من الأحزان العادية

«ماذا تعني: بالكون يا يساعك يا يساعني؟
رد يا جربان يابن الوسخة يا كلب …
أظنك حتقوللي تاني … الشعب»
وصفعني … وتنَى على بطني بالكعب …
«يا سعادة البيه … وانا ليه؟
أو ليَّا في العمال إيه؟
ما تضيع الدنيا، والعمال دي تغور …
يا صاحب هذا المبنى الموروث،
ضِل جدودك في الجدران مغروس.
أنت السلطان … وأنا المملوك.
أنت السجان … وأنا المهلوك.
أنت المنصور … وأنا المسفوك … أنا الصعلوك …
وامتى الصعلوك يقدر يتجاسر ع السلطان،
اللي في إيده — بدل البرهان — مليون برهان؟»
رفع الهدب. ما هو برضه دول يفهموا في الكدب.
أول ما تلفِّت، جِه غارس الجزمة في قورتي،
جيت انهض … برَّكني ع الأسفلت،
ولقيت نفسي محاصر تاني … وتحت الرجلين.
قلت لنفسي: «وبعدين؟ راح تفضل كده لامتى يا غلبان؟
مالقيتش الراحة في الموت … يمكن تلاقيها ورا
القضبان»
اتطلعت على الباب … وعلى الجدران،
ع الظابط، ع الموقف، ع السجن وع السجان.
ولقيتني طول عمري كنت كدة …
كلب … محاصر … متهان … منبوذ … جربان.
وانا يا بني الحلم اللي ماليهش أوان،
معروف عِشي في قلب البستان،
معروف صوتي في زمن الأحزان،
وف أي زمان …
واتذكرت سنة ما اتبنت القلعة،
وكنت أنا أول مسجون …
وكان الظابط ده هوه السجان …
يوم ما صفعني نفس الصفعة … نفس طريقة الركل …
وآخر الليل … جاني بدم صحابي في الأكل.
استأذنت أرتب أقوالي …
انقفل الباب، وانفتح الباب … وخلاص.
«يا عم الظابط … أنت كداب، واللي بعتك كداب.
مش بالذل حاشوفكم غير … أو أسترجى منكم خير …
أنتو كلاب الحاكم، واحنا الطير،
أنتو التوقيف، واحنا السير،
أنتو لصوص القوت، واحنا بنبني بيوت،
إحنا الصوت، ساعة ما تحبوا الدنيا سكوت.
إحنا شعبين … شعبين … شعبين …
شوفوا الأول فين … والثاني فين،
وآدي الخط ما بين الاتنين بيفوت،
أنتو بعتوا الأرض بفاسها … بناسها،
في ميدان الدنيا فكيتوا لباسها،
بانت وش وضهر … بطن وصدر،
ماتت … والريحة سبقت طلعة أنفاسها،
واحنا ولاد الكلب … الشعب …
إحنا بتوع الأجمل وطريقه الصعب …
والضرب ببوز الجزمة وبسن الكعب،
والموت في الحرب.
لكن انتو خلقكم سيد الملك … جاهزين للملك.
إيدكم نعمت … من طول ما بتفتل …
ليالينا الحلك …
إحنا الهلك … وانتو الترك،
سوَّاها بحكمته صاحب المُلك.
أنا المسجون … المطحون … اللي تاريخي مركون،
وأنت قلاوون، و«ابن طالون» ونابليون،
الزنزانة دي مبنية قبل الكون،
قبل الظلم ما يكسب جولات اللون.
يا عم الظابط احبسني …
سففني الحنضل واتعسني،
رأْينا خلف خلاف.
احبسني … أو أطلقني، وادهسني؛
رأْينا خلف خلاف.
وإذا كنت لوحدي دلوقت،
بكرة مع الوقت،
حتزور الزنزانة دي أجيال،
وأكيد فيه جيل
أوصافه غير نفس الأوصاف …
إن شاف يوعى … وإن وعي ما يخاف …
أنتو الخونة حتى لو خاني ظني …
خد مفاتيح سجنك وياك … واترك لي وطني …
وطني غير وطنك.»
ومشي
قلت لنفسي: «ما خدمك إلا من سجنك.»
عبد الرحمن الأبنودي
مصر

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥