الفصل الثاني عشر

حسن الدفاع

كان طفل شقي يُدْعَى «أوجست» من أولاد الجيران اعتدى عليَّ بالضرب، فانتقمت منه انتقامًا شديدًا.

وبينما أنا أحاول عبثًا إظهار الندم على ما فعلت به، اقترب الأطفال من المكان الذي كنت أفكر فيه وأنا أقرض الأعشاب.

ورأيت أن أوجست وقف على مسافة مني، ونظر إليَّ نظرة هادئة.

وقال «بيير»: الدنيا حر في هذا اليوم، ولا أظن أنه يمكننا أن نقوم بنزهة طويلة لشدة الحر، فالأحسن أن نمكث في الظل في هذه الحديقة.

فقال أوجست: الحق مع بيير، خصوصًا لأن المرض الذي أصابني وكدت أموت منه جعلني ضعيفًا لا أقوى على رحلة طويلة.

فقال هنري: لقد كان كديشون سبب المرض، وأظنك حاقدًا عليه وكارهًا له لما جرى منه.

فقال أوجست: أنا لا أظن أنه كان يقصدني بما فعل، فالظاهر أنه حصل له خوف من شيء في الطريق، فحمله الخوف على الاضطراب الذي كان سبب تلك الوثبة التي ألقتني في تلك الحفرة الخطرة، ولذلك أنا لا أحقد عليه ولكن …

فقال بيير: ولكن ماذا؟

فأجاب أوجست، وقد احمرَّ وجهه فجأة: ولكن أنا أفضل ألَّا أركبه ثانيًا.

فتأثرتُ بقول هذا الطفل المسكين، وزادت شهامته تأسُّفي وندمي على سوء ما جازيته به.

وشرعت «كاميل» و«مادلين» تستعدان لصنع الطعام، وبنى الأطفال لهم فرنًا من الرمل في الحديقة، وأوقدوا فيه النار من الحطب الذي جمعوه بأنفسهم وتهيئوا لذلك بتمام الاستعداد، فقام «أوجست» و«بيير» بجمع الحطب وقطَّعاه قطعًا صغيرة وملأا به الفرن.

وقبل أن يوقدوا النار فيه اجتمعوا ليتفقوا على ما يصنعونه طعامًا لهم، فقالت كاميل: أنا أصنع عجة.

وقالت مادلين: وأنا أصنع قهوة ولبنًا.

وتكلم كل واحد منهم عما يريد صنعه من أنواع الطعام.

وقال أوجست: وأن أقطِّع الخبز وأضع غطاء السفرة وأحضر الماء وأجهِّز طلبات الجميع.

وأخذ كل واحد منهم من المطبخ كل ما يلزم لما يريد أن يصنعه، فأحضرت كاميل البيض والزبدة والملح والفلفل، وقالتْ لأوجست: تفضَّل وأوقد لي النار، فإنها تلزم لتذويب الزبدة وتسوية البيض. فسألها: أين أضع النار؟ فقالت: بجانب الفرن وبسرعة، فإنني كسرت البيض.

ونادت مادلين: أوجست، أوجست، أسرع بإحضار اللبن من المطبخ فإنني نسيته. فأجاب: ولكن يلزم الآن أن أوقد النار لأجل كاميل.

وهكذا تشاغل الأطفال بصنع الطعام الذي أرادوه، وشغلوا أوجست باستحضار طلباتهم كما تعهد، ثم نادى جاك: اطلبوا كديشون كي يجيء لمساعدتنا.

فأجاب لويس: ماذا تريد من كديشون؟

فقال جاك: يا كديشون، انظر فإن سلتي فارغة، فاذهب واجتهد أن تملأها.

فوجدت نفسي بجانب أربعة من الأطفال النَّهِمين. ووضع جاك السلة تحت أنفي لكي يفهمني ماذا يريد مني، فتوجهت إلى المطبخ فرأيت فيه سلة من الكريز فأخذتها بأسناني، وذهبت بها حتى وضعتها بين أيدي الأطفال الذين كانوا جالسين حول دائرة ينتظرون، فصاح بعضهم فرحًا عند عودتي، وتلفَّت الذين كانوا على غير مقربة مني حين سمعوا الصياح وتساءلوا: ماذا جرى؟

فأجاب جاك: هذا كديشون.

فقالت له جان: اسكت، فإنهم يعرفون أننا أكلنا كل الكريز الذي كان عندنا.

فأجاب جاك: وماذا في الأمر إذا عرفوا؟ أنا أحب أن يعرفوا كيف أن كديشون طيب وماهر. ثم مشى إليهم وحدثهم بما جلبتُ لهم أخيرًا.

فلما علموا به لم يوبخوا الذين كانوا يريدون إخفاء السلة الأخيرة، وإنما مدحوا جاك لصراحته وأثنَوْا عليَّ لذكائي ونشاطي.

وفي هذه الأثناء أوقد أوجست النار لأجل كاميل وهي طبختْ العجة، ومادلين صنعت المهلبية، وإليزا أنضجت الضلوع، وهنري جهَّز السَّلَطَة، وجاك صنع مربى من الكريز. ولما أتم كل واحد منهم صنع ما اختار صنعه، وتم وضع الأطباق على المائدة؛ ضربت كاميل بيدها على جبهتها وصاحت: نحن لم يفتنا إلا شيء مهم، وهو أننا كنا نستأذن أمهاتنا في أننا سنتغدى وحدنا ونأكل من طبيخنا.

فصاحوا: فلنذهب إذن للاستئذان وأوجست يحافظ على المائدة. ثم ذهبوا جميعًا إلى الصالون الذي كان فيه آباؤهم وأمهاتهم.

فدُهِشُوا حين أبصروا الأطفال ووجوههم محمرَّة وعليهم آثار التعب وهم يضعون على صدورهم «مرايل» كأنهم خدم المطبخ.

وتقدم كل طفل إلى أمه يستأذنها بلطف في أن تسمح له بأن يتناول طعامه خارجًا عن المنزل، فلم تفهم أمهاتهم لأول وهلة سبب هذا الطلب.

ولكن بعد استفهامات وإجابات صدر الإذن، وعادوا جميعًا بسرعة إلى مكان المائدة التي كان يحفظها أوجست، ولكنهم لم يجدوه فنادَوْه باسمه.

فأجابهم بصوت ضعيف كأنه آتٍ من السماء، فرفعوا رءوسهم فرأوه متسلقًا شجرة عالية وقد بدأ ينزل بتحفظ وتمهل.

فقال هنري: لماذا صعدتَ هذه الشجرة؟

فلم يُجِبْ، ولكنه استمر في النزول، فلما وصل إلى الأرض رأوه شاحب اللون مأخوذًا، فقالت مادلين: لماذا تسلقت الشجرة يا أوجست؟ وماذا حلَّ بك؟

فأجاب: لولا وجود كديشون لَمَا وجدتموني ولَمَا أدركتم طعامكم، وإنما تسلقت الشجرة لكي أنجو بنفسي.

فقال بيير: قُصَّ علينا ما جرى، وكيف أن كديشون أمكنه أن يخلص حياتك ويحفظ طعامنا.

وقالت كاميل: هلموا بنا إلى الطعام نتحدث ونحن حوله، فإنني أكاد أموت جوعًا.

وجلسوا على الخضرة والحشائش حول المائدة، وقدَّم كل واحد منهم الطبق الذي جهَّزه ليأكلوا جميعًا منه. وفي أثناء تناولهم الطعام قال أوجست: إنكم لم تكادوا تغيبون عني حتى شاهدت كلبَي العزبة الكبيرين هاجمين عليَّ مدفوعين برائحة الطعام، فأخذت عصا من فرع الشجرة ولكن الكلبين لما رأيا اللحم والبيض والخبز اتجها إليها ولم يباليا بالعصا، وهمَّا بالهجوم عليَّ فضربت أكبرهما بها على رأسه فوثب على ظهري.

فقال هنري: كيف وثب على ظهرك، هل استدار خلفك؟

فأجاب أوجست وهو يحمرُّ خجلًا: كلا، فإنني كنت ألقيت العصا، ولم يكن معي شيء أدافع به عن نفسي، وأنتم تفهمون أنه لم يكن يصح أن أترك نفسي حتى يفترسني ذلك الكلب المتوحش.

فأجاب هنري بلهجة المستهزئ: فهمت إذن، إنك أنت الذي أدرت ظهرك ونجوت بنفسك.

figure
الطفل وهو يتسلق الشجرة والكلب يمسك ملابسه بأسنانه.

فقال أوجست: ولكنني ذهبت لأبحث عنكم فجرى ورائي الكلبان الهائلان، على أن كديشون أدركني فقبض بأسنانه على جلد الكلب الكبير من خلفه وألقاه على الأرض في اللحظة التي صعدت فيها على الشجرة، ووثب الكلب الثاني فاقترب مني ولحق بي وأنا أصعد خائفًا حذرًا، فجر بأسنانه ثيابي وظننت أنه سيفترسني لولا أن كديشون نجاني من هذا الحيوان الخبيث أيضًا، فإنه بعد أن عض الكلب الأول عضة شديدة وقذف به إلى الأرض أسرع إلى الكلب الثاني الذي أمسك بثوبي وقبض بشدة على ذيله، فاضطره إلى ترك ملابسي، وبعد أن صار بعيدًا عني هجم عليه كديشون وعضه عضة قوية في خده أظنها خلعت فكه.

وهرب الكلبان بعدما أصابهما أذى شديد من كديشون، وابتدأتُ في النزول عن الشجرة في الوقت الذي عدتم فيه.

فلما انتهى من حديثه استحسن الأطفال شجاعتي، وأعجبهم ما قمت به من الدفاع الحسن وما كان من حضور بديهتي فيه، وأقبل كل واحد منهم نحوي يحييني ويلاطفني ويصفق لي.

وقال جاك وهو يهتز وعيناه تلمعان سرورًا: ألا ترون أن حبيبي كديشون أصبح عظيمًا؟ أنا لا أدري إذا كنتم تحبونه مثلي ولكني أحبه دائمًا وكثيرًا، أليس كذلك يا كديشون أننا دائمًا صديقان صميمان؟!

فأجبت بأحسن ما عندي من نهيق الفرح فضحك الأطفال جميعًا، ثم عادوا إلى المائدة واستمروا في الأكل، ولما انتهوا منه كان قد اقترب وقت رجوعهم إلى الدراسة. فلما سمعوا الجرس التمسوا التأخر ربع ساعة لأجل الاستعداد، ثم لما مضى الوقت ذهبوا إلى العمل وودعهم أوجست.

وقبل أن أذهب دنا مني أوجست وناداني، فلما رأى أنني مقبل عليه تقدم إليَّ ولاطفني وشكرني بكلامه وحركته على الخدمة التي أديتها إليه، فسرني أن أرى منه هذه العاطفة.

وثبت عندي أنه كان أفضل مما كانت أظنه أولًا، وأنه لم يكن ماكرًا ولا خبيثًا، وأنه إذا كان جبانًا وفيه بعض الغباوة فلم يكن ذلك ذنبًا له، وكان من حسن الحظ أنني اجتهدت في يوم آخر فقمت له بخدمة أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤