المقدمة

هذه مجموعة من القصائد غير العادية، كُتبت كلها في وجه العنف والإرهاب والاستغلال والقمع والسجن … سواء كان ذلك من قِبَل أفراد وجماعات ودول، أو ضد أفراد وجماعات ودول؛ حيث من الصعب أن نجد ثقافة من الثقافات، بما في ذلك الثقافات الغربية التي تدَّعي الليبرالية والديمقراطية، لم تلجأ إلى وسائل إرهابية وقمعية لتحقيق أهدافها، أو على الأقل لكسر شوكة معارضيها. لقد برع كثير من الحكومات والأنظمة في استخدام كافة الأساليب لقهر رعايا أو أقليات تعيش تحت سيطرتها، أو أحزاب معارضة تعمل داخل ما يُقال عنه «إطار الشرعية»، «قفص الشرعية»! فجرائم النازية والشيوعيات الشمولية، وعنصرية جنوب أفريقيا، وديكتاتوريات أمريكا اللاتينية، وممارسات عسكر الانقلابات في دول العالم الثالث، وإرهاب الجماعات والأفكار الدينية المتطرفة … كلها أمور معروفة جيدًا، وما زالت هناك أنظمة قمعية في أماكن كثيرة من العالم يسري فيها الاستغلال والظلم وانتهاك حقوق الإنسان سريان الماء والهواء.

والشعراء الذين كتبوا هذه القصائد، عاشوا ذلك كله، كانوا طرفًا فيه، أو شاهدين عليه، وليس بمعزلٍ عن أسبابه ونتائجه، واستطاعوا أن يخترقوا بأشعارهم حدود الظلم والملاحقة والاضطهاد والتعذيب والمنافي والسجون، ووجدوا لذلك اللغة التي تحملهم إلى ما وراء الألم والمعاناة؛ لكي يكتبوا كل شيء، ورغم كل شيء، بموضوعية تؤكد كل يوم أن الموت ذاته لا يمكن أن يقضي على الحلم، أو يضع نهاية للأمل!

وقد اخترتُ معظم قصائد هذا الديوان الصغير من أنطولوجيا: Voices of Conscience (صادر عن دار نشر Iron Press، لندن، عام ١٩٩٥م)، وسوف يجد القارئ المتابع بينها بعض قصائد شهيرة، مستقرة في عالم الخلود الإبداعي، بقيت، رغم مرور الزمن، كقيمة فنية وإنسانية، إلى جانب قيمتها التاريخية. من بين هذه القصائد «الحرية» ﻟ «بول إيلوار»، و«إلى الأجيال القادمة» ﻟ «برخت» و«في انتظار البرابرة» ﻟ «كافافيس» و«ذبحة صدرية» ﻟ «ناظم حكمت» و«في انتظار الإعدام» ﻟ «ريتسوس»، وهي قصائد سبق أن تُرجمت إلى العربية أكثر من مرة، وقد آثرتُ أن أعيد ترجمتها لتكون هنا إلى جوار قصائد أخرى لشعراء آخرين أعترف — فرحًا — بأنني أسمع بهم لأول مرة. والقصائد كلها — قديمها وجديدها — تؤكد أن الإنسان هو الإنسان، وأن الظلم هو الظلم، وأن المقاومة هي المقاومة، رغم اختلاف الأزمنة والأمكنة، وكأننا نردد مع الشاعر الروماني «إيون كارايون» الذي يأتينا صوته من تحت أنقاض نظام «شاوشيسكو»:

«بالقرب من النهر الآسن»: «سنعذبك، ثم نقتلك ونضحك، وسيقتلوننا ويضحك آخرون (…) إنه الظلام يلد نفسه.»

على أن المجموعة لا تركز على الشاعر كضحية دائمًا، فهناك قصائد كثيرة تقدم لنا الشاعر مناضلًا خالدًا في الكلمة والجسد والروح، وبعض من مات منهم في السجون، أو اختفى (في ظروف غامضة)، ما زالوا أحياء في قصائدهم، أو في شهاداتهم عن بقاء الآخرين.

والأصوات التي نستمع إليها هنا، رغم اختلاف الجغرافيا والتاريخ والأبجدية، تكون في النهاية «كورس» واحدًا، يرفض الصمت؛ فينشد قصيدة واحدة، وكأنها شمس «ميلوش» مصدر الألوان جميعًا، وحرية «إيلوار» المكتوبة على الكون، وكل ما فيه، تلهم أجيال «برخت» القادمة. هنا على صفحات هذا الديوان الصغير، يحوِّل شعراء العالم — المختلفون في اللغة والدين واللون والجنس — «الشعر إلى حياة، والحياة إلى قصيدة جميلة»، ويسمون الأشياء بأسمائها.

تقرأ قصيدة النيبالي «بوبي شركان» عن بلاد الضجيج والشائعات؛ فتقول هذه بلادي، تقرأ قصيدة «فاليجو» شاعر بيرو «يمشي وعلى كتفه رغيف»، فتقول هذا واحد من الناس في بلادي، تقرأ قصيدة الهندي «شاندان» «من ذا الذي لا يريد»، فتودُّ مثله أن تُطلق النار على «تلك الساعات التي تخذلنا في حساب الوقت، وتذهب لسماسرة الوقت»، تقرأ قصيدة اليوناني «كافافيس» «في انتظار البرابرة» فتقر بأن أولئك الناس … «حل من الحلول»، وتقرأ قصيدة الباكستاني «فايز أحمد فايز» فيعود إليك الأمل، لأن أحدًا لن يستطيع أن يطفئ ضياء عين القمر!

كما تضم المجموعة مختارات من أعمال عددٍ من الشعراء العرب البارزين، الذين تعرَّضت مسيرتهم الحياتية والإبداعية لألوانٍ مختلفة، وفنون مبتكرة، من القمع والمصادرة والنفي والتشريد والسجن والتعذيب، في وطنٍ لم تعُد أرصفته جديرة بالوحل على حد تعبير الشاعر «محمد الماغوط». صلاح عبد الصبور وأمل دنقل ومحمد عفيفي مطر وعبد الرحمن الأبنودي وأحمد فؤاد نجم وسعدي يوسف ومحمود درويش ومحمد الماغوط وعلي الشرقاوي وحبيب الصايغ … وغيرهم ممن لم يتسع المجال لهم، جنود في كتيبة واحدة مع كافة شعراء الكون … أصوات الضمير التي تُقاتل ضد قوى الظلم والظلام وتنتصر للإنسان والحرية.

(المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥