الفصل الخامس

المخبأ

لقد كنت سعيدًا كما حدَّثت فيما مضى ولكن لكل شيء نهاية، فقد ذهبت سعادتي؛ كان والد جورج جنديًّا فعاد إلى بلده يحمل من المال ما تركه رئيسه، ويعتز بوسام أهداه إليه القائد، فاشترى منزلًا في مدينة مامير، وأخذ معه ابنه الصغير وأمه العجوز، ثم باعني إلى جار له يملك مزرعة صغيرة، فحزنت لأنني اضطُرِرت إلى ترك سيدتي العجوز وسيدي الصغير جورج، وكان كلاهما رحيمًا بي، وكنت أؤدي عندهم واجباتي أحسن الأداء.

ولم يكن سيدي الجديد لئيمًا، ولكنه كان ذا رغبة شديدة في العمل الكبير الذي يشغل به كل من يكون عنده، وكنت أيضًا كغيري ممن كلفهم كثرة العمل، فقادني إلى عربة صغيرة يحملني عليها الأتربة والسباخ والبطاطس والأخشاب، فابتدأت في التكاسل لأنني لم أكن أطيق أن أكون مربوطًا، وكنت أكره على الخصوص أيام السوق، وذلك ليس لأنه كان يحملني فوق طاقتي ولا لأنه كان يضربني، بل لأنني كنت أضطر يوم السوق إلى البقاء جائعًا من الصباح إلى الساعة الثالثة أو الرابعة بعد الظهر، وكنت إذا جاء وقت الظهر أكاد أموت من العطش، وكان واجبًا عليَّ أن أنتظر حتى يتم بيع كل الحمل، وأن يقبض سيدي ثمن ما يبيعه، وأن يحيي أصحابه، وأن يأكل أكلة العصر.

ولذلك لم أكن لهم حينئذ طيبًا، فإنني أحب أن أُعَامَل بالحسنى وإلا فإنني أبحث عن وسيلة للانتقام، فانظر ماذا عزمت عليه في يوم من الأيام، وسترى من ذلك أن الحمير ليست غبية، وستعرف أنني صرت لئيمًا:

ففي يوم السوق يستيقظون مبكرين، فيجمعون الخضار ويصنعون الزبدة ويلتقطون البيض، وأنا في الصيف أنام في حقل واسع، فكنت ألاحظ هذه الأعمال وأنا أعرف أنهم في الساعة العاشرة قبل الظهر يبحثون عني ليربطوني في العربة التي يملئونها من كل ما يريدون بيعه، وسبق أنني قلت إن يوم السوق يضايقني ويتعبني؛ فرأيت أن أبحث عن مخبأ أحتجب فيه وقت الطلب إلى السوق، فلاحظت أن في وسط ذلك المرج حفرة كبيرة مملوءة من الطحلب والحشائش، وفكرت أنه يمكن أن أختبئ فيها فلا يرونني وقت ذهابهم. ففي يوم السوق حين رأيت الذاهبين والآيبين من سكان المزرعة نزلت بخفة إلى الحفرة، وتوغلت فيها بحالة تجعل من المستحيل على الناظرين أن يروني، ومكثت فيها نحو ساعة مغمورًا بالقش والطحلب، في الوقت الذي كان فيه الخادم يبحث عني ويجري في كل ناحية حتى عاد إلى المزرعة، ويظهر أنه أخبر بأنه لم يجدني لأنني رأيت صاحب المزرعة بنفسه يسأل امرأته وكل من حوله عني، فقال أحدهم: الظاهر أنه ذهب إلى الزريبة.

فأجاب آخر: من أي جهة تظن أنه ذهب وليس له طريق مفتوح في الغيطان؟ إنه ليس بعيدًا من هنا، فتشوا عليه في كل مكان وعودوا حالًا فإن الوقت يمر بسرعة، وسنتأخر عن الوصول إلى السوق في الوقت المناسب.

وها هم أولاء كلهم قاموا إلى الغيط وفي الغابة يجرون وينادونني، وأنا في أثناء ذلك أضحك في سري وأجتهد في أنني لا أظهر من مكاني.

وعاد المساكين يلهثون من شدة التعب، وكانوا قد بحثوا عني في كل مكان مدة ساعة كاملة.

فأكد صاحب المزرعة أنني قد سرقني لص، وأنني كنت بغير شك بهيمًا بليدًا لأنني تركت اللص يسرقني، ثم ربط إلى العربة فرسًا من خيوله وذهب إلى السوق وهو مغتاظ.

ولما رأيت أن كل واحد قد ذهب إلى عمله وأنه لم يعد يراني أحد إذا خرجت من مكمني، رفعت رأسي باحتراس ونظرت فيما حولي، فلما تيقنت أنني وحدي ذهبت وجريت إلى الطرف الآخر من المرج لكيلا يعرف أحد مكان اختفائي، وبدأت أنهق نهيقًا عاليًا بكل قوتي.

وجرى على أثر هذه الضجة سكان المزرعة.

فصاح الراعي: ها هو قد رجع.

فقالت سيدتي: من أين عاد الآن؟

فقال العربجي: من الجهة التي كان غائبًا فيها.

ولفرحي من تخلصي من السوق تقدمت إليهم، فاستقبلوني استقبالًا حسنًا ولاطفوني، وقالوا إنني حمار طيب لأنني تخلصت من أيدي اللصوص الذين كانوا في زعمهم سرقوني، وبالغوا في مدحي حتى خجلت لأنني في الحقيقة كنت أستحق الضرب لا الملاطفة.

وتركوني أرعى في المرج بهدوء وراحة، فأمضيت يومًا سعيدًا لولا ما كان ينغِّصه عليَّ من وخز الضمير بأنني أتعبت في ذلك اليوم سيدتي.

ولما عاد صاحب المزرعة وأخبروه بعودتي ارتاح واطمأن ولكنه كان في ريب مني، وفي اليوم التالي طاف حول المرج وتفقد بكل عناية الفتحات في جوانب الزريبة، وحين انتهى قال: إن هذا الحمار يكون نحيفًا جدًّا إذا استطاع أن يخرج من بين فتحات الحيطان، فإنني سددت كل فتحة بالحطب والقش حتى إنه صار من المتعذر أن تمر من تلك الفتحات قطة.

ومضى الأسبوع وهم لا يفتكرون فيما كان من غيابي يوم السوق، ولكنني في يوم السوق التالي عدت إلى تمثيل ذلك الدور الماكر، واختبأت في تلك الحفرة متعبًا كثيرًا وخائفًا جدًّا.

وبحثوا عني كما بحثوا في المرة الأولى ودُهِشوا، وظنوا أن لصًّا ماهرًا سرقني وجعلني أخترق سياج الزريبة.

وقال سيدي صاحب المزرعة بلهجة حزن وأسف: إن حمارنا اختفى هذه المرة نهائيًّا، ولا أظنه يستطيع النجاة مرة ثانية، إذ لا يمكن أن يعود من فتحات السور لأنني سددتها كلها سدًّا محكمًا.

وذهب إلى السوق في هذه المرة متنهدًا، وناب عني أيضًا في جر العربة واحد من خيوله.

وكما فعلت في المرة الأولى خرجت من الحفرة حين ذهب كل من كان قريبًا مني، ووجدت من حسن الرأي في هذه المرة ألا أعلن عن عودتي بالنهيق «هي هان!» كما فعلت في المرة الأولى.

ولما رأوني آكل البرسيم بهدوء واطمئنان في المرج، وحين علم سيدي أنني رجعت بعد ذهابه إلى السوق بغير تأخير؛ صرت أراهم يشكون في أمري، ولم أجدهم يلاطفونني كما فعلوا في المرة الأولى، وكانوا ينظرون إليَّ نظر الارتياب، ولاحظت جيدًا أنني أصبحت مراقبًا بحالة لم تكن من قبل، فاستهزأت بهم وقلت في نفسي: «أيها الأصحاب الأعزاء، لأنتم أشد مكرًا مني إذا أمكنكم أن تكتشفوا محل اختفائي، ولكنني سأريكم أنني أشد مكرًا وحيلة، وسأعود إلى الضحك عليكم ثانيًا وأستمر عليه دائمًا.»

واختبأت مرة ثالثة وأنا مسرور كل السرور بمهارتي، ولكنني لم أكد أنزل في حفرتي حتى سمعت نباحًا شديدًا من كلاب الحراسة، وسمعت أيضًا صوت سيدي يقول: «أوقعه وأمسك به، وانزل معه في الحفرة، وعضه في قوائمه، وجره يا كلبي العزيز، أحسنت وبوركت.»

وما لبث الكلب الخبيث حتى أطاع فيَّ سيده، فإنه نزل إليَّ في الحفرة ثم عض قوائمي وبطني، وكاد يفترسني لو لم أطاوعه في الخروج من الحفرة، ثم بادرت وجريت إلى الزريبة أبحث فيها عن طريق أفتحه لنفسي، ولكن كان صاحب المزرعة يرصدني فضربني بالكرباج وأوقفني حالًا وهو مسلح بكرباج يروِّعني به، واستمر الكلب يعضني وسيدي يزجرني، فندمت على ما كان من كسلي، ثم صرف سيدي كلبه وكفَّ عن الضرب، وربطني من رقبتي وجرني وأنا في غاية الخوف والألم إلى العربة التي كانت تنتظرني.

وعرفت من ذلك أن واحدًا من أولاده كان مكلفًا بالانتظار في الطريق بقرب سور الزريبة، لكي يفتح لي بابًا فيها إذا رآني عائدًا، ولكنه لما أبصرني خارجًا من الحفرة عَرَّف أباه المستبد.

فحقدت عليه ما ظننته خبثًا منه، ولكن الحوادث والتجارب ردتني إلى الحِلْم وجعلتني أعدل في الحكم عليه.

ومن ذلك اليوم أصبحوا قساة عليَّ وأرادوا أن يحبسوني في الزريبة، ولكنني وجدت لنفسي الطريق إذ كنت أقرض بأسناني أطراف السور، ثم أدخل في كل مكان وأخرج من كل ناحية كما أشاء.

فأقسم صاحب المزرعة أن يزجرني ويضربني، وصار حاقدًا عليَّ وصرت أنا أيضًا أشد حقدًا عليه، وشعرت أنني مهين من أجل تلك الخطيئة، ثم قارنت هذه الحياة التعسة بما كنت عليه من السعادة عند هؤلاء السادة، ولكني بدلًا من أن أكون صالحًا صرت أتمادى عندهم في العناد واللؤم؛ ففي ذات يوم دخلت إلى بستان الخضار فأكلت كل ما كان فيه من شجيرات السلطة، وفي يوم آخر ألقيت على الأرض ذلك الولد الذي كان دلَّ عليَّ حين خرجت من الحفرة، وفي مرة أخرى أكلت كل ما كان موضوعًا في إناء القشدة وكانوا يريدون استخراج الزبدة منها، وصرت أرفس الدجاج، وأدوس الأرانب، وأعض الخنازير، وانتهيت إلى أن ربة الدار تضايقت مني كثيرًا، ولم تعد تطيق النظر إليَّ، فطلبت من زوجها أن يبيعني في سوق «مامير»، وكان موعده بعد خمسة عشر يومًا.

ولكني كنت هزيلًا ضامرًا لما نالني من كثرة الضرب، وما عُوقِبت به من سوء الغذاء، ولكي يمكن أن يبيعوني بثمن طيب وضعوني في مكان موافق، وزادوا لي الغذاء الصالح، كما أوصى بذلك رجال المزارع المجاورة، ومنعوا الأطفال ورجال المزرعة من معاملتي معاملة سيئة، وصاروا يقللون شغلي ويكثرون طعامي، فصرت سعيدًا جدًّا في أثناء هذه الخمسة عشر يومًا، ثم أخذني سيدي إلى السوق وباعني بمائة فرنك.

فلما تركته هممت بأن أنتقم منه بأن أعضه في يده، ولكني خفت أن يسيء الظن بي الذين اشتروني، واكتفيت بأنني أعرضت عنه وأدرت له ظهري بحركة احتقار وازدراء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤