مبادلة غريبة

حدث في سنة ١٧٨٢ أن اللورد نيوبورو برح وطنه ويلس في بريطانيا إلى توسكانا في إيطاليا لقضاء بضع سنوات في عزلة وانقطاع عن كل شاغل. ولم يخطر قط بباله أن يد القدر سوف تستخدمه لتمثيل فصل رائع ذي شأن في قصة أدهشت العالم كله بشدةِ غرابة حوادثها ووقائعها، مع أنه أقل الناس تأهبًا خلقيًّا واستعدادًا طبيعيًّا لما وكل إليه تمثيله والقيام به.

فقد كان رجلًا ساذجًا خاليًا من جواذب حسن الطلعة ونباهة الشأن، وعلى جانب عظيم من الرزانة والوقار وفي أواخر العقد الرابع من سنِّه. وقد فجعته المنون منذ عهد قريب بفقد زوجته كريمة اللورد إغمونت. وكان من كبار الأغنياء، ولكنه بدَّد مقدارًا عظيمًا من ثروته في الإنفاق على بناء الحصون والقلاع، وتجنيد كتيبة من المطَّوِّعة للدفاع عن الوطن، واضطر أن يرهن بعض عقاراته. فغادر ما له في ويلس من أملاكٍ ومقتنياتٍ وسار في طيته إلى جنوب أوروبا كئيبًا مغمومًا، ومعه ابنه البالغ عشر سنوات.

فألقى عصا الترحال في فلورنس عاصمة توسكانا الجميلة ذات القصور الباذخة والكنائس الفخمة والحدائق الغنَّاء، وهناك عاش عيشة رجل رث الملبس شحيح الكف غريب الأطوار. والشيء الوحيد الذي كان يرتاض به من وقت إلى آخر، إنما هو ذهابه إلى المسرح لمشاهدة التمثيل. ومن هذا الارتياض الطفيف الضئيل نشأت حوادث هذه القصة الغريبة.

فإنه كان بين ممثلات الأوبرى في فلورنس فتاة امتازت ببهاء باهر وحُسن ساحر. وهذا الجمال الرائع البارع صادف من اللورد نيوبورو قلبًا خاليًا، فتمكَّن منه وهاج فيه لواعج الغرام بعدما أخمدها مَرُّ السنين والأيام، فأمالَ اللورد أذنًا صاغية لصوت الحب الجديد الهاتف في فؤاده، وعلَّل نفسه بسعادة الحصول على هذه الغادة الحسناء.

وفي ذات يوم جاء الممثلة كتابٌ فتناوله أبوها وقرأه، ثم أمرها أن تسرع في لبس ثيابها استعدادًا لاستقبال زائر. وكان هذا الزائر اللورد نيوبورو. وبعد تكرار الزيارة قال إنه رأى الفتاة في الأوبرى فأُعجب بحسنها وجمالها، والآن يروم الاقتران بها. فرفضت الفتاة قبوله رفضًا باتًّا، ولكن أبويها أكرهاها عليه إكراهًا قائلَيْن لها إن اقترانها برجلٍ غنيٍّ شريفٍ كهذا يعود بالنفع الجزيل عليها وعليهما. وفي اليوم الحادي والعشرين من شهر فبراير سنة ١٧٨٦ كتب سفير بريطانيا في فلورنس يقول: «احتُفل اليوم بزفاف ابنة شرطي إلى اللورد نيوبورو وهي في سن الثالثة عشرة.»

وعلى رغم ما أبدته الفتاة من المجاهرة برفضها وامتناعها عن قبولها الاقتران برجل يبلغ من العمر ما يبلغه جدُّها، ظلَّ أبوها وأمها مصرَّيْن على وجوب إذعانها لمشيئتهما ولم يصغيا إلى توسلاتها ولا رثيا للدموع الغزيرة التي ذرفتها، وقالا لها: «خلِّي عنكِ البكاء والنحيب وافرحي وافخري بأن حسن الحظ أتاح لكِ الاقتران برجل شريف غني كهذا، يحبكِ ويحنو عليكِ ويرفعكِ إلى رتبة السيدات الشريفات. وكان يجب عليكِ أن تجثي أمامه على ركبتيكِ وتقبِّلي يده، وتشكري له عطفه عليكِ وإحسانه إليكِ.» وهكذا تم الاحتفال بزفاف ماريا ستلا شبيني ابنة الشرطي إلى عريسها الكهل في كنيسة سانتا ماريا نوفلا في فلورنس، وأصبحت العروس من ذلك اليوم تلقَّب بِلادي نيوبورو.

ولكن لنرجع بضع عشرة سنة قبل تاريخ هذا الزفاف لنرى في أية حالة ظهرت اللادي ماريا ستلا نيوبورو أول مرة على مسرح حياتها العجيبة الغريبة. ففي قرية مودغليانا في سفح جبال الأبنين فتحت عينيها وشاهدت العالم الحافل بالأسرار الخفية الغامضة. هناك في سجل كنيسة القديس أسطفان مكتوب: «ماريا ستلابترونيلا ولدت أمس لأبيها لورانزو فردينند كيابيني أحد رجال الشرطة، ووالدتها فنشينتا دليجنتي. كلاهما من أعضاء هذه الكنيسة، وعُمِّدت في اليوم السابع عشر من شهر أبريل سنة ١٧٧٣.»

وكانت ماريا ستلا بِكْر والديها، وقد وُلد لهما بعدها بنون وبنات، وأول شيء تذكره من أيام طفولتها قساوة والدتها عليها وإساءة معاملتها لها، إذ كانت قاصرة محبتها وحنوها على أولادها الآخرين غير مختصة ستلا بشيء منهما على الإطلاق. على أن أباها كان لحسن حظِّها يرأف بها ويحنو عليها. وقد وجدت نعمة في عيني الكونتس كاميليا بورغي، فكانت تدعوها إليها لتقضي أيامًا عندها، وتعود حاملة شيئًا كثيرًا من المنح والهدايا؛ ولهذا شقَّ عليها جدًّا عندما جاء بها أبوها من قرية مودغليانا إلى فلورنس، حيث ترقَّى إلى رتبة ضابط الشرط. ولكنها سُرَّت إذ أخذت تتعلَّم الغناء والرقص، وطفحت كأس مسرَّتها عندما تسنَّى لها وهي ابنة عشر سنوات أن تظهر على مسرح الأوبرى. وبعد ذلك بثلاث سنوات ظهرت على مسرح آخر من مسارح هذه الحياة.

ولم تكن تعلم شيئًا عن الفصول المزمعة أن تمثِّلها على المسرح، ولا عما خُبِّئ لها فيه من خير أو شر، فقضت الأيام الأولى بعد اقترانها في خلوة وعزلة منقطعة للنوح والبكاء، لا تكلِّم زوجها إلا إذا اضطرت للكلام اضطرارًا. ولم يُرزق اللورد نيوبورو شيئًا من أساليب سلامة الذوق وحسن التناول التي يستطيع بها أن يستميل قلب زوجته الفتاة إليه. وكان شديد الغيرة سيئ الخلق متناهيًا في الشكاسة وغرابة الأطوار. وإقامته هو وزوجته مع أهلها تحت سقف واحد لم يسفر عنها أقل تحسين في حالة المعيشة، بل زادتها سوءًا واضطرابًا. وفي ذات يومٍ نشب في الأسرة خلاف أفضى إلى الملاكمة والمضاربة، فخرج اللورد من البيت وقلبه يَصلى لظى الحقد والحنق، ولكن زوجته أبت أن تصحبه، فكتب إليها ينذرها بعزمه على البخع والانتحار إن لم تبادر إلى اللحوق به والسكنى معه، فأجابته عن رسالته بما ترجمته:

عزيزي الشيخ المعتوه، إن أبلغ برهان تستطيع تقديمه على محبتك لي هو أن تعمل بموجب إنذارك.

وكان الصبر على هذه الحالة السيئة متعذرًا وخارجًا عن طوق الإمكان. ومما زادها حرجًا وسوءًا في عيني اللورد أن حماه والد زوجته كان لا ينفك ممعنًا في إرهاقه وإزعاجه بطلب المال (ثمن قبوله بزفاف ابنته إليه) غير جاعل لمطامعه الأشعبية حدًّا من الرضا والقناعة. ولمَّا طفح الكيل وطما السيل، ولم يبقَ في استطاعة اللورد تحمُّل شيء من هذا الإعنات الفادح، نهض في صباح يوم من صيف سنة ١٧٩٢، ونفض غبار إيطاليا عن قدمَيْه وذهب بقرينته راجعًا إلى ويلس حيث استقبلهما أصدقاؤه وعمَّال أرضه بحفاوة وترحيب لا مزيد عليهما. ومما قالته لادي نيوبورو في وصف هذا الاستقبال الباهر: «حلَّ المستقبلون خيل مركبتنا وجروها إلى غلينليفون يخفرنا ستمائة رجل. وأقيمت لنا معالم زينة عمَّت جميع القرى المجاورة والجبال المحيطة، فكانت كلها بارزة في حُلل الرياحين والأزهار مزدانة بالأعلام والأنوار. ولم يبقَ أحد من كبار القوم وأعيان البلاد إلا هرع للسلام علينا، ودامت هذه الاحتفالات متواصلة مدة ستة أشهر.»

ثم عاش الزوجان في صفاء ورفاء وهما يتنقَّلان بين ويلس ولندن، وولدت اللادي نيوبورو للورد ابنين ترقَّيا كلاهما إلى رتبة البارونية. ثم توفي اللورد، وبعد وفاته بثلاث سنين تزوَّجت البارون إدورد سترنبرغ أحد أعيان روسيا، فولدت له ابنًا، ولم تَطُل مدة اتصالها به؛ إذ حدث بينهما من النفور والخصام ما قضى بانفصالها عنه. وفي غضون هذه السنين كلها لم يخطر ببال ماري ستلا أقل خاطر أوجب توجيه التفاتها إلى السر العميق الذي يكتنف ولادتها، وكان مزمعًا أن يغشى ما بقي من حياتها بضباب حالك كثيف.

ففي سنة ١٨٢٠ — أي بعد زواجها الثاني المشئوم بعشر سنوات — انكشف لها الحجاب عن السر الذي ظلَّ مكتومًا عنها إلى الآن. فإنها ذهبت إلى فلورنس ومعها ابنها من زوجها الروسي لتزور أباها الذي كان في غاية الضعف والانحلال، وكانت مزمعة أن تواظب على العناية به، وإنفاق كل ما تمس الحاجة إلى إنفاقه في سبيل تطبيبه وتمريضه، ولكنها دهشت إذ رأت جميع من في البيت يعارضون ويعوقونها عن الاتصال بأبيها، ووجدت أباها نفسه غير مقبل عليها الإقبال المنتظر. وبدل احتفائه بها كابنته البِكْر العزيزة استقبلها بفتور، وكان في حديثه معها يخاطبها بلقب ميلادي (يا سيدتي)، واتضح لها أنه يفكِّر في شيء غامض غير معلوم عندها؛ إذ كان من وقت إلى آخر يتمتم مشيرًا إشارة خفية إلى خطأٍ ارتكبه، وإلى جميل لابنته عليه ويكرِّر ذكر أسماء عرفتها في أيام حداثتها.

وفي ذات يوم دخلت عليه فوجدته مشرفًا على الموت، فتناولت يده فضغط يدها بكل ما بقي له من القوة وتفرَّس في وجهها وحاول الكلام، ولكنها لم تستطِع أن تلتقط من فمه سوى هذه الكلمات: «يا إلهي! مبادلة! مبادلة غريبة!» وهي على غرابتها لم يكن لها عند ستلا معنًى صريح. وما أبطأ كيابيني أن أسلم الروح.

وبعد بضعة أشهر اتفق لها أن ظفرت بضياء إيضاح أزال ظلام الإبهام؛ فإنها تسلَّمت رسالة موضوعة في غلاف معنون بخط كيابيني نفسه، وفيها يبوح بسرٍّ مدهش غيَّر مجرى حياة ستلا تغييرًا تامًّا. ويقول إنه أوصى أحد أصدقائه بحفظ هذه الرسالة، وبعد وفاته يوصلها إليها. وفيما يلي خلاصة ما جاء فيها:

«أعترف لكِ يا ستلا بأنكِ لست ابنتي، لستِ ابنة رجل قروي خامل وضيع، بل أنتِ بحق الولادة سليلة مجد رفيع وشرف باذخ. فقبل ولادتك بأربعة أشهر جاء إلى قريتنا رجل غريب جليل القدر عظيم الشأن ومعه زوجته يحفُّ بهما عدد كبير من الخدم والحشم والأتباع. وقيل إنهما من صفوة أعيان فرنسا وكبار أغنيائها، وكانت قرينته على أهبة الولادة كما كانت زوجتي. وكان هذا الرجل الغريب على جانب عظيم من اللطف والوداعة، وقد دعاني إليه ونفحني بمبلغ كبير من الدراهم، وجاء لي بعدة كئوس من الخمر المعتقة. وبعدما تجاذبنا أطراف الحديث في مواضيع مختلفة قال لي إن الضرورة تقضي أن يكون المولود الذي تضعه الكونتس (زوجته) صبيًّا لا بنتًا، وذلك لأسباب لا محل لذكرها. وألحَّ عليَّ أن أوافقه على ما يأتي وهو مبادلة ولدينا — ولدي وولده — إذا ولدت زوجتي ذكرًا وولدت زوجته أنثى.

وقد بذلتُ جهدي في أن أُثنيه عن عزمه وأحُول دون مرامه فلم أستطِع؛ لأنه تغلَّب على إرادتي وحملني على الانقياد إلى إرادته بما أفرغه عليَّ من الرشا والبراطيل ومواعيد الحماية والرعاية وغير ذلك مما أغراني بالرضا والقبول. وقال لي إنه سيعنى بتربية ابني أتم عناية، وإنه سيشغل بعد بلوغه سن الرشاد أسمى محلٍّ في أوروبا. وقد جرت الأمور كما توقعت الكونتس، فإنها ولدت بنتًا وولدت زوجتي صبيًّا. وعلى أثر ولادتهما عملنا بموجب الاتفاق، فأخذتُ ابنتهما وأعطيتهما ابني، وبعدما أكملت الكونتس أيام نفاسها رجعت هي وزوجها وابني وجميع الخدم والحشم من حيث أتوا. وكان هذا آخر عهدي بهم.

وبقيت مدة سبع سنين أتناول مبالغ باهظة من المال ومعها وصايا مشدَّدة بوجوب كتمان السر، وإنذارات مخيفة بالعقاب الذي ينالني إن بحت به لأحد. وقد حذَّروني على الخصوص من إفشاء السر لكِ. ولم يطَّلع عليه من أهل بيتي سوى زوجتي وابني الأكبر، وهذا يوضِّح لكِ شدة اهتمامهم بمنع المحادثات بيني وبينك؛ لأنهم علموا يقينًا أني منذ وقت طويل ندمت على ما فعلت، وكنت دائمًا مستعدًّا بملء التلهف أن أبذل كل ما أستطيعه من التكفير والتعويض. ولا يسعني أن أصف لكِ مقدار الشكر والابتهاج اللذين شعرت بهما عندما جاء اللورد الإنكليزي وتزوجك وبوَّأكِ ذروة الشرف التي أنتِ جديرة بها بحق ولادتك. ولما رجعت إلى إيطاليا عذَّبني القلق، ولذَّ عليَّ الاهتمام لكي أطرح نفسي عند قدميكِ، وأعترف لكِ بكل شيء، وأرجو صفحكِ. ولكن هذه الأمنية العظمى لم يُتَح لي الفوز بها وأنا بعدُ في قيد الحياة. فمن صميم فؤادي أبتهل إليه تعالى أن يسهِّل سبيل وصول هذا الاعتراف إليكِ بعد وفاتي. وحينئذٍ تصفحين عني، وبهذه التعلة أموت مستريحًا عن توبيخ الضمير.»

ولنترك للقارئ أن يتصور الشعور الذي استولى على أفكار ماري ستلا عندما طالعتِ اعتراف هذا الرجل في آخر ساعة من حياته؛ لأن شعورًا كهذا إن لم يتعذَّر تصوره فهو بلا ريب يشبُّ عن طوق الوصف حتى بقلم أبلغ الكتَّاب. وإعلان هذا السر العجيب الغريب أماط لديها لثام الغموض والخفاء عن محيَّا أمور كثيرة كانت تَعرِض لها في الماضي ولا تستطيع إدراك كنهها واستجلاء خوافيها، كالفرق الشاسع بين بياض بشرتها وجمال طلعتها ورقَّة طباعها وسمرة بشرة أختها وإخوتها وخشونة طباعهم. ومحبة الكونتس بورغي التي لا بد أن تكون قد علمت شيئًا عن سر ولادتها، أو على الأقل ارتابت في دعوى انتسابها إلى أحد رجال الشرطة، ومجافاة قرينة كيابيني وأولادها لها ووقوفهم حجر عثرة في سبيل محادثتها لأبيها، ومعنى كلمة «مبادلة» التي فاه بها أبوها قبيل وفاته ولم تفهم معناها.

وقد غاظها جدًّا وقوفها على مبلغ الحيف الذي حاق بها عند ولادتها، ولكن هذا الغيظ تغلَّب عليه افتكارها في حقيقة نسبها وعلمها بأنها ليست ابنة قروي، بل كريمة رجل شريف الأصل كريم المحتد، وأن اللورد الإنكليزي الذي اقترنت به لم يَفُقها في حسب ولا في نسب، بل كانا كلاهما متساويين متشاكلين. وهذا الفكر أنشا فيها شدة الاهتمام لمواصلة السعي والتنقيب لبلوغ أعماق هذا السر، ومعرفة أبويها الحقيقيَّيْن، والمطالبة بالحقوق التي تستمدها من ولادتها.

ولم تتوقَّع أقل فائدة من الاستعانة بأسرة كيابيني؛ لأنها لم تنسَ سوء معاملتهم لها واستخفافهم بها. وتذكَّرت أن خادمَي الكونتس بورغي الطاعنين في السن كانا لا يزالان في قيد الحياة، فصحَّت عزيمتها على الذهاب إليهما وإلى الكاهنَيْن اللذين كانا مستودعًا لسر اعتراف كيابيني والكونتس. وقد أجابها أحد الكاهنَيْن عن سؤالها بقوله إنه كان دائمًا يظنها ابنة دوق توسكانيا. وأجابها الآخر بقوله إنه واثق كل الثقة بكون والديها هما دوق ودوقة جوانفيل. فرجعت من عندهما وهي في حيرة أشد من حيرتها السابقة.

وعلى الفور ذهبت إلى فلورنس وقابلت الخادمَيْن الباقيَيْن عند أهل الكونتس بورغي. ولما وقع نظرهما عليها صاحا: «لله ما أشد المشابهة بينك وبين الكونتس جوانفيل!» وقصَّا عليها قصة غريبة تؤيد اعتراف كيابيني وهو على فراش النزاع؛ وهذه خلاصتها: «في سنة ١٧٧٣ شاهدا الكونت جوانفيل وقرينته في قرية مودغليانا. وكان الكونت جميل الصورة وعلى وجهه أثر نقطة أو بثرة. وقد لاحظا حينئذٍ أن الكونت كان مواظبًا على مجالسة الشرطي كيابيني الذي كانت زوجته مثل الكونتس على أهبة الولادة.»

وبعدما أخبراها بالمبادلة التي حدثت عقب ولادة السيدتين قالا لها: «أسرع الكونتُ في الانطلاق سرًّا إلى بريسيغلا حيث عرف أمره وقبض عليه. أما الكونتس فبقيت حتى أكملت أيام نفاسِها ثم برحت القرية ومعها طفلها — ابن كيابيني — ولم نرَها بعد ذلك. وكانت الكونتس بورغي قد اطَّلعت على سر هذه المقايضة فرثت لحالة الطفلة سليلة المجد والشرف، وظلَّت تخصُّها بعطفها وحنوِّها وتشملها بعنايتها حتى انتقل بها كيابيني من القرية إلى فلورنس.»

فبعدما سمعت اللادي نيوبورو رواية هذين الخادمين وهي تؤيد اعتراف كيابيني وإقرار أحد الكاهنين، لم يبقَ عندها أقل شك في كونها ابنة الكونت جوانفيل. وكان عليها أول كل شيء أن تبحث عن هذا الكونت لتعلم من هو. ومن فورها ذهبت إلى جوانفيل في إقليم شمبانيا، وهناك اتضح لها أن لقب دي جوانفيل مختص بأسرة دوق دي أورليان.

ثم شخصت إلى باريس لظنِّها أنها خير مكان لمواصلة البحث عن هذا الرجل الشريف الذي لم يبقَ شيء من الريب في كونه أباها. فأقامت في أحد الفنادق الكبيرة، ونشرت الإعلان الآتي في أهم الصحف: «في سنة ١٧٧٣ سافر الكونت دي جوانفيل إلى إيطاليا وأقام فيها برهة يسيرة، فإذا رام وارثه الاطلاع على شيء يهمه جدًّا أن يعرف عنه فليأتِ إلى فندق … في شارع …»

وما انتشر هذا الإعلان في الصحف حتى جاءها رجل سمين ضخم الجثة يتوكَّأ على عكَّازتين مدعيًا أنه موفَد من قِبَل الدوق أورليان، وقال لها: «إن سمو الدوق أعار إعلانك جانب الاهتمام؛ لأنه وارث الكونت دي جوانفيل.» فسألته: «وكيف ذلك؟» فأجابها: «لا يخفى على سيدتي أن أبا سموِّه المرحوم دوق دي أورليان كان يُلقَّب أيضًا بالكونت دي جوانفيل. وهذا اللقب كان يطلقه على نفسه في رحلته إلى إيطاليا قبل ولادة ابنه الدوق الذي أنا آتٍ من قِبَله.» ثم سألها عن التركة المزمعة أن تئول إلى سموه، فقالت له إن الأمر لا يتعلَّق بتركةٍ ما على الإطلاق، بل بالبحث عن سر ولادةٍ له ارتباط بزيارة الكونت دي جوانفيل إلى إيطاليا سنة ١٧٧٣. فلاحت على وجه الرسول لوائح الخيبة، وما أبطأ أن ودَّعها وانصرف. وبعد ذهابه سألت عنه، فعلمت أنه أخ غير شرعي لدوق دي أورليان المتوفى وعم دوق دي أورليان الحالي الذي عُرف فيما بعد باسم الملك لويس فليب. وبعد أيام ذهبت اللادي نيوبورو إلى رواق الصور في القصر الملكي، ومعها ابنها الصغير من زوجها الروسي. وفيما هما واقفان يشاهدان الصور صاح بها ابنها قائلًا وهو يشير إلى إحدى الصور: «انظري يا أماه! انظري هذه الصورة! ما أشد مشابهتها للسنيور كيابيني!» فنظرت اللادي إلى الصورة، فإذا هي تشبه من كانت تظنه أباها في كل لمحة من ملامحه، وسألت عنها أحد الحجَّاب، فقال إنها صورة سمو الدوق دي أورليان. وحينئذٍ وَضَحت لها الحقيقة وضوحًا لم يبقَ معه أقل أثر للشك والارتياب، وتحقَّقت أن أباها إنما هو الدوق أورليان المتوفى (المعروف سابقًا باسم الكونت جوانفيل)، فهي والحالة هذه أميرة من الأسرة المالكة، والدوق أورليان الحالي والمزمع أن يصير ملك فرنسا إنما هو ابن الشرطي كيابيني المتخَذ بدلًا منها.

وهذه الحقيقة الناصعة أحدثت في أفكارها انقلابًا رائعًا، وولدت فيها ثورة عنيفة. فقد كانت حتى الآن واثقة بأنها من أصل شريف، ولكن لم يدُرْ قط في خلدها أن شرف أصلها يسمو بها إلى هذه الدرجة، فتكون وليدة البيت الملكي وأشرف سيدة في فرنسا. وعلى الفور قفلت راجعة إلى إيطاليا لتواصل التحري والبحث عمَّا يزيدها تمكنًا من الأخذ بناصية هذه الحقيقة، ولم تعتِّم أن ظفرت بضالتها المنشودة.

ففي بريسيغلا لقيت بعض الطاعنين في السن الذين تذكَّروا صدور أمر نائب الكردينال في رافنا بالقبض على كونت فرنسوي تُطابق أوصافه ملامح البادية على صور الدوق دي أورليان. ومما قاله لها أحد المحامين في رافنا أنه لما جيء بالكونت المعتقل إلى الكردينال وخلا به وعلم من هو، أطلقه لساعته. وشهد لها رجل آخر بأنها ابنة هذا الكونت؛ أي الدوق دي أورليان المتوفى.

ثم ذهبت إلى فلورنس وطلبت إلى محكمة مطرانها أن تحقِّق هذه المسألة، وتنقِّح شهادة ميلادها المدرجة في سجل كنيسة مودغليانا. وبعد البحث المدقق أصدرت اللجنة التي تألَّفت للنظر في هذا الأمر القرار الآتي: «اتضح بعد البحث المدقق أن الكونت لويس دي جوانفيل استبدل بابنته ابن لورانزو كيابيني، وأن الآنسة جوانفيل عُمِّدت باسم ماري، وقيل عنها زورًا أو كذبًا إنها ابنة هذا الرجل.»

وكان هذا القرار الأسقفي الشاهد بأنها ابنة الكونت جوانفيل من أفعل الوسائل لتأييد صحة نسبها. ولكن بقي عليها أن تبرهن أن الكونت لم يكن إلا الدوق دي أورليان الذي هي بِكره.

والمساعي التي بذلتها في هذا السبيل آلت لسوء الحظ إلى تكدير صفوها وتنغيص عيشها في بقية حياتها. وكان خيرًا لها وأبقى ألف مرة أن تعيش وتموت كابنة كيابيني التوسكاني ولا تعنى بإثبات صحة نسبها، وتلاقي ما لاقت في سبيله من العناء والعذاب.

ولم يخفَ على كثيرين من أهل المكر والاحتيال أن اللادي نيوبورو في حاجة شديدة إلى رجال يضافرونها على إثبات حقِّها ورفع دعواها إلى الملك لويس الثامن عشر. فتسابقوا إليها من كل حدب وصوب يعرضون عليها مساعدتهم لها وسعيهم في تحقيق مقصدها. وقد نجحوا كلهم في اقتناصها بحبائل خداعهم وابتزاز ما لها من غير أن تنتفع بأقل معونة أو تظفر بأصغر فائدة. فكان كل واحد منهم يقبض المبلغ الذي يطلبه أجرة سعيه، ويعلِّلها بالأماني الكاذبة والمواعيد الباطلة، وهي لسلامة نيتها تصدقه وتتكل عليه، ثم يذهب فلا يعود إليها، ولا تتمكَّن من معرفة شيء عنه على الإطلاق.

وقضت عدة سنين هائمة على وجهها في أوروبا متنقلة بين إيطاليا وسويسرا وفرنسا وغيرها، وهي تسعى في إثبات حق الاعتراف بها أميرةً ملكيَّةً. وهذه المساعي كلها لم تقترن بغير الخيبة والإخفاق ومكابد الأتعاب وإنفاق المال على أناس تظنهم من ذوي الغيرة والأريحية وأهل النجدة والاستقامة، وبعد الاختبار تجدهم من شر رجال الخبث والنفاق. وفي ذات يوم كتب إليها محامٍ من باريس يستدعيها إليه ليُطلعها على ما عنده من الأدلة التي تؤيِّد دعواها، فخفَّت مسرعة إليه، فقصَّ عليها قصة غريبة خلاصتها أن دوق أورليان رام أن يصالحها ويزيل ما بينه وبينها من النزاع، وأن والدته (التي هي بالحقيقة والدة لادي نيوبورو) كتبت قبل وفاتها معترفة بالمبادلة التي حصلت بين ابنتها وابن كيابيني. وقال لها في ختام حديثه إن تأييد حقها سهل جدًّا لا يحتاج إلا إلى مبلغ من المال ينفقه في سبيل المعاملات الرسمية. فنَقَدَتْه المبلغ المطلوب وكان تسعة آلاف فرنك، وسلَّمته كل ما عندها من الوثائق والمستندات. ومن ذلك اليوم لم ترَ المحامي ولا الأوراق التي أخذها منها.

وعلى هذا المنوال أنفقت كل ما عندها من المال، وضحَّت بصحتها وراحتها، ولم تنَل شيئًا مما علَّلت نفسها بالحصول عليه. ولمَّا يئست من إدراك غايتها كتبت قصتها ونشرتها بعنوان: «ماريا ستلا، أو مبادلة صبي قروي بفتاة من أشرف أسرة». وآخر طبعة من هذا الكتاب ظهرت مصدَّرة بمقدمة للناشر، هذه خلاصتها:

«هذه الطبعة الثالثة من هذا الكتاب، وليس في إمكان أحد الحصول على نسخة واحدة من الطبعتين الأولى والثانية، فإن مذكرات ماريا ستلا كانت كجاثوم على صدر لويس فليب فروَّعته وأزعجته. فأمر رجال الشرطة بضبط جميع النسخ المطبوعة منها، وإنه ليتعذَّر على أبلغ كاتب أن يصف حوادث قصة أشد منها تأثيرًا في قلوب قارئيها، ففيها يُكشف الحجاب عن حقيقة لويس فليب، فيبدو كما هو ابن رجل حقير وضيع، ولكن بأسلوب رقيق رزين يملأ النفس روعة والعقل اقتناعًا. وبالاختصار نوجِّه الأنظار إلى كتاب مرقوم بحروف من نار.»

هذا كان آخر سعي سعته ماريا ستلا مدفوعة إليه بعامل اليأس والقنوط، ولكنه لسوء حظها انتهى كالمساعي السابقة بالخيبة والإخفاق، ومن ذلك الحين كفَّت عن الجهاد في هذا السبيل، وقضت الثلاث عشرة سنة الأخيرة من حياتها معتزلة في غرف الطبقة السفلية من فندق الباث في شارع ريولي في باريس، وعلى جدران الغرفة التي كانت تقيم فيها صور أسرة أورليان التي كانت أشبه بها من صورتها. وعلى نوافذ الغرفة صور شفافة تمثِّل ستلا وبقية أعضاء الأسرة الأورليانية، فكان المارة يقفون وينظرون هذه المشابهة التامة، ويبدون إطراق الخشوع والموافقة بالشعور الخفي الصامت على صحة دعوى هذه الأميرة المنكودة الطالع. وكانت تسليتها الوحيدة أن تنثر الحبوب في أسكفة نافذتها المفتوحة على مصراعيها لألوف من العصافير الدورية التي كانت تأتي وتلتقطها شاكرة لهذه الأميرة البارة فضلها وإحسانها.

وفي اليوم الثامن والعشرين من شهر ديسمبر سنة ١٨٤٣، بينما كانت مطروحة على فراش النزع، سمعت قصف مدافع تطلق إيذانًا بافتتاح مجلس النواب، فأفاقت من ذهولها واستعادت شيئًا من صوابها وطلبت صحيفة، ثم أسرَّت إلى من جاءها بالصحيفة قائلة: «أود أن أسمع ما قاله لويس فليب اللص المغتصب.» ثم لفظت النفس الأخير، واستراحت من عذاب خيبة المساعي وعثرات الآمال.

ولم يكن في وسع أحد من أُولي الحصافة وذوي العدل والإنصاف أن ينكر كون ماريا ستلا ابنة الكونت والكونتس جوانفيل؛ لأن الأدلة على ذلك كانت متوافرة. ومن المحقَّق أنها لم تكن قط ابنة الشرطي كيابيني الذي ليس بينها وبين أولاده أقل مشابهة في الملامح ولا في الأخلاق، بل كانت أشبه شيء بمدام إدلايد والدوق مونبنسيه ولدَي دوق دي أورليان (الكونت جوانفيل). وكثيرًا ما كان الناس يُخطئون في التمييز بينها وبين أختها مدام إدلايد، ويظنون هذه تلك وتلك هذه. ولم تكن مشابهتها لوالديها الدوق والدوقة أقل من مشابهتها لأختها وأخيها.

ثم إن لويس فليب المبدل بها كان من أبيه كيابيني حذو النعل بالنعل أو صورة طبق الأصل؛ فكان جلفًا خشنًا في شكله وخلقه وكلامه. وكان أهل أوروبا يعجبون كيف يمكن رجلًا كهذا أن يصير ملكًا. وكانت فظاظة أخلاقه وغلاظة أفكاره موضوع الهزء والسخرية في قصور الملوك، وهذه الصفات كانت في طفولته وحداثته أوضح وأظهر. قالت مدام جنلس التي كانت مربية أولاد الدوق أورليان (وقد سبقت الإشارة إليها في الفصل السادس): «كنت مضطرة أن أعالج في الدوق دي فالوي (وبعد ذلك لويس فليب) تقويم كثير من الأمور المعوجة وإصلاح عدة عادات فاسدة. أما أخته وأخوه فكانا يختلفان عنه كل الاختلاف، ولم يشاركاه في شيء مما يُزدرى ويعاب.»

أما اهتمام الكونت جوانفيل الشديد بأن يكون له ابن بدل ابنة — وعن هذا الاهتمام صدرت هذه المقايضة الجائرة الشائنة — فكان منشأه أن الكونتس قرينته كانت نحيفة جدًّا، وهي بقية سبعة أولاد تُوفُّوا كلهم في طفولتهم، فلو تُوفيت بلا عقبٍ ذَكَرٍ ذهبت ثروتها الكبيرة إلى أسرتها ولم ينَل زوجها منها شيئًا. وأما ما يعترض به على صحة هذه المبادلة بأن ماري ستلا ولدت في شهر أبريل سنة ١٧٧٣، ولويس فليب (ابن الشرطي) ولد في شهر أكتوبر (أي بعدها بخمسة أشهر) فيرد بأنه لما جيء به ليعمَّد قال غير واحد من الذين حملوه أنه لم يكن حينئذٍ أصغر من ابن خمسة أشهر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤