الفصل الرابع

القنطرة

كان في الحوش ستة من الحمير مصفوفة، وكنتُ من أقواها وأجملها، وأحضر ثلاثة من البنات الصغار طعامنا من الشعير، وكنت وأنا آكل أسمع الأطفال يتحدثون.

فقال شارل: هيا بنا يختار كل منا حماره، أنا أختار هذا. وأشار إليَّ بأصبعه.

فأجاب الخمسة الأطفال الذين كانوا معه: إنك دائمًا تختار لنفسك أحسن الموجود، يجب أن يكون التوزيع بالاقتراع.

فقال شارل: كيف يمكن أن نقترع على الحمير يا كارولين؟ هل يمكن وضع الحمير في كيس والسحب منها كما تُسحَب الأكر؟

فأجاب أنطوان: كيف تقول هذا؟ أليس من الممكن أن نضع نمرة على كل حمار من الحمير الستة ١ و٢ و٣ و٤ و٥ و٦، ونضع هذه النمر في كيس ثم نسحب النمر على اسم كل واحد، فتخرج نمرة كل واحد بحسب حظه.

فصاح الباقون: أحسنت. وقالوا لأرنست وهو أصغرهم: اكتب أنت النمر على ظهور الحمير، واكتب مثلها على قطع من الورق.

وضحكت في سري لأنني رأيت أن هؤلاء الأطفال أغبياء، ولو كان عند أحدهم شيء من ذكاء الحمار لرأى أن أحسن من هذا الجهد في الكتابة والتنمير أن يصفُّوا الحمير بجانب الحائط ويقترعوا عليها، فمن كانت نمرته الأولى أخذ الحمار الأول ومن كانت نمرته الثانية أخذ الثاني وهكذا.

وفي هذه الأثناء أحضر أنطوان قطعة كبيرة من الفحم، وكنت الأول فكتب على جنبي بخط كبير ١، وبينما كان يكتب ٢ على جنب الحمار الذي يليني انتفضتُ بشدة لكي أظهر له أن اختراعه الكتابة بالفحم لم يكن مفيدًا، فإن الفحم الذي كتب به نمرتي تطاير واختفت النمرة ١، فصاح الذي كتب منهم شاتمًا لاعنًا وقال: سأعيد الكتابة، وبينما كان يكتب ثانيًا نمرة ٢ على جنب الحمار الذي بجواري، وكان حمارًا خبيثًا، انتفض هو أيضًا انتفاضة شديدة فتطاير ما كتبه بالفحم ثانيًا من نمرته، فغضب أنطوان من هذا العمل المكرر الذي ضايقه في أثناء الكتابة، ولكن إخوانه ضحكوا كثيرًا وسخروا منه.

وأشرتُ إلى جميع الحمير بأن تنتظر الكتابة ولا تتحرك، وقد حصل ما أشرت به. وعاد أرنست ومعه النمر في منديله، وبدءوا يسحبون النمر كل واحد يأخذ نمرة، فعملت إشارة أخرى إلى رفقائي، وأخذنا جميعًا ننتفض ونهتز بسرعة وشدة، فذهب ما تكلفوا من الفحم وما تعبوا فيه من الكتابة، وقال أحدهم: يلزم أن نعود إلى الكتابة. وكانوا متغيظين، ولكن شارل كان يضحك منتصرًا، أما أرنست وألبير وكارولين وسيسيل ولويز فصاحوا في وجه أنطوان، وكان هو يضرب الأرض برجله غيظًا، وسخطوا وسبوا جميعًا، فأخذت أنا ورفاقي في النهيق، وتنبه الآباء والأمهات وساقتهم إلينا هذه الضجة وعرفوا ما جرى. وأخيرًا اقترح واحد من الآباء أن يصفُّونا صفًّا بجانب الحائط، وبدأ في سحب النمر لهؤلاء الأطفال.

فسحب نمرة ١ فصاح أرنست: هذا لي.

وسحب نمرة ٢ فقال سيسيل: هذا حماري.

وسحب نمرة ٣ فصاح أنطوان. وهكذا كلما سحب نمرة نادى واحد من الأطفال إلى أن انتهى من الأخير.

ثم قالوا: إذن فلنبدأ السير، وقال شارل: أنا أمشي أولًا.

وأجابه أرنست: وأنا ألحق بك حالًا وأدركك سريعًا.

فقال شارل: أؤكد لك أنك لا تستطيع.

فأجاب أرنست: وأنا أراهن على إمكاني ذلك.

وبدأ شارل يسوق حماره فسار به ركضًا، وقبل أن يضربني أرنست بكرباجه أسرعت أنا في السير بحالة أوصلتني في أقرب وقت إلى شارل وحماره فابتهج أرنست، وتضايق شارل وصار يضرب حماره ويكرر الضرب، ولكن أرنست لم يكن في حاجة إلى ضربي لأنني جريت بسرعة كأنني أسابق الرياح، وتجاوزت شارل في دقيقة واحدة. وسمعت الآخرين يضحكون ويصيحون: ما أسرع الحمار نمرة ١! إنه يجري كأنه فرس رهان.

وخامرني الزهو فتشجعت واستمررت في الركض به إلى أن وصلنا إلى قنطرة فتوقفت فجأة، لأنني رأيت لوحًا عريضًا من خشب أرض القنطرة متآكلًا منهارًا، ولم أشأ أن أسقط في الماء مع أرنست إذا سرت به على القنطرة، فقفلت راجعًا إلى الجماعة التي كانت معنا وكانوا متأخرين عنا كثيرًا.

فناداني أرنست: كلا، كلا، لا ترجع، استمر في اجتياز القنطرة، فقاومت ولم أنتقل، فضربني بعصاه، فاستمررت أمشي نحو الآخرين، فقال لي: اذهب يا عنيد وتحول إلى القنطرة. واستمررت نحو رفاقي وأدركتهم رغم المقاومة والضرب من هذا الغلام الغبي.

فلما أبصره شارل قال له: لماذا تضرب حمارك يا أرنست مع أنه حمار فارِهٌ، وقد جعلك تسبقنا وتتجاوز شارل؟

فأجاب: ضربته لأنه عاند ولم يستمر في السير على القنطرة، بل عاد أدراجه ولم يوافقني على اجتيازها.

فقال له: ذلك لأنه كان وحده، أما الآن وقد صرنا معًا فإنه سيجتازها مع سائر الحمير.

فقلت: مساكين كلهم! ووجب عليَّ أن أفكر فيما يمنع سقوطهم في الماء، ويحسن أن أدلهم على أن في الأمر خطرًا.

فأسرعت ركضًا نحو القنطرة على ارتياح تام من أرنست وصياح مستمر من رفاقه، فلما وصلت إلى القنطرة وقفت فجأة وقفة الخائف المضطرب.

فدُهِش أرنست وحثَّني على الاستمرار، فتراجعت بحالة اضطراب زادت في دهشة أرنست، ولكن هذا الغبي لم يدرك شيئًا مع أن اللوح الخشب المتآكل من القنطرة كان ظاهرًا جدًّا. واستغرب الآخرون وهم يضحكون من مجهود أرنست في حملي على المسير ومجهودي في التوقف عنه، وانتهوا بالنزول عن حميرهم وكان كل واحد منهم يدفعني ويضربني بدون شفقة ولكني لم أتحرك.

فصاح شارل: اسحبوه من ذيله، فإن الحمير أهل عناد تتراجع إذا أراد الواحد أن تتقدم.

وهموا بأن يسحبوا ذيلي فدافعت عن نفسي بالتحول عنهم فضربوني كلهم، ولكني لم أتحرك ثانيًا.

فقال شارل: انتظر يا أرنست، سأذهب وأجتاز القنطرة أنا أولًا، وسيتبعني بعد ذلك حمارك بغير شك.

وأراد أن يتقدم فاعترضته، وجعلت نفسي بينه وبين القنطرة، فأرجعوني بقوة الضرب المستمر.

فقلت في نفسي: إذا كان هذا الغبي يريد أن يغرق فإنني قد فعلت كل ما في وسعي لنجاته، وما دام يريد أن يشرب من ماء النهر بسقوطه فيه فلينزل ما دام يريده على كل حال.

figure
ووصلوا بعد الجهد إلى إنقاذ المسكين شارل من الغرق.

ولم يكد حمار شارل يضع قوائمه على اللوح المتآكل من القنطرة حتى تكسَّر اللوح وسقط الحمار وشارل في الماء، ولم يحدث أدنى خطر لرفيقي الحمار لأنه كان يعرف العوم مثل كل الحمير. أما شارل فكان يحاول التخلص ويصرخ بأعلى صوته دون وصول إلى ما يتمنى من الإنقاذ، ثم صاح قائلًا: أحضروا مدرة، أحضروا مدرة، فصرخ الأطفال وجروا إليه من كل ناحية، وأبصرت كارولين مدرة طويلة فالتقطتها ومدَّتها إلى شارل فقبض عليها، ولكن ثقله في الماء كاد يجر إليه كارولين، فصاحت قائلة: ساعدوني! فأسرع إليها أرنست وأنطوان وألبير ووصلوا بعد جهد إلى إنقاذ ذلك المسكين شارل، الذي شرب من الماء أكثر مما يدعو إليه الظمأ، وغطاه الماء من القدم إلى الرأس. فلما نجا ضحكت الأطفال من هيئته التي تغيرت فغضب شارل، وركب الأطفال حميرهم ونصحوه بأن يعود إلى المنزل لتغيير ملابسه، فركب حماره والماء يقطر منه. وضحكت أنا على حدة من شكله المتغير ووجهه المكتئب، وكان تيار المياه قد جرده من قبعته وحذائه، فكان والماء يقطر منه على الأرض وشعره نازل على وجهه وملتصق به، ذا شكل يدعو إلى الضحك. ضحك الأطفال وجاراهم رفقائي الحمير، فكانوا يشاركونهم في الاستهزاء والسخرية من ذلك المنظر.

ويجب أن أزيد هنا أن حمار شارل الذي سقط في الماء كان بغيضًا إلينا نحن الحمير جميعًا، لأنه كان مشاغبًا وكان نهمًا وبليدًا، وهذه صفات نادرة في الحمير.

أخيرًا اختفى شارل، وهدأ الأطفال والحمير، وكأنهم فهموا ما أردت من نجاتهم بابتعادي عن القنطرة، فأصبحوا يلاطفونني ويستحسنون عملي ورأيي. وعدنا إلى السير جميعًا، وأنا على رأس الجماعة، إلى أن رجعنا وتفارقنا وذهب كل واحد إلى منزله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤