أزمة الجنس في القصة العربية

أن ندرس العمل الفني من الداخل فتلك هي مهمة الناقد، أما أن ندرس العمل الفني من الخارج فهذه هي مهمة الباحث. وكل من الباحث والناقد — من ناحية التكامل الازدواجي للكاتب — مطلوبان كصفتين بارزتين، في مجال التقييم الحقيقي لمختلف الأعمال الفنية.

إننا ندرس العمل الفني من الداخل، لنحكم على عملية بنائه كتركيب عضوي، ينمو ويمتد من خلال حركة دينامية متطورة؛ وعلى هذا الأساس من توفر عنصر الإيجاب والسلب، نهيئ أول جانب من أركان المعادلة التقييمية للعمل الفني عبر لمسات النقد؛ نهيئه في حدود قطاعٍ واحد هو القطاع الداخلي، ونعني به قطاع الملكة الناقدة، أما ذلك الجانب الآخر من أركان المعادلة، فإننا نهيئه في حدود القطاع الخارجي أو قطاع الملكة الباحثة، إذا ما نظرنا إلى العمل الفني على أنه وليد شرعي، لما يحيط به من عوامل التكوين، تلك التي تتمثل في الدوافع المؤثرة والتيارات الموجهة.

من هنا يتحتم علينا ونحن ندرس في أعمال الآخرين مشكلة من المشكلات أو نبحث ظاهرة من الظواهر، ألا ننظر إلى المشكلة أو الظاهرة، وهي معزولة عن واقعها الاجتماعي وجذورها التاريخية؛ إن هذا العزل لو حدث، لترتَّب عليه أن يقتصر الكاتب — بطريقةٍ مرغمة — على الرصد التسجيلي الذي ينقصه التفسير والتبرير. إن المشكلة أو الظاهرة نتاج مباشر لعديدٍ من الأوضاع، التي تشكِّل في مجموعها هيكل مرحلة حضارية متطورة الملامح، ولكنها على التحقيق تستمد الجوهر الأصيل لملامحها — على مدار تجمد الترسيب أو تكيفه — من مراحل أخرى سابقة، هي نقط الانطلاق الأولى لهذه المرحلة الحضارية الممتدة.

من هذه الزاوية يتاح لنا أن نرصد المشكلة، وأن نحدد أبعادها الموضوعية من جهة، وأن نضع أيدينا — من جهة أخرى — على مصادر هذه الأبعاد؛ على المنابع التي تفسر لنا جريان النهر الحياتي للمشكلة، واندفاعه في اتجاهٍ معين، عبر مسالك العمل الفني الرامز إلى مرحلةٍ حضارية. وقد يكون العمل الفني تجسيمًا لواقع تاريخي يتشابه مع واقع تاريخي آخر، ينشئ بينهما نوعًا من التجاوب الفكري والعاطفي في الفن، بحيث ينشئ بدوره نوعًا من التكرار لظاهرة اتجاهية محددة؛ يحدث هذا على اختلاف البعد الزمني والمكاني، بين نوعي الأرضية التاريخية التي تدور فوقها الأحداث.

غالي شكري في كتابه الجديد «أزمة الجنس في القصة العربية»، يحقِّق الكثير من هذا التكامل الازدواجي للكاتب، حين يجمع بين الباحث والناقد على صعيد الرؤية الإدراكية للعمل الفني من الداخل والخارج؛ يحقق هذا الكثير في المقدمة الطويلة، التي مهَّد بها لبحثه النقدي تحت عنوان: «محور الفن منذ فجر التاريخ» و«تطور مفهوم الجنس عبر العصور»، ثم وهو يطبق اتجاهه المنهجي على مشكلة الجنس في القصة العربية المعاصرة، عند كتَّابها من أمثال نجيب محفوظ ويحيى حقي ويوسف إدريس، ومحمود البدوي وسهيل إدريس وإحسان عبد القدوس، وعند كاتباتها من أمثال كوليت خوري وليلى بعلبكي وصوفي عبد الله.

أوجه التقصير القليلة في هذا الكتاب القيِّم، تتركز في بعض المواقف التي ينفصل فيها «الناقد» عن نفسه «كباحث»، ناسيًا وهو يجوب العمل الفني من داخل، أثر الهزات الخارجية التي طبعت المضمون الاتجاهي بطابعها الخاص؛ عندئذٍ نواجه الملكة الناقدة، وهي ترصد الظاهرة أو تضع يدها على المشكلة، دون أن تنفذ إلى ما وراءهما من عوامل خارجية، وجهت خط سير العمل الفني إلى مصير موضوعي محدد.

ونترك المقدمة الطويلة التي مهَّد غالي شكري لبحثه، لنلتقي بعدها أول ما نلتقي بالبداية الحقيقية لجوهر هذا البحث، وهي: «أزمة الجنس في القصة العربية» إن غالي شكري كباحث يقرر: «إن أي مجتمع حديث يعتبر وليدًا لما سبقه من مجتمعات، فالحضارة القائمة في عصرنا هي ابنة العصور الذاهبة، مضافًا إليها ما استجدَّ من ظروف التقدم؛ لذلك يتحتم أن نبحث أولًا عن جذور تراثنا، قبل أن نبحث أزمةَ الجنس في القصة العربية الحديثة، فليس من شكٍّ أننا ورثنا الكثير من مقومات الحياة المادية والقيم الفكرية القديمة، حتى إنه يلزم لنا أن نغوص في أعماق التكوين الاجتماعي لحضارتنا، منذ اللحظة التي قامت فيها دولة للرقيق، ولعبت الجواري والقيان دورًا كبيرًا في حياة المجتمع العربي، حينذاك راح الشعراء يصورون العلاقات الإنسانية الناشئة في مثل تلك الدولة، العلاقات الشاذة والطبيعية على حدٍّ سواء، وبرزت دلالات جديدة للعلاقة الجنسية، استمدت مضمونها ومحتواها من جوف البنيان الحضاري الجديد.»

بمثل هذا التصور المدرك لقوى الدفع الموجهة لكل واقع حضاري يعيشه مجتمع من المجتمعات، وضع غالي شكري نقطة البدء، ليتخطاها بعد ذلك إلى مرحلة الشواهد والتطبيق؛ لقد استشهد أولًا ببغداد أيام الحكم العباسي، ثم بالقاهرة أيام الحكم الفاطمي، في كلتا العاصمتين كان هناك بيوت للإثم ودُور للدعارة، تديرها النساء الساقطات بطريقة رسمية تحت حماية الدولة، حيث كانت تجبي عليها الرسوم؛ وفي تلك الفترة — وعلى الأخص في مصر الفاطمية — كانت سهولة الطلاق تغري الكثير من الرجال على أن يتزوج الواحد منهم في عشر سنوات نحو عشرين أو ثلاثين زوجة، وتغري الكثير من النساء على أن تكون الواحدة منهن زوجة لاثني عشر زوجًا، حيث تترك هذا لتقترن بذاك. هي إذن تركة ورثها مجتمعنا على مر الأجيال، فما يزال الطلاق منتشرًا؛ وما يزال منتشرًا كل ما يترتب عليه من نتائج وخيمة عمادها الزنا والبغاء!

وينتهي غالي شكري من هذا التمهيد إلى تقرير هذه الحقيقة، وهي أن الخيوط الناسجة لثوب الواقع العربي في مختلف أقطاره، وإن تشابهت تقريبًا في نوع النسيج، إلا أنها تختلف أحيانًا من حيث اللون، حتى لتختلف تبعًا لذلك — في نطاق معنى الجنس — السماتُ الغالبة على الأدب في لبنان، عن السمات الغالبة على الأدب في مصر. وهنا يستشهد الباحث الناقد بقصة امرأة قروية، كانت تمارس البغاء في المدينة للكاتب اللبناني توفيق يوسف عواد، وهي قصة قصيرة عنوانها «المقبرة الدنسة»، ويخرج منها بأنها إذا كانت تعبيرًا صادقًا للمشاعر، التي تنتاب أهل القرية اللبنانية تجاه امرأة ضلت الطريق، فهي تختلف من حيث الجو، وتصوير تلك المشاعر الإنسانية عن القرية في مصر. ويستشهد مرة أخرى بقصة ثانية لتوفيق عواد عنوانها «الشاعر»، وقصة ثالثة لخليل تقي الدين عنوانها «الإعدام»، على أن المرأة الأجنبية — كخط اتجاه موضوعي من خطوط العمل القصصي — كان لها دور ملحوظ في الأدب اللبناني.

بعد ذلك ينتقل غالي شكري إلى القصة العربية في مصر، ليلتقي «بالفنان الذي أرَّخ لفجر الرواية المصرية بقصة زينب. نجح الدكتور هيكل في هذه الرواية نجاحًا باهرًا — إذا لم نغفل العامل الزمني — في أن يرسم ببراعة، الصورة الرومانسية للجنس، وقد صدرت القصة عام ١٩١٤؛ أي ذلك التاريخ الذي كانت تعاني فيه مصر أزمتها التاريخية بداية الحرب العالمية الأولى، وكان النظام الإقطاعي المهيمن على أشكال الحياة المصرية، يخيم في الوقت نفسه على العلاقات الاجتماعية بين الأفراد؛ لهذا كان حامد — بطل قصة هيكل — رمزًا لشباب ذلك الجيل المعذب، بين مثله العليا المستمدة من ثقافة الغرب، وبين الأوضاع السيئة السائدة آنذاك في المجتمع المصري». ومن خلال عرض سريع لأحداث قصة زينب، يشير الناقد — وأقول الناقد فقط — إلى أن القارئ لا يعثر على موقف جنس صريح في القصة؛ لأن العلاقة بين الرجل والمرأة في ذلك المجتمع لم تكن نفسها صريحة، وما نلاحظه في الرواية من أحاديث «عن» الجنس، تكتسي بثوبٍ فضفاض من الحياء والتخفي؛ لأن نظرة العصر والمجتمع إلى هذا الموضوع، كانت هي بعينها نظرته إلى سائر الأشياء: نظرة ضبابية غائمة تحيل كافة المرئيات والعلاقات، إلى ألوانٍ باهتة غير واضحة.

من وراء هذه اللمسات النفَّاذة نلمح — كما سبق أن قلت — الناقد فقط، الناقد وهو يقف وحده في ميدان يستوجب وجود الباحث، ليفسر الظواهر والمشكلات؛ لقد ظهرت قصة زينب عام ١٩١٤، وهي قصة رومانسية، ونحن لا نعثر فيها بوضوحٍ على موقف جنس بعينه، ولقد كانت نظرة العصر والمجتمع إلى هذا الموضوع، نظرة مغلفة بالغيم موشحة بالضباب؛ نحن في حاجةٍ إلى أن نفسر هذا كله، وأن نرده إلى أسبابه ودوافعه، نحن في حاجةٍ إلى الباحث الذي يحدثنا عن طبيعة الوعاء الاجتماعي، الذي استقرت بداخله الظاهرة أو المشكلة، واستمدت تبعًا لذلك من استقرارها لون هذا الوعاء.

أدبنا المعاصر في الربع الأول من القرن العشرين، يبدو من خلال النظرة الدارسة والمتأملة، وهو متشح بأثواب الرومانسية تأليفًا وترجمة؛ لماذا اندفع أدبنا بالأمس القريب إلى هذا الاتجاه، أو لماذا سار أدباؤنا — والشباب خاصة ومنهم هيكل — في هذا الطريق؟ طريق أدب الحلم والوهم والعاطفية المرهفة، والميل إلى الحزن والتفكير في الموت، والهيام بالطبيعة والإيمان بالغيبيات، والولع بالفروسية والإعجاب بالبطولة؛ كان الاتجاه الرومانسي هو الغالب والمسيطر على اختيار أدبائنا المترجمين، وعلى أذواق الجماهير القارئة التي كانت تقبل إقبالًا كبيرًا على هذا اللون من الأدب. لقد كان أدباؤنا يترجمون عن الفرنسية في ميدان الأدب الروائي، وكانت أمامهم كل الأعمال الفنية للكتاب الفرنسيين وغيرهم، وهي تمثل مختلف المذاهب والاتجاهات، ومع ذلك نراهم ينبذون الكلاسيكية والواقعية والطبيعية، ويقصرون مختاراتهم المترجمة على الأدب الرومانسي وحده؛ نرى المنفلوطي وهو ينقل لنا «بول وفرجيني» لبرناردين دي سان بيير، و«ماجدولين» لألفونس كار، ثم قصة «في سبيل التاج» التي تمثل البطولة الرومانسية ليهديها إلى «البطل» المصري سعد زغلول. ونرى أحمد حسن الزيات وهو ينقل لنا «رفاييل» و«آلام فرتر» لجيته. ونرى حافظ إبراهيم وهو ينقل لنا «البؤساء» لفكتور هيجو. وفي الاتجاه نفسه يسير الدكتور أحمد زكي، فيقدم «غادة الكاميليا» لألكسندر ديماس، ثم حسن صادق فيقدم «أدولف» لبنجامان كونستان، وعلي أدهم عندما ترجم «رينيه» لشاتوبريان، وكل هذه الأعمال الروائية تمثِّل الأدب الرومانسي خير تمثيل.

هكذا كان أدبنا في ميدان الترجمة، أما في ميدان التأليف فقد سار في الطريق نفسه واصطبغ بنفس اللون وحمل نفس الشعارات؛ المنفلوطي حين يؤلف محاولًا أن يكتب فصولًا، يسلك فيها مسلك كتَّاب القصة يبدو وهو رومانسي مسرف في كتابه «العبرات»، ولعل هذا العنوان الذي اختاره لذلك الكتاب، كان نتاجًا تأثريًّا للنزعة الرومانسية. ومحمد حسين هيكل في قصته «زينب»، يطالعنا ببعض الخصائص الفنية التي نعرفها عن الأدب الرومانتيكي الفرنسي، ومن هذه الخصائص ذلك الهيام بالطبيعة، وهو يتغنى بجمال الريف، وتلك العاطفية المرهفة وليدة الحرمان في قصة حب بريء، وتلك الشاعرية الأسلوبية الناتجة عن الإغراق في الخيال. ولا ننسى إيمان بطل القصة بالغيبيات حين يلجأ — ليطهر روحه من أدران الإثم — إلى أحد مشايخ الطرق، وأن البطلة قد مرضت بالسل وماتت على طريقة غادة الكاميليا لألكسندر ديماس.

وشباب الشعر في ذلك الحين — علي محمود طه وإبراهيم ناجي ومحمد عبد المعطي الهمشري — لا نكاد نسمع منهم إلا نغمات حزينة وملتاعة؛ نظرتهم إلى الوجود كانت من خلال منظار قاتم، تذوقهم للحياة كان مغلفًا بالضيق والكآبة والشكوى والشعور المرير، وهم في النهاية ككل الرومانسيين الصادقين يهربون من قسوة الواقع إلى رحمة الخيال، ولا يجدون ملجأً إلا في رحاب الطبيعة، الأم الحانية التي تمثل الواحة الظليلة لكل المكتوين بلفح الهجير. وما أكثر الكلمات التي تطوف في شعرهم حول الموت؛ الموت الرومانتيكي المتركز في الشعور بالهزيمة أمام عدوٍّ قاهر هو الحياة.

مجتمعنا المصري في الربع الأول من القرن العشرين، مسئول عن صهر الكاتب والشاعر في بوتقة المشاعر الحزينة والنظرة القاتمة، لقد كانت المحنة على التحقيق محنة المثقفين، أولئك الذين كانوا يعرفون عن طريق الثقافة والاطلاع والوعي أن مجتمعهم تسيطر عليه قوًى قاهرة، لا ميل لهم بمقاومتها والوقوف في وجهها. كانت هناك قوى الرجعية والاستعمار والإقطاع، وطغيان الملكية وسيطرة التقاليد العتيقة. ومعنى هذه القوى الباطشة بالنسبة إلى المثقفين — وما كان في تلك الفترة — معناها الحرمان من حرية الرأي والسلوك والعقيدة والمقاومة، والشعور الطليق بالحياة. من هنا امتلأت نفوس المثقفين بالحزن، وتذوق وجودهم طعم الموت، فمضوا يمضغون أشجانهم في الشعر، ويجترُّون آلامهم في القصة، ويعبرون عن هزيمتهم في حدود المشاعر الفردية. ومن هنا — كما سبق أن قلت — هربوا من قسوة الواقع إلى رحمة الخيال؛ إلى هذا الأدب الرومانسي الذي كان انعكاسًا مباشرًا لشعورهم بوطأة الجو الخانق الذي يعيشون فيه، والذي كان تقليدًا اتجاهيًّا للأدب الرومانتيكي الفرنسي، الذي قرءوه وترجموه وتأثروا به. وكما تأثر هيكل في قصة «زينب» بقصة «غادة الكاميليا» لديماس، فقد تأثر علي محمود طه في بعض أشعاره الأولى بنتاج الشعراء الرومانسيين الفرنسيين. ومن الطبيعي — تبعًا لهذا التأثر أو ذلك التقليد — أن يجيء الحب في قصة هيكل حبًّا بريئًا مطهرًا من الإثم، كما شاءت له الرومانسية أن يكون، وقد كان كذلك في شعر علي محمود طه الأول. هذا جانب من تفسير الظاهرة، ويبقى جانب آخر، هو سيطرة التقاليد العتيقة داخل الأسرة والمجتمع في ذلك الحين. لقد وضعت تلك التقاليد على وجه المرأة حجابًا حتى لا يراها الرجل، والواقع أنها لم تحجب بذلك رؤية الرجل البصرية للمرأة، وإنما حجبت في الوقت نفسه رؤيته العقلية والوجدانية، تبعًا لتلك القيود الصارمة التي وقفت كجدار فاصل بين الشباب من الجنسين. من هنا — وحفاظًا على حرمة آداب المجتمع وتقاليده — خَفَتَ صوت الجنس في القصة المصرية الأولى والشعر المصري الأول، واكتسى كما يقول غالي شكري — دون تفسير — بثوبٍ فضفاض من الحياء، واكتسب تلك النظرة الضبابية!

ونمضي مع غالي شكري بعد ذلك، وهو يتابع الخط التطوري للقصة المصرية، عند روَّادها من أمثال محمود طاهر لاشين وعيسى عبيد؛ لنقفز إذن خمسة عشرة عامًا بعد ظهور «زينب»، لنلتقي بمحمود طاهر لاشين، سنفاجأ بأن النظرة الرومانسية في الحياة والأدب على السواء بدأت تنقشع، لكن المفاجأة تصبح غير ذات موضوع، لو تتبعنا الخطوات التاريخية الرائعة التي نقلت المجتمع المصري — بعد ثورة ١٩١٩ — إلى مرحلةٍ حضارية جديدة. إن السنوات التي بدأت بفشل الثورة الوطنية أخذت تشحن النفوس بقوى إيجابية جديدة، وفدت مع ثبات أقدام الطبقة المتوسطة، وبزوغ سلطانها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. صاحبت هذه الطبقة نظرة جديدة للحياة والإنسان والمجتمع، انعكست على آداب تلك الفترة وفنونها، ولنستعرض — على سبيل المثال — أقاصيص المجموعة الثانية لطاهر لاشين؛ المسماة ﺑ «يحكى أن»، فنرصد الموضوعات التي طرقتها وأشكالها التعبيرية، لنحصل في النهاية على «اهتمامات العصر» ونظرة المجتمع إليها:
  • قوَّاد يتظاهر بأنه من الأعيان وأنه فقد وعيه من الخمر، ويجر ضحاياه إلى داره وهي ماخور.

  • الكهلة المزهوة: امرأة عجوز أرمل، تتزوج من نصاب يبدد أموالها.

ونمضي مع المؤلف مرة أخرى، مع لمساته التفسيرية الباحثة، وهو يتعرض لقصة «حديث القرية» لطاهر لاشين، وقصة «مأساة قروية» لعيسى عبيد. لقد كانت القرية هي الأرضية الفنية التي اتُّخذت كمسرح للأحداث في قصص هيكل وعبيد ولاشين، ولعب فيها المعنى المتطور للجنس دوره الملحوظ. ما سر تلك العناية المفرطة بالريف آنذاك، ولماذا اختفى شبح المدينة فلا يكاد يلقي ظلاله على أحداث القصة المصرية عند هؤلاء الرواد؟ يرد غالي شكري على هذا التساؤل بأن «المدينة بشكلها الحضاري الجديد في ذلك الحين، لم تكن حفرت في وجدان الأدباء إحساسًا عميقًا بمشكلاتها وقضاياها؛ ذلك لأن التكوين الصناعي كان في خطواته الأولى المتعثرة، قبلما يصبح تكوينًا متكاملًا يدعي المدنية؛ ولعل توفيق الحكيم هو أول مَن أدرك هذا المعنى الجديد، فروايته «الرباط المقدس» — التي صدرت عام ١٩٤٤ — قد أوضحت شعوره الحاد بالتمزقات الملتاعة، التي رافقت ذلك التكوين الحضاري الوافد.»

ونمضي مرة ثالثة مع غالي شكري، وهو يخرج بنا من أزقة القرية إلى شوارع المدينة، هناك حيث نواجه أول ما نواجه، كاتبنا الروائي الأول نجيب محفوظ؛ نواجهه في «السراب» وفي «خان الخليلي» و«القاهرة الجديدة»، و«بداية ونهاية» وثلاثية «بين القصرين»؛ وسنوافق المؤلف على بعض آرائه وسنختلف معه في بعضها الآخر، وعلى الرغم من ذلك تبقى حقيقة يسجلها له النقد، وهي أنه قد بذل جهدًا ملموسًا في قراءة نجيب محفوظ وفهمه وتمثله، ومحاولة النفاذ إلى أغوار شخصياته الفنية، على ما فيها من كثرة التعقيد وتشابك العلاقات.

في «الثلاثية» مثلًا ينحصر مفهوم الجنس — تبعًا لاختلاف الفهم والنظرة وتطور المجتمع — بين شخصية أحمد عبد الجواد الأب وياسين الابن الأكبر وكمال الابن الأصغر وأحمد شوكت الحفيد. الأب يضعه غالي شكري تحت المجهر ليكشف لنا عن الجزئيات الدقيقة المكونة لوجهة نظره العقلية والذوقية، بالنسبة إلى وضع المرأة الاجتماعي في عصره. لقد كانت وجهة نظره لا تختلف كثيرًا عن وجهة نظر المجتمع العبودي الأول، يوم أن كانت المرأة «شيئًا» مسلوب الإرادة، «سلعة» تُشترى حيث توجد القدرة على الشراء. لقد كان أحمد عبد الجواد في رأينا يتعامل عقليًّا مع الزوجة بنفس المستوى الذي يتعامل به مع العشيقة، كلتاهما «جسد» مشبِع وشهوة عابرة، ولا يمنع من هذا أن يختلف الجسدان من حيث الوسيلة الغائية، حين تكون هذه الوسيلة هنا إشباع الرغبة وتكون هناك إنجاب النسل! وياسين الابن صورة مجسمة عن أبيه، وإن اختلفت الصورتان في بعض الخطوط. ولا بد من وقفة مع المؤلف؛ لأنه ينكر — من خلال وجهة نظر إصرارية — أن ياسين «شخصية موروثة»؛ الواقع أنه شخصية موروثة إذا ما قيَّمناه على ضوء السلوك الحركي الرامز إلى تكوينه النفسي، ذلك التكوين الذي يعد وليدًا لاتجاه مذهبي يهدف إليه في فنه نجيب محفوظ، إنه اتجاه المذهب «الطبيعي» الذي يخطط الشخصية الإنسانية سيكولوجيًّا، على مدار عاملين رئيسيين هما البيئة والوراثة.

لقد كان ياسين ابن بيئته كما كان ابن أبيه مرة وابن أمه مرات؛ ابن بيئة الطبقة الوسطى المحدودة الثقافة، التي يتفق مستواها التقييمي للمرأة مع مستواها العقلي — أقصد مستوى هذه الطبقة — المتجمد حيال مفهوم الحياة؛ وابن بيئة الطبقة الوسطى من التجار، حيث تتركز النظرة إلى أكثر الأشياء — ومن بينها المرأة — على أنها سلع عامة لا تصلح لغير الاستهلاك. هو ابن بيئته عبر هذا التفسير المستمد من حركات السلوك الإرادي والسلوك الفاقد للإرادة، وهو ابن أبيه حين يرث عن هذا الأب أكثر مقومات التذوق الجسدي للمرأة، بكل ما فيه من ضراوة الشهوة واندفاع الغريزة وتصارع النزوات. وهو في النهاية ابن أمه في علاقاته الجنسية المنحطة التي يهبط فيها الذوق ذلك الهبوط البشع في مجالات الاختيار؛ لقد عرفت أمه هذا اللون من العلاقات وطُلقت بسببه من أبيه، واستمرأت ذلك التمرغ في الوحل بعد الطلاق. وياسين ثمرة أنضجتها الوراثة من تلك الشجرة، كان يترك الزوجة الجميلة ليرتمي — مرة بعد مرة — في أحضان الخادمات الدميمات، وتبعًا لهذا الدرك الأسفل من الارتباطات الجنسية الهابطة، لم يستطع ياسين أن ينعم يومًا بحياةٍ زوجية مستقرة!

ونعود بعد ذلك إلى كمال لنراه من وراء المنظار، الذي اختاره غالي شكري للرؤية النقدية … إن كمال — على النقيض من ياسين — لا يضع العلاقة الجنسية في مكانها الطبيعي، بل يتجاهلها تمامًا، فيبدو «مشوهًا» في تكوينه النفسي وسلوكه الاجتماعي؛ يبدو هذا في عزوفه المطلق عن الزواج، وفي خطواته الوجلة المتعثرة نحو بائعات اللذة، وفي الحركة الميكانيكية الصماء، التي يمارس بها هذه العلاقة. ويفقد «الجنس» قيمته الحقيقية بعدما أكسبه كمال قيمة رومانسية، كما أكسبه ياسين وأحمد عبد الجواد من قبل، قيمة إقطاعية!

أما أن كمال قد أكسب الجنس قيمة رومانسية فهذا صحيح، ولكن كلمة «مشوه» بالنسبة إلى تكوينه النفسي وسلوكه الاجتماعي، تبدو لنا وهي تعبير غير دقيق، فليس كل عازف عن الزواج يعتبر تركيبة نفسية مشوهة، وعلى الأخص إذا كان واحدًا من هذا النمط الذي ينتسب إليه كمال، ويرتبط بقيمٍ ثقافية معينة؛ قد يكون العزوف بالنسبة إلى المثقفين موقفًا من المواقف إزاء الحياة الزوجية، أو خطًّا من خطوط الاتجاه العقلي في لقاء الوجود. إن سيمون دي بوفوار مثلًا في كتابها «قمة أيام العمر»، تفسر لنا لماذا اتجهت عقليًّا إلى أن تكون — بالنسبة إلى سارتر — رفيقة فكر وليست رفيقة حياة، أو لماذا قررت ألا تكون زوجة يترتب على ارتباطها به أن تنجب عددًا من الأبناء. إن الوجود في رأيها مزيج من العبث، وهي لا تريد — كما تقول — أن تشارك عن طريق الزواج والنسل، في مشكلة التكثيف الكمي لهذا العبث!

هي وجهة نظر عقلية وليست تشويهًا في التكوين النفسي. وبالنسبة إلى كمال — كواحدٍ من المثقفين في جيله، ومن خلال التخطيط النفسي لشخصيته — ينصب عزوفه عن الحياة الزوجية في قالبٍ من التعبير الموقفي عن وجهة نظر خاصة، قوامها أن الزواج بأعبائه ومسئولياته يحيل حياة الفرد إلى «عملية حسابية»؛ وعندما تتحول الحياة إلى عمليةٍ حسابية تصبح وهي شيء لا يطاق! وعندما نذكر في مجال معنى الجنس إشارة المؤلف إلى خطوات كمال المتعثرة نحو بائعات اللذة، والحركة الميكانيكية التي كان يمارس بها العلاقة الجنسية، يتمثل لنا كمال وهو تركيبة نفسية «مأزومة» وليس تركيبة نفسية «مشوهة»؛ لقد كان وجوده الداخلي ميدانًا رحبًا لعديدٍ من التيارات الانعكاسية المتصارعة، تلك التيارات التي كانت تصنع أزمة المثقفين في جيله؛ لدينا صراعه الطبقي مع «عايدة»، ضياعه الاجتماعي كمثقف، انحلال المجتمع من حوله، سخطه — كمرتبط بحزب الأغلبية الشعبية في بلده — على حكم الأقليات الذي كان يسانده الاستعمار والقصر؛ كل تلك الجذور الرهيبة التي استقرت في تربة نفسه، وتفرعت منها امتدادات وجوده، هي المسئولة عن كل جوانب وضعه الإنساني المتأزم. من هنا كان التعثر في إقباله على المتعة الجنسية، ومن هنا كان الشعور الأصم في لقاء المرأة؛ لأنه إقبال الملول وشعور المهزوم، ذلك الذي يريد أن يفرغ طاقة السخط الحسية في كأس من الخمر أو نزوة من الجسد، وهو في كلتا الحالتين هارب من نفسه هنا وهناك!

مواقف قليلة كما سبق أن قلت، تلك التي يقف فيها غالي شكري «ناقدًا»، يرقب العمل الفني من داخله، ناسيًا نفسه كباحث يجب أن يتخذ من الواقع الخارجي للظاهرة أو المشكلة، مادته الفنية اللازمة للتفسير والتبرير، ومع ذلك فما أكثر المواقف التي تواجهنا وفيها الباحث والناقد، ومن ورائهما مستوًى لا ينكَر من الفهم الناضج؛ ولنأخذ مثلًا ثالثًا في أحمد شوكت، نراه حاسمًا عندما انسحبت فتاة «المعادي» من حياته، لم يُذِب عمره في لحنٍ جنائزي طويل، بل راح يبحث عن وجوده مع شريكة كفاحه في المبدأ والعمل؛ وكان الزواج إكليلًا رائعًا فوق هامتيهما، كان طريقًا طبيعيًّا لبقية العلاقات الطبيعية الأخرى، حيث يصبح الجنس — لأول مرة — قيمة حقيقية في مستواها ونوعيتها، القيمة التي تطلب من نجيب محفوظ أكثر من ألف صفحة، ليرسم مقوماتها الضرورية ومعالمها الرئيسية، فتستمد دلالتها الإنسانية من طبيعة التكوين الاجتماعي لكلٍّ من أحمد و«سوسن»، القائم على أساس وطيد من المساواة الاجتماعية، التي تتولد عنها بالضرورة المساواة النفسية.

ولننتقل من «الثلاثية» إلى «بداية ونهاية» لنلتقي بغالي شكري، وهو يطوف بنا حول شخصية نفيسة مستخرجًا لنا — من رسم نجيب محفوظ — أدق ملامحها النفسية: «وتنعكس مأساة الأسرة على هذه الفتاة، التي نُكبت بوجهٍ دميم وجسد يغلي، فلم يكن أمامها طريق أفضل من أن تدفن دمامتها في صدر كل رجل يستطيع أن يدفع غائلة الفراغ عن أمعائها وبطون إخوتها، ولا تعنيه الدمامة في غمرة ذهوله الحسي بين ثنايا جسدها. لم تكن دمامتها هي «العامل الحاسم» في سقوطها، فالسقطة الأولى في حياتها كانت احتجاجًا لا واعيًا على دمامتها، أرادت أن تؤكد ذاتها وتحقق وجودها، قبل أن تعي تلك الذات وهذا الوجود؛ لقد تطورت بها الحال من «تحقيق الذات» إلى مرحلة خطرة، إلى تلك الساعات التي تذهل فيها عما يدفعها إلى تسلية نفسها من دواعي اليأس والفقر؛ هنالك تنسى كل شيء إلا الرغبة المحرومة الجائعة، فتمثل بنفسها أفظع تمثيل. ولعلني لم أصادف أبشع — وأروع — من هذا التصوير لامرأة تجمدت خلايا ذهنها وقلبها ونفسها في بقعةٍ دموية ذاهلة تدعى الجنس. لقد وصلت نفيسة إلى قمة تعاستها، فمن حيث أرادت تحقيق ذاتها، تلاشت هذه الذات وفنيت، وفقدت إحساسها بالوجود والحياة، حتى الشعور باللذة مات معها، وتحوَّلت بقسوة إلى قطعة من لحم الأميبا؛ لأنها بعيدة الشبة عن ذَكر النَّحْل، الذي يستشهد فور أدائه للوظيفة الجنسية. إنه أفضل منها لأنه يحيا سعادته إلى أقصى حدٍّ ممكن، ثم يستشهد رغم أنفه، أما هي فقد أصبحت «رغبتها المحرومة الجائعة» عجلة قيادة تسرع بلا سائق!»

لماذا يتعرض نجيب محفوظ للجنس، ويهدف عامدًا إلى تشريح العلاقة الجنسية في أكثر أعماله؟ هل يعمد إلى هذا بقصد إثارة القارئ، كما يفعل غيره من الكتَّاب بغية الرواج، أم أن له اتجاهًا معينًا يتسم بالمنهجية التي يلتزمها كلون من ألوان التعبير عن وجوده العقلي؟ غالي شكري يرد على هذا التساؤل رد الباحث المقنِع: «إن منهج نجيب محفوظ في التفكير يرى العلاقات الاجتماعية جميعها مترابطة بخيطٍ واحد، لا تنفصل إحداها عن الأخرى، ولا يمكن رؤيتها الواحدة بمعزلٍ عن الكل؛ لأن العلاقة في مفهومها تتحدد بالضرورة والحتمية مع بقية العلاقات الإنسانية بين الأفراد، كإفراز طبيعي للمجتمع، يتلوَّن بلونه ويتشكَّل في قالبه ويتَّسم برائحته؛ لذلك يمضي الجنس في أعماله في مؤازرة العلاقات الأخرى بحركة تلقائية عفوية. ونجيب محفوظ في «القاهرة الجديدة» و«بداية ونهاية» بَذَل جهدًا رائعًا في أن يتجه بلوحاته الإنسانية إلى ذلك المنهج العميق. فلقد رأيناه يطرح للمناقشة الجادة، قضية هذه الفئات السفلى من الطبقة المتوسطة في مصر، ثم يتتبع تشابك علاقات أفرادها وتعقُّد الحياة من حولها، فإذا انحدرت بأحدهم علاقة ما — كالجنس — إلى الحضيض، فلأن كافة العلاقات الأخرى لا ترتفع عن مستوى التراب، وهنا يتألق منهجه في التعبير إذ هو يتخيَّر بإحساس مرهف وشفافية، الزاوية النموذجية للكشف عن جوهر الحدث أو الشخصية أو الموقف الدرامي.»

بعد نجيب محفوظ أحب أن ألتقي — عند غالي شكري — بكاتب القصة القصيرة يوسف إدريس. في نطاق معنى الجنس يجد القارئ نفسه — أول ما يجد — أمام «أرخص ليالي»، أحد الأعمال الفنية المحلِّقة سواء في الشكل الفني أو المضمون الاجتماعي. في هذه القصة يضع يوسف إدريس يده على المأساة الحقيقية للقرية المصرية أو الريف المصري، يشير إلى المشكلة ويحرث الأرض من حول جذور المشكلة، حتى يعرض مكمن الداء لمختلف أنواع الرؤية؛ كل هذا في بضع صفحات يمكن أن تكون نقطة ارتكاز جوهرية لباحث اجتماعي، إذا ما حاول أن يرى القرية المصرية من خلال دائها الأصيل وعلتها المزمنة. القصة في كلمات، تعرض لنا مشهد إنسان قروي، يقع في حيرةٍ متصلة، مصدرها البحث عن وسيلة من وسائل الترفيه يقضي بها ليلته، انتهى من صلاة العشاء في المسجد وبدأ يفكر، استعرض أكثر من طريقة وخطرت له أكثر من فكرة، ولكن كانت هناك عقبة تسد منافذ الطريق أمام وسائل التنفيذ؛ إن قتل الفراغ والعثور على مصدر من مصادر التسلية يحتاج إلى بضعة قروش، لا يملك هذه القروش القليلة. المهم عنده كيف يقضي ليلته؟ كيف يقضي على هذا الملل الذي يتسرب إلى داخله وينفذ إلى أغوار نفسه؟ وأخيرًا، وعندما عجزت منه كل حيلة، لم يرَ عبد الكريم بدًّا من أن يعود إلى بيته؛ وهناك لم يلقَ غير زوجته، وكانت نائمة، حتى في بيته لم يجد رفيقًا يؤنسه، وينقذه من وحش الملل الهائل الذي يريد أن يفترسه؛ إنه يريد أن يهرب من الوحش بأية وسيلة، أن يجد ملاذًا يأوي إليه؛ كان مرغمًا على البحث عن هذا الملاذ، ولقد وجده — تحت ضغط الإرغام — في لقائه مع زوجته، هناك بين ثنايا الجسد. وبعد شهور، وكما تنتهي القصة، كانت النساء كالعادة يبشرنه بولدٍ جديد، وكان هو يعزي نفسه على السابع الذي جاء في آخر الزمان، والذي لن يملأ طوب الأرض بطنه هو الآخر!

لا شك في أن يوسف إدريس — من وراء المضمون العام لقصته — يريد أن يقول لنا شيئًا، يريد أن يوصل إلينا فكرة، أن يكون له هدف يسعى إليه؛ فمن أي الزوايا نظر غالي شكري إلى مغزى الفكرة التي يريد أن يوصلها إلينا يوسف إدريس؟ إن الزوايا التي اختارها للرؤية تتلخص في أننا: «لن نستقبل الولد الجديد بفزعٍ كما يتوهم الكاتب، بل إننا نستقبل تجربة الأب بفيضٍ من التساؤلات، حول الأزمة الضاربة المحكمة حول عنق الإنسان الكادح في بلادنا، وكيف أن شبحها يظلل كافة المنافذ أمامه بالسواد، فلا تعود عيناه تريان ومضة نور؛ وإنما تصبح حياته نسيجًا داكنًا من الذل والفاقة والعلاقات غير الإنسانية، حتى إن العلاقة بين الرجل والمرأة، تصبح تعويضًا عن الملل، وتعبيرًا قاسيًا عن أنه لا يوجد شيء آخر؛ إنه الضياع الجنسي ربيب الضياع النفسي، وكلاهما نتاج الضياع الاجتماعي. والجانب الفكري والاجتماعي لمعادلة يوسف إدريس، هو الاهتمام بالطبقات الشعبية اهتمامًا إنسانيًّا، يتعاطف مع قضاياها في الحياة، وإن ما نراه من شرورٍ وآثام في سلوك أبناء هذه الطبقات، ليس إلا نتاجًا للأنظمة الاجتماعية السيئة!»

هذا فهم جيد لجوانب الفكرة التي يرمي إليها يوسف إدريس، ولكنه — على هذا المستوى الذي أشرنا إليه — فهم للجوانب ويبقى بعد ذلك الجانب البعيد؛ إننا يجب أن نخالف غالي شكري ونستقبل الولد الجديد بفزع، الولد السابع في حياة فلاح فقير، لا يجد بضعة قروش يقضي بها ليلته؛ إننا هنا أمام ظاهرة الكم العبثي على حدِّ تعبير سيمون دي بوفوار، وإن كانت العبثية بالنسبة إلينا تنحصر في معنى المجتمع ولا تنحصر في معنى الوجود. الريف المصري مشكلته الأساسية هي الفقر والجهل والمرض، مرتبطة بعضها ببعض، ارتباط ثالوث محكم متداخل الحلقات … إن الأبناء في الريف نسخ مكررة من الآباء، يعيدون دورة المشكلة من جديد حين يكبرون فلا يجدون غير الفراغ، ولا يجدون غير العلاقة الجنسية كوعاء يصبون فيه هذا الفراغ، ومرة أخرى يكثر الإنجاب ويتعدد النسل وتتضخم المشكلة؛ مشكلة الفقر والجهل والمرض. هنا مفتاح القضية التي يعالجها يوسف إدريس في ثنايا المضمون العام لقصته، إنه — كما سبق أن قلت — يحرث الأرض حول جذور المشكلة، ليقع مكمن الداء تحت أضواء الرؤية، رؤية الإصلاح الاجتماعي إذا أُريدَ له أن يكون.

من «أرخص الليالي» وهي بداية الإنتاج الفني ليوسف إدريس، ينقلنا غالي شكري إلى قصة «العيب»، وهي أحدث مراحل هذا الإنتاج؛ وفي رأيه أن كل ما هناك من فروقٍ بين القصتين، يتركز في أن القصة الأولى — حين ظهرت — كانت دفعًا ثوريًّا للقصة القصيرة، وأن القصة الأخيرة لم تضف شيئًا جديدًا في مجال النظرة التعبيرية والفكرية إلى التجربة المبكرة. ويمضي غالي شكري فيقدم إلينا تلخيصًا موجزًا لقصة «العيب»، التي تتناول الخطيئة كثمرة أنضجتها أوضاع المجتمع الخاصة في «المدينة»؛ فتاة تعمل في إحدى المصالح الحكومية، تفاجأ بجوٍّ موبوء عماده الرشوة وفساد الذمم بين زملائها من الموظفين، ويثور ضميرها وتحاول أن تبقى نظيفة، ولا تتيح لهذا الجوِّ الملوث أن يمتد إلى وجودها النفسي، مهما تعددت وسائل الإغراء. وتصمد الفتاة فترة من الزمن أمام العروض المغرية من أحد زملائها الموظفين، بأن تتنازل عن ضميرها — ولو مرة — وتنضم إلى الزمرة الفاسدة. تصمد على الرغم من الوضع المؤلم الذي تعرَّض له شقيقها في المدرسة، حين لم يستطع أن يواصل الدراسة عجزًا عن سداد المصروفات. ومع ذلك فإن صمودها لم يستطع أن يصمد حتى النهاية: موقف أخيها من ناحية، وإغراء المال من ناحيةٍ أخرى، وعين الذئب التي كانت تخدرها من ناحيةٍ ثالثة، وتشتهيها كأنثى ناضجة. وأخيرًا تسقط «سناء» أمام ضغط الحاجة وبريق الذهب. وفي لقطاتٍ واعية يناقش غالي شكري مضمون القصة عبر ما فيها من معنى الجنس: «التجربة عند يوسف إدريس — تجربة الفتاة التي تدخل مصلحة «رجالي» لأول مرة في تاريخ هذه المصلحة — هي تجربة أصيلة وبنت مجتمعنا، بالإضافة إلى أنها تسجل إحدى المراحل الهامة في تاريخنا الاجتماعي. ولقد اكتفى يوسف إدريس في تعبيره الوجداني عن هذه المرحلة، بأن القديم ما يزال قويًّا وأنه يستطيع أن يغتال الجديد. وهذا صحيح، ولكن الأزمة الحقيقية ليست كامنة في عملية الاغتيال هذه؛ وبالتالي ليست كامنة في مئات الظروف الشاقة المريرة المحيطة بالموظفين عامة، وسناء خاصة؛ إن سقوط إحدى القلاع في ذات الإنسان كقبول سناء للرشوة مثلًا، لا يعني مطلقًا سقوط بقية القلاع، فتفرط في شرفها مرة واحدة. إن مجموعة القيم عند الفرد والجماعة موغلة في التشابك حقًّا، ولكنه تشابك معقد، بحيث لا نستطيع أن نجمع هذه القيم على قماشة بيضاء، إذا رفعها الإنسان في لحظة ضعف، رفعت بأكملها، وإذا أبقى على واحدةٍ منها، أبقى على الكل. وهذا هو ما يجعل قصة يوسف إدريس، تبدو كما لو أنها كتبت بخطة عقلانية مسبقة!»

ويمضي غالي شكري في استعراض عدد آخر من قصص يوسف إدريس، نترك مراجعته للقارئ أو لغيرنا من النقاد.

وينتهي بنا المطاف إلى رائدٍ من رواد القصة القصيرة في مصر، هو يحيى حقي؛ كيف ينظر هذا القصَّاص إلى معنى الجنس في أدبه؟ غالي شكري يرد بأن الجنس في مرآة يحيى حقي الفنية، يتجلى لنا وهو قوة ذاتية دافعة، ولكنها ليست القوة الوحيدة الحاسمة في توجيه السلوك الإنساني، وبذلك يختلف مع فرويد وأنصاره من الأدباء والفنانين، حين يجعلون من الجنس محورًا اتجاهيًّا لهذا السلوك؛ بعد ذلك يتناول قصة «احتجاج» من مجموعة «أم العواجز»، كواجهة عرض تطبيقية لوجهة نظره الناقدة؛ بطلة القصة «بمبة» عانس في الأربعين، تعمل خادمة عند أسرة يرثها أفرادها جيلًا بعد جيل، فهي من هذه الناحية — ناحية لقمة العيش — مطمئنة إلى أن في حياتها لونًا من الضمان، بالنسبة إلى الحاضر والمستقبل، هي إذن لا تفكر إلا في ذلك الشاب، الذي استأجر دكانًا أسفل البيت، وبدأ يداعبها وتداعبه، تلمس جسده أحيانًا في شغف، وتثور ثورة عارمة حينما يتعرض أفراد الأسرة لشخصية الأسطى حسن، ويشير كل منهم إلى حاجته لبنت الحلال التي تصلح زوجة له. وحين لم يرد اسمها على لسان أحد منهم، تصيح في غضبٍ هائج: «يعني إيه … تأخذوا الجدع من إيدي؟!»

ما هو جوهر السلوك الحركي لتلك العانس حيال ذلك الشاب؟ إنها عند غالي شكري «لا تعبر عن ضراوة الجنس تعبيرًا ضاريًا أو وحشيًّا؛ لأنه لا يتوسد في خفاياها نتيجة أزمة طارئة أو عابرة؛ لقد أمسى مع السنوات الأربعين رمزًا للحياة نفسها، ليس رمزًا خياليًّا؛ إنه يموج بالرغبة الدافعة لخلاياها، أن تستصرخ الضمير الاجتماعي حقها في الحياة. ولم يعد هذا الحق هو ارتفاع مستواها المعيشي، فأعصاب وعيها الاجتماعي ماتت مع المستوى الراهن؛ ولم يبقَ لها سوى أعصاب الجنس التي تختلج لمرأى حسن، كما كانت تختلج في ليالي الزفاف مع بنات الأسرة!»

هذا التفسير لا يتفق — من ناحية التطبيق — مع ما نادى به غالي شكري، من أن الجنس في فن يحيى حقي، ليس هو القوة الوحيدة الحاسمة في توجيه السلوك الإنساني؛ لأننا هنا بالنسبة إلى سلوك العانس — ومن خلال تشريح المؤلف لمنابع ثورتها العصبية — لا نكاد نجد دافعًا واحدًا لتلك الثورة غير دافع الجنس؛ نحن أمام «أنثى» تثور طلبًا «للرجل»، ولسنا أمام امرأة تهدف إلى العثور على زوجٍ يكفل لها ضمان العيش؛ لأنها — في ظل تلك الأسرة — مطمئنة كما قلنا إلى الحاضر والمستقبل؛ ولأنها — من جهة أخرى، وكما أقر بذلك غالي شكري — لا تفكر في ارتفاع مستواها المعيشي؛ لأن أعصاب وعيها الاجتماعي قد ماتت؛ لم يبقَ لها باعتراف المؤلف سوى أعصاب الجنس، وعندما لا يبقى للإنسان — في مثل هذا الموقف — غير نوع واحد من الأعصاب، يصبح هذا الدافع الوحيد هو المحور الحاسم في توجيه انطلاقات السلوك؛ هنا شقة خلاف بين الوجهة النظرية وبين التطبيق!

بعد هذا يعود غالي شكري فيعرض عددًا آخر من قصص يحيى حقي في مجموعته «دماء وطين»، ويمضي في طريقه إلى محمود البدوي وعبد الحميد جودة السحار، وسائر من طاف حولهم من كتَّاب القصة، هو هو بمنهجه الفكري والتعبيري، الذي قدمناه إليك في ثنايا هذا المقال، ولك أن تتبع هذا المنهج فيما بقي من فصول الكتاب، فحسب الناقد أن يقدم لك إنتاج الآخرين من خلال العرض الكيفي لا الكمي لهذا الإنتاج.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤