الفصل الأول

المشهد الأول

(شارع من شوارع روما.)

(يدخل فلافيوس ومارولوس وبعض العامة إلى المسرح.)

فلافيوس :
انصرفوا! عُودوا إلى منازلكم أيها العاطلون!
هل اليومُ يومُ عُطلة؟
ألا تعلمون أنه يجبُ على أبناء الحِرَفِ
ألا يسيروا في الشارع في أيام العمل دون ما يرمزُ
لحِرَفهم؟
قُل لي أنت ما هي صنعتُك؟ (٥)
نجَّار : أنا نجَّارٌ يا سيدي!
مارولوس :
أين إذن المريلةُ الجِلدُ والمسطَرة؟
ولماذا ترتدي أفخرَ ثيابك؟
وأنت يا سيد! ما صنعتُك؟
الإسكافي :
الحقُّ يا سيدي أنني لا أُقارنُ بالصُنَّاع المهرة! (١٠)
فما أنا إلا مُرقِّع — ولا مؤاخذة!
مارولوس : ولكن ما هي صنعتك؟ بلا لفٍّ ودوران؟!
الإسكافي :
هي صنعةٌ يا سيدي أتمنَّى أن أؤدِّيَها بإخلاص
وأمانة —
فأنا أرقِّع ما انخرم وأُصلِحه!
مارولوس :
ما صنعتُك أيها الوغد؟ أيها الوغد اللُّكَعي
ما صنعتُك؟ (١٥)
الإسكافي :
أرجوك يا سيدي! لا تُخَرِّمْ في الكلام معي!
فإذا خَرَّمت .. رَقَّعْتُ لك!
مارولوس :
ماذا تَعني بهذه الألفاظ البذيئة؟
كيف تُرقِّع لي يا سليط اللسان؟
الإسكافي : أرقِّع لك يا سيدي .. حذاءك!
مارولوس : أنت إسكافيٌّ إذن؟ (٢٠)
الإسكافي :
حقًّا يا سيدي! كلُّ ما أحيا به هو المِخْراز!
لا شأن لي بأمور التُّجار .. أو أمور النساء!
لكنني جرَّاحٌ فحسب .. جرَّاحُ الأحذية القديمة..
فعندما تكون على شفا الموت .. أُنقذها!
وكم من فُضلاءَ محترمين .. داسوا على صُنْع يَدِي! (٢٥)
فلافيوس :
لكنْ لماذا تركتَ دُكَّانك اليوم؟
ولماذا تصحب هؤلاء الرجالَ وتطوفُ بهم في
الشوارع؟
الإسكافي :
أريدُ أن تَبْلى أحذيتُهم — طبعًا —
فيأتيني المزيدُ من العمل! لكن الحقيقة هي أننا
أخذنا
اليوم إجازةً حتى نرى قيصرَ ونحتفلَ بانتصاره!
مارولوس :
تحتفلون بماذا قُل لي؟ وأيُّ انتصار عاد به؟
وأين أولئك الأسرى الذين عاد بهم إلى روما
ليدفعوا الجزيةَ ويَزِينوا عجلاتِ مركبتِه بسلاسلهم؟
أيها الأصنام! أيها الأحجار! أنتم أسوأ من الجماد! (٣٥)
يا أبناءَ روما يا قساةَ القلوب ويا غلاظَ الأكباد!
هل نسيتم «بومبي»؟ كم من مرةٍ تسلقتم الجدرانَ
والأسوارَ، واعتليتم
الأبراجَ والنوافذ، بل وصعدتم إلى ذُرى المداخنِ
وأنتم تحملون أطفالكم في أحضانكم،
ومكثتم طول النهارِ في صبر وترقُّب (٤٠)
حتى تَروا بومبي العظيمَ وهو يمرُّ في شوارع روما،
فإذا لمحتم مركبتَه على البُعد
هللتم بصوتٍ واحد
ارتجف له نهرُ التَّيْبَر بين شاطئيه (٤٥)
واهتز لأصداء أصواتكم المجلجلة في أعطافه!
أفترتدُون اليوم أبهى حُلَلكم؟
أفتعتبرون اليومَ عُطْلة؟
أفتنثرون اليوم الزهورَ في طريقِ مَن يعود (٥٠)
منتصرًا على أولاد بومبي؟
انصرفوا! عودوا إلى منازلكم!
اركعوا وابتهلوا إلى الآلهة
أن ترفعَ البلاءَ الذي لا بد أن يَحُلَّ بِكم
عقابًا على هذا الجحود!
فلافيوس :
هيَّا هيَّا أيها المواطنون الشرفاء! (٥٥)
كفِّروا عن هذه الخطيئة، فاجمعوا البسطاءَ من
أمثالكم، وخذوهم إلى شُطآن التَّيْبَر، واذرفوا
دموعَكم فيه حتى ترتفع مياهُ النهر وتُقَبِّل أعلى
ضِفافه!
(يخرج العامة جميعًا من المسرح.)
انظر! أفلم يتأثَّروا جميعًا بكلامي — (٦٠)
حتى أحطُّهم معْدِنًا؟ لقد انصرفوا
وقد عَقد الخجلُ ألسنتهم! هيَّا ..
اذهب أنت من هذا الطريق إلى الكبيتول،
وسأذهب أنا من الطريق الآخر.
إذا وجدتَ أيَّ زينة على التماثيل فانزعْها! (٦٥)
مارولوس : أينبغي ذلك ونحن في عيد اللوبركال؟
فلافيوس :
فليكن! انزعْ شارات انتصارات قيصرَ
من جميع التماثيل! أمَّا أنا فسأطوف الشوارعَ
لأحُثَّ الأهالي على العودة إلى منازلهم.
وكذلك أنت! فرِّق أيَّ جمهور تُصادفه! (٧٠)
إننا بذلك ننتِفُ الريش الذي بدأ ينمو في جناحَي
قيصر حتى يهبِط إلى مصافِّنا.
وإلا حلَّق عاليًا وبعيدًا عن الأنظار فظللنا نعيشُ
جميعًا في رهبة العبودية!

(يخرجان.)

المشهد الثاني

(روما، ساحة عامة – يدخل أنطونيو وهو على أُهبة السباق – وكالبورنيا وبورشيا وديشيوس وشيشرون، وبروتس، وكاشياس، وكاسكا، وعراف – وحشد كبير. ثم يدخل فيما بعدُ مارولوس وفلافيوس.)

قيصر : «كالبورنيا»!
كاسكا : صمتًا! قيصرُ ينادي!
قيصر : «كالبورنيا»!
كالبورنيا : لبَّيك يا مولاي.
قيصر :
أثناء السباق، قِفي في طريق «أنطونيو».
أنطونيو!
أنطونيو : قيصر .. مولاي!
قيصر :
لا تنسَ يا أنطونيو في اندفاعِك وسرعتك (٥)
أن تَلْمس كالبورنيا؛ فإن أسلافنا يقولون
إن العاقر إذا لمَسها أحدُ المشتركين في هذا السباق
المقدَّس، تبرأُ من لعنة العُقم.
أنطونيو :
لن أنسى ذلك.
يكفي أن يأمر قيصرُ .. فيُقضى الأمر! (١٠)
قيصر : هيَّا انطلِق! ولا تنسَ أيًّا من الشعائر!
العرَّاف : قيصر!
قيصر : أسمعتم؟ مَن ينادي؟
كاسكا : فليهدأ الجميع .. فليصمت الجميع!
قيصر :
مَن يناديني في هذا الحشد؟ (١٥)
سمعتُ لسانًا يصرخ كالآلة الموسيقية
وينادي قيصر! تكلَّمْ إذن! قيصر يريد أن يسمعك!
العرَّاف : احذرْ منتصفَ مارس!
قيصر : مَن هذا الرجل؟
بروتس : عرافٌ يحذِّرك من منتصفِ مارس!
قيصر : أحضِروه إليَّ .. دعوني أرى وجهه! (٢٠)
كاسكا : يا هذا .. اخرجْ من الحشد .. تعالَ للقاءِ قيصر!
قيصر : ماذا قلتَ لي الآن؟ أعِدْ عَليَّ ما قلتَه!
العرَّاف : احذرْ منتصفَ مارس!
قيصر : إنه يهذي! دعونا منه وهيَّا بنا.

(تعزِف الأبواق ويخرج الجميع فيما عدا بروتس وكاشياس.)

كاشياس : أفلا تريد أن تذهبَ لمتابعةِ السباق؟ (٢٥)
بروتس : لا، لا!
كاشياس : أرجوكَ تعالَ معي.
بروتس :
أنا لا أميلُ إلى اللهو واللَّعِب .. وأفتقر إلى خِفة الروح
التي يتحلى بها أنطونيو! ولكني لن أحرِمَك مما
تشتهي .. تفضَّل أنت وسأمضي أنا. (٣٠)
كاشياس :
بروتس! إني ألاحظ فيك تحوُّلًا عني هذه الأيام،
فلا أجد في عينيك ما عوَّدتَني من العطف والمودة!
بل إنك تُبدي الصدودَ والجفاء لصديقِك الذي يحبُّك.
بروتس :
كاشياس! لا تنخدعْ بالمظاهر! (٣٥)
فإذا بدا وجْهي مُلبَّدًا بالغيوم
فذلك كي تستُرَ ما أنا فيه من هموم!
إذ تعترِك في نفسي مشاعرُ تُنغِّصُ عليَّ حياتي ..
أفكار تخُصني وحدي، ولعلها أثَّرت في سلوكي إلى حدٍّ (٤٠)
ما .. ولكن يجب ألا يغضب مني أصدقائي الأوفياء
(وأنت منهم يا كاشياس)، أو يُفسِّروا بعد الآن إهمالي
لهم إلا بأن بروتس المسكينَ قد نشِبت في باطنه (٤٥)
حربٌ مع نفسه، تُنْسيه إظهارَ المودة للآخرين.
كاشياس :
إذن فلقد أسأتُ تفسيرَ مشاعرك،
فدفنتُ في صدري أفكارًا بالغةَ الأهمية ..
عظيمة الخطر! قُل لي يا بروتس الكريم ..
أتستطيع أن ترى وجهك؟ (٥٠)
بروتس :
لا يا كاشياس! فالعينُ لا ترى نفسها
إلا إذا انعكست صورتُها في شيء آخر!
كاشياس :
هذا صحيح! وكم يدعو للأسف يا بروتس
ألَّا تكونَ لديك مرآةٌ تعكس لك امتيازَك الذي لا تراه (٥٥)
فتشاهد صورةَ ذاتك!
لقد سمعت الكثيرين من عظماء روما
(باستثناء قيصر الخالد) يتحدَّثون عن بروتس
وهم يئنون تحت نِير هذا العصر (٦٠)
ويتمنَّون لو كان لبروتس النبيل عينان يُبصر بهما! (٦١)
بروتس :
إلى أيةِ أخطار تجُرُّني يا كاشياس
حين تريدني أن أبحث في نفسي
عمَّا ليس فيها؟
كاشياس :
إذنْ فأعرني سمْعَك يا بروتس الكريم! (٦٥)
ما دمتَ تُقِرُّ بأنك لا تستطيعُ أن ترى نفسك حقَّ الرؤية
إلا بمرآة، فدعني أكونُ مرآتك!
دعْني أكشف لك في نفسِك، عما تجهله عن نفسِك
دون مبالغة! وأرجو ألا تشكَّ فيما أقول (٧٠)
يا بروتس الكريم، فلستُ مهرِّجًا مبتذلًا،
ولست ممن يُقسِمون الأيمانَ الرخيصة على مودَّتهم
لكل مَن يمُدُّ إليهم حبلَ الوُد!
ولستُ ممن يُظهِرون الحبَّ ويعانقون خِلَّانهم ثم (٧٥)
يغتابونهم،
أو ممن يعلِنون مودَّتهم في المناسبات والولائم
للجميع! فإذا كنتَ تعهَد فيَّ أيًّا من هذه الصفات
فاعتبِرني خطَرًا من الأخطار!

(صوتُ بوق وهُتاف.)

بروتس :
ما معنى هذا الهُتاف؟ أخشى أن يكون الناس قد
اختاروا قيصرَ ملِكًا عليهم!
كاشياس :
هل تخشى ذلك حقًّا؟ (٨٠)
إن كنت تخشاه فأنت لا ترضاه!
بروتس :
حقًّا لا أرضاه يا كاشياس، مع أني أحبُّ قيصرَ حُبًّا
جَمًّا! ولكن لماذا تُصِرُّ على أن أبقى معك هنا؟
وما هو السرُّ الذي تريد أن تُطلعني عليه؟
إن كان أمرًا يخدم المصلحةَ العامة
فلسوف يتساوى في عيني الموتُ والشرف! (٨٥)
وتعلمُ الآلهة أنني أُقدِّر السمعةَ الطيبة
أكثرَ مما أخاف الموت!
كاشياس :
أعرفُ هذه الفضيلةَ فيك يا بروتس
تمامًا كما أعرفُ ملامحَ وجهِك! (٩٠)
والشرفُ هو موضوع حديثي معك.
لا أعرفُ رأيك أو رأيَ غيرك من الناس
في هذه الدنيا، ولكنني أفضِّل الموتَ
على أن أعيش في خوفٍ من آدميٍّ مِثلي! (٩٥)
لقد وُلدتُ حُرًّا مثلَ قيصر! وكذلك أنت!
كلانا يأكل الطعام! مثلما يأكل
ويحتمل بردَ الشتاء مثلما يحتمل!
وأذكُر مرةً في يومٍ زمهريرٍ عاصفِ الريح
علتْ فيه أمواجُ نهر التَّيْبَر ولاطمتْ ضِفتَيه (١٠٠)
أن قال لي قيصرُ «هل تجرؤ يا كاشياس
أن ترميَ بنفسك الآن معي في هذا النهرِ الغاضب
وتسبحَ إلى الشط الآخر؟»
ولم يكد ينتهي من عبارته حتى ألقيتُ بنفسي في الماء
بكامل عُدَّتي وسلاحي، وطلبتُ منه أن يَتبعني، ففعل. (١٠٥)
وانطلقنا نُجالِد اليمَّ الزاخر المزمجِر
بعضلاتٍ من حديد! نشُقُّ عُبابه، ونكبحُ جِماحَه،
بقلوبٍ عَقَدَتِ العزمَ على النضال.
ولكن قبل أن نصِل إلى الموضع المنشود
صاح قيصرُ «أدركْني يا كاشياس وإلا غرِقت!» (١١٠)
ومثلما فعل سلفُنا العظيم «إينياس»
الذي حمَل على كتفيه أباه «أنكيزس»
ليُنقذَه من ألسنةِ اللهبِ في طروادة
حملتُ على كتفِي قيصرَ الذي أنهكه التعب،
وأنقذتُه من غائلة الأمواج!
ذلك الإنسانُ الذي أصبح الآن إلهًا (١١٥)
تعنو له جبهةُ كاشياس المسكين التَّعِس
إذا ما أومأ قيصرُ إليه دون اكتراث!
وعندما كُنَّا في إسبانيا مرِض بالحمَّى
وكنتُ أراه يرتعد ويرتجف عندما تَحُلُّ به النوبة
أجلْ! كان ذلك الإلهُ يرتعد ويرتجف (١٢٠)
فيغيضُ اللونُ من شفتيه الجبانتين
ويذوي البريقُ في عينه التي يرتاع العالمُ اليوم لنظراتها!
ولقد سمعتُه يئن ويتأوَّه!
أجل! ذلك اللسانُ الذي أمر الرومانَ
أن يُتابعوا أقوالَه ويدوِّنوا خُطَبه في كتبهم (١٢٥)
سمعتُه يصرخ «أريد أن أشربَ يا تيتنيوس!»
مثلما تصرخ الطفلة المريضة. إيهٍ أيتها الآلهة!
لكم يُدهشني أن أرى رجلًا بمثلِ هذا الضَّعف والخَوَر
في مقدمة الصفوف في هذا العالم العظيم
حاملًا وحدَه قصَب السَّبْق! (١٣٠)

(هُتاف وصوت نفير.)

بروتس :
عاد الجمهور للهتاف؟
لا شك أن هذه الهتافات تعلنُ
عن أكاليلِ الغار الجديدة التي تنهال على رأس قيصر!
كاشياس :
ولمَ لا؟ إنه ليركبُ متنَ الدنيا كالتمثال الهائل
الذي تتضاءل تحته الأشياء! بينما نمضي — نحن صغارَ (١٣٥)
الرجال — تحت أقدامه وفي ظل ساقيه العِملاقتين،
نفتِّش عن قبور نواري فيها خزْي ضآلتنا!
يستطيع الإنسانُ أحيانًا أن يُمسك بزمامِ قدَره!
يا صديقي بروتس! ليستِ الطوالع والنجوم مسئولةً
عمَّا نحن فيه من ضآلةٍ وضَعَة .. بل العيب فينا نحن!
بروتس وقيصر .. بم تتميز كلمةُ قيصر؟ (١٤٠)
ولماذا يَرِنُّ هذا الاسم في الأسماعِ أكثرَ من اسمك؟
اكتبهما معًا تجِدْ أن اسمَك لا يقلُّ جمالًا عنه ..
انطقهما .. تجدْ أنه لا يقلُّ عذوبةً في الشفاه ..
زِنْهما .. تجدْ أنه لا يقلُّ ثِقلًا عنه!
استخدمْهما في إحضار الجان .. تجدْ أن اسم بروتس
لا يقلُّ قدرةً على استحضار الجن عن اسم قيصر! (١٤٥)
والآن أستحلفك بجميع الآلهة معًا أن تخبِرني
ما نوع اللحم الذي يأكله قيصرُنا هذا
ليبلغ هذه الضخامةَ والعَظمة؟! عارٌ عليك زمانَنا!
واهًا لكِ يا روما إذ فقدتِ سُلالاتِ الأشراف!
وهل شهِدنا منذ عهد الطوفان الأكبر (١٥٠)
عصرًا لم يلمع فيه سوى رجل واحد؟
وماذا يقول المؤرخون عن روما اليوم؟
هل يقولون إن ساحاتِها الشاسعةَ
لا تتسع إلا لرجل واحد؟
أمَا تزال روما العظيمة الفسيحة
وليس بها إلا رجل واحد؟ (١٥٥)
لقد سمعنا أنا وأنت آباءنا يتحدثون
عن جَدك بروتس الذي حَكم روما يومًا ما
وكان يستطيع منازلةَ الشيطان نفسه
حتى يذودَ عن سُلطانه كأنه ملِك متوَّج! (١٦٠)
بروتس :
أمَّا أنك تحبُّني فهذا لا شك فيه،
وأمَّا ما تُغويني بفعلِه فأستطيع أن أحْدِسَه!
وسوف أكاشفك فيما بعدُ بأفكاري في هذا الموضوع،
وبآرائي في العصر الذي نعيش فيه. أمَّا الآن
فأرجوك بلسان الحُب الذي أكنُّه لك
ألا تثيرَني أكثرَ من ذلك! (١٦٥)
سوف أنظر فيما قلتَه، وأُصغي بعناية
إلى ما سوف تقوله، وسأتحيَّن الفرصةَ المناسبة
للنقاش في هذه الأمورِ الخطيرة!
وحتَّى ذلك الحين، أرجوك أن تتمعَّن يا صديقي النبيل
في قولي هذا:
إن بروتس يؤثِر أن يكون قرويًّا ساذَجًا (١٧٠)
على أن يَعُدَّ نفسَه من أبناء روما في هذه الظروف
العصيبة
التي يوشكُ الزمنُ أن يفرضَها علينا!
كاشياس :
يسُرني أن تقدحَ كلماتي الواهنةُ هذه الشرارةَ الخابية في
نفسِ بروتس! (١٧٥)

(يدخل قيصر وحاشيته.)

بروتس : انتهت الألعاب وقيصرُ في طريق العودة.
كاشياس :
عندما يمرُّ الموكبُ بنا اجذبْ كاسكا من كُمِّه
حتى يحكيَ لنا بخشونةِ طبعِه المعهودةِ
أهمَّ ما جرى اليوم.
بروتس :
سأفعل ذلك ولكن .. انظر يا كاشياس .. (١٨٠)
إن جذوةَ الغضب تتوهَّج على جبين قيصر،
وعلى الجميع سيماءُ المذلَّة كأنما أغلظ لهم القول!
ويعلو الشُّحوبُ خدَّ كالبورنيا،
أمَّا شيشرون فعيناه حمراوان يَنْطَقُّ منهما الشَّرار (١٨٥)
كما لو كان في الكابيتول وقد اعترض على كلامه
بعضُ أعضاء مجلس الشيوخ.
كاشياس : سيخبِرنا كاسكا بما حدَث.
قيصر : أنطونيو!
أنطونيو : لبَّيك قيصر!
قيصر :
أريد في حاشيتي رجالًا سمانًا،
مُسبلة شعورُهم، ينامون الليل! (١٩٠)
أمَّا كاشياس فهو نحيلٌ ينطِق الجوعُ في وجهه،
ويفكِّر أكثرَ مما ينبغي، وهؤلاء الرجال مصدرُ خطر!
أنطونيو :
لا تخشَ منه بأسًا يا قيصر! فليس بخطرٍ على الإطلاق،
بل هو من أشرافِ الرومان وهو رقيقُ الحاشية!
قيصر :
ليته كان أقلَّ نحولًا! ولكنني لا أخشاه! (١٩٥)
لكنْ لو كان لِمَن يحمل اسمي أن يخافَ
لتحاشيتُ كاشياس .. ذلك الهزيل النحيل!
إنه كثيرُ القراءة، دقيقُ الملاحظة،
ينفُذ ببصيرته إلى الدوافع الحقيقية لِما يفعله الناس!
وهو ينفِر من اللهو واللَّعب — على عكسك يا أنطونيو — (٢٠٠)
وهو لا يستمع إلى الموسيقى! وهو نادرًا ما يبتسم
فإذا ابتسم بدَت بسمتُه ساخرةً من ذاتِه
أو عاتبةً على نفسه التي اهتزَّت فابتسمت!
إن أمثالَه من الرجالِ يَفزعون إن رأوا (٢٠٥)
مَن هو أعظم منهم؛ ولذلك فهو مصدرُ خطر داهم!
إني أحدِّثك عن مصدرِ الخوفِ لا عمَّا أخاف منه
فأنا دائمًا قيصر. انتقلْ إلى يميني حتى أسمعك (٢١٠)
فأذني اليسرى صمَّاء، وقل لي حقًّا رأيك فيه.

(موسيقى – يخرج قيصر وحاشيته.)

كاسكا : لقد جذبتُ طرَف عباءتي. أتريد التحدُّث إليَّ؟
تروتس :
أجلْ يا كاسكا. قُل لنا ماذا حدَث اليوم
فجعل قيصر يتجهَّم هكذا!
كاسكا : أفلم تكن معه أنت؟ (٢١٥)
بروتس : لو كنتُ معه ما سألتُ كاسكا عمَّا جرى!
كاسكا :
قدَّم الشعبُ إليه تاجًا لكنه أزاحه عنه بظهرِ يده ..
هكذا .. وعندها انطلق الجمهورُ يصيح ويهتِف. (٢٢٠)
بروتس : ولماذا هتف الجمهورُ مرةً ثانية؟
كاسكا : لنفسِ السبب!
كاشياس :
لقد سمِعنا الهُتاف ثلاث مرات! فعلامَ كانت المرةُ
الثالثة؟
كاسكا : لنفسِ السبب!
بروتس : هل قدَّموا التاجَ له ثلاثَ مرات؟
كاسكا :
نعم وربي .. ورفضه ثلاثَ مرات! وكانت رقَّته في
الرفض تزيد في كل مرة! وكلما أزاحه بيدِه انطلق
الجالسون حولي يصيحون ويهتِفون!
كاشياس : ومَن الذي قدَّم إليه التاج؟
كاسكا : أنطونيو طبعًا!
بروتس : أخبِرنا كيف حدث ذلك يا كاسكا! (٢٣٠)
كاسكا :
لا أستطيعُ ولو شنقوني! لقد كانت مهزلةً لم ألتفِت
إليها. رأيتُ مارك أنطونيو يقدِّم إليه تاجًا، لكنه لم
يكن تاجًا بالمعنى المفهوم ولكن إكليلًا صغيرًا! وكما
قلت لكم رَفضَه في المرة الأولى، وقد أحسستُ أنه يريده
رغم رفضِه! ثم قدَّمه له مرةً أخرى فرفضه أيضًا وإن
كان لا يريد أن يفارق أصابعَه! ثم قدَّمه له مرةً ثالثة
فرفضه للمرة الثالثة، وفي كل مرة كان العامة يصرخون،
ويصفِّقون بأيديهم الخشنة، ويلقون بقبعاتهم القذرة في
الهواء، ويملئون الجو بأنفاسهم الكريهة حتى كاد قيصر
أن يختنق؛ إذ إنه أُغمي عليه ووقَع على الأرض
بعدها. أمَّا أنا فلم أجرؤ على الضَّحك حتى لا أفتح
فمي فيدخل فيه الهواء الفاسد!
كاشياس : ولكن قُل لي أرجوك، هل أُغمي على قيصر حقًّا؟
كاسكا :
لقد وقَع على الأرض في السوق وأرْغى فمُه وأزبدَ وفقدَ
النُّطق! (٢٥٠)
بروتس :
هذا محتمل جِدًّا .. فهو مصابٌ بالصرع! أو ما نسميه
داءَ السقوط!
كاشياس :
لا، لا .. ليس قيصر بل نحن! أنت وأنا وكاسكا
الأمين .. كلنا مصابون بداءِ السقوط!
كاسكا :
لا أفهمُ ما تعني بذلك؛ فأنا واثقٌ أن قيصر سقط مغشيًّا
عليه! وكان العامةُ يصفِّقون له حين يُرضيهم
ويُصفِّرون منه حين يغضِبهم، مثلما يفعلون مع الممثلين
في المسرح .. وهذه هي الحقيقة المجردة!
بروتس : وماذا قال عندما عاد إلى رُشده؟
كاسكا :
قبل أن يقع مغشيًّا عليه لاحظ أن القطيع الساذَج من (٢٦٠)
العامة سعيدٌ لرفضِه التاج، فشدَّني إليه لأفتحَ أزرارَ
صِداره ثم عرَض عليهم أن يقطعوا رقبتَه! ولو كنتُ
رجلًا من أهل الصنعة ولديَّ بعضُ الجرأة لنفَّذتُ كلامَه
ودخلتُ فيه النارَ مع الهالكين! ثم وقَع وأفاق وقال إنه
يعتذر لحضراتِ السادة إن كان قد صدر عنه ما يسوء —
قولًا أو فعلًا — بسبب المرض! وكانت تقف إلى جواري
ثلاث فتيات أو أربعة، فسمعتُهن يصِحن «واهًا لك
يا مسكين!» ثم قُلن إنهن يصفحن عنه من أعماقِ
قلوبهن! لم يكترث بهن أحدٌ بطبيعة الحال؛ فقد كُن
سيقلن ذلك حتى لو طعن قيصرُ أمهاتِهن!
بروتس : وبعد ذلك خرج متجهِّمًا عابسًا؟
كاسكا : أجلْ.
كاشياس : وماذا قال شيشرون؟ (٢٧٥)
كاسكا : كان يتكلم باليونانية.
كاشياس : وما فحوى حديثه؟
كاسكا :
لو قلتُ كلمة واحدة عنه ما جرؤت أن أنظر إليكما وجهًا
لوجه! أمَّا الذين فهِموه فقد تبادلوا البسمات وهزُّوا
رءوسهم، وأمَّا بالنسبة لي فقد كان يونانيًّا لا يُفهم!
ولدي خبرٌ آخر: قام مارولوس وفلافيوس بنزعِ
الأوشحة عن تماثيل قيصر فأخرسَ ألسنتَهما! وداعًا
لكما! ليتني أذكر المهازلَ الأخرى التي وقعت! (٢٨٥)
كاشياس : أفلا تتناول العشاءَ معي الليلة؟
كاسكا : شكرًا لك، ارتبطتُ بموعد سابق.
كاشياس : إذن نتغدَّى معًا غدًا!
كاسكا :
لا مانعَ عندي إذا عِشتُ إلى غدٍ، وإذا لم تُغيِّر رأيك،
وإذا كان طعامُك يستحق أن يُؤكل!
كاشياس : سأنتظرك إذن! (٢٩٠)
كاسكا : وهو كذلك. الوداع.

(يخرج كاسكا.)

بروتس :
لقد تغيَّر هذا الرجل وأصبح خشِن الطبع .. بعد
رهافته وذكائه أيامَ الدراسة.
كاشياس :
بل ما زال كذلك إذا تولَّى تنفيذَ عملٍ نبيل يتطلَّب (٢٩٥)
الجرأةَ .. ولكنه يتظاهر بالفظاظة وحسب،
كأنها من التوابل التي يضيفها إلى ذكائه،
حتى يفتحَ شهيةَ الناس إلى تذوُّقه!
بروتس :
هو ذاك إذن! سأتركك الآن .. أمَّا إن أردتَ الحديثَ (٣٠٠)
معي غدًا فسآتيكَ في منزِلك ..
أو إذا شئت
تعالَ إلى منزلي أنتَ وسوف أنتظرك.
كاشياس :
سآتي إليك في المنزل! وحتى ذلك الحين .. تأمَّل
أحوالَ الدنيا!
(يخرج بروتس.) (٣٠٥)
إيه يا بروتس! أنت نبيلُ الطبع.
ولكنَّ معدِنك الطيب يمكن أن يتحوَّل عن طبعه.
ولذلك فالأفضلُ ألا يختلط الشرفاء إلا بأمثالهم!
وهل ثمَّ عقلٌ صامد لا يمكن إغواؤه؟
إن قيصرَ يُبغِضُني ويُحب بروتس.
فلو كنت أنا بروتس، وكان هو كاشياس، (٣١٠)
لما استطاع أن يتملَّقني فيكسِبني إلى صفِّه!
سأكتب الليلةَ عددًا من الرسائل، بخطوط مختلفة
كأنَّما أرسلها إليه مختلِفُ المواطنين،
ثم أُلقي بها من نوافذِ منزله،
وكلُّها تتحدَّث عن المكانةِ الساميةِ التي يتمتع بها في
نفوس أهل روما، (٣١٥)
وتلمِّح في ثناياها إلى طموحات قيصر! وبعد ذلك
فليطمئن قيصر في كرسيه،
فلسوف نهزُّه هزًّا وإلا واجهنا أيامًا أدهى وأمرَّ!

(يخرج.)

المشهد الثالث

(شارع في روما – رعدٌ وبرق – يدخل من ناحيتين متقابلتين شيشرون وكاسكا شاهرًا سيفه.)

شيشرون :
عِم مساءً يا كاسكا! هل سِرتَ مع قيصر حتى منزله؟
ما لكَ؟ تلهثُ هكذا؟ ولماذا تحملِق هكذا؟
كاسكا :
أفلا تروعُك زلزلةُ الأرض كأنها فقدَت توازنَها وثباتَها؟
أواه يا شيشرون! لقد شاهدتُ من العواصفِ
ما هبَّت فيه الزوابع العاتية ففلقَت أشجارَ البلوط
الصلبة! (٥)
وشاهدتُ المحيط وهو يطاول السُّحب المنذِرة بالمطر،
فانتفخت أوداجُه وأرغى وأزبد!
ولكني ما رأيتُ حتى الليلة،
وما خضتُ حتى الآن
غمارَ عاصفةٍ تمطر أبابيلَ الجحيم!
إمَّا أنَّ أهل السماء يقاتلون بعضهم بعضًا،
أو أنَّ أهل الأرض قد استثاروا غضبَ الآلهة
فأرسلوا عليهم شُواظ الهلاك!
شيشرون : وهل رأيتَ شيئًا آثارَ دهشتك سوى هذا؟
كاسكا :
رأيتُ أحدَ العبيد، وأنت تعرفه من وجهه، (١٥)
وقد رفع يدَه اليسرى، فإذا هي تلتهب وتتَّقد
مثل عشرين شعلة معًا! ومع ذلك فلم تَشعر يدُه
بالنار، بل لم تحترق على الإطلاق!
وبينما كنت أمرُّ بجوارِ الكابيتول قابلتُ أسدًا (٢٠)
جعل يحدِّق فيَّ ثم مَرَّ مكشِّرًا عن أنيابه بجواري
دون أن يَمسَّني بسوء .. ولو أنني لم أُغمِد سيفي منذ
تلك اللحظة! ورأيتُ مائةً من النساء الشاحبات
يعصُرهن الفزعُ ويقفن في كومةٍ واحدة
ويُقسِمن أنهن رأين رجالًا تتصاعد منهم ألسنةُ النيران
يَروحون ويَغدُون في شوارع المدنية! (٢٥)
وبالأمس كان البومُ، وهو طائرُ الليل، ينعِقُ ويصرخ
في رابعة النهار — وسط السوق!
إذا اجتمعتْ هذه الخوارق في آنٍ واحد
فلن أقبْلَ أن يقولَ الناس «إن هناك أسبابًا منطقية
لحدوثها .. وهي ظواهرُ طبيعية وحسب!» (٣٠)
فأنا أعتقد أنها نُذُرُ شؤمٍ للمنطقة التي تقع فيها!
شيشرون :
حقًّا إنه لزمنُ الغرائب والعجائب،
ولكنَّ الناس يفسِّرون الأشياء وفقًا لأهوائهم،
فلا يعرفون ما ترمي إليه هذه الأشياء! (٣٥)
قُل لي .. هل سيأتي قيصرُ إلى الكابيتول غدًا؟
كاسكا :
نعم. وقد طلبَ من أنطونيو
أن يُرسل إليك مَن يخبِرك بهذا.
شيشرون :
طابت ليلتك إذن يا كاسكا.
لا ينبغي السيرُ في هذا الجو العاصف!
كاسكا : وداعًا يا شيشرون. (٤٠)

(يخرج شيشرون.)

(يدخل كاشياس.)

كاشياس (داخلًا) : مَن أنت؟
كاسكا : أحدُ الرومان.
كاشياس : أنت كاسكا .. عرفتُك من صوتك!
كاسكا : أنت مرهف السمع يا كاشياس! يا لها من ليلةٍ ليلاء!
كاشياس : بل ليلة بديعة لكل الشرفاء!
كاسكا : مَن كان يظنُّ أن تتوعَّدنا السماء هذا الوعيد!
كاشياس :
كلُّ مَن يعرف ما تغَصُّ الأرضُ به من الخطايا .. (٤٥)
أمَّا عن نفسي فقد طُفت بالشوارع وأسلمت نفسي
لأخطار الليل ..
هكذا .. كما تراني يا كاسكا .. فكَكْت أزرارَ قميصي،
وفتحتُ صدري للصواعق .. وكلما أومضَ البرقُ
الأزرق ..
كأنه شرخٌ يشقُّ صدرَ السماء .. (٥٠)
جعلتُ من نفسي هدفًا لِنَصْلَ بَرِيقِه.
كاسكا :
ولكنْ لماذا تتحدَّى السماءَ بهذه الصورة؟
إن على الإنسانِ أن يخاف ويرتعد
عندما تُبدي الآلهة الجبارة آياتها (٥٥)
قبل أن ترسِل نُذُرها الرهيبة لِتصعقَنا!
كاشياس :
أنت غبي يا كاسكا .. فإمَّا أنك تفتقر إلى جذوة الحياة
التي تلتهب في عقل كل روماني ..
أو أنك لا تعرف كيف تُوقِدها ..
لقد شَحُبَ وجهُك وجحظت عيناك، واعتراك الخوف
وتملَّكتك الدهشة، حين رأيتَ غضبةَ السماء التي ضاق (٦٠)
صدرُها بنا! لكنك إذا تأملتَ السببَ الحقيقي وراء
هذه النيرانِ الساقطة، وهذه الأشباح المارقة، وتحوُّل
الطيورِ عن طبيعتها، والوحوش عن فِطرتها، وقُدرة
البلهاء والشيوخ بل والأطفال على التنبُّؤ بالغيب، (٦٥)
وابتعادَ كلِّ هذه الأشياء
عن أطوارها وطبائعها وسُنن خلْقها،
وتشوُّهها وشذوذها، فسوف ترى
أن السماءَ قد ألقَت فيها تلك الشياطين
حتى تخوِّفنا وتنذِرنا بقرب وقوع حالة شائهة شاذة! (٧٠)
بل إنني أستطيع أن أذكر لك رجلًا
أشبهَ ما يكون بهذه الليلة الليلاء!
رجل يُرعِد ويُبرِق وينبِش القبور ويزأر
مثل الأسدِ القائم في الكابيتول (٧٥)
رجلٌ لا يزيد في قوَّته عنك أو عني في أيِّ شيء يفعله
ولكنه قد غدَا هائلَ الجُرم
مخيفًا مرعبًا مثل هذه الخوارق العجيبة الغريبة.
كاسكا : لا شكَّ أنك تعني قيصرَ يا كاشياس!
كاشياس :
ليكُن مَن يكون! (٨٠)
فما زال للرومان عضلاتُ أسلافهم القوية وسواعدهم
الفولاذية!
ولكنْ واهًا لك يا عصرَنا! لقد ماتت فينا عزائمُ آبائنا،
وباتت تحكُمنا مشاعرُ أمهاتنا! وما استِكانتُنا لنِير الذُّل
والمعاناة إلا دليل على أننا أشباهُ نساء!
كاسكا :
حقًّا! يقولون إن أعضاء مجلس الشيوخ يعتزِمون (٨٥)
أن يتوِّجوا قيصرَ ملِكًا في الغد.
وسوف يلبَس تاجَه في البَر والبحر
وفي كل مكان إلا هنا في إيطاليا.
كاشياس :
عندها سأعرفُ أين أُغمِد خِنجري هذا
(يشير إلى صدره)
وعندها سيُحرِّر كاشياس نفسَه من رِبقة الاستعباد! (٩٠)
أيتها الآلهة امنحوا الضعيفَ قوةً في تلك اللحظة!
أيتها الآلهة اهزموا الطاغيةَ في تلك اللحظة!
ولن تستطيع الأبراجُ المشيَّدة، ولا الأسوار النُّحاسية،
ولا غياهبُ السجون المصمتة، ولا الأصفاد الحديدية
الصماءُ أن تحبِس قوةَ الروح في الإنسان! (٩٥)
فالحياة التي أضنَتها قضبانُ سِجن الدنيا
لن تعدِم القوةَ على تحرير نفسها ..
وإذا كنتُ أعلم أنا ذلك، فليعلم العالمُ بأسْره
أنني أستطيع أن أحرِّر ذاتي من رِبقة الطغيان
في أي وقت أريد. (١٠٠)

(يعود صوت الرعد.)

كاسكا :
وكذلك أنا! كما يستطيع كلُّ عبد
أن يفسخ العَقد الذي يحرِمه حريتَه!
كاشياس :
ولماذا أصبح قيصر طاغيةً إذن؟
مسكين! أعرِف أنه ما كان ليصبح ذئبًا
إلا عندما أدركَ أن الرومان قطيعٌ من الأغنام، (١٠٥)
وما كان ليصبحَ أسدًا إلا عندما غدا الرومان ظِباءٌ
لاهية ..
إنَّ مَن يريد أن يُسرع بإشعال نار حارقة
يبدأ جَذْوتها بالقشِّ الضعيف! لقد أصبحت روما
نُفاياتٍ حقيرة، رُكامًا وحُطامًا وحُثالة مسَّتها النار
فالتهبتْ وسطع نورُها حتى أضاء وجهَ ذلك القيصر (١١٠)
الحقير! ولكن! إيهٍ أيتها الأحزان! إلى أين تمضين بي؟
لعلِّي أقول هذا الكلام أمام عبدٍ يرضى الاستعباد
ولا بد أنْ أُحاسَب عليه! ولكنني شاكي السلاح
ولا أبالي بالأخطار! (١١٥)
كاسكا :
إنك تتحدَّث إلى كاسكا، وهو رجلٌ لا يعرفُ المداهنة
ولا الوِشاية! هذه يدي أمُدُّها إليك!
كَوِّن زُمرةً تتولى تصحيحَ هذه المفاسد
وسأمضي معك في الطريق إلى آخره.

(يتصافحان.)

كاشياس :
اتفقنا! (١٢٠)
والآن اعلمْ يا كاسكا أنني قد حرَّضتُ نفرًا
من أنبلِ أهلِ روما نفْسًا وعقْلًا
على القيام معي بعملٍ شريفٍ في ثناياه خطرٌ داهم
وأعرِف أنهم ينتظرونني الآن في مدخل مسرح بومبي؛ (١٢٥)
ففي هذه الليلة المدلهمَّة سكنَ الجميع وخلتِ الشوارع
من السَّابلة، وبدا وجه السماء مكفهِرًّا مثل العمل
الذي نعتزم القيام به —
فهو دموي جهنمي رهيب. (١٣٠)

(يدخل سِنَّا.)

كاسكا : ابتعِد لحظة؛ فأنا ألمحُ شخصًا يُسرع نحونا.
كاشياس :
إنه سِنَّا، أعرفه من مِشيته.
إنه من أصحابنا. إلى أين تهروِل يا سِنَّا؟
سِنَّا : كنتُ أبحث عنك .. مَن هذا؟ ميتيلوس سمبر؟ (١٣٥)
كاشياس :
لا .. إنه كاسكا .. شريكُنا في خطَّتنا ..
هل الجمعُ في انتظاري يا سِنَّا؟
سِنَّا :
يسرُّني انضمامُه إلينا .. يا لها من ليلةٍ رهيبة!
لقد رأى اثنان أو ثلاثة من زُمرتِنا مشاهدَ غريبة!
كاشياس : قُل لي هل الجمعُ في انتظاري؟ أجِب! (١٤٠)
سِنَّا :
نعم نعم! آه يا كاشياس!
لو استطعتَ أن تُشركَ بروتس النبيلَ في مسعانا!
كاشياس :
اطمئن يا سِنَّا الكريم .. خُذ هذه الورقة،
وتأكَّد من وضعِها في كرسي القضاء
بحيث لا يعثرُ عليها إلا بروتس!
وألقِ بهذه الورقة من نافذته. (١٤٥)
وألصِق هذه الورقة بالشمع على تمثال جَدِّه بروتس.
وبعد أن تفعلَ هذا عُد إلى مسرح بومبي
حيث تجِدنا في انتظارك. هل ديشيوس بروتس
وتريبونيوس هناك؟
سِنَّا :
الجميع حاضرون — إلا ميتيلوس سِمْبَر الذي
ذهبَ يبحثُ عنك في منزل. والآن سأسرِع (١٥٠)
لوضعِ الأوراق حيث أمرتَني.

(يخرج سِنَّا.)

كاشياس :
عُد إلى مسرح بومبي حالما تفرغ.
هيَّا معي يا كاسكا ..
فلندرِكْ بروتس في منزله قبل طلوعِ النهار،
لقد استملْنا إلى صفِّنا ثلاثةَ أرباع الرجل! (١٥٥)
وسنفوز بالربع الباقي في اللقاء التالي!
كاسكا :
إنه يتمتَّع بمكانةٍ عالية في قلوب الناس جميعًا،
والعيوب التي تَشِينُنا
تتحوَّل فيه إلى فضائلَ وكمائلَ؛ (١٦٠)
فكأنَّه الكيمياءُ تُحوِّل المعدِن الخسيس إلى ذَهب!
كاشياس :
ما أصوبَ حكمَك عليه وعلى فضائله وحاجتنا الماسة
إليه! فلنذهب الآن؛ فقد تجاوزنا منتصفَ الليل،
وقبل أن يبزُغ النهار سوف نوقِظه ونتأكد من ميثاقِه.

(يخرجان.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤