المقدمة

هذه ترجمة جديدة لمسرحيةٍ من مسرحيات شيكسبير التي أحببتها، وطالما تمنيت أن أنقلها إلى العربية بعد أن عاشت في خيالي منذ أيام المدرسة؛ أي ما يقرُب من خمس وثلاثين سنةً؛١ بل لقد عاشت في خيال أبناء جيلي ممن شهدوا الثورات السياسية والاجتماعية في مصر والعالم العربي، فوجدوا أنفسهم يفسِّرون أحداث العقود الأربعة الماضية في إطار التاريخ القديم، ووجدوا في الأعمال الأدبية التي تصوِّر هذا التاريخ نماذجَ حيَّة لما كان يحدُث من حولهم، ورأوا — كما رأى طه حسين في كتابه ألوان — أنَّ في التاريخ من الصور الأدبية ما يشرح لهم بعضَ ما كان يجري في تلك الحِقبة الحافلة.
أقول: إنني طالما تمنيتُ أن أنقلها إلى العربية، وطالما تصوَّرت أنني أنقل هذه القطعة أو تلك — مثل خُطبة أنطونيو في أهالي روما بعد مقتل قيصر، أو تصوير غضبة الطبيعة قبيل مقتله — وطالما أحسستُ بصعوبة العمل وتمنَّيت أن تكتمل عُدَّتي الأدبية يومًا ما فأتصدَّى واثقًا لهذا النص العسير، وإذا كنتُ لا أدعي اليوم أن عُدَّتي قد اكتملت، فإنني أشعر أن العديد من التجارب التي خضتُها في الكتابة المسرحية، نثرًا وشعرًا،٢ وفي الترجمة الأدبية، نثرًا وشعرًا،٣ أقدِرُ على «مواجهة» هذه البلاغة عما كنتُ عليه عندما ترجمتُ «حُلم ليلة صيف» (١٩٦٤م)، أو «روميو وجوليت» (١٩٦٥م) نثرًا بالعربية المعاصرة. أو «الفردوس المفقود» (١٩٨٢–١٩٨٦م) بأسلوب عربي يضارع الأسلوب الذي استخدمه ملتون (Grand Style) أو حتى عندما ترجمتُ روميو وجوليت مرةً ثانية عام ١٩٨٥م (دار غريب للطباعة) ترجمةً تجْمع بين الشعر والنثر، مما حفزني إلى ترجمة تاجر البندقية شعرًا من البداية للنهاية في أواخر الثمانينيات (الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٨٨م).

وقد شرعتُ، بعد انتهائي من ترجمة تاجر البندقية، في الاستعداد لترجمة هذه المسرحية. فذكرتُ أنني رأيت لها ترجمةً عربية رصينة، قرأت بعضًا منها في منزل أستاذي الدكتور عبد الحميد يونس أثناء معاونتي له — رحمه الله — وأنا بعدُ أخضرُ العود في ترجمة مسرحية أخرى لشيكسبير هي طرويلوس وكريسيدا في صيف عام ١٩٥٩م. وذكرتُ أن الدكتور يونس كان معجَبًا بها أيَّما إعجاب، وكنت أقرأ له منها أقسامًا تبهرنا بجزالتها ورصانتها، وكثرة مائها ورونقها وخلوها — كما يقول أبو هلال العسكري صاحب الصناعتَين — من أودِ التأليف وعِوج التركيب. وذكرتُ أيضًا أنه كان ينصحني باتباع منهج مترجِم هذه المسرحية، وهو الأستاذ محمد حمدي، لنجاحه في تحاشي رطانة الترجمات الحديثة وركاكة المترجمين الذين كانوا آنذاك (وما زالوا حتى يومنا هذا) يلتزمون بحرفية النص بدعوى الأمانة.

وعندما ذكرت تلك الترجمة بدأت أتساءل عن جدوى إخراج ترجمة جديدة، فاستشرتُ صديقي الدكتور ماهر شفيق فريد في الموضوع، وطلبت منه أن يقطع لي برأي؛ فهو مرجعٌ أستند إليه في شئون الأدب الإنجليزي الحديث والأدب المقارن والترجمة جميعًا، وهو ناقد ذو إحاطة موسوعية لا تتأتى للكثير من أبناء هذا الجيل، فلم يلبث أنْ أعارني نسخةً لديه من تلك الترجمة القديمة (ليس عليها تاريخ الصدور)، وترجمة أخرى قام بها الأستاذان عبد الحق فاضل، ومصطفى حبيب، وصدرت في سلسلة ترجمات شيكسبير عن الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية عام ١٩٧٣م، ولم أكن قد اطلعت عليها من قبل. وعندما أعدتُ قراءةَ نص محمد حمدي عاودني الإعجابُ القديم، وكاد يصيبني اليأس من المضي في المشروع، ثم جعلت أقارن بين النص العربي والنص الإنجليزي فوجدتُ ما أعاد إليَّ الأمل ودفعني إلى التفكير في الموضوع الذي كنت طرقتُه من قبلُ في مقدِّمات ترجماتي الأدبية تفكيرًا مُركَّزًا وعميقًا — ألا وهو مناهج الترجمة الأدبية.

وطوال صيف عام ١٩٨٨م واصلت الجهد الذي كنتُ بدأتُه من سنين في تحليل بلاغة اللغة العربية القديمة منها والمعاصرة، مستندًا إلى ما أبدعه جيل أساتذتنا ورفقاء جهودنا اللغوية والأدبية من المتخصصين في اللغة العربية، محاولًا أن أضعَ يدي على «نوع» التطور الذي شهدته بلاغةُ هذه اللغة، فأعدت قراءةَ كتابات شوقي ضيف، وشكري عياد، وإبراهيم أنيس، ومحمود حجازي، وعبد الحكيم راضي، وسواهم، ثم عُدت إلى نصوص اللغة العربية المعاصرة منذ هيكل وطه حسين، ثم نجيب محفوظ وحتى المحدثين من كُتَّاب الرواية، وأمامي وورائي يمتد تراثُ العربية الزاخر الذي نشأتُ في كنفِه، حتى انتهيت إلى «نظرة» لا تبلغ حدَّ «النظرية» أعانتني في إدراك أبعاد المشكلة، وتلك أولُ خطوة على طريق الحل. ولا أريد أن أشغل القارئَ بتفاصيل هذه «النظرة»، فما أحسبُها جديدةً كلَّ الجِدة، ولقد بسطتها بسطًا وافيًا في دراسةٍ كتبتها بالإنجليزية عن تطوُّر لغة الرواية العربية عند نجيب محفوظ بعنوان Novel Rhetoric ونُشِرت في كتاب صدر في فبراير ١٩٨٩م عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بعنوان Naguib Mahfouz : Nobel 1988—a collection of critical essays, ed. M. Enani. pp. 97–144.

ولكنني سأعرض فحسب ما يتصل منها بالترجمة الأدبية، وهي تسمية غير دقيقة، ويُقصد بها بطبيعة الحال ترجمة النصوص الأدبية، وأمَّا علاقة اللغة بالإبداع بصفة عامة فأنصح القارئ بالرجوع إلى كتاب شكري عياد «اللغة والإبداع» الذي اطلعتُ عليه بعد أن طُبعت دراستي المذكورة، فلم أتمكَّن من الإفادة منه، وإن كنت قد أشرتُ إليه في ذيل الدراسة.

وجوهر «النظرة» التي أقول إنني انتهيتُ إليها — باختصار — هو أن اللغة العربية لم تكن لغةً موحَّدة على مدى تاريخها الطويل، وأنا لا أعني بذلك اختلافَ اللهجات العربية، ولكنني أقصد أن الانفصال بين لغة «الأدب الرسمي» ولغة الحياة اليومية، كان قائمًا بدرجاتٍ متفاوتة منذ أقدم العصور (وليست اللغة العربية فريدةً في هذا)، ولكننا لا نستطيع أن ندرك درجات هذا الانفصال وأشكاله؛ لأن هَمَّ الرواة والمؤرخين كان الحفاظ على الأدب «الرسمي»، واللغة الرسمية وحدها دون المستوى الآخر؛ فالشِّعر الذي حفظه لنا الرواةُ ومن بعده النثر الفني المسجَّل في الكتب، كانا يمثلان التيارَ الرئيسي الذي تصب فيه تقاليدُ الأمة العربية وأعرافها، وهي لا تقتصر على التقاليد اللغوية والأدبية، بل تتخطاها إلى التقاليد الاجتماعية والإنسانية العامة، وكانت جميعًا ترصد أبعادَ الشخصية العربية وتحافظ عليها. فكان التعليم الرسمي يبدأ بتعلُّم اللغة، وكانت مباحث اللغة والأدب المختلفة تمثِّل الفروعَ الأساسية للعلم الذي يتلقاه المتأدِّب في صباه، وهكذا كان همُّ المجتمع بصفةٍ عامة هو الحفاظ على هذا التراث وصيانته من «كلام العامة»، خصوصًا بعد التوسُّع الكبير — جغرافيًّا وحضاريًّا — في القرون الأولى للهجرة، والتفكك الكبير أيضًا فيما يُسَمَّى بعصر الانحطاط.

ولهذا فنحن دائمًا ما نقرأ في الكتب التي جمع فيها أصحابُها تراثَ السلف إشاراتٍ إلى مَن قال كلامًا «أصاب» فيه أو «أخطأ»، أو إلى عُجْمةِ هذا الشاعر أو ذاك، وأحيانًا تفلِت من أيدي الرواة عباراتٌ، بل فقراتٌ كاملة على ألسنة مَن يَرْوُون عنهم يختلف فيها مستوى العربية اختلافًا بَيِّنًا عن مستوى الشعر المسجَّل في الكتاب، بل عن مستوى النثر الذي يستخدمه الراوي نفسه. ولا داعي للإفاضة في هذا؛ فقد أثبتَه دارسو الأدب الشعبي العربي (مثل حسين نصار، وعبد الحميد يونس، وغيرهما)، فكلُّ ما أريد أن أوضحه هو أن التيار الرسمي للأدب العربي (واللغة العربية) كان يخفي دائمًا تيَّارًا آخرَ لا يقلُّ عنه أهميةً، وهو إذا كان ينفصِل عنه انفصالًا خارجيًّا (أي إذا كان الرواة والمؤلفون يفصِلون بين التيارين في كُتُبهم)، فهو يتَّصل به اتصالًا داخليًّا وثيقًا؛ لأنه «يغذِّيه» ويُبقي على حيويته. وفي ظني أن دراسة تطوُّر اللغة والأدب لن تكون كاملةً، ولن يكون لها المعنى الذي نرجوه إلا إذا ربطنا بين التيارين.

وعلى مرِّ القرون تطوَّرت اللغة المستخدَمة في الحياة اليومية، وفشا فيها الكثيرُ مما كان أعجميًّا أو مما جرى على ألسنةِ الناس من ألفاظٍ وتراكيبَ ومعانٍ وقيم بلاغية وأشكال أسلوبية؛ بل وتغيَّرت بعض الأصوات العربية (كما أثبت ذلك الدكتور رمضان عبد التواب)، وأقبل الكثيرُ من الكُتَّاب على استخدام اللغة المتطوِّرة التي اكتسبت بالتدريج احترامَ النُقَّاد (رغم وجود نفرٍ في كل عصر لا يَقبلون إلا القديم وينفِرون من كل جديد)، حتى جاء يومٌ ابتعدت فيه اللغةُ الأدبية القديمة ابتعادًا واضحًا عن أقلام الأدباء، وأصبحت اللغة المتطورة هي المستخدَمة في إبداع الأدباء بصفة عامة.

والواقع أن لغة العامة، أي اللهجة العربية المحلية التي تختلف من بلدٍ إلى بلد، لم تكن يومًا بمعزلٍ عن هذا التطور؛ بل إنها كانت دائمًا من العوامل الحاسمة في إحداثه؛ فهي تُسْتخدم في الحديث اليومي، وفي التفكير، وفي الإحساس والتعبير عن المشاعر أيًّا كانت حدَّتها ودرجةُ تعقيدها. ولذلك فقد كانت أقربَ إلى الألسنة العربية من «اللغة الرسمية» التي يتعلَّمها الصبيان في المدارس، وكثيرًا ما فرضت نفسها على صورِ هذه اللغة وقوالبها، فغيَّرتها من وقت إلى وقت، طورًا بالإضافة (بإضافة ألفاظٍ وتراكيبَ جديدةٍ تقتضيها المعاني والمفاهيم الجديدة)، وطورًا بالتعديل (الذي كان القدماء يعتبرونه تحريفًا وتشويهًا)، وطورًا بتقديم المقابِل الجديد لشكلٍ من أشكال التعبير القديم أصبح مهجورًا لبُعد العهد به، ولظهور «سياقات» حيوية (حياتية) جديدة تتطلَّب العربيةَ العامية لا العربيةَ القديمة.

وهكذا نرى أن لدينا ثلاثة مستويات متداخلة للغة العربية؛ أولها هو مستوى اللغة الأدبية القديمة، وثانيها هو مستوى اللغة المعاصرة التي أصبحت تُستخدم في الأعمال الأدبية الحديثة والمترجَمة، وثالثها هو مستوى العربية العامية أو ما أسميته في دراستي بالإنجليزية «العربية المصرية Egyptian Arabic»، وهي تُستخدم أيضًا في الأعمال الأدبية الحديثة إمَّا وحدها أو في سياق اللغة المعاصرة. وقد كنتُ عرضت مذهبي في ترجمة النصوص الأدبية العالمية في مقدمتي لترجمة مسرحية شيكسبير «تاجر البندقية»، قائلًا إنني لا أعترف بأي حواجزَ تفصِل بين هذه المستويات فصلًا خارجيًّا؛ فالقارئ العربي ينتقل بينها بصورة طبيعية وتلقائية، كما قلت إنني أوجِّه عملي الأدبي إلى القارئ المعاصِر الذي يدرُج على دراسة القديم بينما يتحدَّث العامية، وبينما يستخدم في حياته اليومية العربيةَ المعاصرة التي تقبل شتَّى ألوان التعبير القديمة والعامية؛ لأنها تمثِّل التيارَ الرئيسي للعربية في عصرنا هذا. والآن أضيف إلى ما قلته أنني واجهتُ صعوبةً جديدة جعلتني أعيدُ النظر في بعض الأمور. وأعود إلى موضوع الترجمة الأدبية ومشاكلها؛ فكل نصٍّ أدبي يأتي معه بحصاد جديد من الأفكار. فما هي هذه الصعوبة الجديدة التي أتت بها «يوليوس قيصر»، وكيف حاولتُ حلَّها؟

الصعوبة ذاتُ شِقَّين؛ أمَّا الشِّق الأول فيتصل بمفهوم لغة الأدب، وأمَّا الثاني فيتعلَّق بنوعين من الترجمة الأدبية أستطيع من باب التيسير أن أصفَهما بفنِّ إيراد المقابِل (الذي يصل في حالات مثالية نادرة إلى مستوى المثيل)، وفن إيراد البديل إذا تعذَّر المقابِل، ويكفي أن أقول فيما يتعلَّق بالشِّق الأول، إنَّ القول بأن للأدب لغةً تختلف عن لغة «العلم» مثلًا أو لغة الفلسفة قولٌ مضلِّل، وينبغي ألا نقبلَه دون إدراك للتعميم الشديد الذي يشوبه. إذ ما المقصود بلغةِ الأدب؟ المقصود هو اللغة المستخدَمة في الأدب لا اللغةُ التي هي بطبيعتها أدب! وقد نشأ هذا الخلط بكل أسفٍ في فترة من فترات التحوُّل اللغوي كانت اللغة العربية تخطو فيه بحذرٍ من المستويات «القديمة» (والتي اتخذت صورًا بلاغية شكلية محضة) إلى المستويات «الحديثة»؛ إذ استطاع عددٌ من الكُتَّاب أن يبتدع أشكالًا لغويةً جديدةً قادرة على نقل التراث الفكري الحديث إلى العربية. وكان معظم هؤلاء الكُتاب رُوَّادًا في العلوم الإنسانية، وإن كان بينهم عددٌ غير قليل من العلماء، فمَن أجاد منهم اللغةَ العربية وصقل أسلوبه فنفى عنه العُجْمة والرَّكاكة عُدَّ من بين الأدباء، كأنما انحصر الأدبُ في الكتابة بأسلوب منمَّق؛ بل إن أحد أساتذة العلوم، وهو المرحوم الدكتور أحمد زكي، كان يُوصف بأنه أديب لأنه يكتب لغةً عربية ناصعة، ويستخدم أسلوبًا رشيقًا أصبح عَلمًا عليه (يفصِل فيه بين الصفة والموصوف، ويُكثِر من الابتداء بالنكرة، ويحافظ على التماثُل في بناء العبارات المتتالية، وما إلى ذلك). وأذكر أن أحد الكتب المدرسية كان يقول للطلبة: إن ثمَّة شيئًا اسمه الأسلوب «العلمي الأدبي»، وما المقصود إلا عرض المادة العلمية بلغةٍ سليمة وأسلوب فصيح.

وما زال الخلط قائمًا حتى يومنا هذا؛ فكلُّ مَن كتب العربية فأجادها كاتب، وكلُّ مَن تميَّز أسلوبه بعضَ الشيء (انظر كتاب الدكتور شكري عياد عن الأسلوب) اكتسب لنفسه صفةَ الأديب، مما دفع أحدَ الأساتذة من الجيل الماضي، وهو الدكتور توفيق الطويل، إلى كتابة دراسة كاملة عن «لغة الأدب ولغة العلم» يستند فيها إلى التعميمات التي أحذِّر منها، والتي قد يلجأ إليها المدرِّس لتبسيط الأمور للتلميذ، مثلما يفعل كلينت بروكس Cleanth Brooks في كتابه The Well-Wrought URN (الإناء المحكم الصنع)، (وقد عرضت رأيه في كتابي «النقد التحليلي»، مكتبة الأنجلو المصرية، ١٩٦٢م)، أو مثلما فعلتُ أنا في كتابي «الأدب وفنونه» (مكتبة الشاب، الثقافة الجماهيرية، ١٩٨٤م)، ولكن الناقد الجاد ينبغي أن يحذَر منها كلَّ الحذَر، خصوصًا وهو يعرِض لقضية كبرى مثل الترجمة الأدبية؛ فلم يَعُد من المقبول ولا المعقول أن نَعُدَّ كلَّ مَن يجيد العربية كاتبًا، ولا كُلَّ مَن ينمِّق أسلوبه أديبًا، انطلاقًا من الموازنة الخاطئة بين اللغة والأدب.

أفليس للأدب إذن لغةٌ تميِّزه عن لغة العلم؟ أفلا يستطيع الإنسان عندما يفتح كتابًا أن يستدِل من لغته على طبيعته؛ أيْ أن يحدُس دون تمحيص إن كان علميًّا أو أدبيًّا؟ والإجابة على هذا السؤال في صورتيه تتوقَّف على تعريفنا للأدب — فإذا قال قائل إن الأدب مادةٌ مكتوبة تتناول حياةَ الإنسان — أفكاره ومشاعره ونشاطه ومجتمعه وما إلى ذلك — فربما ردَّ عليه مَن يقول إن العلوم الإنسانية أيضًا تتناول حياةَ الإنسان وتشمل هذه الجوانب؛ فإذا قيل إن الهدف هو الذي يفرِّق بين الكتابة الأدبية والكتابة العلمية، أيْ أن الكتابة الأدبية تستهدف إثارة المشاعر والخيال وتنبيهَ الوعي لدى القارئ، فربما كان الرد هو أنَّ كتابة التاريخ مثلًا أو الكتابة الفلسفية يمكن أن تحقِّق هذا الهدف وإن لم ترمِ إليه! فإذا قيل إن للأدب صورًا معروفة من العبثِ إنكارُها، مثل القصيدة والقصة والمسرحية — وكلٌّ منها يتميَّز بخصائصَ شكلية تهدينا إلى طبيعتها الأدبية — كان الردُّ أن هذه الأشكال قد تخلو من جوهر الأدب كما حدَّده النُقَّاد على مرِّ الزمن؛ فقد تكون القصيدة نظْمًا فارغًا، أو نظْمًا علميًّا (كألفية ابن مالك)، وقد تكون القصة روايةً تاريخية تسرُد الوقائعَ الجافة، وقد تكون المسرحية حوارية باردة، أو فلسفية لا تُخرِج كوامنَ الشخوص ولا انفعالاتها! فإذا قيل إن أساس التفرقة في الواقع هو أن الأدب يتناول «الخيال»، أيْ أن «وقائعه» لم «تقع» وأن شخوصه وأحداثه «مبتكَرة» وغير «حقيقية»، كان الرد أنَّ سردَ الوقائع الخيالية قد يقصُر عن بلوغ مرتبة الأدب، وبأن رصدَ الواقع وتسجيله قد يبلُغ هذه المرتبة، بل وقد يفوق الخيال في إحداث تأثيره! فإذا قيل أخيرًا إن المسألة تتوقَّف في النهاية على «الطريقة» التي يُروى بها هذا أو ذاك، وعلى الأسلوب الذي يتخِذه الكاتب، كان الرد أن الطريقة وحدَها لا تكفي، وفي الصنعة «أداة» يستخدمها الفنان لنقل «رؤية» أو «تجربة» ولا مكان للأداة دون الرؤية، ولا للرؤية دون الأداة!

كيف نعرِّف الأدب إذن؟ وهل يتضمن تعريفنا له تعريفًا للُّغة التي تُستخدم في كتابته؟ لا شك أن معظم الملامح التي يشير إليها مَن يتصدَّى لتعريفِ الأدب يمكن رصدُها فيما اتُّفِق على أنه أدب، ولكن تعريفنا للأدب يتغيَّر على مرِّ العصور، وإن كان ثمَّة ثوابتُ في هذا التعريف إلى جانب المتغيرات! فهل اللغة من الثوابت أم من المتغيِّرات؟ إن النظرةَ الحديثةَ تؤكِّد أن استخدام اللغة في الأدب يختلف عن استخدامها في العلم مَثَلًا أو في الحياة اليومية رغم أن المادة اللغوية نفسها لا تتغيَّر! ولذلك وجدنا أن المعايير التي تُقاس بها الأنماط اللغوية المستخدَمة في الأدب تتفاوت بتفاوت العصور وتفاوت الأنواع الأدبية. مثلما اللغة بصفة عامة من عصر إلى عصر، ومثلما يتغيَّر مفهومنا للأدب من عصر إلى عصر. فما كان نُقَّاد الماضي يعتبرونه أدبًا في عصور الانحطاط (من نهاية العصر العباسي الثاني حتى فجر النهضة الحديثة) لم يَعُد له شأن كبير بيننا، وإن كُنَّا نجد في بعضِه ما يتَّفق وتعريفَنا للأدب! وكثيرٌ مما أهمله التاريخ الأدبي يعود «اكتشافُه» اليومَ وإقرارُه بيننا؛ فكلُّ عمل أدبي يُضيف إلى جسد الأدب العالمي ما يجعلنا نغيِّر من مفهومنا للأدب فنعيدُ تقييمنا للأدب القديم نفسِه على ضوء هذا المفهوم! وهذا هو ما قاله ت. س. إليوت T. S. Eliot في مطلع هذا القرن، وما عاد تيري إجيلتون Terry Eagleton — رغم عدائه السافر لإليوت — ليؤكده بعد نصف قرنٍ من الزمان! فالأدب ذو ألوانٍ متعددة وصورٍ لا حصرَ لها، وإخراج تعريف جامع مانع له من المحال! ولذلك فنحن لا نستطيع حصْر خصائص اللغة التي يُكتب بها الأدب؛ لأنها ليست لغةً واحدة، بل هي تتفاوت من نوع أدبي إلى نوع آخر، ومن عصرٍ اتَّخذ فيه هذا اللونُ شكلًا مُعيَّنًا إلى عصرٍ تغيَّر فيه هذا الشكل، ولأن العمل الأدبي نفسه قد يُضمَّن ألوانًا مختلفةً من المستويات اللغوية، بل قد تشترك بعضُ هذه المستويات مع لغة العلم التي شاع عنها جفافُها وجفاؤها وتحديدُ مدلولات ألفاظها وتَوحُّد هذه الدلالات ودقَّتها. إذ قد نجد في مسرحية أو رواية أو قصة قصيرة إشارةً أو تعبيرًا فلسفيًّا دقيقًا، أو ذِكرًا لحقائقَ علميةٍ مصوغة صياغةً دقيقةً لا تقبل الإيحاءَ ولا تَعدُّد الدلالات ولا ظلال المعاني (وهي الصفات التي كثيرًا ما نميِّز بها لغة الأدب عن لغة العلم). وقد نجد في مسرحيةٍ مشهدًا يدور الحوار فيه بصورة واقعية تحاكي لغة الحياة اليومية وتبدو في عُرْيها من ملامح «لغة الأدب» كأنها نقلٌ مباشرٌ من الحياة لم يُعْمِل الفنان فيه خيالَه أو قوَّته التشكيلية أو الإبداعية على الإطلاق، بينما هو في موقعه في المسرحية زاخرٌ بالدلالة، عامرٌ بالإيحاء، عميقُ المعنى والمبنى.

تنوُّعُ أشكالِ الأدب في العصر الحديث إذن، وتغيُّر تعريفِ الأدب تَبعًا لذلك، هو السببُ في تغيُّر مفهومنا للُّغة التي يُكتب بها الأدب أو ما كُنَّا نُسمِّيه «لغة الأدب»، ومعنى هذا — بإيجاز — أن اللغةَ المستخدَمة في الأدب لا تختلف عن لغةِ الحياة، وإن كانت بعضُ الأنواع الأدبية تتطلَّب مستوياتٍ خاصة من اللغة، خصوصًا ذلك النوع الأدبي الذي اتفقنا على تسميته بالشِّعر، ففي هذا النوع بالتحديد، أو في أنواع خاصة من هذا النوع بتحديدٍ أدقَّ، تختلف الأبنية اللغوية لفظًا وتركيبًا ودلالةً عن لغة الحياة العادية ليس فقط بسبب «النَّظم» (فالشعرُ كما أفهمه يُكتَبُ نظْمًا) وليس فقط بسبب القافية (فكثيرٌ من ألوان الشعر مقفَّاة)، ولكن بسبب «الضغط» أو التكثيف الذي تتميَّز به لغةُ ذلك الفن الأدبي الخاص.

ولكن هذا الاستدراك ليس استدراكًا مطلقًا هو الآخر! فالنظم ليس قالبًا خارجيًّا جاهزًا جامدًا تصبُّ فيه الكلمات، بل هو موسيقى لفظية تختلف باختلاف الكلام نفسه، ولو كان من نفس البحرِ ومن نفس اللغة، وقد ضربتُ أمثلةً لذلك في كتابي، النقد التحليلي، المشارِ إليه. وكذلك الحال بالنسبة للقافية وسائر «خصائص» لغة الشعر الغنائي من صورٍ فنية وحيَلٍ بلاغية، وما إلى ذلك. كما أن مفهومَ اللغة الشعرية، أي اللغة التي قد تختلف عن لغة الحياة العادية، قد تَعرَّض للهجوم والطعن هو الآخر (ولم يَعُد من القضايا التي لا خلافَ عليها) منذ بداية الحركة الرومانسية الإنجليزية، وإصرار شيخِ شعراء الرومانسية، وليم وردزورث، على إزالة الحواجز بين لغة الشعر Poetic diction ولغة النثر أو لغة الحياة اليومية، مُقَوِّضًا بذلك ركنًا ركينًا من أركان الكلاسيكية الجديدة، وقد تعرضتُ لهذا في مقدمتي لديوان الشاعر بهاء جاهين «الرقص في زحمة المرور»، ولا أعتقد أنه أصبح من القضايا التي تحتاج إلى إعادة الطرح.

فإذا تركنا الشعرَ الغنائي بمشاكله الكثيرة المتداخلة، وتأمَّلنا اللغةَ التي يُكتَب بها النثرُ الأدبي بمستوياتها المتعدِّدة لأدركنا الصعوبةَ التي يواجهها مترجِمُ العمل الأدبي الحديث إلى العربية؛ إذ إنه يواجه أحيانًا نصوصًا تتضمنُ مستوياتٍ لغويةً لا يمكن أن يتقبَّلها القارئ الذي اعتاد اللغةَ الجَزْلة التي اتسم بها تراثُ العربية الكلاسيكي، والتي يُعترفُ بها وحدَها أدبًا! وهو — ثانيًا — يواجه نصوصًا تتحدَّث فيها الشخصيات «لغاتٍ» مختلفة؛ إذ كثيرًا ما نرى لغةَ المؤلِّف وقد ابتعدت كلَّ البُعد عن المستويات اللغوية التي تستخدمها الشخصيات التي ابتدعها، سواء كان ذلك في المسرح أم في الرواية والقصة القصيرة، بل إن النُقَّاد يَعيبون على المؤلِّف توحيدَ اللغةِ التي يستخدمها هو ومَن يتحدَّث على ألسنتهم أو من وجهةِ نظرهم في تلك الفنون الأدبية. بل إن هذا العيب يصبح نقصًا بالغًا في المسرح حيث يتوقَّع الجمهور أن تختلِف اللغة التي يستخدِمها المثقفون عن لغة رجل الشارع مثلًا؛ فلا يُعقل في إطار المذاهب الفنية الحديثة أن يتحدَّث نجارٌ أو حدَّاد مثلًا — مهما بلغ امتيازُ الشخصي ومهما بلغت فطنته — نفسَ اللغةِ التي يتحدَّثها قاضٍ أو طبيب أو مهندس، ولا أقول الأستاذ المتخصِّص في علمٍ من العلوم.

وهذا هو مربِط الفرس كما يقولون! فمعنى تعدُّد مستويات اللغة (أو حتى اختلافها «النوعي») هو اختلافُ «أنواع» البلاغة التي نصادفها في كل مستوًى. فليس من المنطقي أن نتوقَّع نفس الصيغ «البلاغية» من فمِ الإسكافي والصحفي، أو من فمِ ربةِ المنزل وأستاذ الجامعة، وكذلك فنحن لا نتوقَّع نفس المنهج «البلاغي» في حوار سائق التاكسي مع راكب ريفي، وفي حوار مدير المصلحة مع موظَّف لديه! وقد تعرَّض لهذا الموضوع عدد من النُقَّاد الذين تخصَّصوا في مستويات اللغة، من أهمِّهم «إريك أورباخ» Eric Auerbach الألماني الذي كتب عدةَ دراسات قيمة عن مستويات البلاغة في الآداب الكلاسيكية القديمة وركَّز في كتابه Mimesis (أي المحاكاة) على التفاوت بين التراجيديا والكوميديا في اللغة والحيَل البلاغية المستخدَمة، وإن كانت معظمُ نماذجه من الأدب اللاتيني، كما تعرَّض له كلُّ مَن كتب عن لغة شيكسبير وتفاوُت مستوياتها وأساليبها البلاغية. ولكننا ما زلنا في العالم العربي نرفض الاعترافَ بأي مستويات بلاغية تخرُج عن علوم الأقدمين (علوم البيان والبديع والمعاني وما إليها)، وننهج في تحليلنا للبلاغة منهجًا شكليًّا ناقصًا؛ وأنا أقول إنه ناقص لأنه لم يتَّسع بعدُ بالدرجة الكافية ليشملَ الفنون الأدبية الجديدة التي عرَفها العالَم في العصر الحديث.

إن لدينا الآن تراثًا حافلًا بالعامية المصرية في المسرح يتضمَّن ضُروبًا منوَّعةً من بلاغة الحديث الحي التي تنبُع من السياق ومن تقابُل بواطن الشخصيات واصطدامها وتصارعها بعضُها مع البعض. وقد تبلُغ كلمة واحدة يقولها زائرُ القاهرة الريفي لسائق التاكسي درجةً من البلاغة لا مثيلَ لها في تراث العربية القديم، وقد نجِد في حوارِ ربَّة المنزل مع بائع الخُضَر من البلاغة ما تقصُر عنه الفصحى، وما لا يُترجَم إلى الفصحى إلا بشِق النفس، وقد فعل ذلك المازني في العديد من كتبه. ولا أريد أن أسهِب وأطيل؛ فالأنواع الأدبية الجديدة تتحدَّث عن نفسها، وتصويرُ الكاتبِ حوارًا بين نفرٍ من العامة أو تسجيلُه الدقيقُ لما يدور داخل نفوسِ الشخصيات قد يبلُغ درجاتٍ عُليا من البلاغة يندُر أن نجِدَها في شعرِ الأقدمين.

لقد اختلف معنى البلاغة في عصرنا عمَّا كان عليه في العصور الخوالي، وليس من المعقول أن نقتصرَ في تحليلاتنا البلاغية على ما أورده النُقَّاد العربُ الذين كانوا يستمدون أفكارَهم ممن سبقهم ويبنون أحكامَهم على شعر الماضي (أو على شعر زمانهم كما فعل الثعالبي في يتيمة الدهر) بعد أن اضطرتنا الأنواعُ الأدبية الجديدة إلى تعديل معاييرنا البلاغية.

•••

ينبغي أن ننفي عن أذهاننا إذن وجودَ لغة مستقلة للأدب؛ أيْ لغة موحَّدة يستطيع المترجِم أن ينقل إليها شتَّى الأعمال الأدبية العالمية، بل أن نؤكِّد ضرورةَ هضمِ المترجم للنص الأدبي أوَّلًا للتحقُّق من نوع اللغة المستخدَمة فيه ونوع البلاغة التي يستخدِمها الكاتب قبل الشروعِ في الترجمة. وهذا يؤدي بنا إلى السؤال الثاني، وهو الهدف من الترجمة ووسيلة تحقيقه، أيْ منهج الترجمة الذي يصل بالمترجِم إلى غايته.

أودُّ أن أقرِّر في البداية أن النص الأدبي المترجَم يُعتبر عملًا أدبيًّا جديدًا، وما أجدرَنا أن ننقُل إلى مكتبتنا العربية عيونَ الأدب العالمي، بحيث يمكن الرجوعُ إليها والاعتماد عليها مثلما يرجع الإنجليز مثلًا إلى ترجمات تشيخوف الإنجليزية عن الروسية التي أبدعتها كونستانس جارنيت، وترجمات إبسن الإنجليزية عن النرويجية مثلًا (التي أخرجها وليم آرتشر)؛ فهذه الترجمات قد أصبحت جزءًا لا يتجزأ من تراث الإنجليزية، وأذكر أن رواية «ذئب الأحراش» للكاتب الألماني «هيرمان هسه» لم يُكتب لها النجاح إلا عندما تُرجمت إلى الإنجليزية وانتشرت في أرجاء العالم المتحدِّث بالإنجليزية، حتى لقد بيع منها في الستينيات خمسةُ ملايين نسخة، وأثَّرت على جيلٍ كامل من الشباب الذي كان ما يزال يعاني من آثارِ ما بعد الحرب ويناقش القضايا الاجتماعية الساخنة التي برزت إلى السطح في تلك الآونة. وأذكر أنني كنت أقرؤها جنبًا إلى جنب مع روايات «جورج أورويل» (مؤلف رواية «مزرعة الحيوانات» ورواية «١٩٨٤» و«لتحيا زهرة الصبار» وغيرها) دون أن أشعر أن «هسه» ألماني و«أورويل» إنجليزي (واسمه الحقيقي إريك بلير، ولغته الأولى الإنجليزية)، كما كنت أقرأ مسرحيات الكاتبة الفرنسية «مارجريت دورا» المترجَمة إلى الإنجليزية بعد أن احتلَّت مكانًا راسخًا بين المؤلفين المسرحيين الإنجليز دون أن أشعُر بأن أصلها فرنسي.

إذا كان الهدف هو إخراج عمل أدبي جديد، فلا بد أن يقرِّر المترجِم (وهو في أحسن حالاته أديبٌ مبدع) ما إذا كان سيرمي إلى إخراج المقابِل — الذي قد يرقى إلى مستوى المثيل — أم إلى إخراج البديل؟ فما هو المقابِل وما هو البديل؟ إن المترجمين يلجئون عادةً إلى المقابِل أوَّلًا، فإذا تعثَّرت جهودُهم لجئوا إلى البديل. أمَّا المقابل فهو إيجادُ ما يقابِل الفن الأسلوبي المحدَّد في لغةٍ ما من فنون أسلوب اللغة المنقول إليها؛ فلغات الأرض الحية تشترك في بعض الخصائص التي يمكن الموازنةُ بينها وإقرار توازيها، مثل حيَل الصنعة العامة، كالوزن والقافية في الشعر. فالمترجِم الذي يطمح في إيجاد المقابِل لقصيدة غنائية Lyric (أي قصيدة قصيرة تتميَّز بالموسيقى الغلَّابة ويتحدَّث فيها الشاعر بضمير المتكلم ويستخدم فيها الصور البسيطة واللغة السلسة أيًّا كان الموضوع الذي يطرُقه)، يحاول أن يقدِّم لنا صورة عربية للقصيدة تتميَّز بخصائص النَّظم والقافية في العربية لا في الإنجليزية. وهذا لا شكَّ عسيرٌ، ولكنه ممكن. وربما اضطُر المترجِم هنا إلى الخروج عن حَرفية النص الأصلي لتقديم هذه المقابِلات، بل قد يقدِّم قصيدةً تبتعد في بعض تفاصيلها الهامشية عن القصيدة الأصلية للحفاظ على الوزن والقافية إذا كانت هاتان السِّمتان أهمَّ عناصر القصيدة الأصلية، بحيث إذا أُغفِلتا ضاعت القصيدة. ولكنَّ أهمية الوزن والقافية تتفاوت من قصيدةٍ إلى أخرى في الشعر الغنائي مع أنهما دائمًا من سِماته الأساسية، وهما يميزان هذا اللونَ من الشعر عن الشعر القصصي (كشعر الملاحم) أو الشعر المسرحي.
وأقربُ الأمثلة إلى ذهني ترجماتُ زاخر غبريال — وهو شاعر لم ينلْ حظَّه من الشهرة ولا نال كتابُه «روائع من الشعر الإنجليزي» (الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٧٩م) ما هو خليق به من تكريم — وها هي الأبيات الأولى من قصيدة Ode to a Nightingale (أنشودة إلى البلبل) التي أبدعها شاعر الإنجليزية جون كيتس:
My heart aches and a drowsy numbness pains
My sense, as though of hemlock I had drunk
Or emptied some dull opiate to the drains
One minute past, and Lethe-wards had sunk
ما لقلبي يتنزَّى سقمَا،
ولحسِّي بات يرعى الألمَا!
أتُراني قد شرِبتُ الموتَ سُمَّا،
أو رشفتُ الخمرَ نارًا حُمَمَا!
لحظةٌ مرَّت .. فإذا بي قد نسيتُ الكون طُرَّا،
وَمَضَتْ في عالَم الأحلامِ بي الدنيا.

لا شك أن قارئ الأبيات العربية سوف يستجيب على الفور إلى الإيقاع العربي الأصيل والقافية السلِسة غير المفتعلة بحيث يتشرَّب روحَ النص الأصلي وينفُذ إلى جوهره معنًى ومبنًى. وفي رأيي أنه لو لم يكن الدكتور زاخر غبريال شاعرًا مفطورًا ما استطاع أن يبدِع هذه الترجمة الرائعة التي تستند إلى مصطلح اللغة العربية وتقدِّم المقابِل الصادق حتى وإن اختلفت في كلمة أو كلمتين عن النص الإنجليزي.

ولقد حاولت منذ عدةِ سنوات أن أقدِّم المقابِل (الذي قد يرقى إلى المثيل) لقصيدة وردزورث الشهيرة التي يسميها النُقَّاد قصيدةَ «الرثاء الرفيع» وهي:

A slumber did my spirit seal;
I had no human fears:
She seemed a thing that could not feel
The touch of earthly years.

•••

No motion has she now, no force;
She neither hears nor sees,
Rolled round in earth’s diurnal course
With rocks and stones and trees.

فوجدت أن الفقرتين تمثِّلان التقابُل بين لحظتين من لحظات الوعي لدى الشاعر: الأولى لحظة نُعاس غفَل فيها عن الحقيقة، وهي أن البشر فانون، وذلك لفرطِ جمال الطفلة التي يرثيها أو لفرط حبِّه لها؛ إذ بدت له من طينةٍ غير بشرية، فمحت من نفسه مخاوفَ الفَناء، أو كما يقول بدا أنها لا يمكن أن تمسَّها يدُ السنين الأرضية! أمَّا اللحظة الثانية فهي لحظة صحو الشاعر على الحقيقة حين اكتشف أنها فقدت القدرةَ على الحركة، وفقدت معها قوةَ الأحياء، ولم تَعُد تسمع أو تُبصِر، بل أصبحت جزءًا من الأرض تدور معها دورتَها اليومية في صحبةِ الصخور والأحجار والأشجار (انظر شرْح هذه القصيدة في كتابي «الأدب وفنونه» المشارِ إليه، ص٦٣–٦٥).

وهذا التقابُل يتطلب فقرتين مستقلتين. أمَّا عن البحر المستخدَم فهو بحر الأيامب، الذي يتفاوت الشطر فيه طولًا بين أربع تفعيلات في الشطور الفردية وثلاث تفعيلات في الشطور الزوجية. وتأثير هذا التفاوت واضح؛ فالشطران الثاني والرابع من الفقرة الأولى مثلًا ينتهيان نهايةً مقتضَبة، وتنتهي الجملة نحويًّا عند نهاية كلٍّ منهما بينما يتصل الشطر الثالث نحويًّا بالشطر الرابع. وكذلك فإن القافية تختلف من فقرة إلى فقرة إلى الشطور الزوجية وتتصل إلى حدٍّ ما في الشطور الفردية. ولذلك حاولت مراعاةَ ذلك عند تقديم المقابِل بالعربية:

ختم النعاس على روحي وغيَّبها،
ومحا مخاوفَ البشر،
فبدت لعيني فتاة ليس تلمسها
يدُ السنين والقدَر.
فالآن قد سكنت والقوةُ اندثرت،
ومضى زمان السمع والبصر،
وغدت تدور ببطنِ الأرض دورتَها
كالصخر والأحجار والشجر!
وسوف يلاحظ القارئ زيادةَ كلمة «القدَر» في الشطر الرابع، وحذفَ كلمة «أرضية». وربما كان هذا من باب التفسير الخاص للنص (انظر مقدمتي لترجمة «تاجر البندقية»)، ولكن يضبط التوازي بين الشطرين الثاني والرابع في الوزن والقافية جميعًا. كما سيلاحظ القارئ حذفَ كلمة «اليومية» وصفًا لدورة الأرض في الشطر السابع من القصيدة، كما سيلاحظ تغييرَ الحرف «مع» في الشطر الأخير إلى حرف الكاف، وهذا يرجع ولا شك إلى الإحساسِ بأن الصحبة هنا تفيد التشبيه كما نصَّ على ذلك الناقد الأشهر أ. أ. ريتشاردز I. A. Richards في كتابه: فلسفة البلاغة Philosophy Of Rhetoric.

إننا إذن أمام قصيدة عربية جديدة تنقل الصورَ الأساسية والمفارقة، بل والصور الثانوية، في النص الأصلي في بناء شعري مستقل يعتمد على مصطلح اللغة العربية؛ فالترجمة لا تقول «ليس لديها الآن حركة ولا قوة» فهذا ركيك، ولا تقول «إنها الآن لا تسمع ولا تُبصِر» خشيةَ الإيحاء بالدلالة الدينية المعروفة إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ [مريم: ٤٢)]، قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: ٤٦]، لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك: ١٠]، والله هو السميع البصير. ولذلك فإن الترجمة تحاشت هذه الدلالة التي تضرب بجذورها في أعماق اللغة العربية، واختارت مصطلحًا ينقل المعنى دون أن يلقي بظلال لا داعي لها على الصورة.

ولكن أهم ما تتسم به الترجمة المقابِلة في نظري هو الموازنة في البحر المستخدَم. فالبيت الأول من أربع تفعيلات، وإن كان يختلف عن بحر البسيط التقليدي في أنه يوازي بين مستفعلن ومتفاعلن (أي بين تفعيلة الرجز وتفعيلة الكامل)، وكذلك البيت الثالث. أمَّا البيتان الثاني والرابع فهما يلتزمان بتفعيلة الرجز المزاحفة (متفعلن). وكذلك الشأن في الفقرة الثانية التي تحافظ على التوازي بين الشطور رغم هذه الحرية في فهْم الخلاف والاتفاق بين الرجز والكامل (انظر كتاب «مدخل رياضي إلى العروض العربي» للدكتور أحمد مستجير، القاهرة، ١٩٨٦م).

وينطبق هذا على سائر ألوان الشعر الغنائي؛ إذ أحيانًا ما يُضطر المترجِم إلى ما درجنا على تسميته ﺑ «التصرف»، أيْ مقابلة كل بيت ببيتين، أو كل بيتين بثلاثة، أو كل ثلاثة بأربعة أو خمسة، وهلم جرًّا، حتى يُخرِج الإيقاع الشعري المقابل. ولا أقصد بالإيقاع هنا «البحر» المحدَّد الذي يستخدمه الشاعر، بل الموسيقى الداخلية والخارجية جميعًا، وهو هنا — كما قلت من قبل — إيقاع اللغة العربية لا الإنجليزية ولا إيقاع أيٍّ من اللغات المنقول منها. وسوف أورِد هنا عدةَ نماذج لترجمة قصيدة واحدة، هي السونيت رقم ١٨ للشاعر وليم شيكسبير. وهذا هو النص الإنجليزي أوَّلًا:

Shall I compare thee to a summer's day?
Thou art more lovely and more temperate!
Rough winds do shake the darling buds of May,
And summer's lease hath all too short a date.

•••

Sometimes too hot the eye of heaven shines,
And often is his gold complexion dimmed,
And every fair from fair sometimes declines,
By chance, or nature's changing course untrimmed.

•••

But thy eternal summer shall not fade
Nor lose possession of that fair thou owest,
Nor shall death brag thou wanderest in his shade,
When in eternal lines to time thou growest.

•••

So long as men can breathe, or eyes can see,
So long lives this, and this gives life to thee.

ولن أرهق القارئ بتحليله والتعليق عليه، ولكنني سأورد النصوص الثلاثة (وكلها منظوم، وكلها يستخدم ضربًا من القافية، وكلها يحاول الإبقاء على الصور الأصلية في قصيدة شيكسبير)، ثم أعلِّق عليها تعليقات سريعة:

١

هلَّا أقول بأن فتونكِ أشبه شيء بصيف جميل؟
فأنتِ تفوقينه فتنةً ويزدان فيك لطيف اعتدال،
تهزُّ الرياح زهور الربيع،
وللصيف ضيفٌ قصير المُقام،
وحينًا تَحرَّقُ عينُ السماء،
وتشحب حينًا كأهلِ السقام،
ولا بد يومًا لكل بهاءٍ وداعُ البهاء،
فإن لم يكن عرَضًا موته، فشوط الحياة أسير الفناء.
على أن صيفك لن يذبلا، فذلك خُلِّدَ لا للبِلى،
وما فيكِ من رونقٍ مِلْكُه، إليه انتهى لا لِكَيْ يَفْصِلا،
ولن يفخَر الموتُ أن قد رآكِ تَجُرِّينَ خَطْوَكِ في ظلِّه؛
فأنتِ قصيدي الذي لن يزول،
فما دام في الكون خَلْقٌ يرون ويسري بهم نَفَسٌ من حياة،
فذلك يحيا وتسري لنفسكِ منه الحياة.
(حسين دباغ، مجلة أصوات، ١٩٦١م)

٢

ألا تشبهين صفاءَ المصيف؟
بلى أنت أحلى وأصفى سماءً!
ففي الصيف تعصِف ريحُ الذبول،
وتعبثُ في برعمات الربيع،
ولا يلبث الصيف حتى يزول.

•••

وفي الصيف تسطعُ عينُ السماء،
ويحتدِم القيظُ مثل الأتون،
وفي الصيف يَحجُب عَنَّا السحابُ
ضياءَ السما وجمالَ ذُكاء،
وما من جميل يظل جميلَا،
فشيمةُ كل البرايا الفناء.

•••

ولكنَّ صيفك ذا لن يغيب،
ولن تفقدي فيه نورَ الجمال،
ولن يتباهى الفناءُ الرهيب
بأنك تمشين بين الظلال
إذا صغتُ منكِ قصيدَ الأبد!

•••

فما دام في الأرضِ ناسٌ تعيش،
وما دام فيها عيونٌ ترى،
فسوف يردِّد شعري الزمان،
وفيه تعيشين بين الورى.
(محمد عناني، صحيفة المساء، ١٩٦٢م)

٣

مَن ذا يقارن حسنكِ المغري بصيفٍ قد تجلَّى؟
وفنون سحركِ قد بدت في ناظري أسمى وأغلى،
تجني الرياحُ العاتيات على البراعمِ وهي جذلى
والصيف يمضي مسرعًا؛ إذ عَقدُه المحدودُ ولَّى.

•••

كم أشرقت عينُ السماء بِحرِّها تتلهبُ!
ولكم خبا في وجهها الذهبيِّ نورٌ يغرب!
لا بد للحُسْن البهيِّ عن الجميل سيذهبُ؛
فالدَّهْرُ تغييرٌ وأطوارُ الطبيعةِ قُلَّبُ.

•••

لكنَّ صيفَكِ سرمديٌّ ما اعتراه ذبول،
لن يفقدَ الحُسْنَ الذي مُلِّكْتِ فهو بخيل،
والموتُ لن يزهو بظلِّكِ في حماهُ يجول،
ستعاصرين الدَّهْرَ في شعري وفيك أقولُ:

•••

ما دامتِ الأنفاس تصعدُ والعيونُ تُحَدِّقُ
سيظل شعري خالدًا وعليكِ عُمْرًا يغدقُ.
(فطينة النائب، من كتاب «فن الترجمة» للدكتور صفاء خلوصي، ١٩٨٦م)

ولا أريد الإفاضةَ في المقارنة؛ فأنا أفضِّل الترجمة الأخيرة رغم إضافاتها الكثيرة إلى نصِّ شيكسبير بسبب إيقاعها المتئد (الكامل)، ورصانة مصطلحها العربي، ولا غرو؛ فالمترجمة شاعرة مفطورة، ولا شكَّ أنها أفادت كثيرًا من ممارستها فنَّ الشعر في التحكُّم في عددِ الأبيات وإحكام القافية. وأعترف أنني تردَّدت طويلًا قبل أن أدرج ترجمتي التي تمثِّل مرحلةً مبكِّرةً من مراحل عملي في هذا الحقل. (إذ إنني كنت حريصًا كلَّ الحرص على إخراج نصِّ شيكسبير دون زيادة أو نقصان، مما استتبع زيادةَ عدد الأبيات وعدم انتظام القافية)، ولكنني رأيت إدراجها آخرَ الأمر حتى يستطيع القارئ المقارنةَ وإدراكَ مرماي من عرْض نظرتي الخاصة بالمقابل الذي قد يرقى وقد لا يرقى إلى مرتبة المثيل. وإن كان ثمَّة مأخذٌ على أيٍّ منها فهو عدمُ استقامة وزن البيت الأول في ترجمة حسين دباغ، وربما كان السببُ خطأً مطبعيًّا.

نشدانُ المقابِل إذن معناه محاكاة الصفات الشكلية والأسلوبية للعمل المترجَم إلى جانب التقيُّد بالمعاني والصور، مما يتطلَّب الخبرةَ الواسعة بالطرائق الأسلوبية في اللغة المترجَم إليها، ويقتضي قدرًا من الموهبة في الصياغة والتركيب.

ولكن ضروب الشعر الأخرى — أي الشعر القصصي والدرامي — قد لا تتطلب مثل هذا العَناء؛ لأن الدور الذي يلعبه الوزن والقافية فيها محدودٌ إلى درجة كبيرة، بل إن أهم ألوان الشعر المستخدَم فيها في الأدب الإنجليزي مثلًا هو النظم غير المقفَّى Blank Verse وهو نظمٌ لا تلعب فيه الموسيقى دورًا كبيرًا، وكثيرًا ما يحسُّ القارئ أنه أقربُ إلى النثر منه إلى النَّظم. فمعظم نماذجه تعتمدُ على النظام الكَمِّي؛ أيْ على تماثُل عدد المقاطع في كل بيت لا على الانتظام الإيقاعي المُحكَم الذي نشهده في الشعر الغنائي، وذلك رغم أن عمودَ النظم الإنجليزي نبريٌّ وليس كميًّا. وأعتقد أن هذه مسألة تحتاج إلى إيضاح.
إن النَّظم في الأدب الأوروبي الحديث (أي منذ نشوء اللغات الأوربية المستقلة التي نعرفها اليوم) يختلف عن النَّظم في اللغات القديمة — كاليونانية واللاتينية — في أنه لا يعتمد على عدد المقاطع وطولها، بل على تتابُع المقاطع المنبورة وغير المنبورة في كل بيت، بحيث تشكِّل كلُّ مجموعة من هذه المقاطع تفعيلاتٍ يسميها الإنجليز «أقدامًا» (feet) باعتبارها «مقاييس» يُقاس بها النَّظم. وأشهرُ البحور المستخدَمة في النظم الإنجليزي قاطبةً هو بحر الأيامب المستمَد من تراث اليونانية القديم، ويتكوَّن من مقطعين؛ الأول غير منبور والثاني منبور، ولكن أنواع الزحاف التي تدخل على هذا البحر قد تطمس الإيقاعَ المنتظِم الذي يتميَّز به الشعر الغنائي، بل كثيرًا ما يَحار القارئ في تحديد نوع البحر المستخدَم لزيادة الزحافات في الشطر الواحد عن التفعيلات المستقاة من البحر الأصلي! ولدى الإنجليز بحورٌ أخرى بطبيعة الحال، ولكنَّ كثرة استخدامها في سياق بحر الإيامب يتيح للشعراء كسرَ «الانتظام» (فهم يعتبرون الانتظام رتابةً ويسعون جادين للتغلب عليه)، وتجعل المحكَّ الوحيد هو عدد التفعيلات في البيت الواحد؛ أي العودة إلى النظام الكمي.
وقد خرج على هذا النظام بعضُ الشعراء المحدثين مثل ت. س. إليوت، ومَن تبِعه من شعراء القرن العشرين، فاستحدثوا نظامًا جديدًا يعتمد على عدد المقاطع المنبورة في البيت الواحد، بغضِّ النظر عن عدد المقاطع في البيت كله، وإن كان هذا النظام هو المتَّبع في شعر الإنجليزية القديمة Old English كما خرج عددٌ لا يُحصى من الشعراء على طرائق النظم التقليدية وضروب القافية المألوفة حتى أتى فيليب لاركن Philip Larkin (المتوفى عام ١٩٨٦م) وأعاد صور النظم التقليدية والتقيُّد بالقافية.

ولذلك فعندما يتصدَّى كاتب أو شاعر لترجمة عملٍ شعري قصصي أو درامي فإنه لا يواجه الموسيقى الغلَّابة التي يواجهها في الشعر الغنائي، بل أحيانًا ما لا يواجه الإيقاعات المألوفة في الشعر بصفة عامة؛ فشعراء الإنجليزية الذين يكتبون الشعرَ القصصي أو الدرامي يتعمَّدون إخفاءَ موسيقى شعرهم وإخضاعها للمواقف القصصية أو الدرامية حتى ما تكاد تبين، وهي لا شك ذات أهمية ثانوية بالقياس إلى قدرة اللغة على تصوير الحالات النفسية للشخصيات، وإبراز أدق انفعالاتها وأفكارها؛ بل إن كبار كُتَّاب المسرح يُجهدون أنفسهم حتى تَخْفُت موسيقى الشعر وتتوارى ويفضِّلون استخدام أنواع من النظم أقرب إلى النثر، بل استخدام النثرِ نفسه في المسرحية الشعرية، حتى لا تجرف الموسيقى القارئ حين تسيطر على أذنه، ومِن ثَمَّ تتحكم في إيقاعات نفسه.

ومن أهم وسائل إخفاء الإيقاع الشعري في الإنجليزية أو «إخفائه» — إن صحَّ هذا التعبير — إلغاءُ القافية تمامًا، وعدم إنهاء العبارة عند انتهاء البيت — أي كسر وحدة البيت — بحيث تستمر الجملة في التدفُّق من سطر إلى سطر (فالسطر هو المقابل الإنجليزي للبيت أو للشطر في الشعر العربي)، وربما انتهت الجملة في منتصف السطر وبدأت عنده جملةٌ جديدة. ومنها عدمُ التقيُّد بعدد التفعيلات في البيت الواحد، ومنها تنويع البحور المستخدَمة، والإكثار من الزحاف حتى لكأن السامع يسمع نثرًا، وهذه جميعًا خصائص يستطيع الشعر العربي الجديد — أو الشعر المرسَل — أن يقدِّم المقابل لها والذي قد يرقى إلى مرتبة المثيل.

وتتفاوت الأعمال المسرحية الشعرية أيضًا في مدى اتكائها على هذا النوع من النظم الذي يمكن أن نطلق عليه النظمَ الدرامي، وتتفاوت في درجة تحرُّرها من الإيقاع الشعري كما تتفاوت أجزاؤها المختلفة في درجة اتكائها عليه أو تحرُّرها منه. فشيكسبير دائمًا ما يُخضِع لغتَه لمقتضيات فنِّه الدرامي، وهو — كما ذكرت في مقدِّمة ترجمتي لمسرحية تاجر البندقية — لا يتقيَّد بقوالب النظم الخارجية، ويكاد يبتكر أنواع الموسيقى التي تتطلبها مواقفه الدرامية. وقد حاولت عندما شرعتُ في ترجمة «يوليوس قيصر» أن أحاكي النظم الذي اختاره، أو أن أمزُج بين النظم والنثر، مثلما فعلتُ في ترجمة «روميو وجولييت» (دار غريب، ١٩٨٦م)، ولكنني كنت دائمًا أصطدم بعقبةٍ كأْداء، وهي أنني لا أستطيع أن أضحي بأي جانب من جوانب اللغة المستخدَمة تركيبًا أو تنسيقًا أو ألفاظًا في سبيل الإيقاع الشعري؛ فلغة المسرحية تسيطر عليها دقةٌ نادرة قد تفسدها إعادة ترتيب العبارة أو تركيب الجملة نُشْدانًا للإيقاع الشعري. ويسيطر على المسرحية — خصوصًا في المواقف الدرامية الحرِجة — منطق المتآمرين ومنطق الثأر المدروس المتأني، حتى حين يبدو أن الشاعر قد أطلق العِنان لمشاعر الشخصيات وجعلها تُخرِج ما في باطنها دون حساب أو تدبير. ولذلك فقد فضلتُ آخر الأمر أن أُقلع عن محاولة الترجمة المنظومة وأن أستعيض عنها بإيقاع اللغة العربية الذي يتفاوت من موقفٍ إلى موقف، ولكنه يتجاوب في كل حالةٍ مع إيقاع الإنجليزية المنظومة؛ فهو في رأيي يمثِّل «البديل» لنظم شيكسبير.

وقد مكَّنني هذا «البديل» من أن أضبط الصياغةَ العربية لأُخرِج المقابل (الذي كثيرًا ما يصل إلى درجة المثيل) للجوهر الدرامي للمسرحية الذي ينسجه شيكسبير نسجًا بارعًا حاذقًا، لا في الحوار فحسب، ولكن أيضًا في البناء المحكَم. فكلُّ ما تقوله الشخصيات قائم على تفكير دقيق ومرسوم بتأنٍّ وتمهُّل، حتى في المشاهد التي تلتهب فيها المشاعر ويلوح لغير الخبير أنها كُتبت عفو الخاطر.

أمَّا السِّمة الأولى للغة المسرحية وهي تفاوتُ مستوياتها بين النظم والنثر، وبين اللغة الرفيعة (أي الأسلوب الرفيع) واللغة العامية، فيكفي للتدليل عليها أن نورد فقراتٍ محدودة من المشهد الافتتاحي الذي يتضمَّن حوارًا يمزج بين هذه المستويات جميعًا:

  • Flavius:
    Hence! home, you idle creatures, get you home.
    Is this a holiday? what, know you not
    Being mechanical, you ought not walk
    Upon a labouring day without the sign
    Of your profession? Speak, what trade art thou?
  • First Citizen:
    Why, sir, a carpenter.
  • Marcellus:
    Where is thy leather apron and thy rule?
    What dost thou with thy best apparel on?
    You, sir, what trade are you?
  • Second Citizen:
    Truly, sir, in respect of a fine workman,
    I am but, as you would say, a cobbler.
  • Marcellus:
    But what trade are thou? Answer me directly.
  • Second Citizen:
    A trade, sir, that I hope I may use with a safe conscience;
    Which is, indeed, sir, a mender of bad soles.
  • Marcellus:
    What trade, thou knave? Thou naughty knave, what trade?
  • Second Citizen:
    Nay, I beseech you, sir, be not out with me; yet if you
    be out, sir, I can mend you.
  • Marcellus:
    Thou art a cobbler, art thou?
  • Second Citizen:
    Truly, sir, all that I live by is the awl:
(I. i. 1–27)

فالواضح هنا أن الضابطين فلافيوس ومارسيلوس يجنحان إلى النظم الكمِّي في معظم سطور حوارهما، بينما يلتزم الصانعان (النجار والإسكافي) بالنثر، ولكن الجميع يتحدَّث لغةً عامية تتدنَّى في حديث الإسكافي إلى مستوى البذاءة والسوقية — مما يغضِب الضابط غضبًا شديدًا — وترتفع في حديث الضابط إلى مستوى الأسلوب (الرسمي). ومعنى الأسلوب «الرسمي» هو الأسلوب الذي يفترض «مسافةً ما» بين المتحدِّث والسامع، بحيث لا تَشيعُ فيه رنةُ الألفة وما يصاحبها من ظواهر أسلوبية معروفة مثل استخدام ألفاظٍ بعينها أو بعض التراكيب العامية الشائعة أو الخروج عن النُّظُم الصحيحة لبناء العبارات، وفقًا لقواعد النحو في الفصحى أو اللغة المكتوبة، لغة التفكير العلمي والأدب «الرسمي» وما إلى ذلك. كما أن الضابطَين يتحدَّثان بالنَّظم الحُر الذي وصفتُه آنفًا، ويُلاحَظ أنه يقترب كثيرًا من أنماط النَّظم الحديثة التي تعتمد على عدد المقاطع المنبورة في البيت الواحد رغم إبقاء شيكسبير على القاعدة الكمية؛ أي على المقاطع العشرة في معظم الأبيات. وخذ نموذجًا على ذلك أول حديثٍ للضابط مارسيلوس:

Where is thy leather apron and thy rule?
What dost thou with thy best apparel on?
You, sir, what trade are you?
فالملاحَظ هنا أن كل بيت يتضمَّن أربع مقاطع منبورة رغم أن كُلًّا من البيتين الأول والثاني يتكوَّن من خمس تفعيلات (عشرة مقاطع)، بينما لا يزيد الثالث على ثلاث تفعيلات؛ أيْ ستة مقاطع فحسب! وإذا نظرنا إلى نظام النَّبر هنا فسوف يتضح لنا مدى تحرُّر شيكسبير من قيود الإيقاع التقليدية لبحر الأيامب؛ إذ يُدخِل فيه عددًا من ألوان الزحاف تكاد تخرج به عن طبيعته تمامًا؛ فالبحر غير المزاحف يتكوَّن من خمس وحدات (تفعيلات) تتكوَّن كلٌّ منها من مقطعين؛ الأول غير منبور Unstressed والثاني منبور Stressed ويُرمَز له هكذا (من اليسار إلى اليمين):
وقد تدخل عليه ضروب الزحاف فتحل تفعيلات من بحور أخرى فيه أهمُّها: بحر التروكي Trochee (وتفعيلته عكس الأيامب؛ أي ) وبحر السبوندي Spondee (مقطعان منبوران ) والبيريك Pyrrhic (مقطعان غير منبورين u u) أو الأنابيست Anapaest (مقطعان غير منبورين يتلوهما مقطع منبور ). وإذا رصدنا التركيبَ الإيقاعيَّ للأبيات الثلاثة خرجنا بما يلي:
معنى هذا أن استخدم شيكسبير لتفعيلاتٍ من بحور أخرى (وهو ما يوازي الزحاف لدينا في العربية) لم يؤثِّر على عدد المقاطع المنبورة في كل بيت، وهي أربعة في كل سطر، رغم تفاوت عدد المقاطع في كل بيت واختلاف جرسه وإيقاعه العام؛ أي أنه كما ذكرت يقترب في هذا من طريقة الإيقاع النبري Stress rhythm الذي أحياه ت. س. إليوت عن الإنجليزية القديمة. وشيكسبير يستخدم هذا بحِذْق شديد؛ فهو يجعل مارسيلوس يعمد بعد إجابة الإسكافي إلى تنويع آخر على نفس البحر مضيفًا مقطعًا إلى المقاطع العشرة ومستخدمًا تفعيلةً من بحر الأنابيست ():

مع الإبقاء على عدد المقاطع المنبورة الأربعة، وذلك قبل أن يعود إلى صورة بحر الأيامب المنتظمة في البيت التالي له:

وقبل أن يزيد تفعيلة كاملة في البيت التالي له بحيث يصبح البحر سكندريا؛ أي يتكوَّن من ست تفعيلات (ومقطع زائد أيضًا):

وأخيرًا يعود إلى البحر الثلاثي المزاحف:

وإن كان بعض النُقَّاد يميلون إلى اعتباره رباعيًّا حُذف منه آخرُ مقطع غير منبور؛ أي أنه يجب أن يُعتبر هكذا:

والواقع أنني لم أكن أريد الإفاضةَ في التحليل العروضي لهذه الأبيات، وإنما دفعني إليها افتقار المكتبة العربية إلى ما يشرح الفروق بين النَّظم الإنجليزي والنَّظم العربي، وهي فروق لا مناص من الإحاطة بها لمَن يتصدى لترجمة الشعر. والغاية التي أسعى إليها هي باختصار إيضاح مدى الحرية التي يتمتع بها الشاعر المسرحي الإنجليزي والتي من المحال أن تتحقَّق في العربية؛ إذ إن شيكسبير هنا كاتبٌ مسرحيٌّ في المقام الأول، وهو يتوسَّل بضروبٍ منوعةٍ من النظم للاتكاء على معانٍ خاصة بالموقف الدرامي ولا يمكن إبرازها إلا عن طريق التغيير المتواصل للبحور والإيقاعات الداخلية من خلال الزحاف والعلل. ويكفي أن ينظر القارئ إلى السطور الافتتاحية للمسرحية (التي يقولها الضابط فلافيوس) ليدرك مرماي. فالسطر الأول يتكون من خمس تفعيلات تتضمن ستة مقاطع منبورة، والعبارة الثالثة التي تبدأ في منتصف السطر الثاني لا تنتهي إلا في السطر الخامس، وتتفاوت في السطور عدد المقاطع المنبورة تفاوتًا كبيرًا!

فإذا انتقلنا إلى أحاديث العامة، ويمثلهم هنا المواطنان الأول والثاني، أي النجار والإسكافي، وجدنا أن شيكسبير يستخدم النثر من البداية إلى النهاية، مع ما وصفته بالتدنِّي إلى درجة السوقية والبذاءة. وإذا كان الهدف الذي وضعته نُصْب عينَي في البداية (وأرجو أن يكون نُصْبَ عَيْنَيْ كُلِّ مترجم أدبي أيضًا) هو إيجاد المقابل الذي قد يرقى إلى مستوى المثيل، فربما كانت العامية المصرية أفضل مستويات العربية المتاحة لترجمة هذه العبارات، ولكنني اتبعت في ترجمة المسرحية كلها لغةً عربية معاصرة تستطيع أن ترقى إلى مصافِّ اللغة الرفيعة وأن تهبط إلى بعض مستويات العامية الدنيا، ولذلك فأنا نشدتُ البديل في الحالين، أي في ترجمة النظم المسرحي بنثر فصيح أعتبره بديلًا مقبولًا، وترجمة النثر المسرحي العامي بنثر مبسط يستخدم بعض المفردات ذات الدلالة الحية في العامية المصرية باعتباره بديلًا مقبولًا. وأرجو أن يطَّلع القارئ على ترجمة هذه السطور الأولى من المسرحية في النص المنشور هنا ليدرك ما أعنيه.

وَلْأَعُدِ الآن إلى ما ذكرته عن دقة الصياغة اللغوية في نص شيكسبير والتي قد تَفْسَدُ إذا اخترتُ الترجمة المنظومة، وليأذنْ لي القارئ أن أُعيدَ ما ذكرتُه عن «التفكير الدقيق المرسوم بتأنٍّ وتمهلٍ، وهو الذي يعتبر الأساس لكلِّ ما تقوله الشخصيات حتى حين تلتهب المشاعر ويلوح لغير الخبير أن كَلامَها يصدُر عفو الخاطر، وسأضرب لذلك مثلًا من أهم مشاهدِ المسرحية، وهو المشهد الثاني من الفصل الثالث الذي كثيرًا ما يُقدَّم وحده باعتباره «قلب» المسرحية، ليس فقط لأنه يقع في منتصفها، بل لأنه أيضًا محور الارتكاز الذي يتغير عنده الحدث، حين يبدأ الانتقام لقيصر من قاتليه.

يبدأ المشهد بداية نثرية؛ إذ يتخلى شيكسبير عن النظم كي يحكم بناء المنطق الذي يتحكَّم في بناء المشهد. ولذلك تجد أن الخطبة الأولى التي يلقيها بروتس — وطولها سبعة وعشرون سطرًا — منثورة، وبعدها يقاطعه أحد الأهالي بسطرٍ قصير، ثم يستأنف خُطبته ويتحدَّث على مدى أربعة عشر سطرًا أخرى نثرًا، وبعد ذلك يتحدَّث الأهالي في سطور منفصلة ومُقطَّعة يعربون فيها عن اتباعهم لبروتس حتى السطر ٧٨، وعندها يتكلم أنطونيو مع الأهالي حتى آخر المشهد تقريبًا (حتى السطر ٢٥٤)، وهو يستأثر في الحقيقة بما يربو على مائة وثلاثين سطرًا تتخللها نداءاتُ الأهالي وصيحاتهم.

ولكن ماذا يقول أنطونيو في هذه السطور الكثيرة؟ إن خطبته الطويلة التي تستغرق صفحاتٍ متوالية مقسَّمة تقسيمًا دقيقًا بين القسم الأول (من ٧٤–١٠٩) الذي يضع فيه أنطونيو بعناية أسسَ إدانته لبروتس وعصبته، وبين القسم الثاني (١٢٠–١٣٩) الذي يلقي فيه بخبر وصية قيصر حتى يثير فضول الجمهور، والقسم الثالث (١٥١–١٧٠) الذي يعتبر نقطة تحوُّل من الوصية إلى التركيز على بشاعة الجريمة التي ارتكبها الخونة، وذلك في القسم الأخير (من ١٧٠–١٩٩) حيث تتحوَّل مشاعر الجمهور تمامًا إلى مساندة أنطونيو والعِداء السافر لبروتس وكاشيوس وسائر المتآمرين، وبعد عددٍ من الصيحات التي يُعرِب فيها الجمهور عن عِدائه لزمرة الخونة (٢٠٠–٢١٠) يعود أنطونيو إلى التلاعبِ بمشاعرِ الجمهور لكي يحوِّل استياءهم إلى موقفٍ صُلب، أي إلى عمل إيجابي — وهو يحسُب لكل كلمة حسابها في هذا الخطاب — حتى يصل (٢١١–٢٣٢) إلى كلمة «الثورة» التي يردِّدها الشعب؛ أي الانتقام لمقتل قيصر، وعندها فقط يعود إلى ذكرِ الوصية التي يكون الجمهور قد نسيها حتى يضمن ولاءه التام (٢٣٧–٢٥٤) فيسود الهرج والمرج، ويدخل رسول أوكتافيوس فيجد أن أنطونيو واثقٌ كلَّ الثقة من قدرة «كلماته» على أن تفعل فعلها في نفوسهم! (٢٥٤، حتى آخر المشهد).

إن هذه الخُطبة الطويلة مبنيةٌ بناءً هندسيًّا يتراوح بين الصعود وبين الهبوط — كما أوضحت آنفًا — أي أن أنطونيو يحسُب حسابًا لكل كلمة يقولها، ويعرف معرفةً وثيقة أين يضعها، وفي أي سياق بالتحديد؛ ولذلك فالنَّظم هنا ثانوي، بل هو إطار يلتزم به البعض (مثل أنطونيو) ولا يلتزم به الآخرون (مثل بروتس والأهالي) وعدد السطور في هذا المشهد مقسَّم بين المنثور والمنظوم تقسيمًا شبه متعادل، كما أن النظم الذي يستخدمه أنطونيو لا يضم في ثناياه ما اعتدناه من شاعرية شيكسبيرية؛ فهو يُكثِر من استعمال الزحاف والرخص الشعرية إلى حد الاقتراب من موسيقى النثر، كما شرحت ذلك من قبل، وهو يستخدم لغةً منطقية تخلو من الصور الشعرية، وليس من قبيل المصادفة أن تخلو هذه السطور جميعًا من الاستعارات الغلَّابة أو المهيمنة dominant metaphors؛ أي الاستعارة التي تلقي بظلالها على الحديث برُمَّته وتشكِّل إطارًا نفسيًّا ومجازيًّا له! كل ما هنالك هو استعارات محدودة ومقصورة على موضعها في السياق.

ولنأخذ مثلًا السطور من ٢١٩ إلى ٢٢٥؛ إذ يقول أنطونيو:

I am no orator, as Brutus is;
But as you know me all, a plain blunt man,
That love my friend; and that they know full well
That gave me public leave to speak of him
For I have neither wit, nor words nor worth,
Action, nor utterance, nor the power of speech
To stir man’s blood: I only speak right on:
(III. ii. 219–225)

ففي هذه السطور السبعة يلخِّص لنا أنطونيو صفات الخطيب المصقع في زمنه، وهي الخصال الست المعروفة:

(البديهة الحاضرة) (1) Wit
(الألفاظ المنتقاة) (2) Words
(المكانة المرموقة) (3) Worth
(براعة الأداء) (4) Action
(حسن الإلقاء) (5) Untterance
(ذلاقة اللسان) (6) Power of speech

وقد أجمع النُّقَّاد على أن شيكسبير كان يتعمد وضْعها في هذا الترتيب ليبين أن الصفة الأولى هي البديهة الحاضرة، وهي الصفة التي تميِّز أنطونيو أكثرَ من غيره من الشخصيات، ويليها حسن اختيار الألفاظ ومكانة الخطيب في المجتمع ثم براعة أدائه التمثيلي أثناء الخُطبة وحسن إلقائه، وأخيرًا ذلاقة اللسان أو قدرة المتحدِّث على إثارة مشاعر الناس! والواضح أن هذه الصفات التي ينكرها أنطونيو في نفسه هي أهم صفاته هو، مع أنه ينسبها إلى بروتس؛ أي أنه يثبتها حين ينكرها وبهذا الترتيب!

ومعنى ذلك ببساطة هو أن أيَّ تغيير في ترتيب الألفاظ والعبارات سوف يقلل من تأثيرِ هذه الفقرة، التي تبدأ بإنكار صفةِ الخطيب المصقع، وتنتهي بادعاء الحديث العفوي! وها هي إذن ترجمتي لها، وأعتقد أنها أقرب ما يكون إلى هذا البناء:

لست خطيبًا مفوَّهًا مثل بروتس،
لكنني — كما تعرفون جميعًا — رجل بسيط ساذَج،
يُخلِص الحبَّ لصديقه، وهم يعرفون ذلك خيرَ المعرفة —
مَن سمحوا لي أن أتحدَّث عنه أمامكم!
فأنا أفتقرُ إلى البديهة الحاضرة، والألفاظ المنتقاة،
والمكانة المرموقة، وبراعة الأداء، وحسن الإلقاء،
وذلاقة اللِّسان التي تثير مشاعرَ الناس!
لكنني أتحدَّث عفوَ الخاطر فحسب!

أمَّا زيادة بعض الألفاظ (وكلها صفات) في النص العربي، فهذا يرجع إلى ما أسميه بضرورة التفسير الخاص للنص قبل أن يشرع المترجِم في نقل العمل الأدبي، وهو ما تعرَّضت له في مقدمتي لترجمة تاجر البندقية المشار إليها آنفًا، وسأعود إليه عند مناقشة ترجمة عبد الحق فاضل لهذه الفقرة. وإنما ضربتُ هذا المثل لأبيِّن أن حديثَ أنطونيو مرسوم بدقة بالغة، فإذا حاول المترجِم أن يصوغه نظمًا عربيًّا لم يجد بُدًّا من التضحية ببعضِ جوانب هندسة البناء الفكري التي يستند إليها البناء اللغوي، كأن يعيد ترتيبَ هذه الصفات، أو يستعيض عن كلمةٍ بأخرى تتفق والوزنَ الشعري (وما أكثرَ ما يفعل الشاعر نفسه ذلك!) أو يضيف كلمة طلبًا للقافية، وهذا كله مقبول، بل ومحمود في ترجمة الشعر الغنائي الذي يلعب فيه الوزن والقافية كما قلت دورًا كبيرًا، ولكنه غير مقبول ولا محمود عندما يكون التركيب الفكري هو الأساس، لا الصورة أو الموسيقى والقافية!

وحتى لا يظن القارئ أنني لم ألجأ إلى الترجمة المنظومة كسلًا أو تراخيًا، سأورد صورةً أعتبرها مقبولةً في ترجمة الشعر الغنائي، صورةً منظومة لهذه الفقرة، وأترك للقارئ الحكمَ على مدى جورها على الأصل. أمَّا مَن يأنس في نفسه القدرة على إخراج ترجمةٍ منظومة أكثر دقة، فهو مدعوٌّ للمشاركة في هذا الجهد الجميل الممتع:

إنني لست خطيبًا مصقعًا مثل بروتس —
بل أنا — قد تعلمون —
ساذَج بل وغَرِير،
أُخلِص الحبَّ لمَن صادقت حقًّا،
وهمو لا يجهلون!
كلهم يدرك ذلك؛
ولهذا سمحوا لي
بحديث صادق عنه إليكم!
أين لي حِذْق البديهة؟
أين لي سِحر الكلام؟
أين لي شرف المكانة؟
أين لي حسن الأداء؟
لست ذا فنٍّ بإلقاء الخُطب،
لا، ولا عندي أفانينُ الأدب
كي أثيرَ العقل والقلب لديكم،
بل أنا ألقي كلامي
كيفما يأتي لشفتَي!

أقول إنني أترك للقارئ الحكمَ على مدى ابتعادها (أو اقترابها) من الأصل، وإن كان لا بد لي أن أشيرَ إلى أن الموسيقى الغلَّابة هنا، والقافية غير المقصودة، تجوران على الأصل ذي الإيقاع الخافت الذي يقترب كثيرًا من النثر! ويكفي أن أقول إن أنطونيو لو تحدَّث هكذا — بالنظم العربي الجَهوري — لأحسَّ الجمهور بفنِّ الصنعة الذي لا يُنبئ عن نفسٍ صافية صادقة. فالموقف الدرامي يرفض غلبةَ الموسيقى هنا التي قد تخلُب الأذنَ دون أن تصل إلى العقل أو القلب، وأنطونيو يحاول أن يصل إلى قلوب السامعين وعقولهم لا أن يخلُب آذانهم! ومِن ثَمَّ كان قراري بأن البديل النثري أقربُ إلى تحقيق المقابل الدرامي من المقابل المنظوم، مثلما كان قراري بالالتزام بالعربية المعاصرة بمستوياتها المتعدِّدة.

أمَّا اعتراضي على الترجمتين السابقتين لهذه المسرحية فله أسبابٌ كثيرة؛ فالترجمة الأولى (عبد الحق فاضل، ومصطفى حبيب) تلتزم المنهجَ الحرفي الذي تخطيناه منذ زمن بعيد، وهو المنهج الذي يصفه درايدن في دراسته عن ترجمة فيرجيل (انظر مقالات درايدن Essays of Dryden — وفي ظني أنها لم تُترجم حتى الآن إلى العربية) بأنه منهج الالتزام بالألفاظ في أبنيتها الأصلية بغيةَ إيضاح معناها وحسب (metaphrase). أقول إننا تخطينا هذا المنهج في الترجمة الأدبية منذ زمن بعيد، وإن كان بعض زملائنا من المترجمين في الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة ما زالوا يدعون إليه في الترجمة «العامة»، ولهم العذر في هذا؛ فهم لا يسمحون بالتصرُّف خشيةَ وقوع المترجمين غير الأكفاء في الأخطاء؛ إذ إن ارتفاع أجور المترجمين في تلك المنظمة الدولية قد اجتذب الكثيرين من المبتدئين أو غير الموهوبين، وأخطاؤهم — كما لا يخفى على اللبيب — قد تتسبَّب في متاعبَ جمة، بل قد تضر بالعلاقات فيما بين الدول. وقد أدَّى هذا المذهب إلى ركاكةٍ عامة في الأسلوب نتيجةَ التمسك بترتيب الألفاظ والتراكيب في الأصل الإنجليزي، وسوء الفهم أحيانًا.

فمن أمثلة الركاكةِ ترجمةُ البيتين التاليين:

I has as lief not be as live to be
In awe of such a thing as I myself
(I. ii. 5–94)

ومعناهما هو:

إنني أفضِّل الموتَ على أن أعيش في خوفٍ من آدمي مثلي!

ولكنِ المترجِمان يقولان:

أوثر عن طيبِ خاطر ألا أكون على أن أحيا لأكون
في فزعٍ من شيءٍ هو مثلي!

وأمَّا الأخطاء في المعنى التي يأتي بها هذا المنهج فهي كثيرة، وسوف أدرج نماذجَ محدودة لإيضاح عيوب المنهج؛ إذ ليس هذا مجال مراجعة الترجمة. انظر إلى الحوار التالي:

  • Brutus:
    That we shall die, we know; ‘tis but the time
    And drawing days out, that men stand upon!
  • Casca:
    Why, he that cuts off twenty years of life
    Cuts off so many years of fearing death!
(III. i. 99–102)

ومعناه:

بروتس :
فأمَّا أننا سنموت فأمرٌ نعرفه،
وأمَّا انتظار الأجل على امتداد العمر،
فهو الذي يقلق الإنسان!
كاسكا :
إذن فمَن يختزل من عمره عشرين عامًا
يكون قد تحرَّر من خشية الموت عشرين عامًا كاملة!

ولكن المنهج الحرفي يؤدي إلى الترجمة التالية:

بروتس :
أمَّا أننا سنموت فأمر نعلمه، لكنه ميقات الأجل،
واستطلاع مكنون الأيام — هو الذي يكرث بني الإنسان.
كاسكا :
لعمري إن مَن يقطع عشرين حولًا من العمر
إنما يعيش العديدَ من السنين في خشية الموت.

ومشكلة المنهج الحرفي دائمًا هي الاهتمام بالكلمات المفردة على حساب معنى المصطلح، ومن نماذجه ترجمة ما يلي:

  • Cassius:
    Fill, Lucius, till the wine o’erswell the cup.
    I Cannot drink too much of Brutus’ love.
(IV. iii. 160–161)

يقولان:

اسكب الخمرَ يا لوسيوس حتى يطفح القدح،
فإني لا أملِك أن أنهل الكثيرَ من محبة بروتس.

ومعناه هو:

أترِع الكأس يا لوشيوس حتى يفيض،
فأنا لا أرتوي مهما شرِبت من محبة بروتس!

أو العبارة التالية (من نفس المشهد):

It may be I shall raise you by and by
On business to my brother Cassius
(IV. iii. 246–7)

ومعناها:

فربما أيقظتكما بعد قليل
لتحملا رسالةً إلى أخي كاشياس.

ولكنهما يترجمانها هكذا:

فلعلي أنهضكما واحدًا بعد الآخر
في شأنٍ مع أخي كاشياس.

أو قول أنطونيو لأوكتافيوس:

Tut, I am in their bosoms, and I know
Wherefore they do it. They would be content
To visit other places …
(V. i. 7–9)

ومعنى الأبيات:

أعرف ما في نفوسهم، وسأشرح لك سبب هذه المبادأة!
إنهم خائفون ويتمنون لو لم يكونوا هنا.

أمَّا المترجمان فيقولان:

مه، لكأني في سريرتهم، فأنا أعلم
لماذا يفعلون ذلك. إنهم يطيب لهم
أن يؤموا أماكنَ أخرى.

وأعتقد أن هذه النماذج على قلَّتها تكفي لإيضاح ما أعنيه بالترجمة الحرفية وما تُوقِع المترجم فيه. وربما لاحظ القارئ أنني لا أشير إلى أي أخطاء تتصل بترجمة الكليات المفردة؛ فأنا لا أعتبر الكلمة المفردة وحدةَ التعبير الأساسية، بل أعتبر أن أصغر وحدة هي العبارة، وقد تقصر العبارة وقد تطول لتمتد إلى عدة سطور. بل إنني في سياق الترجمة المسرحية أكاد أعتبر أن الوحدة تمتد لتشمل المقطع الحواري برُمَّته! ولذلك أتجاهل جنوحَ المترجمَين هنا إلى تطبيق نظرية الموازاة بين الكلمات، أي محاولة إيجاد المرادف في العربية لكل كلمة إنجليزية؛ فالترادف في نظري وَهْم، وليرجع مَن يريد إلى ترجمتهما للأبيات السالف إيرادها (ف٣، م٢، ٢١٩–٢٢٥) والتي تتضمَّن صفات الخطيب البارع في زمان الرومان، وسوف أورد هنا البيتَين اللذين يتضمنان هذه الألفاظ فحسب:

ذلك أني لا أملِك من البديهة ولا من الألفاظ ولا من القيمة
أو العمل، ولا من الذلاقة ولا من قوة الخطاب —
ما أهيج به دماء الناس.
(الأبيات ٢٢١–٢٢٣ في النص العربي المنشور)
ومغبة هذا المنهج هو الإتيان بألفاظٍ توحي بالترادف، وهي أبعدُ ما تكون عنه؛ إذ إن كلمة البديهة في ذاتها لا تعني wit؛ بل تعني البداهة أو «المعرفة يجدها الإنسان في نفسه من غير إعمال الفكر ولا علم بسببها»، وهذا المعنى الأخير الذي أقرَّه مجمع اللغة العربية تطويرٌ لمعنى البداهة القديم (وهو البداءة) — الذي تتضمنه قواميس اللغة العربية — أمَّا wit فتعني القدرةَ على التحاور دون إعداد استنادًا إلى ذكاء فطري ولماحية موهوبة، ولذلك فنحن نعني بها «البديهة الحاضرة» تفريقًا بينها وبين ما يعرفه الإنسان بالبديهة. وأمَّا «الألفاظ» فليس المقصود بها «الألفاظ» على إطلاقها، بل الألفاظ التي أُحسنَ اختيارُها، ولذلك فهي تعني «الألفاظ المنتقاة». وأمَّا ترجمة كلمة worth بالقيِّمة فهي ترجمةٌ حرفية قاموسية؛ أي لا تستند إلى المعنى السياقي، وهو «المكانة المرموقة للخطيب»، فهذه من الصفات التي تزيد من قدرته على التأثير في الناس. وأمَّا ترجمة action بالعمل، فهي أيضًا خطأ؛ لأنها لا تنقل معنى السياق، ألا وهو «براعة الأداء»، وهلم جرًّا. ولا شك أن إصرار المترجمين على ترجمة كل سطر بسطر أكبرَ دليلٌ على أنهما يحاولان تقديمَ صورة حرفية metaphrase لا صورة أدبية لنص شيكسبير.

•••

وأمَّا الترجمة الثانية — ترجمة الأستاذ محمد حمدي — فهي تسبق عصرها بمراحل؛ لأنها لا تتَّبع المنهج الحرفي، بل تقوم على اعتبار الجملة لا الكلمة وحدة التعبير، وكذلك فهو لا يقع في أخطاء هذا العصر الذي يتميز بلكنة المترجمات — أي بالأسلوب الركيك الذي يحاكي أبنية العبارات الأصلية ومعانيها الحرفية — ولكنه يتخطى ذلك كله إلى ما يسميه درايدن paraphrase؛ أي الترجمة التي تعيد صياغة العبارات في ضوء المصطلح الخاص للغة المترجَم إليها. وهو يفعل هذا كله مستندًا إلى معرفته الواسعة باللغة الإنجليزية (وقد أصبحت نادرةً في أيامنا هذه)، ومهتديًا بحسِّه العربي الأصيل (وهو أندر من المعرفة بالإنجليزية).

ولكن هذه الترجمة يعيبها عيبٌ كبير، ألا وهو توحيد مستوى اللغة العربية المستخدَمة فيها من البداية إلى النهاية، بحيث لا يحسُّ القارئ على الإطلاق أن ثمَّة فروقًا بين لغة هذه الشخصية ولغة تلك، أو أن ثَمَّ مزاحًا هنا وجِدًّا هناك، أو أن العامة يتكلمون لغةً تختلف عن لغة القادة والسادة، والسبب في هذا هو المفهوم الذي ألمحت إليه في بداية هذه المقدمة عن اللغة الأدبية أو لغة الأدب.

وأمَّا الذي دفع محمد حمدي على سلوكِ هذا السبيل فهو التصوُّر الذي ساد العقود الأولى من هذا القرن عن شيكسبير باعتباره أديبًا عظيمًا لا يصح له أو لا يُقبل منه استخدام لغة غير رفيعة أيًّا كانت الشخصيات التي تتحدَّث في مسرحه، فإذا ذكرنا أن مفهوم الأديب العظيم لا يتحقَّق في نظر الأوائل من كُتَّاب تلك الحِقبة إلا باستخدام لغة أدبية بالمعنى القديم، أدركنا سرَّ إصرار محمد حمدي على «رفع» مستوى لغته وتوحيد هذا المستوى.

وقد اقتضى هذا «الرفع» اللجوءَ إلى حيلِ الصياغة القديمة مثل التوازي في العبارات، والتقابل والتضاد، وسائر ألوان المحسِّنات اللفظية والبديعية مما لا يوجد في نص شيكسبير؛ أي بإضافة لمسات صياغة عربية قديمة قد لا يقتضيها الموقف الدرامي. وانظر مثلًا كيف يترجم الأبيات التالية:

Were I a common laughter, or did use
To stale with ordinary oaths my love
To every new protester; if you know
That I do fawn on men and hug them hard
And after scandal them; or if you know
That I confess myself in banqueting
To all the rout, then hold me dangerous.
(I. ii. 71–77)

وترجمتها الحديثة هي:

لو كنت مهرِّجًا مبتذلًا أو ممن يُقسِمون الأيمانَ الرخيصة
على مودتهم لكلِّ مَن يمد إليهم حبلَ الود، أو كنت تعرف
أنني ممن يظهرون الحب ويعانقون خلَّانهم ثم يغتابونهم،
أو ممن يعلنون مودَّتهم في المناسبات والولائم للجميع،
فاعتبرني خطرًا من الأخطار!

أمَّا الأستاذ حمدي فيترجمها هكذا:

لو كنت دعَّابًا مجَّانًا، أو حلَّافًا مهينًا، أبذل محبتي
لكلِّ مَن يدعي صداقتي، وأخدع الناس بالرياء والدهان،
حتى إذا حصلت على مودتهم، وتبينت صدقَ طويتهم،
صدفتُ عنهم أغتابهم وأنمُّ بهم، لكنت خليقًا بمجانبة
الأصدقاء، وقطيعة الأوفياء، أو إذا كنتَ تعهدُ
فيَّ التطفُّل وامتهانَ النفسِ وابتذالَ السيرة، فقاطعني
واعتبرني شرَّ الأشرار، وخطرًا من الأخطار.

فالواضح أن الإضافات التي يحشو بها محمد حمدي نصَّ شيكسبير تُضعِف من حدة الحُجة التي يقدِّمها كاشياس لأنها تجعل الحوار أقربَ إلى «الإنشاء» منه إلى الترجمة الدقيقة. وبعضها لا دافع له سوى السجع أو الجرس الموسيقي، بل إنه يخرج عن المعنى الذي يرمي إليه المتحدِّث كما يتضح من المقارنة بين الترجمة والأصل؛ فليس في الأصل معنى «الحصول على المودة (وتبيُّن صدق الطوية!)»، وليس في النص «قطيعة الأوفياء»، وليس فيه «التطفل» و«امتهان النفس» و«ابتذال السيرة، بل ليس فيه «شر الأشرار» المُضافة للعبارة الأخيرة.

والواقع أن محمد حمدي يلجأ كثيرًا إلى شرح نص شيكسبير بدلًا من ترجمته، فهو يضيف عباراتٍ هنا وهناك لإيضاح المعنى وفقًا لمفهومه، فمثلًا يترجم العبارة:

I was born free as Caesar; so were you
(I. ii. 96)

وترجمتها البسيطة:

لقد وُلدت حُرًّا مثل قيصر، وكذلك أنت.

أمَّا هو فيترجمها هكذا:

لقد وُلدت حُرًّا مثل قيصر، فأنا وهو في حق
التمتُّع بالحرية سواء، وكذلك أنت.

ولا شكَّ أن الإحالة هنا إلى بيت أحمد شوقي المشهور الذي يقول فيه:

أنصفتُ أهلَ الفقر من أهل الغنى
فالكل في حق الحياة سواء
رغم عدم وجود العبارة في النص الإنجليزي، وهو يتجنَّب ذكرَ الآلهة الوثنية، ويترجم عبارةً مثل Ye gods! هكذا: «فوا عجبي لتصرُّفات الزمان» (ف١، م٢، ١٢٧)، وهو يشرح العبارة التالية:
The fault, dear Brutus, is not in our stars,
But in ourselves, that we are underlings.
(I. ii. 9–138)

ومعناها:

ليست الطوالع والنجوم مسئولة عما نحن فيه من
ضآلة، بل العيب فينا نحن.

يشرحها في الترجمة التالية:

ليس الذنبُ على طالع منحوس أو نجم آفل،
وإنما الذنبُ علينا نحن لاستسلامنا ورضانا
الخسف والاعتساف.

وقد يؤدي هذا المنهج إلى تجاوز المعنى الأصلي في سبيل الصياغة الجَزْلة، فمثلًا يقول كاسكا (الذي يتحدَّث نثرًا):

If the rag-tag people did not clap him and hiss
him according as he pleased and displeased them,
as they use to do the players in the theatre,
I am no true man.
(I. ii. 255–7)

ومعناها:

كأن العامة يصفِّقون له حين يرضيهم، ويصفرون منه حين يغضبهم،
مثلما يفعلون مع الممثلين في المسرح .. وهذه هي الحقيقة المجردة.

أمَّا هو فيترجمها على هذا النحو:

إني على يقين من أن .. أولئك الطَّغَام السُّفهاء كانوا يهشُّون له،
ويبشون، سواء أرضاهم أو أغضبهم كما يفعلون بالممثلين —
على المسارح — وإلا فلا تصدقوني ما دمت حيًّا.

أو فانظر هذه العبارة:

It is the bright day that brings forth the adder,
That craves wary walking.
(II. i. 14–15)

ومعناها:

إن ضوء النهار هو الذي يُخرِج الحيةَ من جحرها،
مما يستوجب الحذرَ عن المسير!

ولكنه يترجمها هكذا:

إن النهار الساطع البهيَّ هو الذي تخرج فيه الحيةُ من جحرها
تنشد الحبَّ والخيانة.

ومن عيوب المنهج الإنشائي الميلُ إلى «الحذف» أيضًا، فالأستاذ حمدي — ربما من باب الحرص على «حساسية» خاصةٍ لدى قراء عصره — يميل إلى حذف الإشارات إلى الآلهة الوثنية، ويستبدل «المولى القدير» بها (في ف١، م٣، ٥٥ مثلًا) أو يحذف عبارات يرى فيها خروجًا عن المسموح به في الترجمة الأدبية مثل العبارة التالية، وهي قول بورشيا لزوجها بروتس:

Dwell I but in the suburbs
Of your good pleasure? If it be no more,
Portia is Brutus harlot, not his wife!
(II. i. 285–7)

ومعناها:

هل أقيم في ضواحي مسرَّاتك وملاذك فحسب؟
إن كان دوري مقصورًا على هذا فلست حليلة بل خليلة!

والواقع أن محمد حمدي، رغم مآخذ منهجه الإنشائي، قد أخرج لنا نصًّا راقيًا يتميز عن نصوص معاصريه، بل يسبق زمانه كما قلت. ولقد أفدت منه كثيرًا، ولا بد أن أقرَّ له بفضل السبق والريادة.

•••

وقد اعتمدتُ في ترجمتي على النص المعتمد المنشور في سلسلة «أردن» Arden، والنسخة التي استخدمتها من تحرير ت. س. دورش T. S. Dorsch الصادرة عام ١٩٧٢م (وطُبعت لأول مرة في هذه السلسلة عام ١٩٦٥م)، كما انتفعتُ بطبعة ماكميلان Macmillan من تحرير د. ر. الوواي D. R. Elloway الصادرة عام ١٩٨٥م (الطبعة الأولى ١٩٧٤م)، وطبعة كيمبريدج الجديدة New Cambridge من تحرير مارفن سبيفاك Marvin Spevack الصادرة عام ١٩٨٨م، وطبعة سوان الجديدة New Swan من تحرير ﻫ. م. هيوم H. M. Hulme الصادرة عام ١٩٨٨م (الطبعة الأولى ١٩٥٩م)، وطبعة سيجنت كلاسيك Signet Classic من تحرير وليم وباربارا روزن William & Barbara Rosen الصادرة عام ١٩٦٣م — أقول «انتفعتُ» بهذه الطبعات؛ أي رجعتُ إلى الحواشي الواردة في كلٍّ منها والهوامش التي ذُيلت بها، والمقدِّمات التي كتبها المحرِّرون والتعليقات المرفقة، بغيةَ التيقُّن من الطرق المتعددة لفهمِ النص أو لتفسيره قبل تحديد الفهم أو التفسير المقبول الذي لا يتناقض مع ظاهر الألفاظ؛ فأنا — كما ذكرت في مقدِّمة ترجمتي ﻟ «تاجر البندقية» — لا أومن بالتأويل؛ بل أعتمد الفهم والتفسير منهجًا في الترجمة.
وقد استندتُ أيضًا في دراستي للنص إلى عدد محدود من الكتب «الأساسية» في الموضوع، وإلى عدد من الدراسات المتخصصة المنشورة في أهم الدوريات الأدبية الخاصة بشيكسبير مثل Shakespeare Quarterly، وShakespeare Survey، وقد كنتُ مشتركًا في هاتين الدوريتين إبَّان مُقامي في إنجلترا — وأود أن أطلِع القارئ على المفهوم الحديث الذي أراه أقربَ ما يتمشى مع روح عصرنا التي تغيَّرت وتبدَّلت، ومِن ثَمَّ فسوف أقدِّم عرضًا سريعًا للتراث النقدي لهذه المسرحية قبل أن أقدِّم المفهومَ الحديث الذي أشرتُ إليه والذي ارتضيته وقبِلته.
يعتمد التراث النقدي لمسرحية يوليوس قيصر على ارتباطها بمصدرِ الحبكة فيها، ألا وهو المؤرِّخ اليوناني الأشهر بلوتارخوس. ولا تكاد طبعةٌ من الطبعات الأساسية للمسرحية أن تخلو من فقرات مطوَّلة من كتابه تراجم نبلاء اليونان والرومان الذي طُبع طبعتين في حياة شيكسبير؛ الأولى عام ١٥٧٩م، والثانية عام ١٥٩٥م، وقد ترجمه «توماس نورث Thomas North» عن النص الفرنسي الذي أخرجه «جاك أميو Jacques Amyot»، لا عن الأصل اليوناني. وقد وصل إلينا هذا المصدر في صورة حديثة عندما نشر «والتر سكيت Walter Skeat» الفقرات التي اعتمد عليها شيكسبير في كتابٍ أسماه بلوتارخ الذي استخدمه شيكسبير عام ١٨٧٥م. وما زالت هذه الطبعة مصدرًا للفقرات التي يقتطفها الناشرون والمحقِّقون ويدرجونها في طبعاتهم للمسرحية لأنها تضم بين دفتيها أهمَّ الروايات التاريخية التي أخذ منها شيكسبير مادته المسرحية. ويلاحِظ مَن يقارن المسرحيةَ بالأصل أن شيكسبير أحيانًا ما يلتزم بهذه المادة التاريخية، وأحيانًا ما يختزل الأحداثَ أو يضغطها أو يمزج بينها تحقيقًا لغاياته الدرامية. ولذلك فنادرًا ما تجد ناقدًا يتجاهل هذا المصدر؛ فإغراء المقارنة كبير، خصوصًا لأنه يسيرٌ، ولأنه يؤدي إلى نتائجَ ملموسة يمكن للدارس التيقُّن من صحَّتها (فاليقين هدفُ الدراسة العلمية) على عكس التفسير والتأويل والآراء النقدية؛ فهي مهما استندت إلى نصوص أو حقائقَ تظل تفتقر إلى اليقين.
ولكنَّ ثمَّة سببًا آخر لهذا الولوع بمصادر شيكسبير، وهو سببٌ لا يقل أهمية عن السعي لليقين، ألا وهو أن الاهتمام بهذه المسرحية وإدراجها في مناهج تدريس الأدب الإنجليزي قد ارتبط بالاتجاه إلى تدريس الأدب الإنجليزي نفسه باعتباره أدبًا رفيعًا في أوائل هذا القرن، وهو الاتجاه الذي أصبح موضعَ انتقادٍ شديد لارتباطه بقيم الإمبراطورية وتميُّز كلِّ ما هو إنجليزي وتفوُّقه؛ ولذلك فقد عارضته المدرسة الجديدة في النقد أشدَّ معارضة، وعلى رأسها «تيري إيجلتون Terry Eagleton» الذي أعرب عن ذلك صراحةً في البحث الذي اشترك به في مؤتمر صور مصر في أدب القرن العشرين الذي عُقد في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة في العام الماضي (١٨–٢٠ ديسمبر ١٩٨٩م)، كما سخِر منه عددٌ من أساتذة الأدب الإنجليز، ومنهم كريستوفر نوريس Christopher Norris (الذي اشترك في المؤتمر المُشار إليه)، وكريستوفر بجسبي Christopher Bigspy، وتيرنس هوكس Terence Hawkes في مؤتمر كيمبريدج عن الكاتب المعاصر الذي شاركتُ فيه عام ١٩٨٧م. وسرُّ ارتباط المسرحية بهذا الاتجاه أنها تُعلِي «فضائل الحياة الرومانية» — أي قيم الإخلاص والشجاعة والثبات والتضحية، والفلسفة الرواقية، وجوهرها احتمالُ البأساء والضراء ومواجهة الشدائد في سبيل المبدأ بقلبٍ لا يعرف الوجل — بل وتُعلي بعضَ قيم الفلسفة الأبيقورية، وأهمها أن يمسك الإنسان زمامَ قدَره بيده، وأن يعزِف عن الخرافات وترَّهات العجائز والمنجمين، وكلها من القيم والمُثل التي رأى دعاةُ الإمبراطورية والاستعمار ضرورة نشرها وترسيخها.
ولا شك أن تدريس «القيم الرومانية» كان يتمشَّى مع اتجاه الفكر البريطاني بصفة عامة في تلك الحِقبة، وبالتحديد منذ ١٨٨٨م تاريخ بداية الدعوة إلى «المثال الروماني في الحياة» على يدِ رجل من كبار رجال التربية والتعليم كان قد خلف الناقد والشاعر الأشهر ماثيو أرنولد Matthew Arnold (الذي توفي في ذلك العام) في وظيفة كبير مفتشي اللغة الإنجليزية، وقد أدَّت الخلفية الفكرية للاتجاه النقدي إلى ربط المسرحية بالتاريخ الروماني، إلى كثير من المناهج المألوفة في تناولها، مثل الحديث عن كل شخصية على حدة باعتبارها شخصيةً تاريخية أوَّلًا وشخصية في المسرحية ثانيًا، وإلى دراسة لغة المسرحية وصورها الفنية باعتبارهما نماذجَ للغة الرفيعة، لغة الخطابة، ولغة السياسة؛ أي لغة الخطاب العام لا لغة الصراع الدرامي. ومِنْ ثَمَّ أصبح من المألوف اقتطاع فقرات كاملة من الخُطَب التي تلقيها بعضُ الشخصيات لتدريسها في مناهج اللغة الإنجليزية، أو لترجمتها إلى اللغة اللاتينية، باعتبارها نماذج للبلاغة القديمة، وهي بلاغة شكلية محضة، بل هي في نظر النقد الحديث مذمومة؛ لأنها تفتقر إلى نبض الحياة الذي يجعل من القائل إنسانًا من لحمٍ ودم، لا مجرَّد متكلم أو خطيب.
وقد رصد الأستاذ «لينارد دين» Leonard F. Dean في مقالٍ نشره في أكتوبر ١٩٦١م في مجلة The English Journal تغيُّرَ النظرة إلى المسرحية في هذا القرن، من الحماس الشديد للقيم الرومانية الذي يتضح في كتاب «السير منجو. و. ماكلم» Sir Mungo W. MacCallum، وعنوانه شخصية بروتس — مع ما في هذا من جور على المسرحية وعلى شخصية بروتس الدرامية نفسها — إلى الاهتمام الذي يبديه «هارلي جرانفيل باركر» Harley Granville-Barker بجوانبَ أخرى في هذه الشخصية، وهي الجوانب الإنسانية التي تجعل من بروتس ضحية لتلك القيم نفسها ومِنْ ثَمَّ تُدِينها؛ بل إن جرانفيل باركر ينتهي إلى القول بأن شيكسبير قد اكتشف استحالةَ «هضم المثال الروماني شعرًا» (أي أن المُثل الرومانية لم تتحوَّل إلى شعر درامي على الإطلاق)، ومِن ثَمَّ لم ينجح في تصوير بروتس في صور بطل مأسوي — وقد أعاد جرانفيل باركر كتابة دراسته ونشرها عام ١٩٤٦م — قبل أن ينشر «جون بامر» John Palmer كتابه الشهير الشخصيات السياسية عند شيكسبير عام ١٩٤٨م، وفيه يقول إن شيكسبير يضع بروتس — في الحقيقة — في موضع التهكُّم الساخر، وهو يلخِّص وجهة نظره في أول عبارة له عن بروتس في الكتاب؛ إذ يقول: «إن الخصال التي يتحلَّى بها بروتس هي نفس الخصال التي حرَمَت كلَّ ليبرالي ذي ضمير حي من القدرة على التأثير في الحياة العامة في كل عصر من العصور.» ويضيف قائلًا إن حياته السياسية هي باختصار «مجموعة من الخطوات العملية التي لا مبرِّر لها إلا «مبادئ» لم تَعُد صالحة للمجتمع الذي يعيش فيه؛ بل إنها توقِعه في عواقبَ لم يكن يحسُب لها حسابًا ولا يستطيع أن يواجهها مواجهةً إيجابية.» وهو يقارن بينه وبين سائر الشخوص في المسرحية؛ ليبيِّن أن بروتس منفصل عن واقعه (إذ إن كاشياس مثلًا يرى حقيقة ذاته ويعترف بها ببساطة)، ثم يقول:

«ربما كان بروتس يقوم بتمثيل دورٍ ما، ولكنه دور يقوم على كذبة أساسية في شخصيته، وهي الكذبة التي تضطره إلى إحلال شخصية عامة محلَّ الإنسان الطبيعي في نفسه، وتدفعه إلى قتْل قيصر حتى يحقق المبادئ التي يعتنقها، وتجعله ينهض بدور السياسي وهو يفتقر إلى الذهن اللازم لذلك والخصائص النفسية اللازمة لحمل تلك الرسالة؛ بل وتدفعه إلى مخاطبة الغوغاء بمنطق العقل، وهو لا يشارك هؤلاء الغوغاء مزاجَهم النفسي أو منطقهم العقلي، وهي الكذبة التي لا بد أن تفرض نفسها عاجلًا أم آجلًا على أي مثالي يدخل معترك الحياة العامة ويجد أن عليه أن يستخدم الوسائل التي يحتقرها لتحقيق غايات لا تتصل اتصالًا حقيقيًّا بالحقائق السياسية من حوله.»

ويعتقد «بامر» أن بروتس وكاشياس يرتكبان سلسلة من الأخطاء في الجزء الأخير من المسرحية حتى لحظة الهزيمة المحتومة — فهما «رجلان مرهقان يائسان .. ينشدان نهاية سريعة» — ويعلِّق على ذلك قائلًا إن الهزيمة تعتبر إنقاذًا لبروتس من الدور المزدوج الذي يلعبه — دور الحياة العامة والخاصة — وهي تشفيه من هذه الكذبة. وعندما نراه وقد طرح «الدور العام» واستعاد اطمئنان الإنسان الذي يهنأ بإخلاص أصدقائه نرى فيه — بعد فوات الوقت — الرجل ذا النفْس الخاصة والعامة .. ومِنْ ثَمَّ فإن الانطباع النهائي الذي نخرج به في رأي «بامر» هو الشفقة والتأسي لمصيره.

ومعنى التغيُّر في النظرة إلى مسرحية يوليوس قيصر هو العزف عن ربطها بالتاريخ، واعتبارها كما يقول «لنارد. ف. دين» «مسرحية من المسرحيات المُشْكل، تتميز بمفارقتها السياسية والأخلاقية والنفسية، وهي المفارقات التي لا شك في أنها حديثة وذات طابع إنساني.» ويتَّفق مع هذا الرأي Ernest Schanzer في دراسته المنشورة في مجلة Shakespeare Querterly II (صيف ١٩٥٥م) بعنوان «مشكلة مسرحية يوليوس قيصر»؛ إذ يسوق الأدلةَ على أنها مسرحية مشْكل (Problem Play)؛ أي من المسرحيات التي لا تحسم الصراع لصالح جانب على حساب جانب، بل تقدِّم عناصر الصراع الدرامي في صور متعاقبة متداخلة لتشرك القارئ في تأمُّل الصراع دون التوصُّل إلى حل (resolution) بمعنى أنها لا تقدِّم إجابةً حاسمة بقدرِ ما تطرح من أسئلة أو تثير من مشاكل. وهي مسرحية مشكل أيضًا لأنه يصعب تصنيفها كما يقول ألاردايس نيكول Allardyce Nicoll في كتابه عن شيكسبير (بعنوان «شيكسبير»، ص١٣٤)؛ ولأنها — كما يقول «ويلسون نايت» Wilson Knight في كتابه (الثيمة الإمبراطورية، ص٦٣): «تفصح لمن يقوم بتحليلها تحليلًا دقيقًا عن عناصرَ بالغة الدقة وأخرى بالغة التعقيد تجعل التفسير أمرًا عسيرًا.» ويقول شانزر:

«يختلف النُقَّاد اختلافًا شاسعًا حول تحديد الشخصية الرئيسية في المسرحية؛ بل حول وجود شخصية رئيسية فيها، وحول اعتبارها مأساة، وصاحب المأساة فيها، وهل يريدنا شيكسبير أن نعتبر اغتيالَ قيصر عملًا يستوجب المدح أم القدح؟ كما يقدِّم النُقَّاد تفسيراتٍ تتناقض تناقضًا حادًّا بشأن سائر الشخوص الرئيسية في المسرحية.»

وأهم نظرتَين متناقضتَين هما نظرة البروفسور جون دوفر ويلسون John Dover Wilson التي يعرضها في مقدمة طبعةٍ سالفة من طبعات كيمبريدج الجديدة للمسرحية، ونظرة السير مارك هنتر Sir Mark Hunter التي يلخِّصها في مقاله عن المسرحية المنشور في المجلد العاشر من منشورات الجمعية الملكية الأدبية لعام ١٩٣١م. أمَّا دوفر ويلسون فيقول إن شيكسبير يعتنق نظرةَ عصر النهضة إلى قيصر، وهي النظرة التقليدية المستقاة من كتابات «لوكان» Lucan والتي تصفه بأنه «تيمورلنك روماني» لا حدود لطموحه، يتمتع بعبقرية جبارة لا ترحم، وهو طاغية رهيب يتسبَّب في خراب بلاده وتدمير أقوى وأزهى جمهورية عرفها العالم. ويضيف قائلًا: «إن موضوع المسرحية واحد لا ثانيَ له، ألا وهو الصراع بين الحرية والطغيان» (ص٢١). وهو يقول إن الاغتيال يستحق الثناء، وإن المتآمرين من أنصار الحرية الذين ينكرون ذواتهم، وإن مأساة بروتس تتمثل في نضاله عبثًا لدرء المصير الذي يتهدَّد روما، وهو قيام الحكم القيصري» (ص٢٢).

وأمَّا السير مارك هنتر فهو يقول: «لا شكَّ أن شيكسبير — مهما بلغت درجة تعاطفه مع مرتكبي تلك الفَعْلة — كان يرى أن اغتيال يوليوس قيصر أبشعُ جريمة في التاريخ.» ويقول إن قيصر — عندما يخطو على المسرح — يؤكد لنا أنه شخصية ذات جلال ورفعة، جديرة بالرثاء المشبوب الذي يتدفَّق من فم أنطونيو، وبالمديح الهادئ من شفتَي بروتس، ويقول إننا لا نلمح ما يدُل على أن أعداء الزعيم — باستثناء بروتس — يأبهون لأي إنسان خارج دائرتهم المغلقة، على الرغم من استخدامهم للَّافتات السياسية البراقة مثل الحرية والتحرُّر والانعتاق. أمَّا بروتس فهو نبيل الطوية مخلِص دون شك، ولكنه متهم ﺑ «الكذب الفكري»؛ لأنه يعتقد أنه دائمًا على صواب، ويناقض نفسه إلى درجة «تدعو إلى الرثاء»، وهو بإيجازٍ «سياسي غائم البصر، دسَّاس مُشاحن».

وهكذا فإن السير مارك هنتر يرى أن جذور الفكرة الدرامية لا تضرب في أرض عصر النهضة مثلما يقول دوفر ويلسون، بل تنتمي لفكر العصور الوسطى، وترتبط بصورة الزعيم العظيم أيًّا كانت معايبه، وضرورة الإبقاء عليها حفاظًا على كيان الدولة. ويؤيد هنتر في هذا مؤرخ راسخ القدَم هو «و. و. فاولر» W. W. Fowler الذي يؤكد في كتابه (مقالات واجتهادات روماني، ص٢٧٣) أن قيصر الذي يصوِّره شيكسبير هو «القيصر التاريخي العظيم» الذي تشهد له النصوص اللاتينية المعترَف بصحتها، وهي النصوص التي حملتها إلينا كتابات «أوروزيوس» Orosius.
ويقول شانزر في الدراسة التي أشرت إليها إن ثمة فريقًا آخر من الكتَّاب، وعلى رأسهم بعض كبار الكلاسيكيين مثل بلوتارخوس نفسه، و«أبيان» Appian، و«سويتونيوس» Suetonius؛ بل و«دانتي» Dante لا يقبلون أيًّا من النظرتَين على علَّاتها؛ بل يقبلونهما معًا وباحتراز وحذر! أي أن ثَمَّ فريقًا من الكتَّاب الذين يدركون طبيعةَ المشكلة في المسرحية، ومِن ثَمَّ يهيئون لنا الإطارَ العام للتفسير الحديث لها، وهي أنها ليست تراجيديا بالمعنى الكلاسيكي، ولكنها مسرحية مشكل، لها بَطَلان رئيسيان هما قيصر وبروتس، ويدور في فلكهما عددٌ من الشخصيات التي تثري كلًّا منهما بخصائصَ نفسية ودرامية تؤدي — في رأيي — إلى نوع من الجدلية الدرامية يندُر أن نجدها في أيٍّ من مسرحيات شيكسبير الأخرى. وإذا كنت أقبَل نظرته الأساسية — هو وسواه — أي أن يوليوس قيصر مسرحية مشكل، فإنني أود أن أوضح للقارئ العربي ما أعنيه من أنها تقوم على جدلية درامية تجعل من الصراع الدرامي حلقات متداخلة لا تنتهي بنهاية المسرحية!
إن صورة قيصر كما تبرز لنا في المسرحية تتكوَّن من عناصرَ متعاقبة — كما سبق أن ذكرت — وهي عناصر لا تجتمع لترسم صورة موحَّدة، بل ترسم عدة صور متشابكة ومتناقضة في الوقت نفسه. ويقع المشهد الافتتاحي بعد عودة قيصر مباشرة من الحرب الأهلية التي انتصر فيها على «جنايوس» Gnaeus و«سكستوس» Sextus ابنَي بومبي في معركة «موندا» Munda عام ٤٥ق.م. ولا بد أن شيكسبير كان يفترض إحاطةَ الجمهور بالخلفية التاريخية التي يقع في إطارها هذا المشهد، بل والمسرحية كلها، ومِنْ ثَمَّ يكون لحديث الضابطين «فلافيوس» و«مارولوس» معنًى؛ فهما يعترضان على خروج الأهالي للاحتفال بعودة قيصر من الحرب لأنها لم تكن من غزوات النصر، بل كانت جزءًا من الحرب الأهلية التي استمرت عدة سنوات سُفكت فيها دماء الرومان بأيدي الرومان، وانتهت بإعلان قيصر دكتاتورًا، وهي كلمة تخلو من الدلالة السيئة المرتبِطة بها اليوم، بل تدُل وحسب على أن من حقِّه تعيين جميع موظفي الدولة. وهما يعترضان على احتفال الأهالي بعودته أيضًا من باب الولاء لبومبي، وخوفًا من المستقبل الذي ينفرد فيه قيصر بالحكم بعد هزيمة «بومبي» Pompey ومقتله وموت «كراسوس» Crassus اللذين كانا يشاركانه السلطة. والأبيات الأخيرة في هذا المشهد ذات دلالة لا تغيب عن ذهن الفطِن:
فلافيوس :
… انزع شارات انتصار قيصر من جميع التماثيل ..
إننا بذلك ننتِف الريشَ الذي بدأ ينمو في جناحَي قيصر حتى
يهبِط إلى مصافنا، وإلا حلَّق عاليًا وبعيدًا عن الأنظار فظللنا
نعيش جميعًا في رهبةِ العبودية!

ويلي هذا المشهد مباشرةً ظهورُ قيصر لأول مرة على خشبة المسرح، وفي السطور الأربعة والعشرين الأولى ينجح شيكسبير نجاحًا باهرًا في الإيحاء بجو البلاط الملكي الذي شاع في الشرق؛ حيث يتصدر قيصر الموكب ومِن حوله الخدم والحشم والأتباع، وتتردَّد عبارات ذات دلالات درامية عميقة — «صمتًا .. قيصر ينادي»، «لبيك مولاي»، «يكفي أن يأمر قيصر .. فيُقضى الأمر!» — ثم تأتي لحظة اختبار لصلابة تلك الشخصية التي سمِعنا عنها منذ قليل حين يحذِّره العرَّاف فيزيح التحذير جانبًا بجلالة الملوك: «إنه يهذي! دعونا منه وهيا بنا.» والحق أن التأثير الدرامي لهذا المشهد يؤكِّد الانطباع الذي أوحى به الضابطان؛ أي يؤكد مخاوفَ فلافيوس من ازدياد سلطة قيصر.

وبعد ذلك يقع اللقاء الشهير بين كاشياس وبروتس في نفس المشهد؛ حيث تبرُز لنا صورة أخرى للزعيم حين يتصوَّر كاشياس أنه ينتقص من قدرِ قيصر حين يعدِّد نقائصه الجسدية، وهو يُعلي — دون أن يدري — من شأن عظَمتِه النفسية؛ أي يزيدنا احترامًا لهذه النفس الصامدة الجبارة التي لا تخشى أمواج التَّيْبَر العاتية ولا الزمهرير رغم أن الجسد يرتعد حين تُلِمُّ به الحمى! وهو يعجب من عظمة هذا الرجل ذي النقائص الجسدية فيعترف دون أن يقصد بأنه إنسان فذٌّ، وهو يعترض على استئثار قيصر بالسلطة وإمساكه بزمام الأمور، ويتحدَّث عمن يئنون تحت نِير هذا العصر. (ف١، م٢، ٦٠). ويعني بهذا النير أن تنحصر السلطة في يد رجل واحد:

ماذا يقول المؤرخون عن روما اليوم؟
هل يقولون إن ساحاتها الشاسعة
لا تتسع إلا لرجل واحد؟
(١٥٢–١٥٤)

أمَّا بروتس فهو يرى أن الخطر كامن فيما يمكن أن يئول إليه حكم قيصر إذا استمر في هذا الطريق، وهو يشير إلى «الظروف العصبية التي يوشك الزمن أن يفرضها علينا» (١٧١–١٧٢)، كما يشير في خطابه المنفرد في الفصل الثاني، المشهد الأول، إلى هذه الفكرة من خلال صورة فنية تذكِّرنا بالصورة التي رسمها «فلافيوس»:

ومِن ثَمَّ فهو يشبه بيضة ثعبان،
إذا أفرخت خرج منها ثعبان من طبيعته أن يلدغ!
ومِن ثَمَّ لا بد من قتله قبل أن يخرج من البيضة!
(٣٢–٣٤)

والحقيقة أن هذا المشهد يؤكِّد الصورةَ التي رسمها لنا المشهد الأول، صورة الملك الشرقي والتمثال الهائل، ويبدأ في الفصل بين عناصر «البشر» الفانين في شخصية قيصر وعناصر «الإنسان الفائق» فيه، بل والمقابلة بينهما لإظهار التناقض الذي يستغله شيكسبير دراميًّا إلى أقصى حد؛ إذ إن قيصر نفسه يؤكد هذا التناقض (كما يقول جون بامر في نفس الكتاب، ص٣٧)؛ فهو يضع نفسه فوق مصافِّ البشر، وفي نفس الوقت يذكِّرنا ببشريته وضَعفه، مثلما يحدُث في الفصل الأول عندما يتحدث عن تخوفه من كاشياس فهو يؤكد لأنطونيو:

إنني أحدِّثك عن مصدر الخوف
لا عمَّا أخافه أنا، فأنا دائمًا قيصر.

ثم يردِف ذلك بالإشارة إلى التناقض بين قوة الروح وضعف الجسد:

انتقل إلى يميني حتى أسمعك؛
فأذني اليسرى صماء
وقل لي حقًّا رأيك فيه.
(ف١، م٢، ٢٠٨–٢١١)

ويقول دوفر ويلسون (نفس المرجع، ص١١٣) إن الجو هنا يوحي أيضًا بالبلاط الشرقي؛ فعندما يغضب قيصر «تلوح على الجميع سيماء المذلة كأنما أغلظ لهم القول»، ومع ذلك فإن كاسكا يؤكِّد حصافته وذكاءه السياسي وقدرته على فهم البشر التي شهدنا طرفًا منها في وصفه لكاشياس، عندما يتحدَّث عما فعل مع العامة في ذلك اليوم المشهود، ثم ينهي حديثه بملاحظة بالغة الدلالة وهي العِقاب الغامض الذي أنزله قيصر بالضابطين اللذين نزعا الزينةَ عن التماثيل؛ فهو يقول: إنه أخرس ألسنتهما! مما يوحي للجمهور بأنه قتلهما؛ أي لم يعزلهما من منصبيهما فحسب كما يقول بلوتارخوس.

وصورُ قيصر — حتى هذه اللحظة؛ أي حتى ف١، م٢، ٣٠٥ — كما يقول شانتزر ترجِّح كِفة الميزان لصالح نظرة المتآمرين إلى قيصر، وتجعلنا نشارك بروتس مخاوفه، ولكن الحديث المنفرد الذي يختتم به كاشياس هذا المشهد يلقي بظلال الشك الكثيفة على صدق دوافعه، ويبيِّن لنا بوضوح وجلاء أن معارضته لقيصر مبعثها دوافع شخصية محضة، ومِنْ ثَمَّ يجعلنا نتساءل عن حقيقة الانطباع الذي خرجنا به عن قيصر ومدى صدقه، خصوصًا وأن مصدر هذا الانطباع هو في الغالب كاشياس نفسه! ورغم أن كاشياس من أتباع الفلسفة الأبيقورية التي لا تعترف بالخوارق ولا الخرافات؛ فهو يتنكَّر لفلسفته عندما يحاول إقناع كاسكا بالخوف من قيصر:

لكنك إذا تأمَّلت السببَ الحقيقي وراء هذه النيران الساقطة،
فسوف ترى أن السماء قد ألقت فيها تلك الشياطين
حتى تخوِّفنا وتنذِرنا بقرب وقوع حالة شائهة شاذة!
بل إنني أستطيع أن أذكر لك رجلًا أشبه ما يكون بهذه الليلة الليلاء!
رجل يرعد ويبرق وينبش القبور ويزأر
مثل الأسد القائم في الكابيتول!
(ف١، م٣، ٦١، ٦٧–٧٥)

وهذه الصور لا شك من ابتداع خيال كاشياس، وهي لا تغيِّر من الانطباع الذي تكوَّن لدينا عنه حتى الآن. ومن المفارقات الغريبة أن يعود قيصر إلى استخدام نفس الصورة في الحديث عن نفسه (ف٢، م ف، ٤٤–٤٦) عندما يقول إنه أشدُّ خطورةً من الخطر نفسه، فهو والخطر:

أسدان وُلدا في يوم واحد،
لكنني أكبر منه وأشدُّ هولًا!

ولكن هذه الإشارة تأتي بعد أن تتحوَّل صورة قيصر في أعيننا للمرة الثانية في الحديث المنفرد الذي يلقيه بروتس في بداية الفصل الثاني (١٠–٣٤) حين يشير إلى قيصر في صورةِ بيضة الثعبان التي سبقت الإشارة إليها. ثم يجد نفسه مضطرًّا بدافع الأمانة الفكرية و«الصدق مع النفس» إلى أن يقول: والحق أن قيصر لم يسمح لأهوائه أن تتحكَّم في عقله! (٢٠) فهل نصدِّق بروتس؟ وهل بروتس محقٌّ في حكمه هذا على قيصر؟ أم تُراه أخطأ في الحكم عليه مثلما أخطأ في الحكم على أنطونيو وكاشياس؟ إن إشارته إلى «تواضع» قيصر (أو حتى التظاهر بالتواضع) في السطر ٢١ من نفس المشهد توحي بخَطَل رأيه؛ إذ يتناقض مع التفاخر والتباهي الذي يبديه قيصر، بل ومع سلوكه كله أمامنا على المسرح! ويعلِّق شانتزر على هذا قائلًا:

«إن شيكسبير يشكك في صحةِ الصورة التي يرسمها بروتس لقيصر، مثلما يشكِّك في الصورة التي يرسمها له كاشياس، ويشكِّك فيما بعدُ في الصورة التي يرسمها أنطونيو بحيث تظل طبيعة قيصر الحقيقية لغزًا من الألغاز.»

(نفس المرجع)

ولا شك أن شانتزر مصيب في هذا، بل إن هذا اللغز لا ينجلي في المشاهد التالية التي نرى فيها قيصر؛ إذ نراه مشغولًا — حتى حين يختلي بزوجته في المنزل — برسم صورة قيصر الأسطوري؛ فهو ليس زوجًا يخاطب زوجته، بل زعيمٌ مزهوٌّ بمنصبه، متفاخرًا بموقعه فوق مصافِّ البشر الفانين:

بل سيخرج قيصر! إن الأشياء التي تتوعدني
لم ترَ إلا ظهري، أمَّا إن شاهدت وجهَ قيصر
فسوف تتلاشى في الحال،
فالخطر يعلَم حقَّ العلم أن قيصر أشدُّ منه خطرًا،
أسدان وُلدا في يوم واحد،
لكنني أكبر منه وأشد هولًا!
(ف٢، م٢، ١٠–١٢، ٤٤–٤٦)

ولا يُظهِره شيكسبير في مظهر المضيِّف الكريم إلا في حدود آداب السلوك الرومانية، مستندًا إلى ما قاله بلوتارخوس عنه، فهو يحادث ضيوفه واحدًا بعد الآخر، ويدعوهم إلى مشاركة النبيذ، وتؤكد هذه الخصال الطيبة فيه الصورة التي يرسمها أرتميدوروس له:

قلبي حزين لأن الفضيلة لا تستطيع الحياةَ
بمنجاة من أنياب منافسة الحساد!
إذا قرأت هذه الورقةَ يا قيصر فربما كُتبت لك الحياة،
وإن لم تقرأها فلا بد أن الأقدار متواطئة مع الخونة!
(ف٢، م٣، ١١، ١٤)

ولا نكاد ننتهي من النظر إلى الصورة الطيبة حتى يعود شيكسبير إلى إثارة ضيقنا ونفورنا من قيصر عندما يقدِّمه لنا في صورة المتغطرس (حتى باسم القانون) الذي يتفاخر ببروده وصلابته وابتعاده عن سائر أبناء البشر:

لو أني مثلكم لتأثَّرت بكلامكم!
ولكني ثابت كالنجم القطبي،
لا يضارعه نجم في السماء
في رسوخه وثبات موقعه.
(ف٣، م١ ،٥٨، ٦٠–٦٢)

والمفارقة هنا هو أن هذا الثابت الذي يتفاخر بثباته سوف يسقط بعد قليل، وسوف يلاحظ القارئ سرعة المفارقة في تلك العبارة التي يقولها قبل مقتله بثوانٍ معدودة «ابتعد عني! هل تستطيع أن ترفع جبل الأوليمب؟» (٧٣)، فجبل الأوليمب ينهار وينهدم!

وأخيرًا يقدِّم إلينا أنطونيو صورةً لقيصر تتناقض مع الكثير مما سبقها؛ فهو هنا القيصر الذي شاع في التقاليد الشعبية في العصور الوسطى، المحارب الصنديد، «مرآة الفروسية»، والإمبراطور النبيل، فهو نبيل:

يا أطلال أنبل إنسانٍ عاش على مرِّ الزمن!
(ف٣، م١، ٢٥٦)

وهو مخلِص:

إذ كان لي صديقًا مخلصًا ومنصفًا.
(٣ / ٢ / ٨٧)

وهو كريم:

إنه يوصي لكل مواطن روماني،
لكل فرد على حدةٍ بخمسة وسبعين درهمًا.
(٣ / ٢ / ٢٤٣)

وهو قائد عسكري عظيم:

عاد قيصر بالعديد من الأسرى إلى روما.
(٣ / ٢ / ٩٠)

وذو قلب رحيم:

عندما بكى الفقراء إبَّان المجاعة، بكى قيصر إشفاقًا.
(٣ / ٢ / ٩٣)

ورغم أننا لا نشكُّ في صدقِ نوايا أنطونيو، فإن الصورة التي يرسمها لقيصر تعتبر جزءًا من الخطة المحبوكة لإثارة الجماهير للانتقام من قاتليه؛ فكلُّ ما يقوله هنا مرسوم بدقة لتحقيق هدف معين، ولذلك لا يمكن أن نعتبر أنه يقدِّم إلينا حقائقَ لا يرقى إليها الشك!

وهكذا فنحن نرى في النصف الأول من المسرحية عدةَ صور لقيصر لا تتشابه كثيرًا فيما بينها، وإن كان من بينها ما لا يتناقض مع البعض الآخر؛ فكاشياس يقدِّم إلينا صورتين، ويقدِّم كاسكا صورة بالغة الوضوح، بينما يرسم بروتس صورة مختلفة، وتبرز في حديث أرتميدوروس صورةٌ تشترك مع هذه بعض الشيء، قبل أن يظهر قيصر بنفسه ليوحي بصورة أخرى، يتلوها خطاب أنطونيو الذي يصوِّره في صورةٍ تختلف عن كلِّ ما سبق!

ونحن لا شك نتساءل: أيُّ هذه الصور صحيحٌ وأيها كاذب؟ وإن كان شانتزر (في الدراسة التي أشرت إليها) يقول إن شيكسبير هو الذي يطرح — فيما يبدو — هذا التساؤل، وينتهي إلى أن يقول:

«ألا يعتبر شيكسبير سابقًا للكاتب المسرحي الإيطالي (لويجي بيرانديللو) في الإيحاء إلينا بأن قيصر الحقيقي وهم؟! وبأن قيصر موجود فقط باعتباره مجموعة من الصور في عقول الآخرين وعقله هو؟ إذ إن قيصر الذي يرسمه شيكسبير مشغول دائمًا بما يسميه بيرانديللو Costruirsi؛ أي «بناء نفسه» أو خلق صورته الخاصة بقيصر، حتى إننا نتساءل في النهاية إذا ما كان رفْعُ القناع سوف يكشف عن وجود أيِّ وجه تحته على الإطلاق؟»
ولقد تضاربت الأقوال بشأن هذا التعدُّد في صور قيصر المسرحية، وأهم رأي لدينا هو رأي ﻫ. م. أيرز H. M. Ayres الذي كتب في عام ١٩١٠م مقالًا في مجلة P. M. L. A. (العدد الخامس والعشرون، ص١٦٣ وما بعدها)، يقول إن شيكسبير تأثَّر باتجاه الكُتَّاب المسرحيين الفرنسيين في عصره الذين صوَّروا شيكسبير في صورته التي سادت عصر النهضة، صورة البطل التراجيدي الذي يعيبه نقص واحد هو غروره وخيلاؤه، ومِن ثَمَّ ينتهي نهاية فاجعة (مثلما فعل «موريه» Muret حين صوَّر قيصر في صورة هرقل التي رسمها الكاتب الروماني «سينيكا» Seneca). وقد ردَّ على ذلك برناردشو بطريقة غير مباشرة حين زعم أن العيوب التي يلصقها شيكسبير بقيصر لا يقصد منها إلا إعلاء شأن بروتس (انظر مقدمة ثلاث مسرحيات للبيوريتانيين، ١٩٢٥م، ص٣٠). وهو يعني بهذا أن شيكسبير يعيب شخصية قيصر أو يجعلها مزيجًا من العيوب والمحاسن بغيةَ إضفاء خصائص درامية على بروتس، بحيث تتوازى كِفتا الصراع. والواضح هنا أن برناردشو يورِد سببًا فنيًّا محضًا؛ لأنه يريد أن يعلي من طرف خفي الصورةَ التي رسمها هو لقيصر في مسرحية قيصر وكليوباترا.

أمَّا التفسير الحديث الذي قلت إنني أميل إليه فهو أن تعدُّد هذه الصور قد قصدَ به شيكسبير إشراك القارئ في عملية الحكم والتقييم عن طريق تنويع استجابته لكل عنصر من عناصر الصراع؛ ولذلك فهو دائمًا ما يقابل كل عنصر بعنصر آخر يختلف عنه حتى ولو كان يضيف إليه عمقًا جديدًا، وكذلك الحال بالنسبة لبروتس، بل بالنسبة لكاشياس وباقي المتآمرين، بحيث نرى المسرحية في صورة عناصرها المتشابكة؛ ولذلك فهي مسرحية مشكل — لا مجرد مأساة — مثل ماكبث مثلًا أو غيرها من التراجيديات التي لا يواجه القارئ أو المتفرج في إطارها أيَّ مشكلة في الاختيار؛ فالمشكلة المطروحة أمام الجمهور هنا تتكوَّن من مشكلتين؛ مشكلة نفسية وأخرى أخلاقية، فالمشكلة النفسية تتعلق بحقيقة البطل الذي يتعاطف معه المؤرخون، ويتعاطف معه شيكسبير في مواضعَ كثيرة، بل في الجزء الثاني من المسرحية حين يبسط قيصر تأثيره على الأحداث وتبرز روحه (على المسرح يظهر شبحه لبروتس) ثم تنتصر على المتآمرين:

بروتس :
أواه يوليوس قيصر!
ما زلتَ ذا بأس شديد، وما زالت روحك طليقة،
توجِّه أطراف سيوفنا إلى أحشائنا!
(٥ / ٣ / ٩٤–٩٦)
بروتس :
لقد ظهر لي شبح قيصر مرتين بالليل،
مرةً في سارديس، ومرةً أخرى البارحة .. هنا
في سهول فيليبي .. وأعلم أن ساعتي حانت!
(٥ / ٥ / ١٧–١٩)

ومن داخل هذه المشكلة النفسية التي يجسِّدها بروتس نفسه في أول مراحل المؤامرة حين يعلن للمتآمرين أن العدو الحقيقي هو روح قيصر:

إننا نهاجم روح قيصر جميعًا،
وليس في الروح دماء.
ليتنا استطعنا أن نقبض روح قيصر
دون أن نمزِّق أوصاله!
(٢ / ١ / ١٦٧–١٧٠)
أقول: من داخل هذه المشكلة النفسية تبرز المشكلة الأخلاقية أو الفلسفية، وهي مدى صواب المتآمرين ومدى خطتهم في قتل قيصر؛ إذ يبدو لي أن شيكسبير يُبقي على بعض الأسئلة دون إجابة حاسمة؛ فالاختيار الذي يواجهه بروتس يصعد به إلى مصافِّ الأبطال المأسويين، ولكنه اختيار فلسفي/أخلاقي أكثر مما هو نفسي؛ إذ إنه يواجه روح طغيان محتمل؛ أي إنه يواجه المستقبل الذي كُتب عليه أن يكتنه سرَّه ويسبر غوره من واقع احتمالات فقط، لا من واقع الحقائق الثابتة! أي إن بروتس يمكن أن يكون على حق. ولو كان قيصر قد عاش فربما تحوَّل إلى الثعبان الذي يخشاه (١ / ٢ / ٣٢–٣٣). وإذا كان شيكسبير قد استخدم المادة الدرامية لإيضاح خَطَل رأي بروتس وعصابته، وإرجاح كِفة الخطأ الأخلاقي في مقتل قيصر، فإن عيب قيصر الأساسي — وهو عنصر الزهو والغرور الناشئ عن الكبرياء hubris (وكان البروفسور كيتريدج Kittredge من أوائل مَن فطنوا إليه في مقدمته لطبعته للمسرحية) — يكفي للإيحاء باحتمال صواب بروتس، ولا أقوال صواب المتآمرين جميعًا على اختلاف دوافعهم. وهذا هو ما توضِّحه مشاهد القتال حيث يبيِّن شيكسبير أن هزيمة المتآمرين هي نتيجة أخطاء عسكرية؛ أي أخطاء في إدارة الحرب وحسب، ولو كانوا قُوَّادًا مهرة لتغيَّر وجه المسرحية أو وجه التاريخ!

ولذلك أيضًا يلجأ شيكسبير إلى استخدام «الجمهور»؛ أي العامة الذين يملئون المسرح في المشاهد الحاسمة — استخدامًا دراميًّا — فهل نحن مع العامة دائمًا أم نحن نتأملهم أيضًا من واقع سلوكهم ونحكم عليهم من مسافة كافية؟ إن الجمهور يظهر أول الأمر باعتباره مجموعةً من الأفراد، كلٌّ منهم كما يقول «ألوواي» في مقدمة طبعة ماكميلان (ص٧) له شخصيته المستقلة، ولكنهم أيضًا جمهور بمعنى أنهم يميلون إلى عبادة البطل (وربما شاركوا في خلْق صورة البطل) وهم يتأثَّرون بالكلام؛ أي بالبلاغة والألفاظ الطنانة. وبعد ذلك نجدهم هنا وهناك حتى يأتي ذلك المشهد الغريب الذي يقتلون فيه «سِنَّا» الشاعر حتى بعد أن أكَّد لهم أنه ليس «سِنَّا» المتآمر! إنهم يمثلون روح «الخراب» أو «إله الخراب» الذي يستدعيه أنطونيو ليثأر لمقتل صديقه وخلِّه الوفي! لقد استطاع بروتس أن يُقنِع الجمهور حتى صاح الناس «فلتجعلوه قيصرًا عليكم»، مثلما كانوا يريدون أن يتوِّجوا قيصر ملكًا! والآن ينقسم هذا الجمهور انقسامًا حاسمًا بين أتباع المتآمرين وأتباع أنطونيو وأوكتافيوس، ولا يحسم الصراع إلا سبب عسكري (خارجي)!

كما ينجح شيكسبير في الإبقاء على طبيعة الإشكال في المسرحية حين يصوِّر لنا الصراعات الناشئة بين بروتس وكاشياس، وبين أنطونيو وأوكتافيوس؛ فهو لا يحسم الأمرَ بنهاية عادلة مشرقة كما يفعل في ماكبث مثلًا، حيث يعود الحق لأصحابه وتعمر نفوسنا بالأمل في عهدٍ جديد لحكمٍ عادل نزيه في اسكتلنده.

إن كثرة علامات الاستفهام المطروحة حول المسائل النفسية والفلسفية والأخلاقية التي تستند إليها المسرحية تنفي عنها صفة التراجيديا الكلاسيكية، وتدخلها في دائرة المسرحية المُشكل، سواء كانت المسرحية المُشكل حديثةً من النوع البيرانديللي أو الإبسني (مثل البطة البرية) أو من النوع الشيكسبيري نفسه مثل مسرحية صاعًا بصاع!

وأخيرًا فينبغي أن أذكِّر القارئ بما سبق أن قلته في بداية المقدمة عن الدور الذي تلعبه اللغة أو البلاغة في هذا النص الفريد؛ فنحن دائمًا في مواجهة لغة يُحْكِمُ أصحابها استخدامها، وهي لغة غير عادية؛ إذ تتفاوت في الارتفاع والانخفاض لكي تأخذنا ذات اليمين وذات الشمال دون أن نعرف بالتحديد ما يدُف بين ثناياها من مشاعرَ إنسانية ومن دوافع تقرِّب إلينا شخوص المسرحية على مستوى البشرية الصادقة، فشيكسبير يستخدم اللغة كبناء موازٍ لحركة الفكر، ودراسة هذه اللغة مهمة، ومن شأنها أن تقدِّم لنا مزيدًا من المفاتيح لفهم هذه المسرحية المُشكل، ويسعدني أن اختارت إحدى بناتنا في قسم اللغة الإنجليزية — وهي علا محمد حافظ المدرس المساعد بالقسم — تحليل لغة هذه المسرحية بالذات موضوعًا لرسالة الدكتوراه.

وأخيرًا، أرجو أن أكون قد قدَّمت للقارئ العربي هذا النص الصعب الفهم في صورةٍ يسيرة تعينه على قراءته وتذوُّقه، سواء قبِلَ النظرةَ النقدية الحديثة التي عرضتُها أم فضَّل النظراتِ النقديةَ القديمة.

والله ولي التوفيق.

محمد عناني
القاهرة، ١٩٩٠م
١  انظر مقالتي Spots of Time التي صَدَّرْت بها الترجمة الإنجليزية لمسرحياتي ذات الفصل الواحد.
The Prisoner and the Jailer. tr. Nayla Naguib, Cairo State Publishing House, 1989.
٢  مسرحياتي المنشورة هي: ميت حلاوة (١٩٧٩م)، والسجين والسجَّان ومسرحيات أخرى (١٩٨٠م)، البر الغربي والمجاذيب (١٩٨٦م) — وهي جميعًا منثورة وبالعامية المصرية. ثم الغربان (١٩٨٧م)، وجاسوس قصر السلطان (١٩٩٠م) وهما بالشعر المرسَل، وكلها صادرة عن هيئة الكتاب.
٣  تتضمَّن قائمةُ ترجماتي أعمالًا أدبية غير المسرح، آخرها رواية عيد ميلاد جديد (١٩٨٩م، مركز الأهرام للترجمة والنشر) للكاتب الأمريكي أليكس هيلي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤