البولونية الحسناء والإمبراطور

يُقال عن نبوليون الأول إنه بينما كان قادرًا أن يلقى جيوش العالم كله مدجَّجة بالأسلحة وغارقة في الحديد والفولاذ وهو «غير هيَّاب ولا نَكَسَ وَكَلَّ»، كان يخور عزمه ويهن جلده أمام بطارية تصوَّب إليه من عينين جميلتين. كان في استطاعته أن يسحق أوروبا بأسرها تحت قدميه، ويدوِّخ الممالك ويذل الملوك والقياصرة، ومع هذا كله كان قلبه أضعف القلوب في مقاومة نزعات الهوى وأشدها إزعانًا لسلطان الحُسن وانجذابًا بقوة الجمال. فكنتَ تراه إذا فرغ من إملاء شروط الصلح على أمة أخضعها بحدِّ سيفه، أخذ يلهو بتلفيق سخافات غرامية يستحي أصغر عاشق من نسبتها إليه.

ولعل عقيلة والسكا امتازت عن جميع النساء الحسان اللواتي سلبن قلبه وخلبن لبَّه، بأن تسلُّطها عليه كان أطول مدة وأرسخ قدمًا. وقد تمَّ لها ذلك على رغم إرادتها. وبذلت في سبيله أغلى ثمن وأعز شيء لديها وهو صيتها الذي ضحَّت به وجعلته فداءَ محبتها لوطنها. وهذه القصة الغريبة التي أرويها عن تلك المرأة الجميلة المنكودة الحظ مقتطَفة من المصادر السرية التي أماط عنها لثام الخفاء البحَّاثة المدقِّق المستر فردريك ماسون.

في صباح اليوم الأول من شهر يناير سنة ١٨٠٧، غُصَّت بلدة برونيا التي بين بولستك ووارسو بأقدام ألوف من الزائرين القادمين إليها من العاصمة البولونية والأماكن التي حولها، وهم أشد ما يكون من حالات التلهف والاشتياق توقُّعًا لمشاهدة نبوليون بونابرت، الذي كان مزمعًا أن يمرَّ في ذلك اليوم ببرونيا في طريقه إلى وارسو بعدما كان قد أخضع النمسا تحت قدميه، وألهَب ظهر روسيا بسوط الفتك والتنكيل، ورمى جيوش بروسيا بحجارة من سجيل. هذا الفاتح العظيم الذي طبقت شهرة انتصاراته الخافقين، وأفعم صيت بطشه قلوب أهل أوروبا رعبًا وذعرًا، عدَّه البولونيون مخلصًا لهم، يعيد إليهم مجدهم الغابر، وعلى يده يستردون استقلالهم، ويجمعون شتيت شملهم، ويتبوَّءون مكانهم السابق بين دول أوروبا.

وأخيرًا دنت الساعة المنتظرة وأقبلت المركبة التي تقل المنقذ العظيم داخلة به إلى بولونيا. فخفَّ الجماهير يزحمون بعضهم بعضًا للتيمُّن بمشاهدته والاحتفال باستقباله، وردَّدت جوانب الجو صدى أصواتهم وهي تضج بالهتاف له والاحتفاء به ضجيجًا كهزيم الرعود القاصفة. وأحاطوا بمركبته إحاطة السوار بالمعصم، وارتفعت أيديهم إلى ما فوق رءوسهم تحييه وترحِّب به وتبتهل إليه. وإذ ذاك ارتفع من وسط الجمهور صوت عذب ينادي: «دعوني أمرَّ. تنحوا من طريقي. أود أن أراه طرفة عين فقط.» فأجاب الجموع المحتشدة هذا الطلب، وإذا بفتاة حسناء يتألَّق نور الغيرة والحميَّة من عينيها الزرقاوين، ويتَّقد لظى البسالة والحماسة من وجنتيها الورديتين، قد اخترقت صفوف الألوف، ووقفت وجهًا لوجه أمام نبوليون وصاحت بأعلى صوتها: «أهلًا وسهلًا بالزائر العظيم الكريم. إن تعلُّقنا بشخصك المبجل لا يمكن التعبير عنه حتى بأبلغ الكلام، وابتهاجنا بمشاهدتك في البلاد التي تتوقَّع على يدك الإنقاذ يفوق الوصف، بل يشبُّ عن طوق التصور.»

ولمَّا رنَّ صوتها الرخيم في أذنَي نبوليون التفت إليها ورفع قبَّعته تحيةً لها، وناولها طاقة زهر قائلًا: «خذي هذه علامة سروري بكلماتك الحلوة، وأرجو أن نجتمع ثانية في وارسو؛ حيث أتملى مرة ثانية سماع هذه الكلمات العذبة من شفتيك الجميلتين.» ثم سارت به المركبة وهو يلوِّح بقبعته مودِّعًا جماهير المستقبلين الذين شيَّعوه بالهتاف والدعاء، وملتفتًا إلى الفتاة الجميلة التي حمل إليه صوتها الرخيم خلاصة تحية الأمة البولونبة وولائها.

وهذه الفتاة التي صار لها شأن يُذكر في حياة نبوليون كانت ماري والسكا من أسرة بولونية معروفة ولكنها فقيرة إلى الغاية، وهي ابنة أرملة لها خمسة أولاد غيرها. وقد شبَّت على أمرين تمكَّنَا منها؛ هما: محبة الله ومحبة وطنها الرازح تحت أثقال الظلم. وقبل بداءة قصتنا بثلاث سنوات — حين كانت ماري ابنة خمس عشرة سنة — كانت وهي أجمل فتاة في بولونيا قد تزوَّجت بأغنى أهل بلادها وأشرفهم حسبًا، وهو أنستاس والسكا، ولكنه كان طاعنًا في السن كأنه جدها. وبعد سنة ولدت له ابنًا، فقصرت محبتها عليه، ووجَّهت كل اهتمامها إليه. ولأجله على الخصوص كانت تحن شوقًا إلى ذلك اليوم الذي فيه يُحطِّم وطنها العزيز نير ظالميه ويسترد حريته واستقلاله. ولأجله أقدمت على مقابلة نبوليون الذي به تعلقت آمالها وآمال قومها. ولم يخطر حينئذٍ ببالها أنها وهي تحامي عن بولونيا كانت تضحي بأغلى شيء عندها وتقدِّمه على مذبح محبتها لوطنها.

ولما رجعت عقيلة والسكا إلى بيتها عزمت أن تكتم ما فعلته في برونيا عن زوجها وغيره من أقرب الناس مودةً إليها، وألَّا تبوح بسر طاقة الزهر التي أعطاها إياها نبوليون لأحد، بل تودعه صدرها إلى آخر يوم من حياتها. ولكن نبوليون أراد غير ذلك، وكان قد سأل عن هذه الغريبة الجميلة التي شغلت أفكاره، وعرف عنها ما يهمه، وبعث إليها الأمير جوزيف بونياتوسكي يدعوها من قبله إلى حضور حفلة رقص تقام إكرامًا له.

فأخذت منها الحيرة والارتباك كل مأخذٍ، وسألت الأمير: «لماذا يروم الإمبراطور أن يختصني بهذا الشرف؟ وكيف عرفني؟» فأجابها: «إن الجواب عن هذين السؤالين من شأن جلالته وحده، وأما أنا فإطاعة لأمره جئت إليكِ أدعوكِ إلى حفلة الرقص. ولعل العناية الإلهية اختارتك لتعيدي إلى وطنك حريته واستقلاله.» ولكنها سدَّت أذنَيْها عن سماع كلامه، وقالت له إنها لا تستطيع الحضور ولا ترومه. وما كاد الأمير يصل إلى الإمبراطور ويخبره برفضها دعوته حتى خفَّ إليها عظماء بولونيا واحدًا بعد واحدٍ يتوسلون إليها أن تجيب الدعوة. ولما اقترنت هذه التوسلات بأمر مشدَّد من زوجها لم يبقَ في وسعها الإصرار على المخالفة. فأقدمت على هذه المحنة بخوف ووجل لم تعرف لهما سببًا. فارتدت حلة من حرير أبيض، ووضعت على رأسها إكليلًا من ورق الأشجار وذهبت إلى المرقص. ولما دخلت استوقف جمالها أنظار المدعوين، وهرع بونياتوسكي لاستقبالها مرحِّبًا بها، وقائلًا لها: «إن الإمبراطور منتظر قدومك بفروغ صبر، وقد سرَّه حضورك سرورًا لا مزيد عليه. وقد أمرني أن أطلب إليك أن ترقصي معه.»

فاعترضته قائلة: «لكنني لا أرقص، ولا أريد أن أرقص.»

– إن رفضك للرقص معه يُضرم نار سخطه وغيظه، ونجاح هذه الحفلة — حفلة الرقص — متوقف عليكِ.

– يسوءني ذلك إلى الغاية، ولكن … ولكنني … بالحقيقة لا أستطيع الرقص، وأرجو أن تطلب إلى الإمبراطور العدول عن الرقص معي.

ولم تفرغ من النطق بآخر كلمة حتى التفتت فرأت الإمبراطور واقفًا أمامها وهو يقول لها بصوت سمعه جميع الحضور: «أبيض على أبيض، ونور على نور!» ثم همس في أذنها: «علَّلت نفسي باجتماع آخر يختلف عن هذا الاجتماع بعد …» ولكنها ظلَّت مطرِقة، فلم تبسم له ولا نظرت إليه. ولم يلبث أن تركها ومضى.

ورجعت ماري والسكا تلك الليلة مثقلة بالهم والقلق. لم تجهل أنها أساءت التصرف، ولكنها لم تستطِع خلاف ذلك. فماذا يعني الإمبراطور باهتمامه بامرأة وضيعة مثلها؟ لم تعلم سبب هذا الاهتمام، وقد داخلها الخوف منه، ولم تُرِد أن تراه بعد الآن. وفيما هي جالسة في مخدعها تفكِّر في هذا الأمر فتحت خادمتها الباب وناولتها بطاقةً مكتوبًا فيها: «لم أرَ غيركِ. لم يرُقني سواكِ. فإياكِ أبتغي. أجيبي على الفور وسكِّني روع «ن».»

فلما تلت هذه المطارحة الغرامية اضطرب قلبها واضطرمت وجنتاها، وبِيد الغيظ والحنق طوت البطاقة وقالت للخادمة: «لا جواب!» ولما استيقظت من نومها في صباح اليوم التالي رأت خادمتها بجانب سريرها ومعها بطاقة ثانية من نبوليون، فلم تفتحها، بل وضعتها مع البطاقة الأولى في غلاف وأمرت بإرجاعهما إلى صاحبهما. واستولت عليها حيرة كادت تذهب بصوابها؛ لأنها لم تدرِ ماذا تفعل. لم تجسر أن تخبر زوجها، ولم يكن لها من تستشيره في أمرها وتستعين به على كشف الغمَّة وتفريج الأزمة.

وفي ذلك اليوم جاء المارشال دوروك وكبار رجال الحكومة وعظماء الأمة طالبين أن يروها، فأبت أن تقابل أحدًا منهم معتذرةً بكونها مريضة. ولكن زوجها لجَّ في حملها على الخروج من مخدعها إليهم، وحضور وليمة العشاء التي دعاها نبوليون إليها.

فلم يسعها أن تصرَّ على الإباء والامتناع، بل لم ترَ بدًّا من الإذعان لمشيئة زوجها وإلحاح رجال أمتها الذين لم يكتفوا في محاولة إقناعها بالتوسلات والبينات، بل شفعوا ذلك كله بالإنذار قائلين لها أن إصرارها على الرفض يضرُّ بمصلحة الوطن، وينافي ما هو معهود بها من التفاني في خدمته والذود عن استقلاله. فأجابتهم إلى ما طلبوا، وعقدت عزمها على التعرض للمحنة الثانية التي كانت شرًّا من الأولى وأسوأ مغبةً. وصدر الأمر إلى عقيلة فوبان وصيفة الأمير بونياتوسكي أن تُعنى بتدريبها وتخريجها في آداب البلاط وأساليب التبرج والتزين، والجلوس حول مائدة الكبراء والعظماء. ولزيادة إقناعها وتذليل كل عقبة في سبيل انقيادها جاءها كتاب بتوقيع أعيان بلادها يُذْكون فيه نار حميتها ومحبتها لوطنها.

ومما جاء في هذا الكتاب قولهم لها: «اذكري إستير الإسرائيلية المذكورة في العهد القديم من الكتاب المقدَّس، وقولي لنا: هل تظنين أنها بذلت نفسها إلى أحشويرش الملك حبًّا له وهيامًا به؟ فقد بلغ من شدة خوفها منه أنه أغمي عليها عندما نظرته. إذن لم يكن حبها له الباعث على العمل بموجب إرادة عمها مردخاي، بل ضحَّت بأغلى شيء عندها في سبيل إنقاذ وطنها. وبهذا الإنقاذ تعظَّمت وتمجَّدت. ونحن نرجو أن تحذي حذوها وتتمجَّدي بإنقاذ وطنك!»

قال المستر ماسون: «استعانوا على إغرائها واستمالتها بكل وسيلة: بوطنها وأصدقائها ودينها وعهدَي الكتاب المقدس القديم والجديد (التوراة والإنجيل)، بهذه كلها توسَّلوا لإغواء فتاة ساذجة غِرَّة، بلا تجربة ولا اختبار وهي ابنة ثماني عشرة سنة، وليس لها مرشد صالح ولا مشير أمين حكيم.» وهذه المساعي كلها كانت ملحقة برسائل الشوق والغرام من قِبَل نبوليون. ومن ذلك قوله لها في إحدى رسائله: «هل ساءَكِ مني شيء؟ أراكِ في غفلة عني غير مكترثة لي. ونار شغفي بكِ تكاد تحرقني. لقد كدَّرتي صفاء راحتي وسلامي! فارثي لفؤادي المسكين المعذَّب بهواكِ، وامنحيه قليلًا من الغبطة التي يصبو إلى نيلها بقربك.»

وفي الوقت المعيَّن لتناول العشاء ذهبت ماري، فاستقبلها المدعوون مبالغين في الاحتفاء بها، مستبشرين بنَيْل ما تصبو إليه نفوسهم على يدها. ولم تخرج تحية نبوليون لها عن حدِّ المجاملة البسيطة، فاقتصر على قوله لها: «بلغني أن عقيلة والسكا متوعكة المزاج، فأرجو أن تكون الآن قد نالت الشفاء التام.» ولكن عينَيْه كانتا في أول تناول الطعام موجَّهتين إليها كأنهما مجذوبتان بقوة المغنطيس، وكانت أفكاره كلها مشغولة بها عن غيرها. وبعد الفراغ من تناول الطعام دنا منها وتناول يدها وضغطها بعامل الوجد، وقال لها وعيناه شاخصتان في عينيها: «لا. لا! إن ربة هاتين المقلتين الجميلتين، وهذه السيماء الرقيقة الأنيقة، لا يسعها الإصرار على القطيعة والصد. لا يمكنك أن تُسَرِّي بتعذيبي إلا إذا كنتِ أقسى النساء قلبًا وأخلاهن من عاطفة الشفقة والحنان.»

ولما انصرف المدعوون خرجت بها عقيلة فوبان، وأقبلت السيدات المدعوات عليها يتملقنها قائلات لها: «لم يرمق واحدة منَّا بنظرة، بل كانت عيناه شاخصتان إليكِ. فقد سحرْتِ لبَّه واستوليت على مجامع قلبه، فلكِ أن تفعلي به ما تشائين، وخلاص بولونيا في يدكِ.»

وبعد وصولها إلى منزلها غائصة في لجج التأمل والافتكار جاءها المارشال دوروك يحمل إليها رسالة من سيده، فسلَّمها إياها وطفق يحاول إقناعها بما عُرِف به من فصاحة اللسان وقوة البرهان قائلًا لها: «أفي استطاعتك أن ترفضي طلب رجل لم يجرؤ أحدٌ قط أن يعصي له أمرًا؟ إن ضياء مجده الساطع يغشاه الآن سحاب غم. ولكِ أن تبدديه إن شئتِ بزيارة قصيرة يسعد فيها بمشاهدتك.»

وبعد انطلاقه فتحت الرسالة وقرأت فيها ما يأتي:

إن قلبي ذاب أو كاد يذوب شوقًا إليكِ، وإذا شئتِ ففي استطاعتك أن تتغلَّبي على جميع الموانع التي تحول بيني وبينك. وصديقي دوروك يمهِّد السبيل. فتعالَي تعالَي! جميع طلباتك تجاب! وسألحظ وطنك بعين الرعاية والاهتمام متى رأيتكِ ترثين للقلب المعذَّب الذي بين جنبي «ن».

فقد صرَّح لها نبوليون بأن استقلال بولونيا متوقِّف عليها. وبعين التصور رأت وطنها العزيز مُطلَقًا من قيود الاستعباد ومسترِدًّا حريته واستقلاله. وهذا كله متوقِّف على عملها، على تضحيتها بشرفها. فهل في إمكانها أن تدفع هذا الثمن؛ الثمن الغالي المخيف، وتبذله في سبيل وطنها؟ فساورها القلق والاضطراب، وحمي وطيس النزاع في أفكارها بين عوامل الرفض والمقاومة، وبواعث الإذعان والتسليم. ولكن قوة المقاومة فيها كانت قد خارت وكلَّت من جرَّاء توالي الهجمات العنيفة التي انصبَّت عليها مرة بعد مرة كما رأينا. وفي هذه الحملة الأخيرة وهنت وكفَّت عن المقاومة، وعزمت ماري والسكا أن تَلقى نبوليون على انفراد وتقول له صريحًا إنها لم تستطِع أن تشاطره الحب، وتتوسل إليه بشرفه أن يخلي قلبها من حبها وينقذ وطنها.

وفي منتصف الساعة الحادية عشرة ليلًا سير بها في عربة مغلقة حملتها تحت ستر الظلام إلى مدخل القصر السري، حيث لقيها حاجب أدخلها إلى غرفة وأجلسها على كرسي في حضرة نبوليون.

ومن خلال الدموع الغزيرة المنهلة من سحب أجفانها رأت نبوليون جاثمًا عند قدمَيْها، يسكِّن اضطرابها بكلمات الاستعطاف التي أبت أذناها أن تصغيا إليها. ولما أشار في أثناء كلامه إلى بعلها ووصفه بكونه شيخًا هرمًا، تنبَّهت أفكارها الشاردة ووثبت عن كرسيها وثبة الغيظ والحنق محاوِلة الفرار، ولكنه أمسكها بعزم ولطف وأرجعها إلى مكانها، وأخذ يحاول إقناعها بالميل إليه، قائلًا لها إنه يتعذَّر عليها أن تحب رجلًا طاعنًا في السن كهذا، وأن اقترانها به غير طبيعي وهي غير مقيدة به شرعًا، وإنه مستعد بأن يعوِّضها منه محبَّة لم تحلم قط بمثلها، ويمنحها جاهًا وشرفًا، ويبوِّئها أسمى منزلةٍ بين نساء العالم، ولأجلها يعيد إلى بولونيا استقلالها السابق ومجدها الغابر.

على أنها ظلَّت مصرَّة على الرفض والامتناع، ولم تجِبه بشيء سوى سكب الدموع الغزيرة. وإذ ذاك قال لها نبوليون: «اذهبي يا حمامتي الوديعة واستريحي، ولا تخافي النسر، فلن يكون له عليكِ أقل سلطانٍ بسوى الحب. وهذا الحب لا يرضيه منكِ إن لم يكن خارجًا من صميم فؤادكِ. ولسوف تحبينه وتتسلطين عليه في كل شيء؛ في كل شيء، هل سمعتِ؟» ثم سار بها نحو الباب ولم يفتحه لها إلا بعدما وعدته بزيارة أخرى في الليلة التالية. وهذا الوعد اضطرت لتعليله به ثمنًا لنجاتها منه.

وفي صباح اليوم التالي جاءتها الخادمة بكتاب ومعه طاقة أزهار جميلة وعتائد نفيسة، فتحتها الخادمة فإذا هي تتضمَّن شيئًا كثيرًا من الحِلى الغالية المرصعة بالألماس. فلما وقعت عينا عقيلة والسكا على هذه الجواهر المتلألئة بضياء شمس الصباح، خطفتها من يد الخادمة وألقتها في أرض الغرفة آمرة بردِّها إليه على الفور. وأما الكتاب فهذه ترجمته:

ماري، يا عزيزتي ماري الجميلة، إني مشتاق جدًّا إليكِ وأتوقَّع زيارتكِ بذاهب الصبر. أفلا تأتين؟ فقد وعدتِني أن تزوريني. وما أظنك تُخلفين وعدكِ هذا. وإن أخلفتِ فالنسر يطير إليكِ. بشَّرني أصدقائي بأني سأراكِ على العشاء. أرجو أن تقبلي طاقة الأزهار. ولتكن علامة سرية تربطنا أحدنا بالآخر أمام الحضور، وسوف نتمكن بواسطتها من التخاطب على مرأًى منهم وهم لا يشعرون. وعندما أضع يدي على صدري تعلمين أني غارق في لجِّ الافتكار بكِ، وعليكِ حينئذٍ أن تضعي يدكِ على طاقة الأزهار. ليكن قلبكِ مشغولًا بمحبتي يا ماري العزيزة. واجعلي يدكِ دائمًا على طاقة الأزهار.

ولم ترَ عقيلة والسكا بدًّا من حضور العشاء، فذهبت ولكنها أبت أن تأخذ معها طاقة الأزهار التي اقترح نبوليون أن تكون علامة سرية بينهما. ولما أبصرها قادمةً بدونها حيَّاها بفتور وجفاء، وأعرض عنها ولم يُعنَ بمحادثتها. وبعد الفراغ من تناول العشاء بعث إليها المارشال دوروك، ولم ينصرف من عندها حتى وعدت أن تزور الإمبراطور في تلك الليلة.

على أنها في هذه المرة ذهبت غير موجِسة سوى شيء قليل من الخوف والجزع اللذين أوجستهما في المرة الأولى، فاستقبلها مبالغًا في الرفق بها والعطف عليها، وهي كانت ساكنة الجأش مطمئنة النفس واثقة بشرفه. ولكنه لم ينسَ مجيئها إلى العشاء على غير ما أراد، فقال لها بالجهد: «كنتُ أؤمِّل أن أراكِ مرة ثانية.» ثم سألها لماذا لم تحضر العشاء على الوجه الذي وصفه لها، ولماذا رفضت قبول جواهره وأزهاره. فظلَّت ساكتة لا تحير جوابًا، فاستاء من هذا السكوت أشد الاستياء، وعدَّه إهانة لا يسعه الصبر عليها.

فقال لها بلهجة الغيظ والحنق: «أروم أن تعلمي أني أقصد التغلب عليكِ. فعليكِ، نعم عليكِ، أن تحبِّيني؛ فقد أعدت اسم بلادك وهي مديونة لي بوجودها، وسأفعل أكثر من هذا لها. انظري هذه الساعة في يدي، فكما أني أحطِّمها أمامكِ هكذا أمزق بولونيا وجميع أمانيكِ إن خيَّبتِ أملي وأبيتِ قبول قلبي وبخلتِ عليَّ بقلبكِ.» ثم رمى الحائط مقابله بالساعة التي في يده فتحطَّمت.

فلمَّا شاهدت بركان غيظه ينفجر هذا الانفجار الهائل الذي يطير أمامه قلب أعظم رجل في أوروبا شَعاعًا سقطت مغشيًّا عليها، وعندما أفاقت وجدت نبوليون المخيف يمسح دموعها بيد العطف واللطف.

فانتهت المعركة منجليةً عن فوز نبوليون، ولم ترَ عقيلة والسكا مندوحة عن التسليم بما قضاه القدر، متعزيةً بأنها بذلت نفسها في سبيل خلاص بولونيا. وجعلت تزوره يومًا بعد يوم، ولم يكن فتورها إلا ليزيد نار غرامه استعارًا واضطرامًا. وحينئذٍ هجرها زوجها، ولكنها تعوَّضت منه بأنها أصبحت بطلة بولونيا.

ولم يُسمَع قطُّ عن رجل أحب زوجته كما أحب نبوليون ماري والسكا، فلم يُسَرَّ إلا بقربها، حتى إن تعلُّقه بها كان أشبه شيء بالعبادة، ولكنها لم تبطئ أن تحقَّقت أن تضحيتها بنفسها ذهبت باطلًا، فقد علَّلها بالمواعيد غير أنه لم يفِ لها بشيء منها، واعتذر لها عن إخلافه وعده بقوله إني أحب وأود أن أذُود عن حقوقها، ولكن الواجب عليَّ لبلادي فوق كل شيء، فلا يسعني أن أهرق الدم الفرنسوي في غير مصلحة فرنسا نفسها.

ولا ريب في أنها أصبحت الآن تحب نبوليون حبًّا مجردًا عن كل غرض آخر. ولم يكن في استطاعة أية امرأة كانت أن ترفض محبة رجل كهذا، وتغض النظر عن رؤية قاهر العالم بأسره جاثيًا عند قدميها يترضَّاها ويستعطفها، إلا إذا كان قلبها من حجر لا من لحم ودم.

ولعل الأيام التي قضتها معه في فنكنشتين كانت أسعد أيامها. هناك كانت تنعم بقُربه، وتأنس بصحبته، وتتناول طعامها معه، وتقضي ساعات طويلة في محادثته، وتتملَّى محبة ذلك الرجل العظيم الذي كان يأتمر بأمرها وينتهي بنهيها. ولما سألها أن تصحبه إلى باريس رفضت أن تجيب طلبه، فقال لها: «لا أجهل أنكِ تقدرين أن تعيشي بدوني، ولكن مع أنكِ لم تحبِّيني كما أحببتكِ، لا يسعك أن تبخلي عليَّ بدقائق أتملَّى فيها كل يوم سعادة الجلوس بجانبك والتمتع بمشاهدتك، والناس كلهم يحسدونني عليكِ، ويعدُّونني أسعد إنسان على وجه الأرض.»

فرافقته إلى باريس، وبعد سنتين ولدت ابنًا سمَّته ألكسندر فلوريان جوزف كولونا والسكا. وأقامت في بيت صغير أنيق كان يزورها نبوليون فيه ويواصلها بكل ما يدل على استمرار محبته لها.

وظلَّت مقيمة على ولائه كل أيام عزه ومجده، ولما دالت دولته وزال ظل سلطانه ونُفي إلى جزيرة القديسة هيلانة، وتوفي زوجها الأول، تزوَّجت بالجنرال الكونت أورنانو أحد أبناء عم نبوليون. وعندما بلغه خبر اقترانها به استاء أشد الاستياء، وغمَّه جدًّا أن يرى المرأة التي أحبَّها وقتًا طويلًا حبًّا يفوق الوصف تنساه في ساعة محنته.

ولكن حياتها لم تطُل، وبعدما ولدت ولدًا لزوجها هذا تُوفيت في شهر ديسمبر سنة ١٨١٧، وكلمة «نبوليون» على شفتيها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤