الفصل الأول

جعجعة بلا طحن

في مرحلة مبكرة من حياتنا يباغت أغلبنا هذا السؤال: «من أين جاء كل شيء؟» قد نتساءل أيضًا، أين كانت ذاتنا الواعية قبل أن نُولد؟ هل يمكنك أن تحدد ذكرياتك الأولى؟ عندما التحقتُ بالمدرسة لأول مرة، كنت أتذكر بوضوح أحداث العامين أو الثلاثة السابقة، لا سيما العطلات الصيفية التي قضيناها على شاطئ البحر، لكن عندما حاولت أن أسترجع الأحداث المبكرة في حياتي، غامت الرؤى متلاشيةً حتى العدم. قيل لي إن سبب هذا هو أنني وُلدت منذ خمس سنوات فحسب، في عام ١٩٤٥. في نفس الوقت، تحدث والداي عن أحد الحروب، وعن أمور وقعت لهما قبل هذه الحرب، لكن لم يكن لهذا أي مدلول عندي؛ فالعالم الذي عرفته لمَّا يكن موجودًا حينها، وبدا لي أنه بدأ بمولدي، وأنه جاء مُجهزًا بآباء وكبار آخرين. كيف عاشوا «قبل» عالمي الواعي؟

ظل الفراغ الغريب الذي ابتلع كل شيء حتى عام ١٩٤٥ يزعجني، ثم وقع حدث عام ١٩٦٩ منحني منظورًا جديدًا لهذه المشكلة.

كانت أبولو ١٠ تحوم فوق سطح القمر، التي كشفت معجزة الاتصالات عن أنه أرض جرداء مهجورة من الصخور والحصى. كانت صحراء الغبار الرمادي هذه تمتد حتى أفق القمر، الذي أخذ شكلًا منحنيًا قبالة فراغ أسود مرصع بالنجوم المتناثرة؛ تلك الكرات الميتة من الهيدروجين التي تتفجر لينبعث منها الضوء. وسط هذه الصورة القاحلة، إذا بجوهرة زرقاء جميلة ذات سحب بيضاء وقارات خضراء من النباتات، ولأول مرة يشهد البشر ما يعرف ﺑ «شروق الأرض». ثمة مكان واحد على الأقل في الكون توجد به حياة، في صورة مجموعات هائلة من الذرات نُظمت على نحو يجعلها تملك وعيًا ذاتيًّا وقادرة على التحديق في الكون في تعجب.

ماذا لو لم تكن هناك حياة ذكية؟ بأي منطق كان سيوجد أي من هذا لو لم تكن هناك حياة تدركه؟ منذ عشرة مليارات عام كان من الممكن أن يكون الحال على هذا النحو: فراغ ميت يعج بسحب البلازما وكتل قاحلة من الصخور تدور في الفضاء الفسيح. مع أن حقبة «ما قبل الوعي» هذه خلت من الحياة، ولا بد أنها كانت أشبه بامتداد عظيم لنظرتي الخاصة عن الكون قبل عام مولدي التي تراقصت فيها الجاذبية دون أن يدري بها أحد، فإن الذرات نفسها التي وُجدت حينها هي نفسها التي نتكون منها نحن اليوم. نُظمت مركبات معقدة من هذه الذرات، التي كانت خاملة في السابق، لخلق ما نطلق عليه الوعي وصارت قادرة على أن تستقبل، من أطراف الكون البعيدة، ضوءًا بدأ رحلته في تلك الأوقات المبكرة الخالية من الحياة. وبمقدورنا في «حاضرنا هذا» أن نستدل على تلك الحقبة الميتة المبكرة، وهو ما يضفي عليها نوعًا من الواقعية. إننا لم نُخلق من العدم، وإنما من «مادة أصلية» أولية؛ من ذرات تكونت منذ مليارات السنين جُمعت لفترة زمنية قصيرة في أجساد البشر.

هذا يقود بدوره إلى سؤالي الأخير: ماذا لو لم يكن هناك حياة أو أرض أو كواكب أو شمس أو نجوم أو ذرات تتمتع بالقدرة على إعادة تنظيم نفسها إلى أشياء مستقبلية؛ ماذا لو كان هناك فراغ وحسب؟ بعد أن أزلت كل شيء من صورتي الذهنية عن الكون حاولت تخيل العدم المتبقي. وعندئذ اكتشفت ما أدركه الفلاسفة على مر العصور: من الصعب جدًّا التفكير في الفراغ. حين كنت طفلًا ساذجًا، لطالما تساءلت أين كان الكون قبل مولدي، والآن أحاول تخيل ماذا كان سيوجد ما لم أوُلد على الإطلاق. «إننا محظوظون لأننا سنموت»، ولن يتمتع العدد اللانهائي من الأشكال الممكنة للحمض النووي بالوعي أبدًا، خلا بضعة مليارات منها وحسب. ما الكون بالنسبة لأولئك الذين لن يولدوا أبدًا أو للأموات؟ كل الثقافات وضعت خرافاتها بشأن الموتى؛ إذ إنه من الصعب جدًّا القبول بأن الوعي يمكن أن يندثر بسهولة عندما تتوقف مضخات الأكسجين عن ضخ الأكسجين إلى المخ، لكن ما الذي يعنيه الوعي لتجميعات الحمض النووي التي لم ولن يكتب لها الوجود أبدًا؟

إن فهم كيفية بزوغ الوعي وموته يماثل في الصعوبة فهم كيفية نشأة شيء ما؛ مادة الكون، من العدم. أكان هناك فعل خلق أم أن شيئًا ما كان موجودًا على الدوام؟ أكان من الممكن حتى أن يوجد عدم إذا لم يكن هناك من يدركه؟ كلما حاولت فهم هذه الألغاز، شعرت أنني إما أقترب من الحقيقة أو أنني على حافة الجنون. مرَّت السنون، وبعدما قضيت حياتي عالمًا يحاول أن يسبر غور الكون، رجعت إلى هذه الأسئلة وقمت برحلة للعثور على الإجابات الموجودة. كانت النتيجة هي هذا الكتاب الصغير. أشعر بالإطراء حين أعرف أنني حين أوجه مثل هذه الأسئلة، فأنا بهذا أنضم إلى صحبة طيبة؛ ذلك لأن هذه الأسئلة طرحها بشكل أو بآخر بعض من أعظم الفلاسفة على مر العصور. علاوة على ذلك، لم يتفق الجميع على إجابة بعينها. من وقت لآخر، حين تسود إحدى الفلسفات على ما سواها، كانت الحكمة المكتسبة تتطور هي الأخرى. أيمكن أن يوجد خواء؛ حالة من العدم؟ يبدو أن إجابات هذه الأسئلة، شأن الأسئلة المتعلقة بوجود إله من عدمه، تعتمد على تعريفك لماهية العدم.

عندما تناول فلاسفة الإغريق القدامى هذه الأسئلة من خلال قوة المنطق، خرجوا علينا بآراء متعارضة. زعم أرسطو أنه لا يمكن أن يوجد مكان فارغ، بل ارتقى هذا الرأي إلى مقام مبدأ مفاده أن «الطبيعة تمقت الخواء». ما الذي يعنيه هذا؟ وما سبب سيادة هذا الظن لألفي عام؟ هذه من أوائل الأسئلة التي سأتناولها. في القرن السابع عشر، ومع بزوغ المنهج التجريبي، أدرك تلاميذ جاليليو أن هذا الاعتقاد يرجع إلى سوء تأويل للظواهر؛ إذ إن مقت الخواء ذلك إنما ينجم عن وجود الغلاف الجوي الذي يزن عشرة أطنان ويضغط على كل متر مربع من كل شيء موجود على الأرض، وهو ما يتسبب في إقحام الهواء في كل ثقب متاح.

كما سنرى لاحقًا، من الممكن إزالة الهواء من الأوعية وصنع فراغ. كان أرسطو مخطئًا. على الأقل هذه هي النتيجة لو لم يكن هناك سوى الهواء؛ فبإزالة الهواء سيُزال كل شيء. ومع تقدم العلم، واتساع مداركنا وحواسنا بواسطة وسائل أكثر تعقيدًا، بات جليًّا أنه ينبغي إزالة ما هو أكثر بكثير من الهواء وحسب للحصول على فراغ حقيقي. يرى العلم الحديث أنه يستحيل من حيث المبدأ صنع فراغ تام، لذا لعل أرسطو لم يكن مخطئًا في نهاية المطاف. ومع ذلك، لا يمانع العلماء المعاصرون في استخدام مفهوم الفراغ، ومن أحد تفاسير الفيزياء الحديثة أنها تصب جمَّ تركيزها على محاولة فهم طبيعة الفراغ، الزماني والمكاني، في أبعادهما المختلفة.

لكن السؤال الذي طرحته على نفسي بمنتهى البراءة هو في الحقيقة أكثر إبهامًا؛ على اعتبار أننا نعرف اليوم ما لم يعرفه أحد حينها: ألا وهو أن الكون يتمدد، وكان يتمدد طيلة أربعة عشر مليار سنة تقريبًا منذ ما سمي بالانفجار العظيم. ونظرًا لأنه لا المجموعة الشمسية ولا الأرض ولا الذرات التي تكوِّن أجسادنا تتمدد، نستنتج من هذا أن «الفضاء نفسه» هو الذي يتمدد. وعندما نرجئ الآن سؤال «إلى أي مدى سيتمدد»، سنجد تكملة أخرى لسؤالي الأساسي: إذا أزلت كل شيء، فهل سيظل الفضاء يتمدد؟ وهذا بدوره يقودنا إلى سؤال عما يكون الفضاء عليه لو أننا أزلنا كل شيء. هل يوجد الفضاء بمعزل عن الأشياء، بمعنى أنني لو تخلصت فكريًّا من كل تلك الكواكب والنجوم والأجزاء المتنوعة للمادة، هل سيبقى الفضاء حينها أم أن التخلص من المادة سيودي بالفضاء أيضًا؟ لنبدأ إذن رحلتنا البحثية لنتعرف على الأفكار التي يمكن أن نستقيها من مفكرين أكثر حكمة على مر التاريخ ونحاول الإجابة عن أسئلة مثل: هل بمقدورنا تفريغ الفضاء من كل شيء؟ وإن استطعنا ذلك، ماذا سينتج؟ لماذا لم يحدث الانفجار العظيم في وقت مبكر عن ذلك؟ لو جاء الكون نتيجة فعل خلق، فما الذي كان موجودًا قبل هذا الخلق؟ أم أن شيئًا ما كان موجودًا على الدوام ثم تحول ليصير نحن البشر؟

أفكار مبكرة حول العدم

حيرت إشكالية الخلق من العدم، الكينونة واللاكينونة، كل الثقافات المعروفة. فقبل الميلاد بحوالي ١٧٠٠ سنة، ورد في «أنشودة الخلق» بالريجفدا (أقدم النصوص المقدسة):
في البدء لم يكن هناك وجود ولا عدم.
لم تكن هناك أيضًا مملكة الفضاء ولا السماء من وراءها.
ما الذي كان يتحرك؟ وأين؟

طرح فلاسفة الإغريق هذه الأسئلة للنقاش. رفض طاليس نحو عام ٦٠٠ قبل الميلاد وجود العدم: فمن وجهة نظره لا يمكن أن يظهر شيء من العدم، ولا يمكن أن يختفي شيء إلى عدم. وقد عمم هذا المبدأ ليشمل الكون بأسره: فلا يمكن أن يكون الكون قد بزغ من عدم.

تعارض مفهوم العدم مع قوانين المنطق، وطرح طاليس السؤال: هل التفكير في العدم يجعل منه شيئًا؟ فجاءت الإجابة من وجهة نظر رجال المنطق الإغريق أنه يمكن أن يوجد العدم «فقط» في حال عدم وجود أحدهم لتأمله. ظاهريًّا أُجيب سؤالي، الخاص بإمكانية أن يوجد عدم إذا لم يوجد أي شخص يعرف بوجود العدم، بالإثبات قبل ثلاثة آلاف عام، مع أن الإجابة تبدو لي تأكيدًا بديهيًّا وليست مبنية على الحجج. استمرت رحلتي البحثية لكن تبين أنه لم يقدم أحد بعد طاليس تعريفًا للعدم بخلاف أنه غياب الأشياء.

بعد انتهاء طاليس من قضية العدم، انتقل إلى طبيعة الأشياء. وقد تنبأ بنجاح بكسوف الشمس الذي وقع في الثامن والعشرين من مايو عام ٥٨٥ق.م، الأمر الذي كان يعد إنجازًا هائلًا ويشهد لمقدرته. لا عجب إذن أن لاقت أفكاره مثل هذا التقدير الكبير. أكد طاليس أنه طالما يستحيل ظهور الأشياء من العدم، فمن المؤكد وجود كيان جوهري منتشر انتشارًا واسعًا تجسدت منه كل الأشياء. أثار سؤال «من أين أتى كل شيء؟» سؤالًا آخر: لنفترض أننا أزلنا كل شيء من منطقة ما في الفضاء، هل ما سيتبقى هو العدم الأولي؟ قدم طاليس حلًّا لهذا اللغز أيضًا: فكان ظنه الأساسي هو الماء. إن الجليد والبخار والسائل هي ثلاث صور للماء، ومن ثم ظن طاليس أن الماء يمكنه أن يأخذ عددًا لانهائيًّا من الصور الأخرى، فيتكثف على صورة صخور وكل شيء آخر. فمع الاختفاء الظاهري لبرك المياه، ثم تساقطها فيما بعد على صورة أمطار، بزغت بهذا فكرة التبخر ومعها الاعتراف بالدورة التي يمر بها الماء. ومن وجهة نظر طاليس يكون الفضاء فارغًا عندما تتحول كل مادة فيه إلى شكلها الأولي، وهو الماء السائل مثل المحيط. من ثم، يحتوي الماء كل شكل ممكن للمادة. والآن، بعد ثلاثة آلاف عام، تعد هذه الفكرة غير نافعة، لكن الأفكار الحديثة المتعلقة بالفراغ تقوم على المبدأ ذاته بافتراض أن الفراغ يحتوي على «بحر» عميق لا نهاية له من الجسيمات الأساسية (انظر الفصل السابع).

بعد مرور ثمانٍ وسبعين عامًا من الوعي، عاد طاليس إلى فكرة الفراغ الدائم في عام ٥٤٨ق.م لكن فكرة وجود جوهر أولي يتغلغل في كل شيء، أو «مادة أصلية»، استمرت. غير أن طبيعة المادة الأصلية خضعت للنقاش. أصر هرقليطس من ناحية على أن المادة الأصلية هي النار. إذن من أين جاءت النار؟ الإجابة هي أن النار أبدية، وهي بهذا مماثلة لفكرة الإله الخالق لهذا العالم. وعلى النقيض، أكد أناكسيمينس أن المادة الأصلية هي الهواء؛ إذ يمكن تصور الهواء على أنه ممتد إلى ما لا نهاية، على خلاف الماء، ويعطيه انتشاره اللامحدود الأولوية في أن يكون المصدر الكوني لكل المواد.

في منتصف القرن الخامس ق.م تعرض أمبيدوكليس لسؤال هل الهواء مادة أم فضاء فارغ؟ شهد الأمر ظهور بدايات طرق التجريب مع استخدام أداة معروفة باسم «هيدرا»؛ وهي قارورة زجاجية مفتوحة عند أحد طرفيها ولها انتفاخ كروي الشكل عند طرفها الآخر. يحتوي الانتفاخ على ثقوب يمكن أن ينسال منها الماء، ما دام الطرف الآخر مفتوحًا. إذا سددت الفتحة بإصبعك لا يتدفق أي ماء. وإذا أفرغت الهيدرا من الماء ثم غطستها، سيتدفق الماء إليها ويعيد ملأها ما دام الطرف الأعلى مفتوحًا، أما إذا سددت الطرف المفتوح بإصبعك فلا يدخل ماء عبر الثقوب ولا يخرج هواء أيضًا. يبرهن هذا على أن الهواء والماء يوجدان في نفس المساحة؛ فلا يستطيع الماء أن يدخل ما لم يخرج الهواء؛ فالهواء مادة وليس فضاء فارغًا. وظل هذا هو المعتقد السائد إلى أن جاء تورشيللي في القرن السابع عشر وفسر ما يحدث.
fig1
شكل ١-١: (أ) قارورة ذات ثقوب في جزئها الكروي السفلي تحتوي على ماء. حين تكون مغلقة من الأعلى، يظل الماء داخلها، لكن إذا فُتحت، (ب)، يتسرب الماء خارجًا من الثقوب. (ج) تُغلق القارورة ثم توضع في حوض من الماء، فلا يدخلها أي ماء. (د) تُفتح القارورة من أعلى فيدخل الماء من الثقوب الموجودة في جزئها السفلي. (ﻫ) تُغلق القارورة مجددًا ويصير بالإمكان رفع القارورة من الوعاء دون أن يتسرب منها الماء.

توسع أمبيدوكليس في مفهوم المادة الأصلية لتشتمل على أربعة عناصر: الهواء والماء والنار والأرض. وقدم أفكارًا أولية حول القوى: ففي رأيه تنقسم القوة إلى قوى حب وخلاف؛ الصورة الأولية لقوى التجاذب والتنافر. وقطعًا كان هو أول من فرق بين المادة والقوى، لكنه ظل مصرًّا على استحالة وجود الفضاء الخاوي.

كثير من أشكال المادة حبيبية. وعندما تتكدس الأجسام الكروية معًا فإنها تترك مسافات بينها. وبما أنه لا توجد إمكانية لوجود فراغ في الفضاء «الخاوي»، استحدث أمبيدوكليس الأثير؛ الأخف من الهواء، الذي يملأ هذه المسافات، بل كل الفضاء. بل إنه تخيل أن هذا الأثير المنتشر في كل الأرجاء قادر على نقل التأثير من جسم إلى آخر؛ ما يشبه مجال الجاذبية في الفكر الحديث.

رفض أناكساجوراس أيضًا إمكانية وجود الفضاء الخاوي وخلق شيء من العدم. ووفقًا لرأيه فإن الخليقة نظام انبثق عن الفوضى، وليس كونًا ماديًّا ظهر من العدم. إن تحول الفوضى إلى نظام يحمل اعترافًا بتطور الأشياء وتغيرها، كما هو الحال عندما يتحول الطعام إلينا. وقد طرح الافتراض بوجود عناصر أساسية — في الوقت الذي يتغير فيه تركيبها الإجمالي — فكرة البذور وولَّد المذهب الذري. ويرى أناكساجوراس أنه لا وجود لأصغر ذرة، فلا حد لانشطار المادة، ومن ثم لا حاجة إلى القلق بشأن الفراغات بين الأجسام الكروية المتلامسة، ولا حاجة إلى الأثير الذي يملأ الفجوات.

استمر إبيقور (٣٤١–٢٧٠ق.م)، وأيضًا ديموقريطوس وليوكيبوس، على رفضهم لإمكانية أن ينبثق شيء عن العدم. وهم يُعتبرون مبتكري فكرة الذرات؛ التي هي بذور أساسية صغيرة غير مرئية تشيع في المادة. ومن هنا تولدت فكرة إمكانية وجود فراغ؛ مسافة فارغة يمكن أن تتحرك فيها الذرات. كان الاعتقاد هو أنه إذا كان يوجد شيء ما في نقطة ما، فلا يمكن إذن للذرة أن تتحرك إلى هذا المكان؛ فلكي تكون الحركة ممكنة لا بد أن يكون هناك فراغ يمكن أن تتحرك فيه الذرات. بل تخيلوا أيضًا كونًا مُفرَّغًا لانهائيًّا مليئًا بذرات متحركة بالغة الصغر لدرجة تمنعها من أن تُرى بمفردها لكنها تتكدس معًا في تكوينات مرئية. إن الذرات في حالة حركة مستمرة، لكن صورتها الإجمالية ضبابية وتبدو ساكنة. تشبه الصورة بيت النمل: فهو يُرى من بعيد ككومة ساكنة، لكن عند الاقتراب منه يتضح أنه يتكون من ملايين النمل دقيق الحجم الذي يتحرك حركة مستعرة.

على الرغم من أن أفكار أتباع المذهب الذري أكثر شبهًا للصورة التي نملكها اليوم عن المادة، فإن أفكار أرسطو المخالفة هي التي سادت طيلة ألفي عام. رأى أرسطو أن الفراغ لا بد أن يكون منتظمًا ومتناظرًا تمامًا؛ بحيث يستحيل تمييزه من الأمام أو الخلف، أو اليمين أو اليسار، أو من أعلاه أو أسفله. ظهر هذا المبدأ أيضًا في «أنشودة الخلق» بالريجفدا التي تغنت قائلة:
أكان هناك أسفل؟
أكان هناك أعلى؟

من منظور هذه الفلسفة لا يمكن للشيء أن يسقط أو يتحرك، وإنما يوجد في حالة ساكنة فحسب، وهي الفكرة التي ستشكل في نهاية المطاف أساس ميكانيكا نيوتن. غير أن أرسطو رأى أن مثل هذه الخصائص تنكر وجود العدم، وصاغ الحجج المنطقية التي تنكر وجود العدم في أوضح صورها. إذا كان الفضاء الفارغ شيئًا، وإذا وضعنا جسمًا ما في هذا الفضاء الفارغ، عندئذ سيصبح لدينا شيئان في نفس المكان والزمان. إذا كان هذا ممكنًا، فسيُعمم الأمر بحيث يسمح لأي شيء بأن يوجد في نفس مكان وجود أي شيء آخر، وهذا هراء. لذا من وجهة نظر أرسطو بدا أن المنطق يقضي بعدم اعتبار الفضاء الخاوي شيئًا، ومن ثم فهو غير موجود. وقد عرَّف الفراغ بأنه غياب أي جسم، ولمَّا كانت العناصر الأساسية للأشياء موجودة بلا انتهاء، فلا يمكن إذن أن يوجد مكان فارغ تمامًا.

باختصار رفض منطق أرسطو وجود الفراغ وقاد إلى الحكمة الشائعة القائلة إن الطبيعة تمقت الخواء. واعتُبرت هذه الحقيقة بديهية، غير أنها كانت خاطئة كما سنرى الآن.

لم هذا المقت؟

ظل القول إن الطبيعة تمقت الفراغ مقبولًا طيلة ألفي عام، حتى انقضاء السواد الأعظم من العصور الوسطى؛ لأن هذا القول كان التفسير الأبسط، والبديهي في ظاهره، لنطاق كامل من الظواهر اليومية. حاول أن تشفط الهواء من ماصة، سيأتيك الهواء مندفعًا من الطرف الآخر، وسيشبه الأمر محاولة شفط الهواء من الغرفة بأكملها. سد أحد طرفي الماصة بأصبعك واشفط الهواء من الطرف الآخر: لن يحدث تفريغ بل ستنثني الماصة على نفسها. أو ضع طرف الماصة في كوب عصير واشفط، ما سيحدث هو أنك ستشرب العصير. إنك لن تخلق فراغًا عن طريق شفط الهواء، بل يبدو أن السائل يرتفع ضد الجاذبية كي يملأ الفجوة. من السهل، بل ربما من «الطبيعي» أن نظن أن الفراغ الذي في سبيله للتكون يسحب السائل إلى أعلى ومن ثم يستحيل تكوُّن الفراغ. هكذا يظن كثير من الأطفال، لكن الإجابة الصحيحة عكس ما يبدو تمامًا. تطلب إماطة اللثام عن التفسير الحقيقي جهود جاليليو وبعضًا من أمهر عقول القرن السابع عشر.

ثمة أمثلة أخرى تؤدي ظاهريًّا إلى النتيجة نفسها. ضع طبقين مسطحين مبللين أحدهما فوق الآخر. سيكون من السهولة بمكان أن تدفع أحدهما بحيث ينزلق بعيدًا عن الآخر، لكن إذا حاولت جذب الطبق العلوي فسيكون ذلك غاية في الصعوبة. التفسير الساذج لهذا هو أنك تخلق بهذا الصنيع فراغًا بين الطبقين، ولمَّا كانت «الطبيعة تمقت الفراغ»، سيكون من الصعب جدًّا أن تفصلهما.

وبالعودة إلى الماصة: بعد أن تشفط لثانية أو ثانيتين، ضع إصبعك عند الطرف العلوي للماصة واترك الطرف الآخر في العصير، فتجد عمودًا من السائل داخل الماصة. ارفع إصبعك فتجد العصير ينزل مرة أخرى إلى الكوب: لماذا إذن لم يحدث هذا عندما يغطي إصبعك طرف الماصة العلوي؟ الإجابة مرة أخرى هي «مقت الفراغ». لماذا لم ينقسم عمود السائل إلى نصفين بحيث يسقط النصف السفلي إلى أسفل ويظل النصف العلوي في الماصة؟ عُلل ذلك بأن هذا يتطلب تكوُّن فراغ عند الفارق بين القسمين، على الأقل إلى أن ينزل الجزء السفلي من عمود السائل من الماصة. وعلى ما يبدو فإن بقاء عمود السائل كان دليلًا آخر على مقت الطبيعة لتكوين الفراغ.

سادت هذه التعليلات طيلة ألفي عام، وهي خاطئة. وما زاد من صعوبة اكتشاف التعليل الصحيح هو أن الكثيرين اعتبروا مقت الفراغ أمرًا بديهيًّا؛ نظرًا لأن الله ما كان ليخلق عدمًا. وإذا أصررت على العكس بأن وجود الفراغ ممكن، عندئذ عليك أن تنتقي كلماتك بحذر كي تتحاشى الاتهام بالهرطقة. ثمة حجة بديلة سارت على الشكل الآتي: الله كلي القدرة، من ثم يمكنه أن يخلق أي شيء أو لا شيء؛ أن تقول إن الله ما كان ليخلق العدم فإنك تحد من قدرات الله، ومن ثم يمكن أن يوجد الفراغ. اعتقد جاليليو، الذي جابه مثل هذه المشكلات فيما بعد، أن الفراغ ممكن، وكان أول من اقترح اختبار الفكرة عن طريق إجراء التجارب. إن فكرة اختبار الأفكار المجردة بالطريقة التجريبية كانت فكرة ثورية، وخطيرة أيضًا: فغالبًا ما كان ينتهي الحال بالهراطقة بالإعدام على خازوق. ونتيجة لهذه التجارب، باتت أسباب المقت الظاهري واضحة وباتت خصائص الفراغ مفهومة. في تلك الأثناء، ومع اتساع الفهم، اخْتُرع العديد من الأدوات التي نألفها اليوم.

الهواء

حين كنا أطفالًا كنا نعي النظام الطبيعي للأشياء هكذا؛ الأشياء المتحركة تبطئ في حركتها والأشياء الأخف كالورق تسقط إلى الأرض أبطأ من الأحجار. أرست تجارب جاليليو — التي قادت إلى قانون نيوتن القائل إن الأجسام تستمر في حالة حركة منتظمة وفي خط مستقيم ما لم تعترضها قوة خارجية — كنه الطبيعة الحقيقي.

كان جاليليو أول من أثبت أن الهواء له وزن. لقد استغل حقيقة أن الهواء الساخن يرتفع ومن ثم يخرج من الوعاء المفتوح عند تسخينه. وبوزن الوعاء قبل وبعد التسخين، اكتشف أن الهواء المتصاعد يأخذ معه بعض الوزن. أثبت هذا أن الهواء له وزن، غير أنه لم يستطع أن يحدد كثافته نظرًا لأنه لم يعرف الحجم المتصاعد بالتحديد. وبوزن بالون مملوء بالهواء أولًا، ثم بالماء ثانية، استخلص أن وزن الهواء أخف ٤٠٠ مرة من وزن الماء، وهو الأمر المثير للدهشة في ظل أن التجربة غاية في البدائية: إذ إن القيمة الدقيقة المعروفة اليوم هي معامل يصل إلى نحو ٨٠٠ عند مستوى سطح البحر.

وكأي شخص سار وسط رياح الهواء العاتية، كان مدركًا أيضًا أن الهواء له قوة، وكان هذا قبل أن يربط إسحاق نيوتن القوة والوزن والعجلة على نحو وافٍ بعقود. يقاوم الهواء الحركة كما الحال عندما تعصف الريح بريشة خفيفة الوزن، وحتى لو كان الهواء ساكنًا، فإن الريشة لا تستقر على الأرض إلا ببطء في حين تسقط الصخرة سريعًا. يسقط الحجر وكتلة الرصاص اللذان لهما نفس الحجم لكن لهما وزنان مختلفان بنفس المعدل، وأدرك جاليليو بالبداهة أن هذا هو الوضع الطبيعي؛ فمقاومة الهواء هي التي تؤثر في الريشة.

قد تكون تأثيرات الهواء مدهشة. إن مقاومة الهواء للحركة هي التي تدفعنا إلى أن نثبت قدمنا على دواسة البنزين كي نبقي على السيارة متحركة بسرعة ثابتة. ودواسة البنزين هي وسيلة التزويد بالقوة التي من شأنها أن تدفع السيارة إلى الأمام، ولو لم تكن هناك مقاومة للهواء، فستزيد هذه القوة من سرعة السيارة على نحو هائل. لكن كلما تحركنا أسرع، زادت القوة المقاومة. وعندما توازن قوة التسارع قوة الهواء المقاومة بالضبط، عندئذ فقط تتحرك السيارة بسرعة ثابتة.

يندفع الهواء المُزاح حول السيارة تاركًا طبقات الهواء «الأخف» خلفها مباشرة. والفارق بين الضغط المرتفع بالأمام والضغط المنخفض بالخلف يساوي قوة المقاومة الصافية. إذا كان شكل السيارة مصممًا بحيث يتجمع الهواء سريعًا خلفها مباشرة، عندئذ يقل فارق الضغط هذا وتقل معه أيضًا مقاومة الهواء. إن تصميم السيارات، أو الخوذات التي يرتديها متسابقو الدراجات البخارية أو متزلجو المنحدرات، على نحو يقلل من مقاومة الهواء يعد صناعة هائلة.

لم تكن مثل هذه الأمثلة الواضحة متوافرة في القرن السابع عشر، مما يسلط الضوء على عبقرية جاليليو في تحليل المشكلة إلى أساسياتها. إن الحصوة التي تسقط في سائل لزج، تكاد تتوقف في الحال، وتقل المقاومة في الماء وتقل أكثر في الهواء. استخلص جاليليو من هذا أنه لو لم تكن هناك أدنى مقاومة للهواء، لسقطت كل الأجسام بنفس المعدل. ومع أن جاليليو لم يستطع أن يصنع فراغًا، فمن الواضح أنه لم يكن لديه أدنى مشكلات فلسفية متعلقة بإمكانية وجود هذه الحالة من حيث المبدأ؛ كل ما هنالك أنه يصعب جدًّا صنعها. وقد أُثبت هذا أمام الجميع بعدها بثلاثمائة عام عندما أسقط رواد فضاء أبولو ريشةً وحجرًا على سطح القمر، ويبدو أن أول إثبات تجريبي لهذا المبدأ قام به جيه ديزاجيليير في الرابع والعشرين من أكتوبر عام ١٧١٧ في الجمعية الملكية بلندن أمام إسحاق نيوتن.

صنع فراغ

أدرك جاليليو أن مضخات السحب لا يمكنها أن ترفع المياه أكثر من عشرة أمتار تقريبًا. تقاوم الطبيعة تكوين الفراغ، لكن إلى حد معين على ما يبدو؛ فبعد عشرة أمتار من المياه، يفشل الشيء الذي يمنع تكوين الفراغ، أيًّا كانت ماهيته، في دوره. وتساءل جاليليو ما الذي سيحدث لو استخدمنا الزئبق، الذي هو أكثر السوائل كثافةً، بدلًا من المياه؟ توصل إيفانجيلستا تورشيللي، أحد تلاميذ جاليليو، إلى الإجابة عام ١٦٤٣ بناءً على نصيحة جاليليو. وقد برهن هذا عن طريق إجراء تجربة بسيطة باستخدام أنبوب زجاجي مجوف طوله حوالي متر، مسدودًا عند إحدى طرفيه، ووعاء مملوءًا بالزئبق.

قد تصور الكتب المدرسية الحديثة التجربة على النحو الآتي: استخدم أولًا أنبوبًا قصيرًا، طوله عشرة أو عشرون سم، واملأه بالزئبق. سد بإصبعك الطرف المفتوح ونكس الأنبوب. اخفض الأنبوب بحذر إلى وعاء من الزئبق ولا ترفع إصبعك إلى أن يكون طرف الأنبوب المفتوح تحت سطح الزئبق بالوعاء. عندما يصبح طرف الأنبوب المفتوح مغمورًا يظل السائل الموجود داخل الأنبوب في مكانه: فينتصب عمود من الزئبق فوق سطح السائل. أجرى تورشيللي التجربة باستخدام الزئبق، مع أن خصائصه السامة تجعله أقل شيوعًا في إجراء التجارب اليوم. وقد أدرك أن قدرة السائل على التماسك ارتبطت بالأوزان النسبية للزئبق داخل الأنبوب وللجو الذي يعلوه مباشرة. وعلى نحو أكثر دقة، لمعادلة الضغط الذي يبذله الضغط الجوي على الزئبق الذي في الوعاء، لا بد أن يصل ارتفاع الزئبق داخل الأنبوب إلى مستوى معين.

اتضح في تجربة تورشيللي أن هذا الارتفاع يبلغ حوالي ٧٦سم، وهنا يكمن اللغز: إذا نُكس أنبوب طوله متر مليء بالزئبق ثم وُضع في وعاء من الزئبق، فإن الزئبق الذي في الأنبوب يهبط إلى أن يصير طول العمود ٧٦ سنتيمترًا فحسب ثم يسكن. ماذا يوجد في الأربعة والعشرين سنتيمترًا التي تعلو الزئبق في الجزء العلوي من الأنبوب؟ يبدو أن الجزء الذي كان يوجد فيه الزئبق في وقت ما أصبح فارغًا الآن؛ إذ يعجز الهواء عن الدخول، وعليه أدرك تورشيللي أنه صنع فراغًا.
fig2
شكل ١-٢: أنصاف كرات ماجديبورج.1

عند مستوى سطح البحر يضغط علينا الجو بقوة تبلغ نحو كيلوجرام في كل سنتيمتر مربع، أي بما يعادل ١٠ أطنان لكل متر مربع. ثمة تجربة شهيرة تثبت كم يمكن أن يكون الهواء قويًّا أجراها أوتو فون جوريك، عمدة ماجديبورج لثلاثين عامًا والعالم صاحب الموهبة الواضحة في تبسيط العلوم.

في عام ١٦٥٤ أجرى عالمُنا «استعراض الفراغ» الذي تضمن ستة عشر حصانًا، ونصفي كرة برونزيين مجوفين نصف قطر كل منهما حوالي متر، مع الاستعانة بخدمة الإطفاء المحلية. وُضع نصفا الكرة معًا لعمل كرة مجوفة. وأوضح فون جوريك أولًا أنه يسهل وضع نصفي الكرة معًا مثلما يسهل فصلهما. وبمهارة استعراضية يحسده عليها السحرة دعا أفرادًا من جمهور المشاهدين للتأكد من أنه يسهل فصلهما. ثم بدأ العرض الحقيقي. وُصِّلت مضخة تفريغ، تكرم بتقديمها قسم الإطفاء، بصمام في أحد نصفي الكرة، وسُحب الهواء الذي بالداخل. وبعد بضع دقائق أعلن العمدة أنه جرت إزالة الهواء، ثم أُغلق الصمام، وأزُيلت المضخة، ودعا الجمهور إلى فصل نصفي الكرة. لكن الأمر كان مستحيلًا. ولجعل المسألة أكثر إثارة — ولهذا السبب ظلت هذه المناسبة عالقة في الأذهان — أحضر فريقين كل منهما مكون من ثمانية أحصنة مربوطين معًا، ورُبط كل فريق بأحد نصفي الكرة. اكتفت الكتب الدراسية عند هذه النقطة بالإشارة إلى أن الفريقين تجاذبا في اتجاهين معاكسين وظل نصفا الكرة متلاصقين كما هما. لكن الحقيقة كانت أكثر عشوائية؛ فكل حصان على حدة كانت لديه فكرته الخاصة فيما شاء أن يفعل فكانت الأحصنة تجذب في مختلف الاتجاهات. استغرق الأمر ستة محاولات قبل أن يستطيع فون جوريك أن يجعل أحصنة كل فريق تشد معًا في نفس الاتجاه. أخيرًا بدأت لعبة شد الحبل الصحيحة، وشدَّ الفريقان في الاتجاهين المعاكسين بكل قوتهم، وظل نصفا الكرة يرفضان الانفصال. عندئذ فتح الصمام وسُمح للهواء بدخول الكرة فانفصل نصفا الكرة بسهولة!

في تجربة فون جوريك، عندما أُزيل الهواء من داخل الكرة، ضغط الوزن الكامل للجو على الجانب الخارجي من الكرة بقوة تعادل عشرة أطنان للمتر المربع، دون أن يوجد ضغط معادل داخل الكرة ليصد هذه القوة. كان النحاس قويًّا بالدرجة الكافية لتجنب الانسحاق، لكن ولا حتى فريق مكون من ثمانية أحصنة كان قويًّا بما يكفي لتوفير أطنان القوة اللازمة للتغلب على الضغط الخارجي.

بليز باسكال: الماء والنبيذ

في فرنسا كان العالم بليز باسكال يتمتع هو الآخر بالموهبة الاستعراضية. وقد كرر تجربة تورشيللي لكن باستخدام الماء والنبيذ هذه المرة بدلًا من الزئبق.

أجرى باسكال تجربته في مدينة روان أمام جمهور مؤلف من عدة مئات، واستخدم أنابيب يصل طولها إلى خمسة عشر مترًا، يمكن رفعها عموديًّا بواسطة سواري سفن يمكن إمالتها. كان سبب هذا الطول الكبير هو أن كثافة الماء والنبيذ أقل خمس عشرة مرة من كثافة الزئبق، ومن ثم يدعم الضغط الجوي عمودًا أعلى بمقدار خمس عشرة مرة؛ أي بارتفاع أحد عشر مترًا في المجمل. كانت التجربة هائلة، مما جذب المزيد من المشاهدين، وكان هناك تحدٍّ: أيهما سيكون أطول؛ عمود الماء أم عمود النبيذ؟

يمكنك أن تقرر بنفسك، وإليك شيئين لا بد أن تعرفهما عن خصائصهما، أولًا: النبيذ أقل كثافة — أخف لكل لتر — من الماء، لكنه أيضًا أكثر تطايرًا (إن كنت تستطيع تمييز رائحة النبيذ جيدًا، فهذا يرجع إلى أن بمقدورك استنشاق بخاره)، في حين أن الماء (ما لم يكن مضافًا إليه الكثير من الكلور) أقل تطايرًا. وما دام الموضوع متعلقًا بالثقل، كان المرء سيتوقع أن عمود الماء الأكثر كثافة سينتهي به الحال على ارتفاع أقل من عمود النبيذ، كما الحال بالضبط مع عمود الزئبق الذي يكون ارتفاعه أقل من الاثنين. لكن ماذا يحدث في المسافة الفارغة التي تعلو عمود السائل، والمحتجزة في الجزء العلوي من الأنبوب؟

لاحظ أنه في تلك الفترة لم يعتقد أحد في وجود الفراغ؛ إذ كان مبدأ العدم يعد ضربًا من ضروب المستحيلات. أحد «تفاسير» ما كان يحدث هو أن البخار المتصاعد من السائل ملأ المساحة الموجودة في الطرف العلوي من الأنبوب، وأنه بطريقة ما كلما كان السائل أكثر تطايرًا، زادت المساحة الفارغة. وطبقًا لهذه النظرية ينتج عن النبيذ الأكثر تطايرًا مساحة أكبر وبالتالي عمود أقل ارتفاعًا من عمود الماء. ومع ذلك، إن كان الضغط الجوي الذي يضغط على السطح المحيط بالعمود هو ما يدعمه، لكان عمود النبيذ الأخف أعلى من عمود الماء لنفس السبب الذي جعل ارتفاع كليهما أقل من ارتفاع عمود الزئبق.

ملأ باسكال الأنبوبين، ورفعهما فكانا أعلى من أسطح المنازل، واكتشف أن عمود النبيذ أطول من عمود الماء. ومن ثم أوضح باسكال أن التطاير ليس السبب في حدوث الفراغ، وإنما الضغط الجوي هو ما يحدد الارتفاع. وأن المساحة التي تعلو السائل خاوية، أي فراغ.

بعد أن أثبتنا لتونا وجود الفراغ، من الإنصاف الإقرار بأن فكرة أن البخار له دور لا يجب رفضها كليةً. فثمة بخار تصاعد من النبيذ وتسلل إلى الفراغ أعلاه. و«ضغط هذا البخار» يضغط العمود لأسفل قليلًا؛ «قليلًا» لأنه ضعيف للغاية مقارنة بالضغط الجوي الواقع على قاعدته. كان من شأن القياس الدقيق لمعدل ارتفاع الماء والنبيذ مقارنة بمعدل وزن كل منهما أن يظهر وجود دفعة خفيفة إلى الأسفل تسبب بها بخار النبيذ. ومن ثم، فالمسافة التي تعلو عمود النبيذ ليست فارغة تمامًا، مع أنها تكاد تكون فارغة تمامًا مقارنة بالجو.

بم يمكن تشبيه الفراغ؟

صنع تورشيللي فراغًا، أو على الأقل مسافة خالية من الهواء تبدو في ظاهرها فراغًا. لكن ماذا كان هذا: ما خصائص العدم؟

في إنجلترا صنع روبرت هوك مضخات التفريغ التي استخدمها روبرت بويل لتفريغ مساحات أكبر كثيرًا من تلك التي استطاع تورشيللي أن يفرغها، مما مكنه من أن يستكشف خصائص الفراغ. وقد أثبت أن الهواء قد اختفى بالفعل من خلال مشاهدة طيور وفئران تختنق: كانت الفلسفة الأخلاقية مختلفة وقتذاك. وظل بالإمكان رؤية مصباح متوهج عند النظر إليه عبر الفراغ، مما أثبت أنه يمكن للضوء أن ينتقل خلال المساحات الفارغة، غير أن صوت الجرس تلاشى مع إزالة الهواء.

وفي فرنسا تمكن بليز باسكال من وزن الفراغ؛ إذ صمم أنبوبًا موصِّلًا بأحد طرفيه مِحقنًا استخدمه في سحب الزئبق من وعاء. ارتفع العمود إلى أن بلغ ارتفاعه ٧٦سم، وعندئذ توقف. حتى هذه اللحظة تشبه تجربته تجربة تورشيللي. لكن باسكال استمر في سحب مكبس المحقن، فظل ارتفاع عمود الزئبق كما هو لكن إجمالي طول أنبوب المحقن زاد؛ أي إن مقدار المساحة الفارغة فوق الزئبق تزيد. أثناء إجراء التجربة، كان باسكال يضع الجهاز بأكمله على ميزان. وطيلة إجراءات التجربة بأكملها ظل الوزن ثابتًا. في أثناء دخول الزئبق إلى الأنبوب كان هذا منطقيًّا لأن كمية الزئبق ظلت ثابتة؛ كل ما هنالك أنها انتقلت من الوعاء إلى الأنبوب. لكن حالما وصل ارتفاع عمود الزئبق إلى ٧٦ سنتيمترًا وتوقف، زادت مساحة الفراغ فوق العمود. وكانت هذه المساحة مليئة ﺑ «الفراغ». هكذا أوضح باسكال أن الفراغ ليس له وزن يُذكر. (فعليًّا، لم يكن ميزانه حساسًا بما يكفي. ففي الواقع، ينخفض الوزن مع استطالة المحقن وحلول الفراغ محل الهواء الذي كان بداخله في الأساس. من ثم ينخفض الوزن الحقيقي. لكن وفق أهداف باسكال كانت النتيجة مثيرة: فأيًّا كان ما يشغل مساحة تورشيللي المُفرَغة، فليس له وزن يُذكر).

ضغط الهواء

نطلق على الوزن الواقع على وحدة المساحة لسطح ما «الضغط». يمكن للمرء أن يطفو على الجليد باستخدام الزلاجات في حين أنه قد يغوص فيه إذا ارتدى حذاءه العادي؛ يُعزى ذلك إلى أن وزنه يُوزَّع فوق مساحة أعرض في حالة الزلاجات وبالتالي يقل الضغط؛ أي الوزن لكل وحدة من المساحة. وضغط الجو عند مستوى سطح البحر هو نفسه الضغط الذي يبذله عمود الزئبق البالغ ارتفاعه ٧٦ سنتيمترًا أو عمود الماء البالغ ارتفاعه ١١ مترًا.

إذا وُضع عمود من الزئبق ارتفاعه ٧٦ سنتيمترًا باتزان على رأسك، فإن إجمالي الضغط الذي تشعر به هو ضغطان جويان؛ أحدهما من الهواء والآخر من الزئبق المساوي له في القيمة. وبشكل أكثر عملية تدبر ما يحدث عند الغوص في البحر: إذ إن الماء المالح يزيد قليلًا في كثافته عن ماء الصنبور، فإن ١٠ أمتار منه كافية لمضاعفة الضغط الجوي. وعليه، كلما غصت فيه عشرة أمتار إضافية، أُضيف ضغط آخر معادل للضغط الجوي. كل التأثيرات المنسوبة للحكمة المقدسة القائلة إن «الطبيعة تمقت الفراغ» ترجع إلى ضغط الهواء الخارجي.

بما أن مساحة سطح جسم الإنسان تبلغ حوالي متر مربع، فهذا يعني أنه تضغط على جسم الإنسان عشرة أطنان من القوة عند مستوى سطح البحر، وطن آخر مع كل متر يغوصه في البحر. لماذا إذن لا تشعر بهذا؟ الضغط يحدث نتيجة تراكم جزيئات الهواء بعضها على بعض. وفي حالة التوازن، تضغط الجزيئات إلى الأجناب وإلى أعلى وأسفل بنفس المقدار، وإلا سيكون هناك قوة صافية وعجلة. ينطبق هذا أيضًا على الضغط في السوائل كالماء. يضغط الهواء الموجود داخل رئتينا نحو الخارج مثلما يضغط علينا الجو من الخارج. تنشأ حالة الارتياح (عدم شعورنا بالضغط) نتيجة للتوازن بين الضغط الخارجي والضغط المضاد الداخلي. والتغير المفاجئ في الضغط، كما الحال عند هبوط المصعد بسرعة أو إقلاع الطائرة أو الغوص المفاجئ أثناء السباحة، يمكن أن يسبب الإزعاج. والأذن «تتألم» من اختلاف الضغط الشديد.

يسبب التغير المفاجئ في الارتفاع حدوث تغير في الضغط. يُعزى هذا إلى أن الغلاف الجوي محدود؛ فالضغط يقل على الارتفاع العالي لأن الثقل الواقع على المرء يقل مع اقترابه من «سطح» الغلاف الجوي. وفي حين أن سطح البحر يكون محددًا بدقة، فإن سطح الغلاف الجوي يكون متدرجًا وتقل كثافته إلى أن نصل في آخر المطاف إلى فراغ الفضاء الخارجي. كان هذا هو التصور الأول للغلاف الجوي.

أجرى بليز باسكال تجربة إبداعية في عام ١٦٤٨ أثبت بها أن مستوى السائل في البارومتر يعتمد على الارتفاع، ومن هنا استنتج أن ضغط الهواء يلعب دورًا مهمًّا. قاس صهره فلورين برير ارتفاع عمود الزئبق على قمة هضبة «بوي دي دوم»، على ارتفاع ٨٥٠ مترًا فوق سطح البحر، وفي نفس الوقت أُجري قياس مشابه عند السفح. كان ارتفاع عمود الزئبق عند القمة أقل بثمانية سنتيمترات من الارتفاع الطبيعي البالغ ٧٦ سنتيمترًا عند السفح. أثبت هذا أن عمود الزئبق ينخفض كلما زاد الارتفاع؛ بسبب انخفاض الضغط الجوي كلما ارتفعنا لأعلى، وهذا يرجع بدوره إلى أنه كلما ارتفعنا قل ثقل الهواء الذي يضغط علينا.

هكذا اختُرع مقياس الارتفاع «الألتيمتر»؛ يستخدم لقياس ارتفاع الفرد من خلال قياس الضغط النسبي لمحيط الهواء فوقه. إلا أن التأثير الأعمق لهذا الاكتشاف كان متعلقًا بطبيعة الغلاف الجوي نفسه؛ إذ أوحى بأن الأرض تغلفها طبقة محدودة من الهواء، فمحيط الهواء له سطح يكمن خلفه الفراغ كما يُظن. (كان أرسطو أيضًا يعتقد أن الهواء يشبه المحيط الذي له سطح، لكن ما وراءه هو نار). كانت هذه فكرة هرطقية من وجهة نظر بعض الفلاسفة الدينيين الذين لم يستطيعوا قبول فكرة أن الله يمكن أن يخلق خلقًا عديم النفع كالفراغ. غير أن المنهج التجريبي قام بدور في كشف نقائص مثل هذه الخرافات، كما سيفعل عبر القرون التالية في العديد من الحالات الأخرى.

يمكننا اليوم أن نختبر تأثيرات الضغط الجوي بطرق شتى. ينخفض الضغط الجوي مع الارتفاع؛ إذ يقل الضغط ثلاث مرات على قمة جبل إفرست عنه على مستوى سطح البحر؛ إذ لن يرتفع عمود الزئبق إلا بمقدار ٢٥ سنتيمترًا فحسب. هكذا يكون الحال على ارتفاع ١٠ كيلومترات فوقنا. تحلق الطائرات على مثل هذا الارتفاع، ولا بد من تعديل الضغط داخل الكبائن ليتطابق مع مستوى مشابه للضغط الطبيعي عند ارتفاع ميل تقريبًا. يعني هذا أن القوة الواقعة على كل متر مربع من الهواء المعدل ضغطه داخل الطائرة أكبر بكثير من القوة في الهواء الأخف خارج الطائرة. ونتيجة لذلك ثمة قوة قدرها أطنان عديدة تضغط أبواب الطائرة إلى الخارج. في المرة القادمة التي تكون فيها على متن طائرة، لاحظ كيف صُممت الأبواب ببراعة بحيث لا يمكن أن تفتح نحو الخارج مباشرة؛ لا بد من أن تُشَد إلى الداخل أولًا ثم تُدار لتفتح. في واقع الأمر يساعد الضغط المتجه نحو الخارج على إبقاء الأبواب في موضعها بثبات أثناء التحليق.

وعلى ارتفاع ١٠٠ كيلومتر يكون الضغط أقل من واحد على ألف مليون من الضغط على سطح الأرض، وعلى ارتفاع ٤٠٠ كيلومتر يكون واحد على مليون مليون، وفي الطريق إلى القمر في الفضاء يقل الضغط ليصل إلى ١٠١٩، أي أقل من حجم البروتون مقارنة بالكيلومتر. عندئذ يمكن القول إن الغلاف الجوي بأسره يكمن في الأساس في قشرة رفيعة لا يتجاوز سمكها واحدًا على الألف من نصف قطر الأرض. لو كان هذا الأمر معروفًا جيدًا، لاهتم بعض الساسة بالضرر الواقع على ذلك الغاز الإعجازي الذي تعتمد عليه حياتنا. عندما نقترب أكثر من قمة الغلاف الجوي، يقل الثقل الواقع علينا وينخفض الضغط. وعندما ينطلق رواد الفضاء إلى القمر، فإنهم يجتازون في أول عشرة كيلومترات كمية من المادة تفوق تلك التي يجتازونها خلال بقية الرحلة. ولو سافروا إلى أبعد النجوم فسيظل الوضع كذلك أيضًا.

حتى على سطح الأرض يتنوع الضغط أيضًا؛ إذ يرتفع في الجو المعتدل وينخفض في الجو العاصف. إن الاستعارة التي تقول «الزئبق ينخفض» صحيحة حرفيًّا. أما القول إن الطبيعة تمقت الفراغ، الذي شدد عليه الفلاسفة الدينيون والتاريخيون، فقد صار نسيًا منسيًّا. وكما أشار باسكال نفسه، لا تمقت الطبيعة الفراغ على قمة الجبل بدرجة أقل مما تمقته عند الوادي، أو في المناخ الرطب أكثر من المناخ المشمس: إنما وزن الهواء هو المسئول عن حدوث كل الظواهر التي أرجعها الفلاسفة إلى «سبب خيالي».

هوامش

(1) Mary Evans Picture Library.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤