في الأدب المصري المعاصر

حياتنا الأدبية في حاجةٍ ملحة — ومنذ حين — إلى محاولات مخلصة في ميدان النقد؛ وعندما نقول مخلصة فإنما نعني الإخلاص في المراقبة وفي المعرفة، وفي التقسيم المستند إلى أساس من هذه وتلك، وإلى أساس آخر من مراجعة الضمير. أما الإخلاص في المراقبة فيفرض على الناقد، أن يكون متتبعًا لخط سير الحياة الأدبية، ذلك التتبع اليقظ الذي يربط بين طبيعة الواقع الاجتماعي، في كل مرحلة من مراحل التطور الإنساني، وبين طبيعة الواقع الإنتاجي في كل مرحلة من مراحل التطور الفني. وبهذه الجزئية من المحاولة المخلصة ككل، يمكننا أن نضمن سلامة التقييم لكل أثر من آثار الفن، بالنسبة إلى ارتباط هذا الأثر بمفاهيم عصره وإمكانيات بيئته، تلك التي حددت ملامحه الفنية ورسمت خطوطه الاتجاهية، عندئذٍ يتلافى النقد ذلك الخطأ الناتج عن تطبيق مقاييس هي نتاج عصر أدبي بعينه، على عصورٍ أخرى سابقة رغم اختلاف الظروف والمقومات. ولا يخطئ بالتبعية حين يزن إنتاج شاعر أو كاتب في جملته، بميزان مرحلة معينة تمثل تعريجة واحدة من خط سير فني يزدحم بالمنعطفات والتعاريج.

وإذا ما تخطينا الإخلاص في المراقبة إلى الإخلاص في المعرفة، فقد بلغنا المنطقة التي تتركَّز وراء حدودها المبدئية قيمة من القيم هي «حرمة الثقافة». وحرمة الثقافة تفرض على الناقد، ألا يحبس فهمه داخل سرداب ضيق من سراديب المذهبية الباحثة، وألا يحصر نظرته داخل منظار متعصب من مناظير الذاتية المتذوقة، إذا ما حاول أن يصدر حكمًا نهائيًّا على أعمال الآخرين؛ ذلك لأن المنظار المتعصب يدعو بطبيعته إلى تقييد الرؤية الفنية، بحيث لا ينظر إلى العمل الأدبي إلا من خلال عقيدةٍ معينة؛ ولأن المذهبية الضيقة من شأنها أن تجمد الملكة الناقدة، بحيث لا يقيم الأثر الفني إلا على أساس فهمٍ خاص. وهنا يكمن الخطأ الآخر الذي يدفع النقد المصري — عند بعض النقاد — إلى إغفال قيمة التكنيك تعصبًا للاتجاه، أو إلى التضحية بالشكل في سبيل المضمون.

ويبقى بعد هذا خطأ ثالث يرتكبه هذا اللون من النقد المصري المعاصر، وهو «مجاملة» الاتجاه السياسي الذي يدين به الأديب؛ لأن الناقد مثلًا يدين بنفس الاتجاه. والمجاملة هنا مصدرها تعمد المناصرة للعقيدة الفكرية، حتى لا تتعرض هذه العقيدة لهزات الشك، إذا ما تعرض الأثر الفني للنقد العادل. ومن هذه النقطة تنبع قضية الضمير الأدبي، الذي نعده الدعامة الرئيسية لكلِّ تقييمٍ صحيح؛ فقد يكون الناقد بصيرًا بمجموعة الأخطاء والمآخذ في العمل الفني، ولكنه يغض الطرف عن تلك الأخطاء والمآخذ؛ اتقاءً لخذلان الأديب المنتج، تبعًا لأن إنتاجه يعد بمنزلة اللسان المعبر عن الوجود العقائدي لكلٍّ من الأديب والناقد. وهذا بالطبع على حساب القيم الفنية حين تكون بعيدة عن مراجعة الضمير.

هكذا يسير النقد المصري في الطريق الذي رسمه له بعض النقاد. والنتيجة هي أن أسواق الأدب قد استقبلت في هذه الأيام، مجموعة جديدة من الثمار الأدبية غير الناضجة؛ لأن تربة الإنتاج في حقل الشعر والقصة على الخصوص، قد سمِّدت بسماد نقدي غير مناسب، أو لأن المشرفين على التربة يهمهم أن تمتلئ السوق بهذا النوع من الثمار، بصرف النظر عن خطورة كل عملية قطف قبل الأوان. ونحن الذين نؤمن بقيمة أدب الكفاح في سبيل خلق حياة أفضل، حياة تسودها القيم الهادفة إلى تمجيد كرامة الفرد، كعنصر تكويني هام في بناء المجتمع، نشعر أن قضية هذا الأدب هي قضية التركيب الفني السليم، الذي لا يتاح بغيره أن يشق المضمون الاتجاهي مجراه إلى نفوس الجماهير؛ ولهذا قلنا إن حياتنا الأدبية في حاجةٍ ملحة، إلى محاولاتٍ مخلصة في ميدان النقد، حتى يكون للتوجيه النقدي المدرك أثره الفعال في قيادة الإنتاج.

ونحن اليوم أمام محاولة نقدية جديدة، محاولة سلمت من الأخطاء السابقة، فاستحقت أن نَصِفها بالإخلاص؛ ذلك لأن الدكتور عبد القادر القط في كتابه الذي أصدره منذ قريب، تحت عنوان «في الأدب المصري المعاصر»، قد راعى في كثيرٍ من الإنصاف أن يطبق مقاييس النقد المتطورة، على إنتاج أدبي ينتسب إلى مرحلةٍ اجتماعية متطورة؛ ولهذا تجنب أن يطلق أحكامًا عامة على منقوديه من الأدباء في جملتهم، حين ركَّز أحكامه عليهم في حدود الأعمال الأدبية التي تناولها بالنقد والدراسة؛ وهو في تقييمه لتلك الأعمال ينظر من خلال منظار، يرى ويقف فوق أرض محايدة، هناك حيث لا مجال للتعصب المذهبي ولا تودد للعقيدة الفكرية، مما يقتضي عند غيره أن يصدر الرأي أو نقيضه، وكلاهما رمز صادق للتجني أو المجاملة. فالمؤلف — على ضوء معرفتنا به — لا تربطه بمنقوديه صلات شخصية أو عقائدية من صداقة أو خصومة، وإنما تقوم الصلة بينه وبينهم على أساسٍ من الإنكار لظاهرة فنية أو اتجاهية، لا ترضي الميزان النقدي العادل، أو أساس من الإعجاب بظاهرةٍ أخرى تبدو وهي راجحة في حساب الوزن والتقييم. والمؤلف معرَّض في بعض المواضيع من كتابه لأن نختلف معه تبعًا لأننا سننكر عليه بعض آرائه، ولكنه الإنكار الذي يرجع إلى اختلاف وجهات النظر، وليس إلى أنه قد أبصر الحقائق ثم أغمض عينيه؛ كما يفعل الآخرون.

القسم الأول من الكتاب خصَّصه الدكتور القط لدراسة «السلبية في القصة المصرية». أما النماذج التي اختارها من الإنتاج الأدبي المعاصر، ليسجِّل من خلالها مظاهر تلك السلبية، فهي أربع مسرحيات ذهنية لتوفيق الحكيم تتمثَّل في «أهل الكهف» و«بجماليون» و«الملك أوديب» و«شهرزاد» … ثم ثلاث قصص طويلة هي: «أزهار الشوك» لمحمد فريد أبو حديد، و«إني راحلة» ليوسف السباعي، و«بعد الغروب» لمحمد عبد الحليم عبد الله. وطريقة المؤلف في عرض العمل الفني ودراسته ونقده تعد في جملتها سليمة، ما دامت محصورة في نطاق الزاوية التي اختارها لتلك الدراسة، ونعني بها زاوية السلبية؛ ولهذا فقد كان منصفًا لبعض منقوديه — كتوفيق الحكيم مثلًا — حين قال في مقدمة كتابه:

… ولم أقصد من دراسة ما درست من كتب، أن أتناول جميع جوانبها، وأحلِّل كل عناصرها الفكرية والفنية، ولكنني اتخذت كلَّ مجموعةٍ منها مثالًا لاختلاط بعض مفاهيم الأدب عند منشئيه في تلك الفترة الحرجة من حياتنا الأدبية. وقد يكون في بعض القصص التي اخترتها موضوعًا لبحث السلبية في القصة المصرية مثلًا، وصف فني جميل أو تحليل نفسي عميق، أو أسلوب قصصي جيِّد في بعض المواضيع، ولكنني لم أُشِر إليه ولم ألتفت إلا إلى تلك العناصر، التي توضح الفكرة التي من أجلها اتخذت تلك الأعمال موضوعًا لهذه الدراسة.

وعلى هذا الأساس سار المؤلف في طريقه متجهًا نحو الهدف الذي حدده في تلك الكلمات. ولكنه قبل أن يصل إلى هدفه يعرج على بعض القيم والمفاهيم المتصلة بجوهر السلبية والإيجابية، كوجهة نظر فنية ترتكز عليها مقاييسه وأحكامه في مرحلة الدراسة والتطبيق؛ وفي هذا المجال الجوهري نقف مع الدكتور القط حين يقول:

والقصَّاص حين يصوِّر الحياة يستطيع أن يختار نماذجه من بين الإيجابيين أو السلبيين أو منهما معًا، ولكنه بعد ذلك مطالب بأن يضع هذه النماذج تحت ضوء خاص، يخلق لها دلالات جديدة ويبث فيها معاني طريفة، تجعل من قصته حافزًا إلى الحياة ومنبهًا إلى ما فيها من خيرٍ وشر، بحيث يخلق في نفوس قارئيه وعيًا قويًّا بمجتمعهم ومشكلاته، ونفوسهم وحقيقة ما يعتمل فيها من أحاسيس. وهكذا يكون الفن — إلى جانب المتعة الجمالية — دافعًا إلى التطور باعثًا على اليقظة العقلية والنفسية، لا مجرد تسلية محضة فحسب. ومن اليسير على القصاص أن يصور النماذج الإيجابية لتجتمع فيها كل هذه الصفات والمعاني، إذ إنها بطبيعتها قادرة على ذلك مستجيبة لما يبثه الفنان فيها من حياةٍ وإيحاء؛ وقد يستطيع القصاص أن يصور الشخصيات السلبية على وجه يتحقق معه ما ينبغي للفن من وظيفةٍ إنسانية اجتماعية وعناصر جمالية؛ وذلك بأن يثير حول تلك الشخصيات من الأفكار والأحاسيس ما يثيره حول الشخصيات الإيجابية القوية، إذا أثارنا على ضعفها أو خلَق تعاطفًا مع هذا الضعف. وهو يستطيع أن يثيرنا على ضعفها، إذا لم يرسمها مجرد شخصيات وانية فاترة تمضي حياتها رتيبة مملة، بل يخلق لها من المواقف والأحداث ما ينفِّرنا من عجزها وسلبيتها، ويثير فينا احتقارًا لها وازدراءً لشأنها. ويستطيع أن يثير فينا تعاطفًا مع ضعفها، إذا رد هذا الضعف مثلًا إلى عواملَ نفسية قاهرة، لا تستطيع الشخصية منها فكاكًا، فهي كالمغلولة تريد الانطلاق ولا تجد إليه سبيلًا.

هذه الصورة النقدية التي رسمها المؤلف، لما يجب أن يكون عليه المضمون الفني والاجتماعي في القصة، لا تختلف عن الصورة التي نرتضيها ونريدها لمثل هذا المضمون؛ فهو مثلًا لم يغفل عن وجوب العناية بالناحية التكنيكية — وهي التي عبر عنها بالمتعة الجمالية — إلى جانب العناية بالناحية الاتجاهية؛ ذلك لأنه يؤمن معنا بأن التضحية بالأصول الفنية لكتابة القصة في سبيل إبراز مضمون قصصي ملتزم، هي في الواقع تضحية بهذا المضمون نفسه، حين يقف «وحده» عاجزًا عن إتمام عملية حفر عميقة في كيان مجتمع قابل للتطور. وهو من جهةٍ أخرى لم يقصر نجاح الالتزام القصصي على تصوير الشخصيات الإيجابية، الثائرة بطبيعتها على أوضاعٍ اجتماعية معينة، بل جعل المرجع في ذلك إلى قدرة القصاص نفسه على الإيحاء والتوجيه والإثارة، بمعنى أن هذا القصاص يستطيع أن يشيع في أعماق القارئ كل هذه القيم الإيجابية، ولو كان أبطاله من السلبيين، وحسبه في ذلك أن يقدمهم من خلال أحداثٍ ومواقف تجسَّم فيها المشكلة، بحيث نثور نحن من أجلهم ولو كانوا هم في حالة ضعف وعجز عن الثورة؛ وعلى هذا الأساس الأخير مضى المؤلف ليناقش في غير تجنٍّ ولا مجاملة، ما وقع عليه اختياره من أعمال توفيق الحكيم ومحمد فريد أبو حديد، ويوسف السباعي ومحمد عبد الحليم عبد الله.

والمؤلف بعد العرض الأمين لمضمون هذه القصص الثلاث: «إني راحلة» و«أزهار الشوك» و«بعد الغروب»، وهو العرض القائم على التلخيص بما يتخلله من وقفاتٍ نقدية متأنية أمام الأخطاء والمآخذ في محيط الاتجاه والتكنيك، ينتهي إلى أن هذه القصص:

قد اتفقت اتفاقًا طريفًا في رسم الشخصيات وبناء الأحداث، فالشخصيات جميعها سالبة، والصراع لا وجود له، والمصادفة هي التي تحرك الأحداث وتتحكم فيها، وثقافة المؤلف تظهر بوضوحٍ تام وتطغى على تفكير الشخصيات الروائية، وسلوكها الذي يتَّسم بقدرٍ كبير من المثالية الزائفة. وهذا الاتفاق لا يمكن أن يكون نتيجة اتباع لمذهبٍ معين، أو تفضيلًا لأسلوب خاص في القصص، بل هو تعبير عن السلبية الغالبة في المجتمع بِمُثلها وقِيَمها الخلقية، وهو تعبير عن تلك السلبية الكامنة في شخصيات المؤلِّفين أنفسهم، إذ كانوا جزءًا من مجتمعهم يدينون بما يدين به.

إزاء هذا الرأي — وعلى ضوء دراستنا الشخصية لهذه القصص الثلاث — لا نملك إلا أن نوافق المؤلِّف على ما ذهب إليه؛ والواقع أننا إذا ما أردنا أن نبحث عن مناطق الفراغ في الوجود الفني لأصحاب هذه القصص، لأدركنا بعد جولةٍ فكرية دارسة أن هذه المناطق متشابهة من حيث الشكل، تبعًا لوحدة المسالك المؤدية إلى حقيقتها الموضوعية. فالمؤلفون الثلاثة مثلًا يتفقون في أن كلًّا منهم، لا يلم إلمامًا كافيًا بالمنهج التصميمي لكتابة القصة، وذلك لضآلة الثقافة الفنية في هذا المجال من جهة، ولانعدام الممارسة العملية لأي تجربةٍ إبداعية من جهةٍ أخرى، وينتج عن هذه الظاهرة أنهم يكتبون القصة بأسلوبٍ اجتهادي، لا تستطيع الموهبة — حتى ولو توفرت لهم — أن تملأ بقية الجوانب في منطقة الفراغ. بل ويترتب على نفس الظاهرة أيضًا، تكرارية هذا الأسلوب الذاتي بصورةٍ ملحوظة، بحيث تصبح أعمالهم القصصية — رغم تنوعها الموضوعي — نسخًا مكررة من ناحية التصميم الفني العام؛ وفي رأينا أن عنصر السلبية الاتجاهية كما حدَّده المؤلِّف في نقده لهذه القصص الثلاث، يرجع إلى ضعف القابلية التطورية لدى المؤلِّفين من ناحية التجاوب الاجتماعي الصاعد، كنتيجة مباشرة لضعف القابلية نفسها، من ناحية التفاعل الفني مع المفاهيم الأدبية الجديدة. ولا بد من نقلةٍ أخرى تدفعنا إلى أن نقف مع المؤلف — متفقين حينًا ومختلفين حينًا آخر — أمام المسرح الذهني لتوفيق الحكيم.

إن السلبية في مسرحية «أوديب»، ومن دور التجاربخلال العدسة المقربة في منظار المؤلف، تتلخَّص في أن القالب الفكري الذي صبَّ فيه توفيق الحكيم تركيبة أوديب الإنسانية، لا يصلح كرمز لذلك الترقب الإنساني — بقيمه الهادفة — لانبلاج صبح الحقيقة؛ ذلك لأن أوديب في هذه المسرحية قد شارك «ترسياس» في مؤامرة، أُخفيت فيها الحقيقة عن الشعب، وخدعت عنها حتى زوجته وأولاده، وعاش هذا الباحث عن الحقيقة سبعة عشر عامًا في ظلال زيف متصل الحلقات. هذا بالإضافة إلى أن الكاتب لم يعالج الاتجاه المسرحي، بمحاولة تخليصه من الجبرية الصارمة والقدرية المهزومة. أما السلبية في «أهل الكهف» فتتركز في ذلك الصراع الرئيسي، الذي أقامه توفيق الحكيم بين القلب والزمن … بين الثلاثمائة عام التي قضاها «ميشيلينا» في ظلام الكهف، وغيَّرت طعم القيم الحياتية في فم وجوده بعد البعث، وبين قلب «بريسكا» الذي طوى القرون الثلاثة، ليصل الماضي بالحاضر في قصة حب مثيرة. لقد أراد الكاتب لهذا القلب أن ينتصر على الزمن، فأنهى الصراع بانتحار «بريسكا»، بأن دفنت نفسها حية مع «ميشيلينا»، ليتمَّ الاتحاد العاطفي في عالم الموت، بعد أن عجزت يد الحياة عن صنع هذه المعجزة؛ إنه ليس انتصارًا في رأي الناقد، ولكنه صورة مجسمة للهزيمة، هذا إلى جانب بعض مظاهر السلبية الأخرى في الحوار، مثل إشارة الكاتب إلى إخفاق مصر في مقاومة الزمن وانتقام التاريخ. وإذا ما سعينا وراء السلبية في «بجماليون» فهي هناك، في ذلك الصراع الذي أدار الحكيم أحداث المسرحية ومواقفها حول محوره، وهو الصراع بين المثل الأعلى والواقع المادي بالنسبة إلى الفنان، حيث ينتهي هذا الصراع أيضًا بأن يحطم المثَّال تمثاله الرائع، ثم يفارق الحياة وهو يسير في قافلة من اليأس، كان حداؤها الشك والفرار من مواجهة القوى الدافعة. والحق أن المؤلِّف في دراسته لعناصر السلبية في هذه المسرحيات الثلاث، قد بذل جهدًا ملحوظًا في رصد هذه العناصر، وتحليلها على ضوء المفاهيم الإيجابية التي حددها كمقاييس في مقدمة كتابه، ومع ذلك فلا مناص من أن نختلف معه في بعض الجوانب الموقفية، التي سلط عليها أضواءه الكاشفة «من بعيد»، وأن نختلف معه مرة أخرى في تفسيره للفكرة الرمزية في «شهرزاد»، وما ترتب على هذا التفسير من حكم ظُلمت معه في رأينا الحقيقة الفنية.

لقد وقف الدكتور القط عند المعنى القريب في المضمون الفكري لمسرحية «شهرزاد»، ولم ينفذ إلى ما وراء المعنى القريب من رمزٍ بعيد؛ فهو مثلًا قد ظن أن شخصية شهرزاد ما هي إلا شخصية امرأة مغلفة بالأسرار، يسعى كلٌّ من «شهريار» و«قمر» إلى الكشف عن حقيقتها، بحيث ينظر إليها الأول على أنها عقل كبير، وحيث ينظر إليها الثاني على أنها قلب كبير، بينما هي من وجهة نظر «العبد» لم تكن إلا جسدًا جميلًا. واعتمد المؤلِّف في هذا التفسير الذي لم يحالفه الصواب على هذه العبارة التي قالتها شهرزاد لكلٍّ منهم وهي ساخرة: «أنت تراني في مرآة نفسك.» وينتهي إلى أن هذا المفتاح التعبيري هو جوهر المضمون الفكري للمسرحية، وخلاصته «أن الحقيقة لا حقيقة لها إن صح هذا التعبير»، واعتمادًا على هذه النظرة أصدر المؤلف حكمًا، ظلمت معه الحقيقة الفنية كما سبق القول، ومدار هذا الحكم هو أن شخصية شهريار شخصية سالبة؛ لأنه فشل على يد الكاتب في الوصول إلى حقيقة شهرزاد، وعاد من نقطة النهاية إلى نقطة البداية وهو مهزوم.

ولا ندري كيف لم يفطن الدكتور القط — على وفرة لقطاته الواعية — إلى حقيقة الفكرة الرمزية في «شهرزاد»، مع أن هناك أكثر من مفتاح تعبيري لفتح الأبواب المؤدية إلى هذه الفكرة؛ يقول شهريار في أحد المواضع من المسرحية موجهًا حديثه إلى شهرزاد: «أنت لست امرأةً ككل النساء.» فإذا ما أجابته قائلة: «أتمدحني أم تذمني؟» كان تعقيبه هو هذا المفتاح الأول: «لست أدري، بل قد لا تكونين امرأة!» ومفتاح آخر عندما يقول شهريار أيضًا كاشفًا عن قلقه وحيرته: «إن شهرزاد مثل الطبيعة، تبدي لنا محاسنها وتخفي عنا أسرارها.» ومفتاح ثالث في موضعٍ ثالث، حين يقول معبرًا عن شكِّه ويأسه: «لست أحب الجلوس إلى هذه الأرض؛ دائمًا هذه الأرض، لا شيء غير الأرض، هذا السجن الذي يدور، إنا لا نسير، لا نتقدم ولا نتأخر، لا نرتفع ولا ننخفض، إنما نحن ندور، كل شيء يدور، تلك هي الأبدية، يا لها من خدعة؛ نسأل الطبيعة عن سرها فتجيبنا «باللف» والدوران!»

هذه المفاتيح الثلاثة وغيرها مضافة إلى اتجاه المضمون الفكري في جملته، تطلعنا على جوهر الفكرة الرمزية؛ وهي أن شهرزاد قد رمز بها توفيق الحكيم إلى سر الطبيعة، أو سر الأبدية، أو سر الوجود على أي تسمية من هذه التسميات؛ ومن هذا المنبع الرمزي تدفقت كل الرموز الأخرى في المسرحية، حيث يصبح شهرزاد رمزًا أصيلًا لهذه المجموعة البشرية، التي تنظر إلى سر الطبيعة من نافذة «العقل»، فتتعرض تبعًا لذلك لهزاتٍ عنيفة من أعاصير الشك والقلق والحيرة، وحيث يصبح قمر رمزًا آخر لتلك المجموعة البشرية، التي تنظر إلى سر الطبيعة من نافذة «القلب»، فهي عنوان صادق لذلك الإيمان الأعمى، الذي يسلم بكل ما يراه، وحيث يصبح العبد رمزًا ثالثًا لمجموعةٍ بشرية ثالثة، لا تنظر إلى الطبيعة إلا من نافذة «الحواس»، فهي أسيرة المظهر المادي الذي يعود عليها بكل متعةٍ حسية، ومن هنا آمن العبد بجسد شهرزاد فاستمتع، وآمن قمر بقداسة شهرزاد فاطمأن، وشكَّ شهريار في هذه القداسة فشك في حقيقة شهرزاد كلها، ومضى يجوب الأرض باحثًا عن سرها فلم يظفر بغير الإخفاق، وهذه النهاية تعد في رأينا طبيعية بالنسبة إلى كل النماذج البشرية التي يمثِّلها شهريار، وبالنسبة إلى المضمون الاتجاهي الذي تمثِّله مسرحية توفيق الحكيم؛ لأنه مضمون «وجودي» بحت، يرمز إلى الموقف الكوني للإنسان، بصورةٍ لا يمكن أن تتسع لأي خطٍّ اجتماعي هادف؛ مما يتعذر معها أن يوصف الكاتب بأنه كان سلبيًّا أو قريبًا إلى السلبية.

ومن الجوانب الموقفية التي يدور حولها الخلاف بيننا وبين المؤلف، هذا الحوار مثلًا كما أطلقه توفيق الحكيم على لسان كلٍّ من «بجماليون» و«جالاتيا»، حيث يقول بجماليون: «معاني التقدير لمحتها في عينيك هذا الصباح، وأنت تنظرين إلى أولئك الحطابين في الغابة، والعرق يتصبب من جباههم.» وتقول جالاتيا معقبة على هذا الاعتراض: «كل كد جدير بالتقدير.» فيقول بجماليون مرة أخرى محددًا موقفه: «كل زوجة لا تستريح حتى ترى جبين زوجها يتعفر بتراب العمل والشقاء، إنك تعرفين أني لست في حاجة إلى أن أعمل وأشقى.» وهنا يصدر الدكتور القط حكمًا نهائيًّا على اتجاه الكاتب في نطاق هذا الجانب الموقفي، فيقرر أن توفيق الحكيم: «قد جعل اضطرار الناس إلى العمل رمزًا لما في الحياة من تبذُّل وامتهان، وهو رأي يمثِّل فكرة الفنان الذي يعيش في برجه العاجي، دون أن يحس بما للعمل من فضل على الحياة وعليه هو نفسه، حين يهيئ له ذلك البرج العاجي الأنيق، الذي يعيش فيه بمعزلٍ عن الكادحين.»

الحق أننا نشفق من «نهائية» الأحكام النقدية في مثل هذا الموقف، الذي نخرج فيه من الحوار برأيين متعارضين، يحمل كلٌّ منهما في أحشائه وجهة نظر فنية تعبر عن اتجاه فكري محدد؛ فإذا قال المؤلف — وبطريقة حاسمة — إن وجهة نظر بجماليون بالنسبة للعمل والكادحين، هي وجهة نظر الفنان المنعزل الذي يمثله توفيق الحكيم، جاز لنا أن نقول أيضًا إن توفيق الحكيم قد يكون معترضًا — وبطريقةٍ إيحائية — على موقف بجماليون، من خلال وجهة النظر الأخرى التي تعبر عن موقف جالاتيا، وهي تهتف في انفعالٍ صادق: «كل كدٍّ جدير بالتقدير»، ومعنى هذا أنه ما دام هناك احتمال ممكن لوجود تفسيرين لجزئية مضمون اتجاهي، فينبغي للناقد أن يتجنب الأحكام النهائية.

وجانب موقفي آخر حين استجابت الآلهة لدعاء بجماليون، فأحالت التمثال الرخامي البارد إلى «جالاتيا» البشرية المتدفقة بالحياة، لقد طلبت جالاتيا الجديدة إلى بجماليون أن يفترق كل منهما عن الآخر؛ لأنها تشفق من ذلك اليوم الذي سيعرض شعرها للشيب ووجهها للتجاعيد، في تلك المرحلة من العمر التي تبهت فيها الصورة الجميلة تحت لفح الشيخوخة، وعندئذٍ يتعرض وجودها الإنساني — ومن خلال نظرته المتذوقة — إلى الإذلال والهوان. وحين يجيبها بجماليون في فزع، بأنه لا يستطيع أن يتخيل هذا الذي سيحدث، تجابهه هي بهذه القضية الفكرية الناصعة: «لقد لفظت الحقيقة الساعة يا بجماليون. إنني لست عملك الفني، ولا أستطيع أن أكون كذلك، ينبغي أن تفكر أيضًا بشيء آخر هو احتمال موتي، وبه يمَّحي كل أثر لعبقريتك.» لقد عقَّب الدكتور القط على مضمون هذا الحوار بأنه: «فلسفة مخطئة عن الفن والحياة، مردها تصور المؤلِّف الحياة كما تتمثل في كائن حي واحد يشيخ ويموت، وإغفاله لحقيقة الحياة الممتدة الباقية من جيلٍ إلى جيل. إن الحياة باقية وكذلك الفن؛ لأنه يستمد منها وجوده، أما الذي يفنى فهو الكائن الحي في نطاق عمره المحدود، وكذلك يفنى الأثر الفني، فما يمنع أن يتحطم التمثال ويعود قطعًا لا معنى لها، من العاج أو الرخام؟»

وهذا في رأينا تفسيرٌ بعيد عما قصد إليه توفيق الحكيم، إن نقطة الارتكاز في هذه القضية الفكرية، هي هذه العبارة في المضمون الحواري، حين تقول جالاتيا لبجماليون: «إني لست عملك الفني، ولا أستطيع أن أكون كذلك»، والمعنى البعيد الكامن وراء العبارة، هو أن العمل الفني إذا لم يكن من صنع الفنان ومن خلق يديه، فهو عمل معرض للفناء «المعنوي»، بحيث لا يستطيع أن يجد لصاحبه مكانًا في سجل الخلود؛ ذلك لأنه منسوب بغير حق إلى صاحبه، وهو من صنع الآخرين، وكل التعبيرات الواردة في الحوار عن الشيب والتجاعيد، وتغير الصورة الجميلة بفعل الشيخوخة وفنائها بفعل الموت، هي في حقيقتها رموز معنوية أراد توفيق الحكيم، أن يصل إليها فوق معبر فني من «مادية» الكلمات.

ونحن مع الدكتور القط بعد ذلك في القسم الثاني من كتابه، حيث خصص هذا القسم للإيجابية بمفهومها الفني والاجتماعي، كما حدده في القسم الأول؛ وهو هنا يسجل أدوار المرحلة الانتقالية، التي مرَّ بها الأدب المصري المعاصر ليواجه الدور الأخير، وهو دور التجاوب مع حركة المد الجديدة، المندفعة إلى ربط الأدب بمشكلات عصره. ويتخطَّى المؤلِّف هذا الدور ليصل إلى الساحة النقدية، التي يمكن أن يمارس فيها عملية التطبيق، على أربعة أعمال فنية حاول أصحابها — جهد طاقتهم — أن يربطوها بعجلة الأدب الملتزم. وهذه الأعمال التي اختارها المؤلف كنماذج للمحاولة هي: رواية «أنا الشعب» لمحمد فريد أبو حديد، ومسرحية «غروب الأندلس» الشعرية لعزيز أباظة، ومجموعة من القصص القصيرة بعنوان «السماء السوداء» لمحمود السعدني، وديوان من الشعر هو «أغاني أفريقيا» لمحمد الفيتوري.

أما رواية فريد أبو حديد فقد انعكست على صفحة المرآة النقدية للمؤلف، في تلك الصورة التي رسمنا خطوطها التعبيرية من قبل، حين قلنا إن عدم الإلمام بالأصول الفنية لكتابة القصة، هو في الواقع تضحية بالمضمون الاتجاهي نفسه، حين يقف وحده عاجزًا عن عملية حفر عميقة في نفوس الجماهير. وتتكرر الصورة مرة أخرى بالنسبة إلى المضمون الاتجاهي أيضًا في مسرحية عزيز أباظة، تبعًا لانعدام الوعي بالتكنيك المسرحي أولًا، وللحذلقة اللغوية التي يلجأ إليها الشاعر ثانيًا، ويشعر معها النظارة بحاجتهم إلى القواميس، ويرغم معها القراء على الرجوع إلى الهوامش الشارحة. ونحن معجبون مع المؤلف بكثيرٍ من جوانب الملكة القاصة عند محمود السعدني، وإن كان هذا القصاص الشاب في رأينا، ينقصه التنويع في عرض المستويات النفسية لنماذجه الكادحة، حتى تكون هذه النماذج في جملتها تجميعًا صادقًا في بؤرة العدسة اللاقطة لنظائرها الحية في المجتمع المصري. وإذا ما اهتمَّ هذا القصاص بعملية التطوير الموقفي للأحداث، لتخرج بعض قصصه من نطاق «الصورة» إلى نطاق «المشكلة» المكتملة العناصر، فليس من شكٍّ في أن إنتاجه يصبح كسبًا كبيرًا للقصة المصرية القصيرة. ولقد أنصف المؤلف شعر الفيتوري وهو في رأينا جدير بالإنصاف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤