مضحكات شعرية ونثرية

اقتطفنا هذا المقطعات الفريدة في بابها من رسالة لحضرة الموسيقي الأديب «كامل أفندي الخلعي» في مغنٍّ نكر الصوت نهم على الموائد؛ فأحببنا نشرها هنا تفكهة للقراء، واعترافًا بما للمنشئ من انتقاء الألفاظ واختراع المعاني. قال حفظه الله:

أما صوته فمظلم قطيع، مغتص فظيع، تمجُّه الطباع، وتنبو عنه الأسماع، أطيب من سماعه النقيق، وأوقع منه النعيب والنهيق، إن قارب الصواب انحدر، وإن أخطأ استمر، كأن لهاته وقت الغناء، قصبة مشدوخة جوفاء، ما للغراب سفاهة، بين البلابل ينعب، فقبحًا له من صوت، كحشرجة الصدر ساعة الموت، يميت الطرب، ويحيي الكرب، صرصوري مشوم، يتطير منه البوم.

كأنما تسمع من حلقه
دجاجة يخنقها ثعلب
ما عجبي منه ولكنني
من الذي يسمعه أعجب

أما ألحانه، فهي ضعيفة الإتقان، قليلة الأعيان، تخدِّر الحواس، وتميل بالأعناق إلى النعاس، لا يرفع الطبع لها حجابًا، ولا يفتح السمع لها بابًا، تزوي الوجوه وتغير الألوان، وتُسيل الأنوف وتُمرض الأبدان، أبرد من استعمال النحو في الحساب، والبناء في موضع الإعراب.

غنَّى لنا يوم حر فمات بردًا رفاقي
يا ليتنا في حجاز لمَّا شدا في عراق

وفيما يرويه من القديم تبديل وتكلُّف، وتحريف وتعسُّف، غمر، كالواو في عمرو، لا يميِّز بين خبيث اللحن وطيِّبه، ولا يفرِّق بين بكره وثيِّبه، موشحات مضطربة النغمات، وألحان تُصدي الريان، وضرب يوجب الضرب، وإيقاع كالإيقاع، وسماع كالإسماع، وغناء كالفقر بعد الثراء، من حجاز كار كنهيق الحمار، وعشاق كالجزع يوم الفراق، وجركاه كثغاء الشياه، وحجاز كذل الإعواز، وصبا كالتأسف على الصِّبا، وحصار كضيق الحصار، ونوى كألم النوى، وحسيني كطعن الرديني، وعجم كذلة القدم.

وفي الضروب من خفيف، كالمسخ والتحرف، وشتير كسير البعير الأعور، وظرفات كقوائم الزرافات، وورشان كمشية النشوان، ونوخت كالدحرجة إلى تحت، وخروج في الدوارج كتعاريج المدارج.

فما طلعة الرقيب، على خلوة مع الحبيب، وكتاب الطلاق، وغداة الفراق، والهبوب من سبات عميق، على التهاب الحريق، وولولة النساء، لموت الأبناء، ودفن الذكي في ثيابه، وهو في نضرة شبابه، مع أخبار النعاة، ويأس الأُسَاة، وأنين المريض، من عضو مهيض، وهدير الرعد، وزئير الأسد، وحديث البأساء لفاقد الصبر، وجزع الخنساء لمقتل صخر، وضجة المحشر في اليوم الأكبر، أو نفخة الصور في يوم النشور، وصيحة اللهام تحت سماء القتام، نعم ولا حالة الأيتام إذا استجْدوا اللئام، ومقترف الآثام تحت آلة الإعدام؛ بأزعج من صوته في الآذان، ولا بأصدأ من وقعه على القلوب والأذهان.

ومغنٍّ إن تغنَّى
أوسع الندمان غمَّا
دُفُّه والوجه منه
قُطِّعَا ضربًا ولطمَا
ليس يدري الوزن حتى
يبدل التكَّات تمَّا
صوته سوط عذاب
ليتني كنت أصمَّا
ذبحةٌ فيه كنبح الكلـ
ـب لو أعطوه سمَّا
جمجم الصوت فمن ذا
يشرح اللغز المعمَّى
إن يقل يا دعد يومًا
ظنَّها الجُلَّاس سلمى
هو للأرواح ثقل
وهو للأجسام حُمَّى
وجهه نحس يزيل الـ
ـسعد مهما كان جمَّا
لو رآه البوم يومًا
مات منه البوم شؤما
هو للخير نزوح
يملأ الأكوان عدما
لو تراءى لنجوم
رحن قيد الدهر سحما
ليس بالمحسن من أو
لاه بعد البؤس نُعما
فكُّه أقوى من الطا
حون عند الأكل قضما
هو كالسهم انطلاقًا
لو رأى في النار طعما
إن رأى الخير توانى
أو تبدى الشر همَّا
أثقل الناس طباعًا
وأخف الناس حلما
يا أراح الله منه النَّـ
ـاسَ إحسانًا ورُحما

غرامه بالطعام

هو جعظري هبلع، يلتقم ولا يشبع، جشع أكول، له من نفسه إلى الولائم رسول، لو وجد أكلًا عند أهل الجحيم لهرول إليه، وخرج من دار النعيم منقضًّا عليه.

إما توهَّم في الجحيم وليمة
يكفر ليصلاها مع الوُرَّاد

ينقضُّ على الولائم انقضاض القشاعم، وينساب إليها انسياب الأراقم، أهدى لمواقع الأكل من دعيميص الرمل، طفيلي ويقترح، يلتقم ولا يمتدح، وساساني قد أنضب الإلحاف من وجهه أديمه، يحسب كل قنديل عرسًا، وكل ضوضاء وليمة، إن وُضع السماط هزته فرحة، وإن رُفع أصابته ترحة، ينزل على الحساء نزول القضاء، ويسقط على الكباب سقوط العقاب، ويهوي على الدرامك هويَّ النيازك، يتبارى في الطعم كما يتبارى أولو العلم في العلم، تسافر يده على الخوَان بأسرع من خطرات الأذهان.

ما بين لقمته الأولى إذا انحدرت
وبين أخرى تليها قيد أظفور

ناب كالقرضاب، وأضراس كالمهراس، يفتك بالدجاجة والأرنب، فتك ابن آوى والثعلب، فكأن بفكيه دولاب يُدار، بربِّك أيها الفلك المدار، وكأن يديه في الشواء، وهو يمزِّقه أجزاء.

يدا سابح خرَّ في غمرة
وقد شارف الموت إلا قليلًا

أشجع الرجال عنده أشعب، وأبسل الأبطال لديه الأرنب، وخير رائحة عنده القتار، كما يشتم عبير الورد والبهار، وأمثل كتاب سطرته الأقلام، كتاب «حسن الطعام»، يقدِّس الشاة تقديس الفُرس للشاه، ولا يحفظ من الكتاب الكريم، إلا وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، ومن الأشعار قول بشار:

لها عشر دجاجات
وديك حسن الصوت

ويكره من قول الحكماء: المعدة بيت الداء، والبطنة تُذهِب الفطنة. ومن أمثال الأوائل: رُبَّ أكلة أودت بآكل.

ومغنٍّ يتغنَّى
بطعام وشراب
فإذا رمنا سكوتًا
فبضربٍ وسباب

وقلت فيه شعرًا — بعد أن أتعبني نثرًا:

هاتِ الدواة وهاتِ الطرس والقلما
فأفضل الناس في الأكوان من رقما
وصِف لنا رجلًا راحت نقائصه
تُمْلَى عليَّ وقد سطَّرتها كلما
هو الجهول فإن أنكرت معرفتي
بجهله إن هذا الكون قد علما
أو قلت إن الدجى أرخى ذوائبه
لقال إني أحب الضأن والغنما
ولو رأى الليل قال الشمس قد طلعت
أو أشرقت قال إني أبصر الظُّلَما
ليس الذي عميت منه العيون كمن
راحت بصيرته لا تستنير عمى
هو الذي يفعل الآثام مجترئًا
فلا ذمامًا يراعيه ولا ذمما
وحظُّه أن يرى الأجفان باكية
وما على الأرض من حيٍّ يصير دما
نقَّالة لكلام الناس بينهم
لا يرعوي أن يُرى بالحقد متَّسما
فكاد يملأ صدر الدهر من حرق
على بنيه ليُذكي فيهم الضرما
وأجج النار من حقدٍ ومن حسدٍ
بين الدجى وضياء اليوم فاحتدما
قد ملأ الغل صدرًا منه لو نظرت
عيناه خيرًا لراح الصدر مضطرمًا
ولو رأى كسرة سوداء يخطفها
من كفِّ طفل وأبكاه وما رحما
ولا ينام ظلام الليل من ألمٍ
إن كان يُبصِر في بيت امرئٍ نعمًا
يطير من فرح يومًا إذا سمعت
آذانه بنت بؤس تشتكي الألما
وخير أيامه يوم تمر به
جنازة حملت ذا فطنة علمًا
ويدَّعي صنعة الألحان في بلدٍ
يضيع فيه الذي قد ساد أو فهما
إذا تغنَّى بصوتٍ رحت تحسبه
صوت الرعود وخِلت البرق مبتسمًا
وذبحة فيه لو أصغيت تسمعها
لقلت محتضرٌ والموت قد حتما
يلحِّن الصوت لكن كل خطأ
مثَّل اليهود إذا ما حرَّفوا الكلما
تراه ينكبُّ فوق الرِّقِّ منعطفًا
كما تلوَّى سلوقي ينهش الرمما
وطلعة لو رآها الجن يرهبها
كأنما الله والى فوقها النقما
وأسأل الله إسداءً لمكرمة
أرجو بها الخير إن القول قد حتما

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤