في تلك الأيام

في أول أيار دخلت السجن الرسمي، وسجَّلني الضباط الملكيُّون شيوعيًّا، حُوكمت — كما يلزم في تلك الأيام — وكان قميصي أسود، ذا رابطة عنق صفراء، خرجتُ من القاعة تتبعني صفعاتُ الحراس، وسخرية الحاكم. لي امرأةٌ أعشقها، وكتابٌ من ورق النخل، قرأت به الأسماء الأولى، شاهدت مراكز توقيفٍ يملؤها القمل، وأخرى يملؤها الرمل، وأخرى فارغة إلا من وجهي …

يوم انتهينا إلى السجن الذي ما انتهى،
وصَّيتُ نفسي، وقلت المشتهى ما انتهى،
يا واصل الأهل خبِّرهم … وقل ما انتهى،
الليل بتنا هنا … والصبح في بغداد.

أحتفلُ الليلة بالقمر الزائر من خلف القضبان، لقد رقد الشرطي، وأنفاس «السيبة» مثقلة برطوبة شط العرب، التفتَ القمرُ الزائر ناحيتي. كنتُ أدندن في ركن الموقف، ماذا تحمل لي في عينيكَ؟ هواءً ألمسه؟ وسلامًا منها؟ كان القمر الزائر يدخل من بين القضبان، ويجلس في ركن الموقف. مفترشًا بطانيتي السوداء، تناول كفي: محظوظ أنت، وغادرني. أبصرتُ بكفِّي مفتاحًا من فضة،

كل الأغاني انتهت إلا أغاني الناس
والصوت لو يُشترى ما يشتريه الناس
عمدًا نسيت الذي بيني وبين الناس
منهم أنا مثلهم … والصوت منهم عاد

في الثالث من آيار رأيت الجدران الستة تنشق، ويخرج منها رجلٌ أعرفه، يلبس سروالًا عُماليًّا، وقلنسوة من جلد أسود، قلت له: كنتُ أظنك سافرتَ، أما كان اسمك بين الأسماء الأولى؟ أوَلم تتطوع في مدريد؟ أما قاتلتَ وراء متاريس الثورة في بتروجراد؟ ألم تُقتل في إضراب النفط؟ أما شاهدتك بين البردي تعبئ رشاشًا؟ أوَلم ترفع للكومونة رايتها الحمراء؟ أما كنت منظِّم جيش الشعب بسومطرة؟ خُذ بيدي، فالجدران الستة قد تطبق بين اللحظة والأخرى … خذ بيدي.

يا جارُ آمنت بالنجم الغريب الدار،
يا جار نادت ليالي العمر: أنت الدار،
ياما ارتحلنا، وظل القلب صوب الدار،
يا جار لا تبتعد … دربي على بغداد.
سعدي يوسف
العراق

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥