور من مشاكل في بيته.

أمَّا أبوه وأمه فلا يستطيعان أن يُثيرا مشاكل فبخل عليهما بُخلًا شديدًا؛ فكانت تمر شهور لا يُرسل إليهما مالًا مع علمه أن لأبيه ريع أرضه التي استولى عليها، وله أيضًا بيته الذي يُقيم فيه، وإن يكن قد جمَّل بيت أبيه هذا وأثَّثه بأفخر الفراش، إلا أنه يظل مع ذلك بيت أبيه.

الوحيد الذي كان يزور حامد وزوجته من القاهرة هو سعدون، وقد أصبح يصحب حفيدَيه شهاب وفائق ليزورا جدَّيهما ويمرحا في القرية في كل يوم جمعة. وأنس الطفلان إلى الجدَّين أُنسًا شديدًا. وكان المال الذي يُرسله إليهما هارون كلما تذكَّرهما لا يكاد يفي بما يحتاجان إليه من طعام وملبس ودواء، فكانا في ضيق مالي شديد لم يخفَ أمره على سعدون، وكان حائرًا ماذا يستطيع أن يفعل إلا أن يأتي في كل أسبوع بهديةٍ كبيرة نافعة للأبوَين المهجورَين، فأحيانًا يأتي لهما بطعام وفير، أو يأتي لهما بملابس، وكان يقبلانها في إذعانٍ يقرب إلى الذلة.

وتعرَّف سعدون في هذه الزيارات على أصدقاء حامد جميعًا، وأنِس إليهم وأحبَّهم.

•••

مرضت الحاجة توحيدة وعادها طبيب الوحدة وهو صديق؛ فلم يقبل أن يتقاضى أجر الزيارة. ولم يكن المرض خطيرًا ولكنه كان يحتاج إلى دواء على أية حال، وليس معهما ثمن الدواء، واضطُر الحاج حامد كارهًا حزينًا أن يطلب ابنه في التليفون ويُخبره أن والدته مريضة.

– مريضة بماذا؟

– المصران الغليظ.

– بسيطة.

– الحمد لله.

– على كل حال سأحضر قريبًا لأراها.

– أهلًا بك.

واستكبر الأب أن يقول لابنه أرسل الدواء، ووضع سمَّاعة التليفون. ورأت الأم ما ارتسم على وجهه من أسًى وشجن وحزن، وقامت من فراشها، وما هي إلا لحظات حتى عادت: حاج حامد.

– نعم يا توحيدة.

– لا تحمل الهم أبدًا، خُذ هذا الكردان.

– حتى المصاغ القليل الذي تملكينه ستبيعينه هو أيضًا؟!

– بيعه خير من أن يرثه ابن لنا جحد أبويه. بِعه يا حاج حامد. ما فائدة المصاغ إن لم يكن عونًا عند الشدة، فما دمنا فقدنا ضمير ابننا، فلا بأس علينا أن نستعين بمصاغنا.

وأخذ الحاج حامد المصاغ، ولم يكن معه أُجر السيارة إلى الزقازيق أو القطار إلى القاهرة، فراح يُفكِّر في الأمر.

ترك الحاج توحيدة في مجلسها وخرج يخلو بنفسه في غرفة الاستقبال، ولم يُتِح له مختار عمر أن يخلو إلى نفسه طويلا: سلام عليكم!

وفي صوت هادئ ليس فيه رنة الترحاب التي تعوَّدها مختار منه: أهلًا.

– ما لك؟

– لا شيء.

– بلا هناك أشياء. أنتَ تحمل همًّا ثقيلًا.

– ومن فيها مرتاح يا مختار؟

– المؤمن.

– نحمده؛ فبالإيمان نحتمل الحياة.

– كنتُ مسافرًا إلى القاهرة، ولكنني لا أستطيع أن أترككَ على هذه الحال.

أنا كنت ذاهبًا أزور الأولياء وبعض أقاربي.

– كتر خيرك.

ثم وضحت في ذهنه فكرة: مختار، أنا أُريدكَ أن تذهب إلى القاهرة.

– أُسافر، أُسافر حتى ولو لم أكن ناويًا للسفر، فما بالكَ وأنا أنتويه.

– الحاجة عندها قطعة مصاغ تُريد أن تبيعها لتشتري بثمنها قطعةً أخرى رأتها عند إحدى السيدات اللائي يزرنها.

– وما له.

واعتصرت قلبَ مختار يدٌ قاسية كبت آثارها أن تبدو على وجهه، فما يدري هل وُفِّق إلى ذلك أم لم يُوفَّق، وإنما قال كلمته السريعة، ثم صمت لحظات يكتم إجهاشة بكاء تعتصر فؤاده، حتى إذا استوثق أن صوته لن يخونه قال: هاتِها.

– هاكَها.

فأخذ الكردان ووضعه في جيبه وقام: أقوم أنا لأعود مبكرًا.

– مع السلامة.

•••

حين نزل مختار إلى القاهرة توجَّه من فوره إلى الصاغة وعرض الكردان للبيع، فكان أكبر ثمن له ثلاثمائة جنيه، فأعاده إلى جيبه، وقبل أن يُغادر الدكَّان الذي كان فيه بحث في دفتر التليفون وعثر على الرقم الذي يُريده وأدار القرص به: منزل سعدون بك؟

– وجاءه صوت سعدون.

– نعم أنا هو، من الطالب؟

– مختار عمر صديق الحاج حامد.

ورحَّب به سعدون: يا أهلًا يا مرحبًا! أين أنتَ يا مختار أفندي؟

– أنا هنا في القاهرة وأُريد أن أشوفك.

– يا مرحبًا نتغدَّى معًا اليوم.

– أعفني من الغداء، أُريد أن أرجع اليوم.

– تعال أولًا ثم نتكلَّم في موضوع الغداء.

•••

وقصَّ عليه قصة الكردان ومرض الحاجة توحيدة، وأطرق سعدون طويلًا وقد تمزَّقت نياط قلبه: ألهذا نأتي بمن يخلفنا؟! أنهب لهم مالنا وأنفسنا ليجعلوا منَّا حطامًا من البشر؟ وفكَّر كثيرًا: كيف سيصل بالمال إلى حامد دون أن يعرف حامد أنه منه.

وحين طال الصمت خشي مختار أن يكون قد جاء إلى من لا يُعنيه الأمر، وأنه أخطأ المقصد والمتجه فزاد حزنه، بل أُضيف إليه الخجل من نفسه والأسف أنه أذاع سر صديقه بغير داعٍ إلى ذلك، وقال: سعدون بك كأني لم أقُل لكَ شيئًا.

وأفاق سعدون من أحزانه وقال في حدة: يا أخي انتظر، أو فَكِّر معي على الأقل!

– أُفكِّر؟! فيمَ أُفكِّر؟

– ألَا تدري فيمَ تُفكِّر؟

– لا والله، بل ولا أدري أن المسألة تحتاج إلى تفكير.

– شأنكَ عجيب يا مختار أفندي!

– هل شأني أنا هو العجيب؟

– أم تُراك تظن أنه شأني أنا هو العجيب؟

– والله نعم. أظن أن شأني أنا ليس عجيبًا. صديق لكَ في محنة وقصدتُ إليك، فبدلًا من أن تدفع عنه هذه المحنة تصمت؟!

– وهل هي مِحنة واحدة؟

– الموجود حاليًّا مِحنة واحدة.

– بل مِحَن كثيرة.

– كثيرة؟

– المِحنة الأولى جحود ابنهما لهما. والمِحنة الثانية كيف نُقدِّم المال لهذَين العظيمَين؟ إنهما ليسا فقيريَن من الذين تعوَّدوا مدَّ أيديهم للناس وابنهما من كبار أغنياء مصر. أمَّا مسألة الكردان هذه فلا قيمة لها.

– كيف؟

– سأُعطيك المبلغ وآخذ الكردان، وأجعل الحفيدَين يشتريان لجدتهما قطعتَين من الذهب ضعفَي ثمن هذا الكردان، على أن يكون ذلك بعد شهر أو أكثر، حتى لا يظنا بالهدية منهما ظنًّا لا نُريده أن يخطر على بالهما.

– نِعم التفكير.

– كيف نُقدِّم لهما هذا المال بعد ذلك، تلك هي المحنة.

– ونِعم الأخ أنت يا سعدون بك.

– قل هل عندكم مكتب بريد.

– عندنا.

– إذن حُلَّت.

– كيف؟

– لا شأن لك. انتظر حتى آتي لكَ بثمن الكردان. تقول ثلاثمائة جنيه؟

– نعم.

– ولكنك تستطيع أن تقول إنكَ بعته بأربعمائة.

– أنعم وأكرم!

ومنذ ذلك اليوم كانت تصل الحاج حامد شهريًّا خطابات مُسجَّلة بمبلغ ثلاثمائة جنيه مع بطاقة باسم هارون حامد بركات. ولم يقِف المبلغ عند هذا الحد، بل كان يرتفع مع زيادة الغلاء حتى بلغ بعد سنوات ستمائة جنيه في الشهر. ولم ينسَ في نفس الوقت عبد المجيد؛ فقد كان يزيد له المبلغ الشهري حتى يُواجه الغلاء الذي يفغر فاه المتوحِّش على الناس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤