الفصل الثامن

سباق الحمير

كنت أعيش عيش البؤس بسبب رداءة الجو، واخترت لي مأوى في الغابة التي وجدت فيها ما يمسك الرمق، ويحول بيني وبين الموت جوعًا وظمأً.

ولما جمدت الأنهار من البرد، كنت أتغذى بأكل الثلج وقرض الحشائش وأنام تحت أشجار الصنوبر، وكنت أقارن هذا العيش الضنك بالنعيم الذي كنت ألقاه عند سيدي جورج، بل بالحالة التي كنت عليها عند صاحب المزرعة الذي باعني، فلقد كنت عنده سعيدًا كلما نبذت الكسل وتباعدت عن اللؤم وعيب الانتقام، ولكن ليس لي وسيلة للتخلص من هذا البؤس لأنني أحب أن أبقى حرًّا متصرفًا وحدي في أعمالي.

وكنت أحيانًا أقترب من بعض القرى المجاورة للغابة لأطَّلع على ما يجري في هذا العالم.

وجاء الربيع وهو خير الفصول، فدُهِشْت لأنني رأيت حركة غير عادية، وكان يلوح على القرية مظهر العيد، والناس يمشون جماعات، وكان كل واحد يلبس ملابس الأعياد والآحاد، والذي زاد دهشتي أنني رأيت جميع حمير البلد مجتمعة.

وكان لكل حمار قائد يمسكه بلجام، والحمير كلها نظيفة ممشَّطة، وبعضها كان يزدان رأسه وعنقه بالورد والأزهار، ولم يكن واحد منها يحمل فوق ظهره بردعة.

فقلت: هذا غريب، فليس اليوم يوم سوق، وماذا تصنع هنا جميع هذه الحمير المنظفة المزخرفة، التي يظهر عليها أنها قد غُذِّيَتْ أحسن غذاء في هذا الشتاء؟ ولما فرغت من هذه الكلمة نظرت إلى ظهري وبطني وأفخاذي وكلها نحيف، والشعر غير ممشَّط والوبر متكسِّر، ولكنني كنت أشعر في نفسي بالقوة والحزم.

فاقتربت لأرى ما شأن هذه الحمير المجتمعة، فرأيت الغلام الذي يمسكها وقد تبسم حين لمحني، ثم قال: انظروا يا إخواني الحمار الذي قدم إلينا هل هو ممشَّط؟ فقال آخر: وهل هو مُعْتَنًى به؟ وهل هو جيد الغذاء؟ وكيف مع ذلك يحضر السباق؟

وقال ثالث متهكمًا: وَمَنْ يدري؟ فلندعه يجري ويسابق فليس علينا خطر إذا فاز بالجائزة …

فضحك الجميع من هذا القول، وساءني استهزاؤهم بي، وفهمت أنهم على عزم مسابقة بين الحمير، ولكن كيف تحصل وأين تكون؟ هذا الذي كنت أطمع في معرفته، فاستمررت مصغيًا لكلامهم وتظاهرت بأنني لم أفهم شيئًا مما قالوا.

وسأل واحد منهم: هل جاء وقت السباق؟

فقال الآخر: لا أدري، ولكنهم ينتظرون العمدة.

وجاءت امرأة فقالت: أين يكون مجرى الحمير؟

فأجابها جانون: محل السباق في مرج الطاحون الواسع أيتها الأم ترانشيه.

فسألته: كم عددكم من الحمير هنا؟

فأجاب: نحن ١٦، وأنت غير داخلة في هذا العدد.

وتجدد الضحك منهم لهذه السخرية في الإجابة.

فقالت ضاحكة: إنك خبيث. وماذا يستفيد الذي يجيء في السبق أولًا؟

فأجاب: لذة الظفر، ثم جائزة ساعة من الفضة. فقالت: لقد كان يسرني كثيرًا أن يكون لي حمار فأطمع في الحصول على الجائزة، ولكني لا أملك من الدنيا ما أقتني به حمارًا.

فضحك جانون وقال: كأنك تحسبين أن مجرد وجود حمار لك يكفي للظفر والفوز بالجائزة! وتضاحك رفاقه جميعًا.

فقالت هي: كيف تظن أن يكون لي حمار؟ وهل أنا أستطيع أن أطعمه وأن أدفع ثمنه؟

أما أنا فلما رأيتهم يتكلمون هكذا عن الحمير، وسمعت كلام الأم ترانشيه وتمنيها أن يكون لها حمار لتفوز بالجائزة؛ مِلْتُ إليها وأعجبني منها أن عليها سِيمَا اللطافة وحسن الخلق، فخطر في بالي أن أعمل لكي تفوز هي بالساعة الفضية.

وكنت قد تعودت الجري السريع في الغابة، وقطعت في السير أشواطًا بعيدة لكي أستدفئ بالجري من شدة البرد، ولذلك استطعت أن أكون قادرًا على الجري، وعلى الاستمرار فيه والصبر عليه كالحصان.

وقلت في نفسي: سنرى ولنجرِّب، وإنني إذا لم أظفر بالجائزة فلا أخسر شيئًا، وإذا ربحت فقد ساعدت الأم ترانشيه على الحصول على الساعة التي أظهرت رغبة في الفوز بها.

ولذلك تقدمت بخطوات معتدلة ووقفت بجانب الحمار الأخير، وزهوت وانتفخت كبرًا ونهقت بحدة.

فاحتد أندريه وقال مغتاظًا: ألا تريد أن تنتهي من هذا النغم الذي لا يُطْرِب أيها الحمار القذر؟ إنك لست نظيف الشعر، ولا تستطيع الجري، وإنك لا صاحب لك.

فكدت أختنق من الغيظ، ولكني لم أتحرك ولم أغادر مكاني، وصار بعضهم يضحك وبعضهم يغضب، ثم تشاجروا حين صاحت الأم ترانشيه: إذا لم يكن لهذا الحمار صاحب فإنه سيكون له صاحبة، وأنا قد عرفته الآن فهو كديشون، حمار المسكينة مدموازيل باولين، فإنهم طردوه منذ غابت عن المنزل، ولم يكن له فيه مَنْ يرحمه، وأنا أظن أنه قد قضى طول هذا الشتاء في الغابة لأنه لم يره أحد منذ وفاة تلك الطفلة.

ولذلك أنا آخذه منذ اليوم في خدمتي، وهو سيجري اليوم في السباق لأجلي.

ولما سمعوا هذا القول صاحوا من كل جانب: إذا كان هذا كديشون، فإننا قد سمعنا كثيرًا عن شهرته وفراهته.

وقال جانون: إذا شئتِ أيتها الأم أن يجري في السباق لأجلك، فلا بد أن تشتركي في المسابقة بأن تضعي في كيس عند العمدة قطعة فضية من النقود قيمتها نصف فرنك.

فأجابت الأم ترانشيه: بكل ارتياح يا أولادي، ها هي قطعتي. وحلت عقدة في طرف منديلها، ثم قالت: ولكن هل يُطلَب مني غيرها، لأنه ليس معي كثير من نوعها؟

فقال جانو: أنت إذا ربحتِ الجائزة فلن يضيع عليك ما دفعته، لأن كل سكان القرية اشتركوا في السباق، ووضعوا في هذا الكيس أكثر من مائة فرنك.

واقتربت أنا من الأم ترانشيه، ثم درت دورة، وقفزت قفزة، ورفست برجلي في الهواء رفسة قوية، أثرت في الأطفال وجعلتهم يظنون ويخشون أنني سأكون السابق.

فقال جانون لأندريه بصوت خافت: إنك أخطأت إذ جعلت الأم ترانشيه تضع قطعتها في الكيس، فذلك أعطاها حقًّا في دخول كديشون في المسابقة، وأنا أكاد أراه فائزًا بالجائزة، وأتوهمه قد حرمنا جميعًا الفوز بالساعة وكيس النقود.

فأجاب جانو: إنك أبله، كأنك لا ترى وجهه، أنا أظن هذا المسكين كديشون سيكون سببًا لضحكنا لأنه لا يستطيع أن يذهب بعيدًا.

فقال أندريه: أنا لا أدري، ولكن أفضل أن أقدم له شيئًا من الشعير لكي يأكله ويذهب فنستريح منه.

فأجاب جانو: والنصف فرنك الذي دفعته الأم ترانشيه؟

فقال أندريه: إذا ذهب الحمار نرد لها ما دفعته.

وقال جانو: ومع ذلك فإن الحمار ليس ملكًا لها، ولا لي ولا لك، فاذهب فأعطه وجبة من الشعير ودعه يذهب، وحاذر أن تراك الأم ترانشيه.

وسمعت أنا كل ما تحاوروا به وتحققته حين أبصرت أندريه قادمًا إليَّ ومعه الشعير يحمله في «مريلته»، فبدلًا من أن أقترب منه لتناول ما معه اقتربت من الأم ترانشيه التي كانت تتحدث مع بعض معارفها، فتبعني أندريه وأخذ جانو برأسي وشدني من أذنيَّ ولوى رأسي نحو الشعير وهو يظن أنني لم أره، ولكنني وقفت ثانيًا ولم أتحرك مع شدة رغبتي في الطعام، وبدأ جانو يسحبني وأندريه يدفعني فأخذت أنهق بكل صوتي الجميل.

فالتفتت الأم ترانشيه وأدركت فعلة جانو وأندريه، فقالت لهما: ليس جميلًا ما تصنعانه هنا يا ولديَّ، وما دمتما قد كلفتماني أن أدفع نصف الفرنك فهل يجوز أن تُبعِدا كديشون عن المسابقة؟ وهل أنتما تخافان من نجاحه؟

فقال أندريه: أنخاف مِنْ مثل هذا الحمار؟ كلا، نحن لا نخافه.

فأجابت: إذن فلماذا تسحبانه لتبعداه؟

فقال أندريه: ذلك لأجل إعطائه وجبة من الطعام.

فأجابت بتهكم: لا بأس إذن، وهذا حسن، فضع له الشعير على الأرض ليأكل على رغبته، وأنا كنت مخطئة حين ظننت أنكما تؤذيانه.

فخجل الطفلان، وكانا غاضبين ولكنهما لم يستطيعا إظهار الغضب، وضحك رفقاؤهما لأن حيلتهم انكشفت، وكانت الأم ترانشيه تفرك يديها، أما أنا فكنت مسرورًا وأكلت الشعير بِشَرَه، وشعرت بأنني زدت قوة بعد أكله، وكنت راضيًا عن الأم ترانشيه. ولما فرغت من الطعام صرت قليل الصبر على ابتداء المسابقة متشوقًا لتعجيلها.

وأخيرًا حدثت ضجة، وجاء العمدة فأمر بترتيب الحمير وصفِّها صفًّا واحدًا، فوضعت نفسي في الآخر تواضعًا.

ولما ظهرت وحدي قال بعض الناس: لمن هذا الحمار، ومن صاحبه؟

فأجاب أندريه: ليس هو لأحد.

فصاحت الأم ترانشيه: بل هو لي.

فقال العمدة: يجب أن تدفعي رسم المسابقة في الكيس.

فأجابت: لقد دفعت يا سيدي العمدة.

فقال العمدة: حسنًا، والتفت إلى الكاتب ليسجل اسمها.

فأجاب الكاتب: لقد تم ذلك من قبل يا سيدي العمدة.

فقال العمدة: هل أنتم مستعدون؟ ثم صاح: واحد، اثنان، ثلاثة، سيروا! فأرخى كل الغلمان لُجُم الحمير، وضرب كل واحد حماره سوطًا شديدًا فجرت الحمير كلها. وكان هذا إذنًا منه بالسباق.

ومع أنه لم يقدني أحد للجري، فإنني انتظرت دوري للبدء في المسير بشرف، واقتضى ذلك أن كل الحمير تقدمتني قليلًا في ابتداء السير، ولكنها لم تكد تبلغ نحو مائة خطوة حتى أدركتها، وها أنا سبقت وأصبحت في مقدمة هذا القطيع.

فصاح الغلمان وأعملوا سياطهم في ظهور الحمير يستحثونها على الجري السريع لأجل اللحاق بي وسبقي، وكنت في أثناء ذلك أدير رأسي نحوهم لأرى امتعاض وجوههم من التأخر، ولكي أتلذذ بسبقي لهم وأضحك من جهودهم الضائعة في إدراكي. ولكنهم تحمسوا كثيرًا إذ رأوني بعيدًا عنهم وأنا أضعفهم جسمًا وهم أحسن مني منظرًا، فضاعفوا جهدهم لإدراكي وسبقي، وسمعت ورائي صيحات وحشية مزعجة، وقرب مني حمار جانو. وكان يمكنني أن أستعمل لأجل السبق ما استعملوه من الطرق، ولكنني احتقرت تلك المناورات السخيفة، ورأيت أنه يلزمني ألَّا أهمل شيئًا لكيلا أكون مقهورًا، فسبقت منافسي بمسافة بعيدة، وفي تلك اللحظة التي أسرعت في سبقه فيها قبض بأسنانه على ذيلي وعضني، واضطرني الألم إلى السقوط على الأرض، ولكن شرف الفوز بالسبق شجعني على التخلص من أسنانه، ولو أنني تركت فيها قطعة من لحمي وشعري. والرغبة في الانتقام منه أعارتني خفة الأجنحة فجريت بسرعة فائقة، فوصلت إلى نهاية خط المسابقة، ولم أكن الأول فقط بل تركت ورائي بمسافة طويلة جميع مَنْ ينافسني في السباق.

figure
كديشون في سباق الحمير وهو سابق والناس يتفرجون. (وفي اللحظة التي سبقته فيها قبض على ذيلي بأسنانه وعضني.)

فكنت مجهودًا متعبًا، ألهث من شدة التعب، ولكني كنت سعيدًا بالفوز، وكنت أسمع بلذة وابتهاج تصفيق ألوف من المشاهدين الذين كانوا يحيطون بالمرج الذي جرت فيه المسابقة.

فوقفت وقفة الظافر، واتجهت بأبهة نحو مكتب العمدة الذي استعد لإعطاء الجائزة، فتقدمت نحوي الأم الطيبة ترانشيه ولاطفتني، ووعدتني بكمية كبيرة من الشعير، وبسطت يدها لاستلام الساعة وكيس النقود حين هَمَّ العمدة بإعطائهما إليها، وفي هذه اللحظة رأينا أندريه وجانو يجريان ويصيحان وهما مقبلان على العمدة: تمهل يا سيدي العمدة، تمهل فليس هذا عدلًا، لأن هذا الحمار لا يعرفه أحد، وهو لا يخص الأم ترانشيه إلا ادعاء لأول نظرة، فهذا الحمار لا يعد في المسابقة، والذي جاء أولًا في السباق هو حماري مع حمار جانو، فالساعة والكيس يجب أن يكونا لنا.

فسأل العمدة: أليست الأم ترانشيه قد وضعت في الكيس قطعة النقود؟

– نعم يا سيدي العمدة، ولكن …

– هل عارض أحد حين وضعت القطعة في الكيس؟

– لا يا سيدي العمدة، ولكن …

– هل في وقت السير في المسابقة حصلت منكما معارضة؟

– لا يا حضرة العمدة، ولكن …

– إذن فحمار الأم ترانشيه قد فاز بحق بجائزة الساعة والكيس.

فصاحوا معترضين: يا حضرة العمدة، اجمع أعضاء المجلس المحلي للفصل في الموضوع، فإنه ليس لك وحدك حق الاستئثار بالفصل فيه.

وتردد العمدة، فلما رأيته متوقفًا قبضت بحركة عنيفة بأسناني على الساعة والكيس، ووضعتهما بلطف بين يدي الأم ترانشيه، التي كانت منتظرة رأي العمدة وهي مضطربة قلقة جازعة.

ولكن هذه الحركة جذبت الجمهور نحوي، وسمعت على أثرها ضجة التصفيق والاستحسان.

figure
الأم ترانشيه وهي تستلم الجائزة بحضور العمدة (فقبضت على الساعة والكيس بأسناني ووضعتهما بين يدي الأم ترانشيه).

فقال العمدة وهو ضاحك: انتهى الفصل في الموضوع بواسطة الفائز نفسه لجانب الأم ترانشيه. ثم التفتَ إلى أعضاء المجلس فقال: هلموا نبحث حول المائدة هل كان من حقي أن أنصف هذا الحمار أم لا! ثم أضاف باستهزاء قوله وهو ينظر إلى أندريه وجانو: أنا أظن أن أغبى الحمير بيننا ليس هو حمار الأم ترانشيه! فصاح الناس من كل جانب: أحسنت يا حضرة العمدة.

واستمر الناس يضحكون ما عدا أندريه وجانو، فإنهما ذهبا وهما يهددان بقبضة يديهما وينظران إليَّ شزرًا.

أما أنا فهل كنتُ مسرورًا؟ كلا، فقد جرح العمدة كبرياء نفسي حين كان في نظري بعيدًا عن الأدب، إذ وصف نوع الحمير بالغباوة في تهكمه على أندريه وجانو، فكان ذلك منه جحودًا وظلمًا.

ولقد كنت في هذه المسابقة شجاعًا صبورًا ذكيًّا، فانظروا كيف كانت مكافأتي؟ حتى إن الأم ترانشيه شغلها الفرح بالحصول على الساعة والكيس، فنسيت مَنْ أحسن إليها وأوصل إليها هذه الجائزة، ولم تحقق لي وعدها بإعطائي مقدارًا من الشعير كنت أرجوه بعد وعدها، ثم تركتني وانصرفت إلى محادثة الجمهور بدون مكافأتي على الربح الذي فازت به على يديَّ وبفرط جهدي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤