المقدمة
وقد شرعتُ، بعد انتهائي من ترجمة تاجر البندقية، في الاستعداد لترجمة هذه المسرحية. فذكرتُ أنني رأيت لها ترجمةً عربية رصينة، قرأت بعضًا منها في منزل أستاذي الدكتور عبد الحميد يونس أثناء معاونتي له — رحمه الله — وأنا بعدُ أخضرُ العود في ترجمة مسرحية أخرى لشيكسبير هي طرويلوس وكريسيدا في صيف عام ١٩٥٩م. وذكرتُ أن الدكتور يونس كان معجَبًا بها أيَّما إعجاب، وكنت أقرأ له منها أقسامًا تبهرنا بجزالتها ورصانتها، وكثرة مائها ورونقها وخلوها — كما يقول أبو هلال العسكري صاحب الصناعتَين — من أودِ التأليف وعِوج التركيب. وذكرتُ أيضًا أنه كان ينصحني باتباع منهج مترجِم هذه المسرحية، وهو الأستاذ محمد حمدي، لنجاحه في تحاشي رطانة الترجمات الحديثة وركاكة المترجمين الذين كانوا آنذاك (وما زالوا حتى يومنا هذا) يلتزمون بحرفية النص بدعوى الأمانة.
وعندما ذكرت تلك الترجمة بدأت أتساءل عن جدوى إخراج ترجمة جديدة، فاستشرتُ صديقي الدكتور ماهر شفيق فريد في الموضوع، وطلبت منه أن يقطع لي برأي؛ فهو مرجعٌ أستند إليه في شئون الأدب الإنجليزي الحديث والأدب المقارن والترجمة جميعًا، وهو ناقد ذو إحاطة موسوعية لا تتأتى للكثير من أبناء هذا الجيل، فلم يلبث أنْ أعارني نسخةً لديه من تلك الترجمة القديمة (ليس عليها تاريخ الصدور)، وترجمة أخرى قام بها الأستاذان عبد الحق فاضل، ومصطفى حبيب، وصدرت في سلسلة ترجمات شيكسبير عن الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية عام ١٩٧٣م، ولم أكن قد اطلعت عليها من قبل. وعندما أعدتُ قراءةَ نص محمد حمدي عاودني الإعجابُ القديم، وكاد يصيبني اليأس من المضي في المشروع، ثم جعلت أقارن بين النص العربي والنص الإنجليزي فوجدتُ ما أعاد إليَّ الأمل ودفعني إلى التفكير في الموضوع الذي كنت طرقتُه من قبلُ في مقدِّمات ترجماتي الأدبية تفكيرًا مُركَّزًا وعميقًا — ألا وهو مناهج الترجمة الأدبية.
ولكنني سأعرض فحسب ما يتصل منها بالترجمة الأدبية، وهي تسمية غير دقيقة، ويُقصد بها بطبيعة الحال ترجمة النصوص الأدبية، وأمَّا علاقة اللغة بالإبداع بصفة عامة فأنصح القارئ بالرجوع إلى كتاب شكري عياد «اللغة والإبداع» الذي اطلعتُ عليه بعد أن طُبعت دراستي المذكورة، فلم أتمكَّن من الإفادة منه، وإن كنت قد أشرتُ إليه في ذيل الدراسة.
وجوهر «النظرة» التي أقول إنني انتهيتُ إليها — باختصار — هو أن اللغة العربية لم تكن لغةً موحَّدة على مدى تاريخها الطويل، وأنا لا أعني بذلك اختلافَ اللهجات العربية، ولكنني أقصد أن الانفصال بين لغة «الأدب الرسمي» ولغة الحياة اليومية، كان قائمًا بدرجاتٍ متفاوتة منذ أقدم العصور (وليست اللغة العربية فريدةً في هذا)، ولكننا لا نستطيع أن ندرك درجات هذا الانفصال وأشكاله؛ لأن هَمَّ الرواة والمؤرخين كان الحفاظ على الأدب «الرسمي»، واللغة الرسمية وحدها دون المستوى الآخر؛ فالشِّعر الذي حفظه لنا الرواةُ ومن بعده النثر الفني المسجَّل في الكتب، كانا يمثلان التيارَ الرئيسي الذي تصب فيه تقاليدُ الأمة العربية وأعرافها، وهي لا تقتصر على التقاليد اللغوية والأدبية، بل تتخطاها إلى التقاليد الاجتماعية والإنسانية العامة، وكانت جميعًا ترصد أبعادَ الشخصية العربية وتحافظ عليها. فكان التعليم الرسمي يبدأ بتعلُّم اللغة، وكانت مباحث اللغة والأدب المختلفة تمثِّل الفروعَ الأساسية للعلم الذي يتلقاه المتأدِّب في صباه، وهكذا كان همُّ المجتمع بصفةٍ عامة هو الحفاظ على هذا التراث وصيانته من «كلام العامة»، خصوصًا بعد التوسُّع الكبير — جغرافيًّا وحضاريًّا — في القرون الأولى للهجرة، والتفكك الكبير أيضًا فيما يُسَمَّى بعصر الانحطاط.
ولهذا فنحن دائمًا ما نقرأ في الكتب التي جمع فيها أصحابُها تراثَ السلف إشاراتٍ إلى مَن قال كلامًا «أصاب» فيه أو «أخطأ»، أو إلى عُجْمةِ هذا الشاعر أو ذاك، وأحيانًا تفلِت من أيدي الرواة عباراتٌ، بل فقراتٌ كاملة على ألسنة مَن يَرْوُون عنهم يختلف فيها مستوى العربية اختلافًا بَيِّنًا عن مستوى الشعر المسجَّل في الكتاب، بل عن مستوى النثر الذي يستخدمه الراوي نفسه. ولا داعي للإفاضة في هذا؛ فقد أثبتَه دارسو الأدب الشعبي العربي (مثل حسين نصار، وعبد الحميد يونس، وغيرهما)، فكلُّ ما أريد أن أوضحه هو أن التيار الرسمي للأدب العربي (واللغة العربية) كان يخفي دائمًا تيَّارًا آخرَ لا يقلُّ عنه أهميةً، وهو إذا كان ينفصِل عنه انفصالًا خارجيًّا (أي إذا كان الرواة والمؤلفون يفصِلون بين التيارين في كُتُبهم)، فهو يتَّصل به اتصالًا داخليًّا وثيقًا؛ لأنه «يغذِّيه» ويُبقي على حيويته. وفي ظني أن دراسة تطوُّر اللغة والأدب لن تكون كاملةً، ولن يكون لها المعنى الذي نرجوه إلا إذا ربطنا بين التيارين.
وعلى مرِّ القرون تطوَّرت اللغة المستخدَمة في الحياة اليومية، وفشا فيها الكثيرُ مما كان أعجميًّا أو مما جرى على ألسنةِ الناس من ألفاظٍ وتراكيبَ ومعانٍ وقيم بلاغية وأشكال أسلوبية؛ بل وتغيَّرت بعض الأصوات العربية (كما أثبت ذلك الدكتور رمضان عبد التواب)، وأقبل الكثيرُ من الكُتَّاب على استخدام اللغة المتطوِّرة التي اكتسبت بالتدريج احترامَ النُقَّاد (رغم وجود نفرٍ في كل عصر لا يَقبلون إلا القديم وينفِرون من كل جديد)، حتى جاء يومٌ ابتعدت فيه اللغةُ الأدبية القديمة ابتعادًا واضحًا عن أقلام الأدباء، وأصبحت اللغة المتطورة هي المستخدَمة في إبداع الأدباء بصفة عامة.
والواقع أن لغة العامة، أي اللهجة العربية المحلية التي تختلف من بلدٍ إلى بلد، لم تكن يومًا بمعزلٍ عن هذا التطور؛ بل إنها كانت دائمًا من العوامل الحاسمة في إحداثه؛ فهي تُسْتخدم في الحديث اليومي، وفي التفكير، وفي الإحساس والتعبير عن المشاعر أيًّا كانت حدَّتها ودرجةُ تعقيدها. ولذلك فقد كانت أقربَ إلى الألسنة العربية من «اللغة الرسمية» التي يتعلَّمها الصبيان في المدارس، وكثيرًا ما فرضت نفسها على صورِ هذه اللغة وقوالبها، فغيَّرتها من وقت إلى وقت، طورًا بالإضافة (بإضافة ألفاظٍ وتراكيبَ جديدةٍ تقتضيها المعاني والمفاهيم الجديدة)، وطورًا بالتعديل (الذي كان القدماء يعتبرونه تحريفًا وتشويهًا)، وطورًا بتقديم المقابِل الجديد لشكلٍ من أشكال التعبير القديم أصبح مهجورًا لبُعد العهد به، ولظهور «سياقات» حيوية (حياتية) جديدة تتطلَّب العربيةَ العامية لا العربيةَ القديمة.
الصعوبة ذاتُ شِقَّين؛ أمَّا الشِّق الأول فيتصل بمفهوم لغة الأدب، وأمَّا الثاني فيتعلَّق بنوعين من الترجمة الأدبية أستطيع من باب التيسير أن أصفَهما بفنِّ إيراد المقابِل (الذي يصل في حالات مثالية نادرة إلى مستوى المثيل)، وفن إيراد البديل إذا تعذَّر المقابِل، ويكفي أن أقول فيما يتعلَّق بالشِّق الأول، إنَّ القول بأن للأدب لغةً تختلف عن لغة «العلم» مثلًا أو لغة الفلسفة قولٌ مضلِّل، وينبغي ألا نقبلَه دون إدراك للتعميم الشديد الذي يشوبه. إذ ما المقصود بلغةِ الأدب؟ المقصود هو اللغة المستخدَمة في الأدب لا اللغةُ التي هي بطبيعتها أدب! وقد نشأ هذا الخلط بكل أسفٍ في فترة من فترات التحوُّل اللغوي كانت اللغة العربية تخطو فيه بحذرٍ من المستويات «القديمة» (والتي اتخذت صورًا بلاغية شكلية محضة) إلى المستويات «الحديثة»؛ إذ استطاع عددٌ من الكُتَّاب أن يبتدع أشكالًا لغويةً جديدةً قادرة على نقل التراث الفكري الحديث إلى العربية. وكان معظم هؤلاء الكُتاب رُوَّادًا في العلوم الإنسانية، وإن كان بينهم عددٌ غير قليل من العلماء، فمَن أجاد منهم اللغةَ العربية وصقل أسلوبه فنفى عنه العُجْمة والرَّكاكة عُدَّ من بين الأدباء، كأنما انحصر الأدبُ في الكتابة بأسلوب منمَّق؛ بل إن أحد أساتذة العلوم، وهو المرحوم الدكتور أحمد زكي، كان يُوصف بأنه أديب لأنه يكتب لغةً عربية ناصعة، ويستخدم أسلوبًا رشيقًا أصبح عَلمًا عليه (يفصِل فيه بين الصفة والموصوف، ويُكثِر من الابتداء بالنكرة، ويحافظ على التماثُل في بناء العبارات المتتالية، وما إلى ذلك). وأذكر أن أحد الكتب المدرسية كان يقول للطلبة: إن ثمَّة شيئًا اسمه الأسلوب «العلمي الأدبي»، وما المقصود إلا عرض المادة العلمية بلغةٍ سليمة وأسلوب فصيح.
أفليس للأدب إذن لغةٌ تميِّزه عن لغة العلم؟ أفلا يستطيع الإنسان عندما يفتح كتابًا أن يستدِل من لغته على طبيعته؛ أيْ أن يحدُس دون تمحيص إن كان علميًّا أو أدبيًّا؟ والإجابة على هذا السؤال في صورتيه تتوقَّف على تعريفنا للأدب — فإذا قال قائل إن الأدب مادةٌ مكتوبة تتناول حياةَ الإنسان — أفكاره ومشاعره ونشاطه ومجتمعه وما إلى ذلك — فربما ردَّ عليه مَن يقول إن العلوم الإنسانية أيضًا تتناول حياةَ الإنسان وتشمل هذه الجوانب؛ فإذا قيل إن الهدف هو الذي يفرِّق بين الكتابة الأدبية والكتابة العلمية، أيْ أن الكتابة الأدبية تستهدف إثارة المشاعر والخيال وتنبيهَ الوعي لدى القارئ، فربما كان الرد هو أنَّ كتابة التاريخ مثلًا أو الكتابة الفلسفية يمكن أن تحقِّق هذا الهدف وإن لم ترمِ إليه! فإذا قيل إن للأدب صورًا معروفة من العبثِ إنكارُها، مثل القصيدة والقصة والمسرحية — وكلٌّ منها يتميَّز بخصائصَ شكلية تهدينا إلى طبيعتها الأدبية — كان الردُّ أن هذه الأشكال قد تخلو من جوهر الأدب كما حدَّده النُقَّاد على مرِّ الزمن؛ فقد تكون القصيدة نظْمًا فارغًا، أو نظْمًا علميًّا (كألفية ابن مالك)، وقد تكون القصة روايةً تاريخية تسرُد الوقائعَ الجافة، وقد تكون المسرحية حوارية باردة، أو فلسفية لا تُخرِج كوامنَ الشخوص ولا انفعالاتها! فإذا قيل إن أساس التفرقة في الواقع هو أن الأدب يتناول «الخيال»، أيْ أن «وقائعه» لم «تقع» وأن شخوصه وأحداثه «مبتكَرة» وغير «حقيقية»، كان الرد أنَّ سردَ الوقائع الخيالية قد يقصُر عن بلوغ مرتبة الأدب، وبأن رصدَ الواقع وتسجيله قد يبلُغ هذه المرتبة، بل وقد يفوق الخيال في إحداث تأثيره! فإذا قيل أخيرًا إن المسألة تتوقَّف في النهاية على «الطريقة» التي يُروى بها هذا أو ذاك، وعلى الأسلوب الذي يتخِذه الكاتب، كان الرد أن الطريقة وحدَها لا تكفي، وفي الصنعة «أداة» يستخدمها الفنان لنقل «رؤية» أو «تجربة» ولا مكان للأداة دون الرؤية، ولا للرؤية دون الأداة!
تنوُّعُ أشكالِ الأدب في العصر الحديث إذن، وتغيُّر تعريفِ الأدب تَبعًا لذلك، هو السببُ في تغيُّر مفهومنا للُّغة التي يُكتب بها الأدب أو ما كُنَّا نُسمِّيه «لغة الأدب»، ومعنى هذا — بإيجاز — أن اللغةَ المستخدَمة في الأدب لا تختلف عن لغةِ الحياة، وإن كانت بعضُ الأنواع الأدبية تتطلَّب مستوياتٍ خاصة من اللغة، خصوصًا ذلك النوع الأدبي الذي اتفقنا على تسميته بالشِّعر، ففي هذا النوع بالتحديد، أو في أنواع خاصة من هذا النوع بتحديدٍ أدقَّ، تختلف الأبنية اللغوية لفظًا وتركيبًا ودلالةً عن لغة الحياة العادية ليس فقط بسبب «النَّظم» (فالشعرُ كما أفهمه يُكتَبُ نظْمًا) وليس فقط بسبب القافية (فكثيرٌ من ألوان الشعر مقفَّاة)، ولكن بسبب «الضغط» أو التكثيف الذي تتميَّز به لغةُ ذلك الفن الأدبي الخاص.
فإذا تركنا الشعرَ الغنائي بمشاكله الكثيرة المتداخلة، وتأمَّلنا اللغةَ التي يُكتَب بها النثرُ الأدبي بمستوياتها المتعدِّدة لأدركنا الصعوبةَ التي يواجهها مترجِمُ العمل الأدبي الحديث إلى العربية؛ إذ إنه يواجه أحيانًا نصوصًا تتضمنُ مستوياتٍ لغويةً لا يمكن أن يتقبَّلها القارئ الذي اعتاد اللغةَ الجَزْلة التي اتسم بها تراثُ العربية الكلاسيكي، والتي يُعترفُ بها وحدَها أدبًا! وهو — ثانيًا — يواجه نصوصًا تتحدَّث فيها الشخصيات «لغاتٍ» مختلفة؛ إذ كثيرًا ما نرى لغةَ المؤلِّف وقد ابتعدت كلَّ البُعد عن المستويات اللغوية التي تستخدمها الشخصيات التي ابتدعها، سواء كان ذلك في المسرح أم في الرواية والقصة القصيرة، بل إن النُقَّاد يَعيبون على المؤلِّف توحيدَ اللغةِ التي يستخدمها هو ومَن يتحدَّث على ألسنتهم أو من وجهةِ نظرهم في تلك الفنون الأدبية. بل إن هذا العيب يصبح نقصًا بالغًا في المسرح حيث يتوقَّع الجمهور أن تختلِف اللغة التي يستخدِمها المثقفون عن لغة رجل الشارع مثلًا؛ فلا يُعقل في إطار المذاهب الفنية الحديثة أن يتحدَّث نجارٌ أو حدَّاد مثلًا — مهما بلغ امتيازُ الشخصي ومهما بلغت فطنته — نفسَ اللغةِ التي يتحدَّثها قاضٍ أو طبيب أو مهندس، ولا أقول الأستاذ المتخصِّص في علمٍ من العلوم.
إن لدينا الآن تراثًا حافلًا بالعامية المصرية في المسرح يتضمَّن ضُروبًا منوَّعةً من بلاغة الحديث الحي التي تنبُع من السياق ومن تقابُل بواطن الشخصيات واصطدامها وتصارعها بعضُها مع البعض. وقد تبلُغ كلمة واحدة يقولها زائرُ القاهرة الريفي لسائق التاكسي درجةً من البلاغة لا مثيلَ لها في تراث العربية القديم، وقد نجِد في حوارِ ربَّة المنزل مع بائع الخُضَر من البلاغة ما تقصُر عنه الفصحى، وما لا يُترجَم إلى الفصحى إلا بشِق النفس، وقد فعل ذلك المازني في العديد من كتبه. ولا أريد أن أسهِب وأطيل؛ فالأنواع الأدبية الجديدة تتحدَّث عن نفسها، وتصويرُ الكاتبِ حوارًا بين نفرٍ من العامة أو تسجيلُه الدقيقُ لما يدور داخل نفوسِ الشخصيات قد يبلُغ درجاتٍ عُليا من البلاغة يندُر أن نجِدَها في شعرِ الأقدمين.
لقد اختلف معنى البلاغة في عصرنا عمَّا كان عليه في العصور الخوالي، وليس من المعقول أن نقتصرَ في تحليلاتنا البلاغية على ما أورده النُقَّاد العربُ الذين كانوا يستمدون أفكارَهم ممن سبقهم ويبنون أحكامَهم على شعر الماضي (أو على شعر زمانهم كما فعل الثعالبي في يتيمة الدهر) بعد أن اضطرتنا الأنواعُ الأدبية الجديدة إلى تعديل معاييرنا البلاغية.
•••
ينبغي أن ننفي عن أذهاننا إذن وجودَ لغة مستقلة للأدب؛ أيْ لغة موحَّدة يستطيع المترجِم أن ينقل إليها شتَّى الأعمال الأدبية العالمية، بل أن نؤكِّد ضرورةَ هضمِ المترجم للنص الأدبي أوَّلًا للتحقُّق من نوع اللغة المستخدَمة فيه ونوع البلاغة التي يستخدِمها الكاتب قبل الشروعِ في الترجمة. وهذا يؤدي بنا إلى السؤال الثاني، وهو الهدف من الترجمة ووسيلة تحقيقه، أيْ منهج الترجمة الذي يصل بالمترجِم إلى غايته.
أودُّ أن أقرِّر في البداية أن النص الأدبي المترجَم يُعتبر عملًا أدبيًّا جديدًا، وما أجدرَنا أن ننقُل إلى مكتبتنا العربية عيونَ الأدب العالمي، بحيث يمكن الرجوعُ إليها والاعتماد عليها مثلما يرجع الإنجليز مثلًا إلى ترجمات تشيخوف الإنجليزية عن الروسية التي أبدعتها كونستانس جارنيت، وترجمات إبسن الإنجليزية عن النرويجية مثلًا (التي أخرجها وليم آرتشر)؛ فهذه الترجمات قد أصبحت جزءًا لا يتجزأ من تراث الإنجليزية، وأذكر أن رواية «ذئب الأحراش» للكاتب الألماني «هيرمان هسه» لم يُكتب لها النجاح إلا عندما تُرجمت إلى الإنجليزية وانتشرت في أرجاء العالم المتحدِّث بالإنجليزية، حتى لقد بيع منها في الستينيات خمسةُ ملايين نسخة، وأثَّرت على جيلٍ كامل من الشباب الذي كان ما يزال يعاني من آثارِ ما بعد الحرب ويناقش القضايا الاجتماعية الساخنة التي برزت إلى السطح في تلك الآونة. وأذكر أنني كنت أقرؤها جنبًا إلى جنب مع روايات «جورج أورويل» (مؤلف رواية «مزرعة الحيوانات» ورواية «١٩٨٤» و«لتحيا زهرة الصبار» وغيرها) دون أن أشعر أن «هسه» ألماني و«أورويل» إنجليزي (واسمه الحقيقي إريك بلير، ولغته الأولى الإنجليزية)، كما كنت أقرأ مسرحيات الكاتبة الفرنسية «مارجريت دورا» المترجَمة إلى الإنجليزية بعد أن احتلَّت مكانًا راسخًا بين المؤلفين المسرحيين الإنجليز دون أن أشعُر بأن أصلها فرنسي.
لا شك أن قارئ الأبيات العربية سوف يستجيب على الفور إلى الإيقاع العربي الأصيل والقافية السلِسة غير المفتعلة بحيث يتشرَّب روحَ النص الأصلي وينفُذ إلى جوهره معنًى ومبنًى. وفي رأيي أنه لو لم يكن الدكتور زاخر غبريال شاعرًا مفطورًا ما استطاع أن يبدِع هذه الترجمة الرائعة التي تستند إلى مصطلح اللغة العربية وتقدِّم المقابِل الصادق حتى وإن اختلفت في كلمة أو كلمتين عن النص الإنجليزي.
ولقد حاولت منذ عدةِ سنوات أن أقدِّم المقابِل (الذي قد يرقى إلى المثيل) لقصيدة وردزورث الشهيرة التي يسميها النُقَّاد قصيدةَ «الرثاء الرفيع» وهي:
•••
فوجدت أن الفقرتين تمثِّلان التقابُل بين لحظتين من لحظات الوعي لدى الشاعر: الأولى لحظة نُعاس غفَل فيها عن الحقيقة، وهي أن البشر فانون، وذلك لفرطِ جمال الطفلة التي يرثيها أو لفرط حبِّه لها؛ إذ بدت له من طينةٍ غير بشرية، فمحت من نفسه مخاوفَ الفَناء، أو كما يقول بدا أنها لا يمكن أن تمسَّها يدُ السنين الأرضية! أمَّا اللحظة الثانية فهي لحظة صحو الشاعر على الحقيقة حين اكتشف أنها فقدت القدرةَ على الحركة، وفقدت معها قوةَ الأحياء، ولم تَعُد تسمع أو تُبصِر، بل أصبحت جزءًا من الأرض تدور معها دورتَها اليومية في صحبةِ الصخور والأحجار والأشجار (انظر شرْح هذه القصيدة في كتابي «الأدب وفنونه» المشارِ إليه، ص٦٣–٦٥).
وهذا التقابُل يتطلب فقرتين مستقلتين. أمَّا عن البحر المستخدَم فهو بحر الأيامب، الذي يتفاوت الشطر فيه طولًا بين أربع تفعيلات في الشطور الفردية وثلاث تفعيلات في الشطور الزوجية. وتأثير هذا التفاوت واضح؛ فالشطران الثاني والرابع من الفقرة الأولى مثلًا ينتهيان نهايةً مقتضَبة، وتنتهي الجملة نحويًّا عند نهاية كلٍّ منهما بينما يتصل الشطر الثالث نحويًّا بالشطر الرابع. وكذلك فإن القافية تختلف من فقرة إلى فقرة إلى الشطور الزوجية وتتصل إلى حدٍّ ما في الشطور الفردية. ولذلك حاولت مراعاةَ ذلك عند تقديم المقابِل بالعربية:
إننا إذن أمام قصيدة عربية جديدة تنقل الصورَ الأساسية والمفارقة، بل والصور الثانوية، في النص الأصلي في بناء شعري مستقل يعتمد على مصطلح اللغة العربية؛ فالترجمة لا تقول «ليس لديها الآن حركة ولا قوة» فهذا ركيك، ولا تقول «إنها الآن لا تسمع ولا تُبصِر» خشيةَ الإيحاء بالدلالة الدينية المعروفة إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ [مريم: ٤٢)]، قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: ٤٦]، لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك: ١٠]، والله هو السميع البصير. ولذلك فإن الترجمة تحاشت هذه الدلالة التي تضرب بجذورها في أعماق اللغة العربية، واختارت مصطلحًا ينقل المعنى دون أن يلقي بظلال لا داعي لها على الصورة.
ولكن أهم ما تتسم به الترجمة المقابِلة في نظري هو الموازنة في البحر المستخدَم. فالبيت الأول من أربع تفعيلات، وإن كان يختلف عن بحر البسيط التقليدي في أنه يوازي بين مستفعلن ومتفاعلن (أي بين تفعيلة الرجز وتفعيلة الكامل)، وكذلك البيت الثالث. أمَّا البيتان الثاني والرابع فهما يلتزمان بتفعيلة الرجز المزاحفة (متفعلن). وكذلك الشأن في الفقرة الثانية التي تحافظ على التوازي بين الشطور رغم هذه الحرية في فهْم الخلاف والاتفاق بين الرجز والكامل (انظر كتاب «مدخل رياضي إلى العروض العربي» للدكتور أحمد مستجير، القاهرة، ١٩٨٦م).
وينطبق هذا على سائر ألوان الشعر الغنائي؛ إذ أحيانًا ما يُضطر المترجِم إلى ما درجنا على تسميته ﺑ «التصرف»، أيْ مقابلة كل بيت ببيتين، أو كل بيتين بثلاثة، أو كل ثلاثة بأربعة أو خمسة، وهلم جرًّا، حتى يُخرِج الإيقاع الشعري المقابل. ولا أقصد بالإيقاع هنا «البحر» المحدَّد الذي يستخدمه الشاعر، بل الموسيقى الداخلية والخارجية جميعًا، وهو هنا — كما قلت من قبل — إيقاع اللغة العربية لا الإنجليزية ولا إيقاع أيٍّ من اللغات المنقول منها. وسوف أورِد هنا عدةَ نماذج لترجمة قصيدة واحدة، هي السونيت رقم ١٨ للشاعر وليم شيكسبير. وهذا هو النص الإنجليزي أوَّلًا:
•••
•••
•••
ولن أرهق القارئ بتحليله والتعليق عليه، ولكنني سأورد النصوص الثلاثة (وكلها منظوم، وكلها يستخدم ضربًا من القافية، وكلها يحاول الإبقاء على الصور الأصلية في قصيدة شيكسبير)، ثم أعلِّق عليها تعليقات سريعة:
١
٢
•••
•••
•••
٣
•••
•••
•••
ولا أريد الإفاضةَ في المقارنة؛ فأنا أفضِّل الترجمة الأخيرة رغم إضافاتها الكثيرة إلى نصِّ شيكسبير بسبب إيقاعها المتئد (الكامل)، ورصانة مصطلحها العربي، ولا غرو؛ فالمترجمة شاعرة مفطورة، ولا شكَّ أنها أفادت كثيرًا من ممارستها فنَّ الشعر في التحكُّم في عددِ الأبيات وإحكام القافية. وأعترف أنني تردَّدت طويلًا قبل أن أدرج ترجمتي التي تمثِّل مرحلةً مبكِّرةً من مراحل عملي في هذا الحقل. (إذ إنني كنت حريصًا كلَّ الحرص على إخراج نصِّ شيكسبير دون زيادة أو نقصان، مما استتبع زيادةَ عدد الأبيات وعدم انتظام القافية)، ولكنني رأيت إدراجها آخرَ الأمر حتى يستطيع القارئ المقارنةَ وإدراكَ مرماي من عرْض نظرتي الخاصة بالمقابل الذي قد يرقى وقد لا يرقى إلى مرتبة المثيل. وإن كان ثمَّة مأخذٌ على أيٍّ منها فهو عدمُ استقامة وزن البيت الأول في ترجمة حسين دباغ، وربما كان السببُ خطأً مطبعيًّا.
نشدانُ المقابِل إذن معناه محاكاة الصفات الشكلية والأسلوبية للعمل المترجَم إلى جانب التقيُّد بالمعاني والصور، مما يتطلَّب الخبرةَ الواسعة بالطرائق الأسلوبية في اللغة المترجَم إليها، ويقتضي قدرًا من الموهبة في الصياغة والتركيب.
ولذلك فعندما يتصدَّى كاتب أو شاعر لترجمة عملٍ شعري قصصي أو درامي فإنه لا يواجه الموسيقى الغلَّابة التي يواجهها في الشعر الغنائي، بل أحيانًا ما لا يواجه الإيقاعات المألوفة في الشعر بصفة عامة؛ فشعراء الإنجليزية الذين يكتبون الشعرَ القصصي أو الدرامي يتعمَّدون إخفاءَ موسيقى شعرهم وإخضاعها للمواقف القصصية أو الدرامية حتى ما تكاد تبين، وهي لا شك ذات أهمية ثانوية بالقياس إلى قدرة اللغة على تصوير الحالات النفسية للشخصيات، وإبراز أدق انفعالاتها وأفكارها؛ بل إن كبار كُتَّاب المسرح يُجهدون أنفسهم حتى تَخْفُت موسيقى الشعر وتتوارى ويفضِّلون استخدام أنواع من النظم أقرب إلى النثر، بل استخدام النثرِ نفسه في المسرحية الشعرية، حتى لا تجرف الموسيقى القارئ حين تسيطر على أذنه، ومِن ثَمَّ تتحكم في إيقاعات نفسه.
ومن أهم وسائل إخفاء الإيقاع الشعري في الإنجليزية أو «إخفائه» — إن صحَّ هذا التعبير — إلغاءُ القافية تمامًا، وعدم إنهاء العبارة عند انتهاء البيت — أي كسر وحدة البيت — بحيث تستمر الجملة في التدفُّق من سطر إلى سطر (فالسطر هو المقابل الإنجليزي للبيت أو للشطر في الشعر العربي)، وربما انتهت الجملة في منتصف السطر وبدأت عنده جملةٌ جديدة. ومنها عدمُ التقيُّد بعدد التفعيلات في البيت الواحد، ومنها تنويع البحور المستخدَمة، والإكثار من الزحاف حتى لكأن السامع يسمع نثرًا، وهذه جميعًا خصائص يستطيع الشعر العربي الجديد — أو الشعر المرسَل — أن يقدِّم المقابل لها والذي قد يرقى إلى مرتبة المثيل.
وتتفاوت الأعمال المسرحية الشعرية أيضًا في مدى اتكائها على هذا النوع من النظم الذي يمكن أن نطلق عليه النظمَ الدرامي، وتتفاوت في درجة تحرُّرها من الإيقاع الشعري كما تتفاوت أجزاؤها المختلفة في درجة اتكائها عليه أو تحرُّرها منه. فشيكسبير دائمًا ما يُخضِع لغتَه لمقتضيات فنِّه الدرامي، وهو — كما ذكرت في مقدِّمة ترجمتي لمسرحية تاجر البندقية — لا يتقيَّد بقوالب النظم الخارجية، ويكاد يبتكر أنواع الموسيقى التي تتطلبها مواقفه الدرامية. وقد حاولت عندما شرعتُ في ترجمة «يوليوس قيصر» أن أحاكي النظم الذي اختاره، أو أن أمزُج بين النظم والنثر، مثلما فعلتُ في ترجمة «روميو وجولييت» (دار غريب، ١٩٨٦م)، ولكنني كنت دائمًا أصطدم بعقبةٍ كأْداء، وهي أنني لا أستطيع أن أضحي بأي جانب من جوانب اللغة المستخدَمة تركيبًا أو تنسيقًا أو ألفاظًا في سبيل الإيقاع الشعري؛ فلغة المسرحية تسيطر عليها دقةٌ نادرة قد تفسدها إعادة ترتيب العبارة أو تركيب الجملة نُشْدانًا للإيقاع الشعري. ويسيطر على المسرحية — خصوصًا في المواقف الدرامية الحرِجة — منطق المتآمرين ومنطق الثأر المدروس المتأني، حتى حين يبدو أن الشاعر قد أطلق العِنان لمشاعر الشخصيات وجعلها تُخرِج ما في باطنها دون حساب أو تدبير. ولذلك فقد فضلتُ آخر الأمر أن أُقلع عن محاولة الترجمة المنظومة وأن أستعيض عنها بإيقاع اللغة العربية الذي يتفاوت من موقفٍ إلى موقف، ولكنه يتجاوب في كل حالةٍ مع إيقاع الإنجليزية المنظومة؛ فهو في رأيي يمثِّل «البديل» لنظم شيكسبير.
وقد مكَّنني هذا «البديل» من أن أضبط الصياغةَ العربية لأُخرِج المقابل (الذي كثيرًا ما يصل إلى درجة المثيل) للجوهر الدرامي للمسرحية الذي ينسجه شيكسبير نسجًا بارعًا حاذقًا، لا في الحوار فحسب، ولكن أيضًا في البناء المحكَم. فكلُّ ما تقوله الشخصيات قائم على تفكير دقيق ومرسوم بتأنٍّ وتمهُّل، حتى في المشاهد التي تلتهب فيها المشاعر ويلوح لغير الخبير أنها كُتبت عفو الخاطر.
أمَّا السِّمة الأولى للغة المسرحية وهي تفاوتُ مستوياتها بين النظم والنثر، وبين اللغة الرفيعة (أي الأسلوب الرفيع) واللغة العامية، فيكفي للتدليل عليها أن نورد فقراتٍ محدودة من المشهد الافتتاحي الذي يتضمَّن حوارًا يمزج بين هذه المستويات جميعًا:
-
Flavius:
Hence! home, you idle creatures, get you home.Is this a holiday? what, know you notBeing mechanical, you ought not walkUpon a labouring day without the signOf your profession? Speak, what trade art thou?
-
First Citizen:
Why, sir, a carpenter.
-
Marcellus:
Where is thy leather apron and thy rule?What dost thou with thy best apparel on?You, sir, what trade are you?
-
Second Citizen:
Truly, sir, in respect of a fine workman,I am but, as you would say, a cobbler.
-
Marcellus:
But what trade are thou? Answer me directly.
-
Second Citizen:
A trade, sir, that I hope I may use with a safe conscience;Which is, indeed, sir, a mender of bad soles.
-
Marcellus:
What trade, thou knave? Thou naughty knave, what trade?
-
Second Citizen:
Nay, I beseech you, sir, be not out with me; yet if yoube out, sir, I can mend you.
-
Marcellus:
Thou art a cobbler, art thou?
-
Second Citizen:
Truly, sir, all that I live by is the awl:
فالواضح هنا أن الضابطين فلافيوس ومارسيلوس يجنحان إلى النظم الكمِّي في معظم سطور حوارهما، بينما يلتزم الصانعان (النجار والإسكافي) بالنثر، ولكن الجميع يتحدَّث لغةً عامية تتدنَّى في حديث الإسكافي إلى مستوى البذاءة والسوقية — مما يغضِب الضابط غضبًا شديدًا — وترتفع في حديث الضابط إلى مستوى الأسلوب (الرسمي). ومعنى الأسلوب «الرسمي» هو الأسلوب الذي يفترض «مسافةً ما» بين المتحدِّث والسامع، بحيث لا تَشيعُ فيه رنةُ الألفة وما يصاحبها من ظواهر أسلوبية معروفة مثل استخدام ألفاظٍ بعينها أو بعض التراكيب العامية الشائعة أو الخروج عن النُّظُم الصحيحة لبناء العبارات، وفقًا لقواعد النحو في الفصحى أو اللغة المكتوبة، لغة التفكير العلمي والأدب «الرسمي» وما إلى ذلك. كما أن الضابطَين يتحدَّثان بالنَّظم الحُر الذي وصفتُه آنفًا، ويُلاحَظ أنه يقترب كثيرًا من أنماط النَّظم الحديثة التي تعتمد على عدد المقاطع المنبورة في البيت الواحد رغم إبقاء شيكسبير على القاعدة الكمية؛ أي على المقاطع العشرة في معظم الأبيات. وخذ نموذجًا على ذلك أول حديثٍ للضابط مارسيلوس:
مع الإبقاء على عدد المقاطع المنبورة الأربعة، وذلك قبل أن يعود إلى صورة بحر الأيامب المنتظمة في البيت التالي له:
وقبل أن يزيد تفعيلة كاملة في البيت التالي له بحيث يصبح البحر سكندريا؛ أي يتكوَّن من ست تفعيلات (ومقطع زائد أيضًا):
وأخيرًا يعود إلى البحر الثلاثي المزاحف:
وإن كان بعض النُقَّاد يميلون إلى اعتباره رباعيًّا حُذف منه آخرُ مقطع غير منبور؛ أي أنه يجب أن يُعتبر هكذا:
والواقع أنني لم أكن أريد الإفاضةَ في التحليل العروضي لهذه الأبيات، وإنما دفعني إليها افتقار المكتبة العربية إلى ما يشرح الفروق بين النَّظم الإنجليزي والنَّظم العربي، وهي فروق لا مناص من الإحاطة بها لمَن يتصدى لترجمة الشعر. والغاية التي أسعى إليها هي باختصار إيضاح مدى الحرية التي يتمتع بها الشاعر المسرحي الإنجليزي والتي من المحال أن تتحقَّق في العربية؛ إذ إن شيكسبير هنا كاتبٌ مسرحيٌّ في المقام الأول، وهو يتوسَّل بضروبٍ منوعةٍ من النظم للاتكاء على معانٍ خاصة بالموقف الدرامي ولا يمكن إبرازها إلا عن طريق التغيير المتواصل للبحور والإيقاعات الداخلية من خلال الزحاف والعلل. ويكفي أن ينظر القارئ إلى السطور الافتتاحية للمسرحية (التي يقولها الضابط فلافيوس) ليدرك مرماي. فالسطر الأول يتكون من خمس تفعيلات تتضمن ستة مقاطع منبورة، والعبارة الثالثة التي تبدأ في منتصف السطر الثاني لا تنتهي إلا في السطر الخامس، وتتفاوت في السطور عدد المقاطع المنبورة تفاوتًا كبيرًا!
فإذا انتقلنا إلى أحاديث العامة، ويمثلهم هنا المواطنان الأول والثاني، أي النجار والإسكافي، وجدنا أن شيكسبير يستخدم النثر من البداية إلى النهاية، مع ما وصفته بالتدنِّي إلى درجة السوقية والبذاءة. وإذا كان الهدف الذي وضعته نُصْب عينَي في البداية (وأرجو أن يكون نُصْبَ عَيْنَيْ كُلِّ مترجم أدبي أيضًا) هو إيجاد المقابل الذي قد يرقى إلى مستوى المثيل، فربما كانت العامية المصرية أفضل مستويات العربية المتاحة لترجمة هذه العبارات، ولكنني اتبعت في ترجمة المسرحية كلها لغةً عربية معاصرة تستطيع أن ترقى إلى مصافِّ اللغة الرفيعة وأن تهبط إلى بعض مستويات العامية الدنيا، ولذلك فأنا نشدتُ البديل في الحالين، أي في ترجمة النظم المسرحي بنثر فصيح أعتبره بديلًا مقبولًا، وترجمة النثر المسرحي العامي بنثر مبسط يستخدم بعض المفردات ذات الدلالة الحية في العامية المصرية باعتباره بديلًا مقبولًا. وأرجو أن يطَّلع القارئ على ترجمة هذه السطور الأولى من المسرحية في النص المنشور هنا ليدرك ما أعنيه.
وَلْأَعُدِ الآن إلى ما ذكرته عن دقة الصياغة اللغوية في نص شيكسبير والتي قد تَفْسَدُ إذا اخترتُ الترجمة المنظومة، وليأذنْ لي القارئ أن أُعيدَ ما ذكرتُه عن «التفكير الدقيق المرسوم بتأنٍّ وتمهلٍ، وهو الذي يعتبر الأساس لكلِّ ما تقوله الشخصيات حتى حين تلتهب المشاعر ويلوح لغير الخبير أن كَلامَها يصدُر عفو الخاطر، وسأضرب لذلك مثلًا من أهم مشاهدِ المسرحية، وهو المشهد الثاني من الفصل الثالث الذي كثيرًا ما يُقدَّم وحده باعتباره «قلب» المسرحية، ليس فقط لأنه يقع في منتصفها، بل لأنه أيضًا محور الارتكاز الذي يتغير عنده الحدث، حين يبدأ الانتقام لقيصر من قاتليه.
يبدأ المشهد بداية نثرية؛ إذ يتخلى شيكسبير عن النظم كي يحكم بناء المنطق الذي يتحكَّم في بناء المشهد. ولذلك تجد أن الخطبة الأولى التي يلقيها بروتس — وطولها سبعة وعشرون سطرًا — منثورة، وبعدها يقاطعه أحد الأهالي بسطرٍ قصير، ثم يستأنف خُطبته ويتحدَّث على مدى أربعة عشر سطرًا أخرى نثرًا، وبعد ذلك يتحدَّث الأهالي في سطور منفصلة ومُقطَّعة يعربون فيها عن اتباعهم لبروتس حتى السطر ٧٨، وعندها يتكلم أنطونيو مع الأهالي حتى آخر المشهد تقريبًا (حتى السطر ٢٥٤)، وهو يستأثر في الحقيقة بما يربو على مائة وثلاثين سطرًا تتخللها نداءاتُ الأهالي وصيحاتهم.
ولكن ماذا يقول أنطونيو في هذه السطور الكثيرة؟ إن خطبته الطويلة التي تستغرق صفحاتٍ متوالية مقسَّمة تقسيمًا دقيقًا بين القسم الأول (من ٧٤–١٠٩) الذي يضع فيه أنطونيو بعناية أسسَ إدانته لبروتس وعصبته، وبين القسم الثاني (١٢٠–١٣٩) الذي يلقي فيه بخبر وصية قيصر حتى يثير فضول الجمهور، والقسم الثالث (١٥١–١٧٠) الذي يعتبر نقطة تحوُّل من الوصية إلى التركيز على بشاعة الجريمة التي ارتكبها الخونة، وذلك في القسم الأخير (من ١٧٠–١٩٩) حيث تتحوَّل مشاعر الجمهور تمامًا إلى مساندة أنطونيو والعِداء السافر لبروتس وكاشيوس وسائر المتآمرين، وبعد عددٍ من الصيحات التي يُعرِب فيها الجمهور عن عِدائه لزمرة الخونة (٢٠٠–٢١٠) يعود أنطونيو إلى التلاعبِ بمشاعرِ الجمهور لكي يحوِّل استياءهم إلى موقفٍ صُلب، أي إلى عمل إيجابي — وهو يحسُب لكل كلمة حسابها في هذا الخطاب — حتى يصل (٢١١–٢٣٢) إلى كلمة «الثورة» التي يردِّدها الشعب؛ أي الانتقام لمقتل قيصر، وعندها فقط يعود إلى ذكرِ الوصية التي يكون الجمهور قد نسيها حتى يضمن ولاءه التام (٢٣٧–٢٥٤) فيسود الهرج والمرج، ويدخل رسول أوكتافيوس فيجد أن أنطونيو واثقٌ كلَّ الثقة من قدرة «كلماته» على أن تفعل فعلها في نفوسهم! (٢٥٤، حتى آخر المشهد).
ولنأخذ مثلًا السطور من ٢١٩ إلى ٢٢٥؛ إذ يقول أنطونيو:
ففي هذه السطور السبعة يلخِّص لنا أنطونيو صفات الخطيب المصقع في زمنه، وهي الخصال الست المعروفة:
(البديهة الحاضرة) | (1) Wit |
(الألفاظ المنتقاة) | (2) Words |
(المكانة المرموقة) | (3) Worth |
(براعة الأداء) | (4) Action |
(حسن الإلقاء) | (5) Untterance |
(ذلاقة اللسان) | (6) Power of speech |
وقد أجمع النُّقَّاد على أن شيكسبير كان يتعمد وضْعها في هذا الترتيب ليبين أن الصفة الأولى هي البديهة الحاضرة، وهي الصفة التي تميِّز أنطونيو أكثرَ من غيره من الشخصيات، ويليها حسن اختيار الألفاظ ومكانة الخطيب في المجتمع ثم براعة أدائه التمثيلي أثناء الخُطبة وحسن إلقائه، وأخيرًا ذلاقة اللسان أو قدرة المتحدِّث على إثارة مشاعر الناس! والواضح أن هذه الصفات التي ينكرها أنطونيو في نفسه هي أهم صفاته هو، مع أنه ينسبها إلى بروتس؛ أي أنه يثبتها حين ينكرها وبهذا الترتيب!
ومعنى ذلك ببساطة هو أن أيَّ تغيير في ترتيب الألفاظ والعبارات سوف يقلل من تأثيرِ هذه الفقرة، التي تبدأ بإنكار صفةِ الخطيب المصقع، وتنتهي بادعاء الحديث العفوي! وها هي إذن ترجمتي لها، وأعتقد أنها أقرب ما يكون إلى هذا البناء:
أمَّا زيادة بعض الألفاظ (وكلها صفات) في النص العربي، فهذا يرجع إلى ما أسميه بضرورة التفسير الخاص للنص قبل أن يشرع المترجِم في نقل العمل الأدبي، وهو ما تعرَّضت له في مقدمتي لترجمة تاجر البندقية المشار إليها آنفًا، وسأعود إليه عند مناقشة ترجمة عبد الحق فاضل لهذه الفقرة. وإنما ضربتُ هذا المثل لأبيِّن أن حديثَ أنطونيو مرسوم بدقة بالغة، فإذا حاول المترجِم أن يصوغه نظمًا عربيًّا لم يجد بُدًّا من التضحية ببعضِ جوانب هندسة البناء الفكري التي يستند إليها البناء اللغوي، كأن يعيد ترتيبَ هذه الصفات، أو يستعيض عن كلمةٍ بأخرى تتفق والوزنَ الشعري (وما أكثرَ ما يفعل الشاعر نفسه ذلك!) أو يضيف كلمة طلبًا للقافية، وهذا كله مقبول، بل ومحمود في ترجمة الشعر الغنائي الذي يلعب فيه الوزن والقافية كما قلت دورًا كبيرًا، ولكنه غير مقبول ولا محمود عندما يكون التركيب الفكري هو الأساس، لا الصورة أو الموسيقى والقافية!
وحتى لا يظن القارئ أنني لم ألجأ إلى الترجمة المنظومة كسلًا أو تراخيًا، سأورد صورةً أعتبرها مقبولةً في ترجمة الشعر الغنائي، صورةً منظومة لهذه الفقرة، وأترك للقارئ الحكمَ على مدى جورها على الأصل. أمَّا مَن يأنس في نفسه القدرة على إخراج ترجمةٍ منظومة أكثر دقة، فهو مدعوٌّ للمشاركة في هذا الجهد الجميل الممتع:
أقول إنني أترك للقارئ الحكمَ على مدى ابتعادها (أو اقترابها) من الأصل، وإن كان لا بد لي أن أشيرَ إلى أن الموسيقى الغلَّابة هنا، والقافية غير المقصودة، تجوران على الأصل ذي الإيقاع الخافت الذي يقترب كثيرًا من النثر! ويكفي أن أقول إن أنطونيو لو تحدَّث هكذا — بالنظم العربي الجَهوري — لأحسَّ الجمهور بفنِّ الصنعة الذي لا يُنبئ عن نفسٍ صافية صادقة. فالموقف الدرامي يرفض غلبةَ الموسيقى هنا التي قد تخلُب الأذنَ دون أن تصل إلى العقل أو القلب، وأنطونيو يحاول أن يصل إلى قلوب السامعين وعقولهم لا أن يخلُب آذانهم! ومِن ثَمَّ كان قراري بأن البديل النثري أقربُ إلى تحقيق المقابل الدرامي من المقابل المنظوم، مثلما كان قراري بالالتزام بالعربية المعاصرة بمستوياتها المتعدِّدة.
فمن أمثلة الركاكةِ ترجمةُ البيتين التاليين:
ومعناهما هو:
ولكنِ المترجِمان يقولان:
وأمَّا الأخطاء في المعنى التي يأتي بها هذا المنهج فهي كثيرة، وسوف أدرج نماذجَ محدودة لإيضاح عيوب المنهج؛ إذ ليس هذا مجال مراجعة الترجمة. انظر إلى الحوار التالي:
-
Brutus:
That we shall die, we know; ‘tis but the timeAnd drawing days out, that men stand upon!
-
Casca:
Why, he that cuts off twenty years of lifeCuts off so many years of fearing death!
ومعناه:
ولكن المنهج الحرفي يؤدي إلى الترجمة التالية:
ومشكلة المنهج الحرفي دائمًا هي الاهتمام بالكلمات المفردة على حساب معنى المصطلح، ومن نماذجه ترجمة ما يلي:
-
Cassius:
Fill, Lucius, till the wine o’erswell the cup.I Cannot drink too much of Brutus’ love.
يقولان:
ومعناه هو:
أو العبارة التالية (من نفس المشهد):
ومعناها:
ولكنهما يترجمانها هكذا:
أو قول أنطونيو لأوكتافيوس:
ومعنى الأبيات:
أمَّا المترجمان فيقولان:
وأعتقد أن هذه النماذج على قلَّتها تكفي لإيضاح ما أعنيه بالترجمة الحرفية وما تُوقِع المترجم فيه. وربما لاحظ القارئ أنني لا أشير إلى أي أخطاء تتصل بترجمة الكليات المفردة؛ فأنا لا أعتبر الكلمة المفردة وحدةَ التعبير الأساسية، بل أعتبر أن أصغر وحدة هي العبارة، وقد تقصر العبارة وقد تطول لتمتد إلى عدة سطور. بل إنني في سياق الترجمة المسرحية أكاد أعتبر أن الوحدة تمتد لتشمل المقطع الحواري برُمَّته! ولذلك أتجاهل جنوحَ المترجمَين هنا إلى تطبيق نظرية الموازاة بين الكلمات، أي محاولة إيجاد المرادف في العربية لكل كلمة إنجليزية؛ فالترادف في نظري وَهْم، وليرجع مَن يريد إلى ترجمتهما للأبيات السالف إيرادها (ف٣، م٢، ٢١٩–٢٢٥) والتي تتضمَّن صفات الخطيب البارع في زمان الرومان، وسوف أورد هنا البيتَين اللذين يتضمنان هذه الألفاظ فحسب:
•••
ولكن هذه الترجمة يعيبها عيبٌ كبير، ألا وهو توحيد مستوى اللغة العربية المستخدَمة فيها من البداية إلى النهاية، بحيث لا يحسُّ القارئ على الإطلاق أن ثمَّة فروقًا بين لغة هذه الشخصية ولغة تلك، أو أن ثَمَّ مزاحًا هنا وجِدًّا هناك، أو أن العامة يتكلمون لغةً تختلف عن لغة القادة والسادة، والسبب في هذا هو المفهوم الذي ألمحت إليه في بداية هذه المقدمة عن اللغة الأدبية أو لغة الأدب.
وأمَّا الذي دفع محمد حمدي على سلوكِ هذا السبيل فهو التصوُّر الذي ساد العقود الأولى من هذا القرن عن شيكسبير باعتباره أديبًا عظيمًا لا يصح له أو لا يُقبل منه استخدام لغة غير رفيعة أيًّا كانت الشخصيات التي تتحدَّث في مسرحه، فإذا ذكرنا أن مفهوم الأديب العظيم لا يتحقَّق في نظر الأوائل من كُتَّاب تلك الحِقبة إلا باستخدام لغة أدبية بالمعنى القديم، أدركنا سرَّ إصرار محمد حمدي على «رفع» مستوى لغته وتوحيد هذا المستوى.
وقد اقتضى هذا «الرفع» اللجوءَ إلى حيلِ الصياغة القديمة مثل التوازي في العبارات، والتقابل والتضاد، وسائر ألوان المحسِّنات اللفظية والبديعية مما لا يوجد في نص شيكسبير؛ أي بإضافة لمسات صياغة عربية قديمة قد لا يقتضيها الموقف الدرامي. وانظر مثلًا كيف يترجم الأبيات التالية:
وترجمتها الحديثة هي:
أمَّا الأستاذ حمدي فيترجمها هكذا:
فالواضح أن الإضافات التي يحشو بها محمد حمدي نصَّ شيكسبير تُضعِف من حدة الحُجة التي يقدِّمها كاشياس لأنها تجعل الحوار أقربَ إلى «الإنشاء» منه إلى الترجمة الدقيقة. وبعضها لا دافع له سوى السجع أو الجرس الموسيقي، بل إنه يخرج عن المعنى الذي يرمي إليه المتحدِّث كما يتضح من المقارنة بين الترجمة والأصل؛ فليس في الأصل معنى «الحصول على المودة (وتبيُّن صدق الطوية!)»، وليس في النص «قطيعة الأوفياء»، وليس فيه «التطفل» و«امتهان النفس» و«ابتذال السيرة، بل ليس فيه «شر الأشرار» المُضافة للعبارة الأخيرة.
والواقع أن محمد حمدي يلجأ كثيرًا إلى شرح نص شيكسبير بدلًا من ترجمته، فهو يضيف عباراتٍ هنا وهناك لإيضاح المعنى وفقًا لمفهومه، فمثلًا يترجم العبارة:
وترجمتها البسيطة:
أمَّا هو فيترجمها هكذا:
ولا شكَّ أن الإحالة هنا إلى بيت أحمد شوقي المشهور الذي يقول فيه:
ومعناها:
يشرحها في الترجمة التالية:
وقد يؤدي هذا المنهج إلى تجاوز المعنى الأصلي في سبيل الصياغة الجَزْلة، فمثلًا يقول كاسكا (الذي يتحدَّث نثرًا):
ومعناها:
أمَّا هو فيترجمها على هذا النحو:
أو فانظر هذه العبارة:
ومعناها:
ولكنه يترجمها هكذا:
ومن عيوب المنهج الإنشائي الميلُ إلى «الحذف» أيضًا، فالأستاذ حمدي — ربما من باب الحرص على «حساسية» خاصةٍ لدى قراء عصره — يميل إلى حذف الإشارات إلى الآلهة الوثنية، ويستبدل «المولى القدير» بها (في ف١، م٣، ٥٥ مثلًا) أو يحذف عبارات يرى فيها خروجًا عن المسموح به في الترجمة الأدبية مثل العبارة التالية، وهي قول بورشيا لزوجها بروتس:
ومعناها:
والواقع أن محمد حمدي، رغم مآخذ منهجه الإنشائي، قد أخرج لنا نصًّا راقيًا يتميز عن نصوص معاصريه، بل يسبق زمانه كما قلت. ولقد أفدت منه كثيرًا، ولا بد أن أقرَّ له بفضل السبق والريادة.
•••
«ربما كان بروتس يقوم بتمثيل دورٍ ما، ولكنه دور يقوم على كذبة أساسية في شخصيته، وهي الكذبة التي تضطره إلى إحلال شخصية عامة محلَّ الإنسان الطبيعي في نفسه، وتدفعه إلى قتْل قيصر حتى يحقق المبادئ التي يعتنقها، وتجعله ينهض بدور السياسي وهو يفتقر إلى الذهن اللازم لذلك والخصائص النفسية اللازمة لحمل تلك الرسالة؛ بل وتدفعه إلى مخاطبة الغوغاء بمنطق العقل، وهو لا يشارك هؤلاء الغوغاء مزاجَهم النفسي أو منطقهم العقلي، وهي الكذبة التي لا بد أن تفرض نفسها عاجلًا أم آجلًا على أي مثالي يدخل معترك الحياة العامة ويجد أن عليه أن يستخدم الوسائل التي يحتقرها لتحقيق غايات لا تتصل اتصالًا حقيقيًّا بالحقائق السياسية من حوله.»
ويعتقد «بامر» أن بروتس وكاشياس يرتكبان سلسلة من الأخطاء في الجزء الأخير من المسرحية حتى لحظة الهزيمة المحتومة — فهما «رجلان مرهقان يائسان .. ينشدان نهاية سريعة» — ويعلِّق على ذلك قائلًا إن الهزيمة تعتبر إنقاذًا لبروتس من الدور المزدوج الذي يلعبه — دور الحياة العامة والخاصة — وهي تشفيه من هذه الكذبة. وعندما نراه وقد طرح «الدور العام» واستعاد اطمئنان الإنسان الذي يهنأ بإخلاص أصدقائه نرى فيه — بعد فوات الوقت — الرجل ذا النفْس الخاصة والعامة .. ومِنْ ثَمَّ فإن الانطباع النهائي الذي نخرج به في رأي «بامر» هو الشفقة والتأسي لمصيره.
«يختلف النُقَّاد اختلافًا شاسعًا حول تحديد الشخصية الرئيسية في المسرحية؛ بل حول وجود شخصية رئيسية فيها، وحول اعتبارها مأساة، وصاحب المأساة فيها، وهل يريدنا شيكسبير أن نعتبر اغتيالَ قيصر عملًا يستوجب المدح أم القدح؟ كما يقدِّم النُقَّاد تفسيراتٍ تتناقض تناقضًا حادًّا بشأن سائر الشخوص الرئيسية في المسرحية.»
وأمَّا السير مارك هنتر فهو يقول: «لا شكَّ أن شيكسبير — مهما بلغت درجة تعاطفه مع مرتكبي تلك الفَعْلة — كان يرى أن اغتيال يوليوس قيصر أبشعُ جريمة في التاريخ.» ويقول إن قيصر — عندما يخطو على المسرح — يؤكد لنا أنه شخصية ذات جلال ورفعة، جديرة بالرثاء المشبوب الذي يتدفَّق من فم أنطونيو، وبالمديح الهادئ من شفتَي بروتس، ويقول إننا لا نلمح ما يدُل على أن أعداء الزعيم — باستثناء بروتس — يأبهون لأي إنسان خارج دائرتهم المغلقة، على الرغم من استخدامهم للَّافتات السياسية البراقة مثل الحرية والتحرُّر والانعتاق. أمَّا بروتس فهو نبيل الطوية مخلِص دون شك، ولكنه متهم ﺑ «الكذب الفكري»؛ لأنه يعتقد أنه دائمًا على صواب، ويناقض نفسه إلى درجة «تدعو إلى الرثاء»، وهو بإيجازٍ «سياسي غائم البصر، دسَّاس مُشاحن».
ويلي هذا المشهد مباشرةً ظهورُ قيصر لأول مرة على خشبة المسرح، وفي السطور الأربعة والعشرين الأولى ينجح شيكسبير نجاحًا باهرًا في الإيحاء بجو البلاط الملكي الذي شاع في الشرق؛ حيث يتصدر قيصر الموكب ومِن حوله الخدم والحشم والأتباع، وتتردَّد عبارات ذات دلالات درامية عميقة — «صمتًا .. قيصر ينادي»، «لبيك مولاي»، «يكفي أن يأمر قيصر .. فيُقضى الأمر!» — ثم تأتي لحظة اختبار لصلابة تلك الشخصية التي سمِعنا عنها منذ قليل حين يحذِّره العرَّاف فيزيح التحذير جانبًا بجلالة الملوك: «إنه يهذي! دعونا منه وهيا بنا.» والحق أن التأثير الدرامي لهذا المشهد يؤكِّد الانطباع الذي أوحى به الضابطان؛ أي يؤكد مخاوفَ فلافيوس من ازدياد سلطة قيصر.
وبعد ذلك يقع اللقاء الشهير بين كاشياس وبروتس في نفس المشهد؛ حيث تبرُز لنا صورة أخرى للزعيم حين يتصوَّر كاشياس أنه ينتقص من قدرِ قيصر حين يعدِّد نقائصه الجسدية، وهو يُعلي — دون أن يدري — من شأن عظَمتِه النفسية؛ أي يزيدنا احترامًا لهذه النفس الصامدة الجبارة التي لا تخشى أمواج التَّيْبَر العاتية ولا الزمهرير رغم أن الجسد يرتعد حين تُلِمُّ به الحمى! وهو يعجب من عظمة هذا الرجل ذي النقائص الجسدية فيعترف دون أن يقصد بأنه إنسان فذٌّ، وهو يعترض على استئثار قيصر بالسلطة وإمساكه بزمام الأمور، ويتحدَّث عمن يئنون تحت نِير هذا العصر. (ف١، م٢، ٦٠). ويعني بهذا النير أن تنحصر السلطة في يد رجل واحد:
أمَّا بروتس فهو يرى أن الخطر كامن فيما يمكن أن يئول إليه حكم قيصر إذا استمر في هذا الطريق، وهو يشير إلى «الظروف العصبية التي يوشك الزمن أن يفرضها علينا» (١٧١–١٧٢)، كما يشير في خطابه المنفرد في الفصل الثاني، المشهد الأول، إلى هذه الفكرة من خلال صورة فنية تذكِّرنا بالصورة التي رسمها «فلافيوس»:
والحقيقة أن هذا المشهد يؤكِّد الصورةَ التي رسمها لنا المشهد الأول، صورة الملك الشرقي والتمثال الهائل، ويبدأ في الفصل بين عناصر «البشر» الفانين في شخصية قيصر وعناصر «الإنسان الفائق» فيه، بل والمقابلة بينهما لإظهار التناقض الذي يستغله شيكسبير دراميًّا إلى أقصى حد؛ إذ إن قيصر نفسه يؤكد هذا التناقض (كما يقول جون بامر في نفس الكتاب، ص٣٧)؛ فهو يضع نفسه فوق مصافِّ البشر، وفي نفس الوقت يذكِّرنا ببشريته وضَعفه، مثلما يحدُث في الفصل الأول عندما يتحدث عن تخوفه من كاشياس فهو يؤكد لأنطونيو:
ثم يردِف ذلك بالإشارة إلى التناقض بين قوة الروح وضعف الجسد:
ويقول دوفر ويلسون (نفس المرجع، ص١١٣) إن الجو هنا يوحي أيضًا بالبلاط الشرقي؛ فعندما يغضب قيصر «تلوح على الجميع سيماء المذلة كأنما أغلظ لهم القول»، ومع ذلك فإن كاسكا يؤكِّد حصافته وذكاءه السياسي وقدرته على فهم البشر التي شهدنا طرفًا منها في وصفه لكاشياس، عندما يتحدَّث عما فعل مع العامة في ذلك اليوم المشهود، ثم ينهي حديثه بملاحظة بالغة الدلالة وهي العِقاب الغامض الذي أنزله قيصر بالضابطين اللذين نزعا الزينةَ عن التماثيل؛ فهو يقول: إنه أخرس ألسنتهما! مما يوحي للجمهور بأنه قتلهما؛ أي لم يعزلهما من منصبيهما فحسب كما يقول بلوتارخوس.
وصورُ قيصر — حتى هذه اللحظة؛ أي حتى ف١، م٢، ٣٠٥ — كما يقول شانتزر ترجِّح كِفة الميزان لصالح نظرة المتآمرين إلى قيصر، وتجعلنا نشارك بروتس مخاوفه، ولكن الحديث المنفرد الذي يختتم به كاشياس هذا المشهد يلقي بظلال الشك الكثيفة على صدق دوافعه، ويبيِّن لنا بوضوح وجلاء أن معارضته لقيصر مبعثها دوافع شخصية محضة، ومِنْ ثَمَّ يجعلنا نتساءل عن حقيقة الانطباع الذي خرجنا به عن قيصر ومدى صدقه، خصوصًا وأن مصدر هذا الانطباع هو في الغالب كاشياس نفسه! ورغم أن كاشياس من أتباع الفلسفة الأبيقورية التي لا تعترف بالخوارق ولا الخرافات؛ فهو يتنكَّر لفلسفته عندما يحاول إقناع كاسكا بالخوف من قيصر:
وهذه الصور لا شك من ابتداع خيال كاشياس، وهي لا تغيِّر من الانطباع الذي تكوَّن لدينا عنه حتى الآن. ومن المفارقات الغريبة أن يعود قيصر إلى استخدام نفس الصورة في الحديث عن نفسه (ف٢، م ف، ٤٤–٤٦) عندما يقول إنه أشدُّ خطورةً من الخطر نفسه، فهو والخطر:
ولكن هذه الإشارة تأتي بعد أن تتحوَّل صورة قيصر في أعيننا للمرة الثانية في الحديث المنفرد الذي يلقيه بروتس في بداية الفصل الثاني (١٠–٣٤) حين يشير إلى قيصر في صورةِ بيضة الثعبان التي سبقت الإشارة إليها. ثم يجد نفسه مضطرًّا بدافع الأمانة الفكرية و«الصدق مع النفس» إلى أن يقول: والحق أن قيصر لم يسمح لأهوائه أن تتحكَّم في عقله! (٢٠) فهل نصدِّق بروتس؟ وهل بروتس محقٌّ في حكمه هذا على قيصر؟ أم تُراه أخطأ في الحكم عليه مثلما أخطأ في الحكم على أنطونيو وكاشياس؟ إن إشارته إلى «تواضع» قيصر (أو حتى التظاهر بالتواضع) في السطر ٢١ من نفس المشهد توحي بخَطَل رأيه؛ إذ يتناقض مع التفاخر والتباهي الذي يبديه قيصر، بل ومع سلوكه كله أمامنا على المسرح! ويعلِّق شانتزر على هذا قائلًا:
«إن شيكسبير يشكك في صحةِ الصورة التي يرسمها بروتس لقيصر، مثلما يشكِّك في الصورة التي يرسمها له كاشياس، ويشكِّك فيما بعدُ في الصورة التي يرسمها أنطونيو بحيث تظل طبيعة قيصر الحقيقية لغزًا من الألغاز.»
ولا شك أن شانتزر مصيب في هذا، بل إن هذا اللغز لا ينجلي في المشاهد التالية التي نرى فيها قيصر؛ إذ نراه مشغولًا — حتى حين يختلي بزوجته في المنزل — برسم صورة قيصر الأسطوري؛ فهو ليس زوجًا يخاطب زوجته، بل زعيمٌ مزهوٌّ بمنصبه، متفاخرًا بموقعه فوق مصافِّ البشر الفانين:
ولا يُظهِره شيكسبير في مظهر المضيِّف الكريم إلا في حدود آداب السلوك الرومانية، مستندًا إلى ما قاله بلوتارخوس عنه، فهو يحادث ضيوفه واحدًا بعد الآخر، ويدعوهم إلى مشاركة النبيذ، وتؤكد هذه الخصال الطيبة فيه الصورة التي يرسمها أرتميدوروس له:
ولا نكاد ننتهي من النظر إلى الصورة الطيبة حتى يعود شيكسبير إلى إثارة ضيقنا ونفورنا من قيصر عندما يقدِّمه لنا في صورة المتغطرس (حتى باسم القانون) الذي يتفاخر ببروده وصلابته وابتعاده عن سائر أبناء البشر:
والمفارقة هنا هو أن هذا الثابت الذي يتفاخر بثباته سوف يسقط بعد قليل، وسوف يلاحظ القارئ سرعة المفارقة في تلك العبارة التي يقولها قبل مقتله بثوانٍ معدودة «ابتعد عني! هل تستطيع أن ترفع جبل الأوليمب؟» (٧٣)، فجبل الأوليمب ينهار وينهدم!
وأخيرًا يقدِّم إلينا أنطونيو صورةً لقيصر تتناقض مع الكثير مما سبقها؛ فهو هنا القيصر الذي شاع في التقاليد الشعبية في العصور الوسطى، المحارب الصنديد، «مرآة الفروسية»، والإمبراطور النبيل، فهو نبيل:
وهو مخلِص:
وهو كريم:
وهو قائد عسكري عظيم:
وذو قلب رحيم:
ورغم أننا لا نشكُّ في صدقِ نوايا أنطونيو، فإن الصورة التي يرسمها لقيصر تعتبر جزءًا من الخطة المحبوكة لإثارة الجماهير للانتقام من قاتليه؛ فكلُّ ما يقوله هنا مرسوم بدقة لتحقيق هدف معين، ولذلك لا يمكن أن نعتبر أنه يقدِّم إلينا حقائقَ لا يرقى إليها الشك!
وهكذا فنحن نرى في النصف الأول من المسرحية عدةَ صور لقيصر لا تتشابه كثيرًا فيما بينها، وإن كان من بينها ما لا يتناقض مع البعض الآخر؛ فكاشياس يقدِّم إلينا صورتين، ويقدِّم كاسكا صورة بالغة الوضوح، بينما يرسم بروتس صورة مختلفة، وتبرز في حديث أرتميدوروس صورةٌ تشترك مع هذه بعض الشيء، قبل أن يظهر قيصر بنفسه ليوحي بصورة أخرى، يتلوها خطاب أنطونيو الذي يصوِّره في صورةٍ تختلف عن كلِّ ما سبق!
ونحن لا شك نتساءل: أيُّ هذه الصور صحيحٌ وأيها كاذب؟ وإن كان شانتزر (في الدراسة التي أشرت إليها) يقول إن شيكسبير هو الذي يطرح — فيما يبدو — هذا التساؤل، وينتهي إلى أن يقول:
أمَّا التفسير الحديث الذي قلت إنني أميل إليه فهو أن تعدُّد هذه الصور قد قصدَ به شيكسبير إشراك القارئ في عملية الحكم والتقييم عن طريق تنويع استجابته لكل عنصر من عناصر الصراع؛ ولذلك فهو دائمًا ما يقابل كل عنصر بعنصر آخر يختلف عنه حتى ولو كان يضيف إليه عمقًا جديدًا، وكذلك الحال بالنسبة لبروتس، بل بالنسبة لكاشياس وباقي المتآمرين، بحيث نرى المسرحية في صورة عناصرها المتشابكة؛ ولذلك فهي مسرحية مشكل — لا مجرد مأساة — مثل ماكبث مثلًا أو غيرها من التراجيديات التي لا يواجه القارئ أو المتفرج في إطارها أيَّ مشكلة في الاختيار؛ فالمشكلة المطروحة أمام الجمهور هنا تتكوَّن من مشكلتين؛ مشكلة نفسية وأخرى أخلاقية، فالمشكلة النفسية تتعلق بحقيقة البطل الذي يتعاطف معه المؤرخون، ويتعاطف معه شيكسبير في مواضعَ كثيرة، بل في الجزء الثاني من المسرحية حين يبسط قيصر تأثيره على الأحداث وتبرز روحه (على المسرح يظهر شبحه لبروتس) ثم تنتصر على المتآمرين:
ومن داخل هذه المشكلة النفسية التي يجسِّدها بروتس نفسه في أول مراحل المؤامرة حين يعلن للمتآمرين أن العدو الحقيقي هو روح قيصر:
ولذلك أيضًا يلجأ شيكسبير إلى استخدام «الجمهور»؛ أي العامة الذين يملئون المسرح في المشاهد الحاسمة — استخدامًا دراميًّا — فهل نحن مع العامة دائمًا أم نحن نتأملهم أيضًا من واقع سلوكهم ونحكم عليهم من مسافة كافية؟ إن الجمهور يظهر أول الأمر باعتباره مجموعةً من الأفراد، كلٌّ منهم كما يقول «ألوواي» في مقدمة طبعة ماكميلان (ص٧) له شخصيته المستقلة، ولكنهم أيضًا جمهور بمعنى أنهم يميلون إلى عبادة البطل (وربما شاركوا في خلْق صورة البطل) وهم يتأثَّرون بالكلام؛ أي بالبلاغة والألفاظ الطنانة. وبعد ذلك نجدهم هنا وهناك حتى يأتي ذلك المشهد الغريب الذي يقتلون فيه «سِنَّا» الشاعر حتى بعد أن أكَّد لهم أنه ليس «سِنَّا» المتآمر! إنهم يمثلون روح «الخراب» أو «إله الخراب» الذي يستدعيه أنطونيو ليثأر لمقتل صديقه وخلِّه الوفي! لقد استطاع بروتس أن يُقنِع الجمهور حتى صاح الناس «فلتجعلوه قيصرًا عليكم»، مثلما كانوا يريدون أن يتوِّجوا قيصر ملكًا! والآن ينقسم هذا الجمهور انقسامًا حاسمًا بين أتباع المتآمرين وأتباع أنطونيو وأوكتافيوس، ولا يحسم الصراع إلا سبب عسكري (خارجي)!
كما ينجح شيكسبير في الإبقاء على طبيعة الإشكال في المسرحية حين يصوِّر لنا الصراعات الناشئة بين بروتس وكاشياس، وبين أنطونيو وأوكتافيوس؛ فهو لا يحسم الأمرَ بنهاية عادلة مشرقة كما يفعل في ماكبث مثلًا، حيث يعود الحق لأصحابه وتعمر نفوسنا بالأمل في عهدٍ جديد لحكمٍ عادل نزيه في اسكتلنده.
إن كثرة علامات الاستفهام المطروحة حول المسائل النفسية والفلسفية والأخلاقية التي تستند إليها المسرحية تنفي عنها صفة التراجيديا الكلاسيكية، وتدخلها في دائرة المسرحية المُشكل، سواء كانت المسرحية المُشكل حديثةً من النوع البيرانديللي أو الإبسني (مثل البطة البرية) أو من النوع الشيكسبيري نفسه مثل مسرحية صاعًا بصاع!
وأخيرًا فينبغي أن أذكِّر القارئ بما سبق أن قلته في بداية المقدمة عن الدور الذي تلعبه اللغة أو البلاغة في هذا النص الفريد؛ فنحن دائمًا في مواجهة لغة يُحْكِمُ أصحابها استخدامها، وهي لغة غير عادية؛ إذ تتفاوت في الارتفاع والانخفاض لكي تأخذنا ذات اليمين وذات الشمال دون أن نعرف بالتحديد ما يدُف بين ثناياها من مشاعرَ إنسانية ومن دوافع تقرِّب إلينا شخوص المسرحية على مستوى البشرية الصادقة، فشيكسبير يستخدم اللغة كبناء موازٍ لحركة الفكر، ودراسة هذه اللغة مهمة، ومن شأنها أن تقدِّم لنا مزيدًا من المفاتيح لفهم هذه المسرحية المُشكل، ويسعدني أن اختارت إحدى بناتنا في قسم اللغة الإنجليزية — وهي علا محمد حافظ المدرس المساعد بالقسم — تحليل لغة هذه المسرحية بالذات موضوعًا لرسالة الدكتوراه.
وأخيرًا، أرجو أن أكون قد قدَّمت للقارئ العربي هذا النص الصعب الفهم في صورةٍ يسيرة تعينه على قراءته وتذوُّقه، سواء قبِلَ النظرةَ النقدية الحديثة التي عرضتُها أم فضَّل النظراتِ النقديةَ القديمة.
والله ولي التوفيق.
القاهرة، ١٩٩٠م
The Prisoner and the Jailer. tr. Nayla Naguib, Cairo State Publishing House, 1989.