فاجعة في قصر

«سيكون مُلكه محفوفًا بالقلاقل والاضطرابات أكثر جدًّا مما كان مُلك أبيه، وسيتزوج امرأة من عامة الشعب. وسيفقد عرشه وهو ابن سبعٍ وعشرين سنة وأسرته تبيد معه.»

هذه الكلمات النبوية أُلهِم فلاح ريفي أن ينطق بها قبل أيام الملك المشار إليه فيها بسنين طويلة، ولا بد أنها خطرت ببال الذين سمعوا ذات يوم من شهر أغسطس سنة ١٨٧٦ قَرْع الأجراس وقصف المدافع في مدينة بلغراد مبشرة بولادة وارث لعرش السرب. وقلَّما اتفق لطفل مَلَكي أن يربو في أحوالٍ أسوأ من الأحوال التي ولد فيها هذا الطفل؛ لأن بلاد السرب كانت حينئذٍ خائضة غمار حرب عوان ضد تركيا، وأجراس الفرح والسرور التي رنَّت أصواتها في بلغراد أجابتها من ساحة القتال دمدمة البندقيات وجلجلة المدافع، وهي ترسل من أفواهها رصاص الموت والبوار وقذائف الخراب والدمار. وكانت البلاد بحذافيرها تئن رازحةً تحت أثقال الفقر والضيق والتذمُّر والدسائس والمكايد، وكان الملك والملكة أنفسهما في نزاع وخصام حول سرير طفلهما.

ومع تفاقم الخلاف واحتدام الخصام بين الملك ميلان والملكة ناتالي حتى في مستهل حياتهما الزوجية، كانا كلاهما شديدَي التعلق والارتباط بولدهما إسكندر الذي كان مطبوعًا على اجتذاب جميع القلوب إليه؛ فقد ورث عن أمِّه جانبًا كبيرًا من جمالها وملاحتها، وكان في حداثته يفوق غيره من الأولاد في حُسن طلعته وشدة ذكائه، فشبَّ قوي الإرادة صعب المراس. ومما يُروى عن جرأته وصراحته أن أباه خطب في مجلس النواب وأطال الكلام، فملَّ ولي العهد الصغير ودعا إليه أحد رجال البلاط وأسَرَّ إليه: «قل لأبي إنه تكلَّم كثيرًا وينبغي له أن يرجع إلى البيت؛ لأني أروم أن أكلمه في مسألة.» ولما حيَّاه الشعب مرة تحية الولاء، سأل رجلًا واقفًا بجانبه: «لماذا يضجُّون ويصخبون؟» فأجابه: «لأنهم يحبونك.» فصاح بأعلى صوته قائلًا: «إن كنتم تحبونني كما تدَّعون فألقوا قبعاتكم في الماء.» وعلى الفور رموا قبعاتهم صعدًا في الهواء فسقطت في نهر الساف.

ومع ما كان عليه من قوة الإرادة كان كريم النفس، متحليًا بفضيلة الاعتراف بالخطأ والرجوع عنه. قيل إنه كان يومًا سائرًا في بلغراد مع مؤدِّبه، فلقيا وزيرًا عصاميًّا وضيع النسب، وكان ولي العهد لا يميل إليه، فقال لمؤدِّبه: «إني لِشدة قِصر نظري لا أتمكن من معرفة هذا الرجل كلما رأيته فأظنه خادمًا.» فانتهره المؤدِّب قائلًا له: «لا يليق بك أن تتكلَّم هكذا عن رجل يستحق التجلَّة والاحترام؛ لأنه بجدِّه واجتهاده ارتقى وارتفع. ولعلك تذكر أن أجدادك كانوا رعاة خنازير.» فوجم إسكندر عند سماع هذا التوبيخ العنيف، ثم تناول يد مؤدِّبه وهزَّها هزة الأسف والندم وصاح: «اصفح عني واغفر لي. إني آسف على ما بدر من خشونتي.»

بهذه السجايا السامية الرائعة كان إسكندر مزدانًا يوم ارتقى إلى عرش سربيا الذي أُكرِه أبوه على إخلائه. وكان إسكندر إذ ذاك في أواخر السنة الثانية عشرة من عمره، وحدث في مساء اليوم السابق لإعلان تنزُّل الملك ميلان عن العرش أنَّ إسكندر جاء إلى أبيه يُحييه حسب عادته كل ليلة قبل اضطجاعه في سريره، فرفعه الملك بين ذراعَيْه ونظر في وجهه مليًّا، وقال له: «ماذا تفعل عندما تصير ملكًا؟» وفي صباح اليوم التالي دخل مخدع ابنه وناداه بلهجة المحبَّة والمسرَّة: «عِمْ صباحًا يا صاحب الجلالة.» فردَّ إسكندر التحية برزانة ووقار وبلا أقل دهشة أو تعجب. فسأله أبوه: «كيف عرفت أنك صرت الآن ملكًا؟» فأجابه: «من سؤالك لي أمس ليلًا عرفت أنك تروم أن تجعلني اليوم ملكًا.» وبعد ساعات أقسم الملك ميلان يمين الولاء لابنه الصغير، وأطلقت المدافع إيذانًا بتوليته، وغصَّت شوارع بلغراد بمواكب الجماهير الهاتفين «ليحي الملك إسكندر!» ولم يخطر ببال أحد من أولئك المسرورين بجلوسه على العرش والداعين له بطول العمر أية فاجعة رهيبة مزمعة أن تصيبه وتتخرَّم حياته في شرخ شبابه وعنفوان صباه.

ومن يلقِ نظرة على الأحوال التي رافقت هذا الملك الصغير السن في أيام حداثته، لا يعجب مما يراه بعد ذلك في أخلاقه من النشوز والشذوذ، بل يعجب كل العجب من كونها وقفت عند هذا الحد ولم تجاوزه إلى ما هو شر منه وأسوأ. وكان أبوه الآن قد أخرج من سربيا منفيًّا وغير مأذون له في الرجوع إليها. وأمُّه التي كانت كأبيه في شدة محبته له ممنوعة منعًا باتًّا عن مخاطبته بكلمة، وأسرف أوصياؤه في التضييق عليه، وحالوا دون تنشئته على الوجه الأمثل الأكمل، وحرموه معاشرة أصدقاء من سنِّه، ولم يأتوه بمؤدِّب عاقل حكيم يهذِّب أخلاقه ويقوِّم اعوجاج سيرته، وقصروا اهتمامهم على أن يربُّوه ويعوِّدوه أن يكون مطبوعًا بطابع مشيئتهم وعاملًا على ما فيه مصلحتهم، فأقاموا رجلًا ينام على حصير خارج مخدعه، فكان يرقد الساعة الثامنة مساءً ويستيقظ الساعة الخامسة صباحًا كما كان يفعل الملك نفسه. وكان مأمورًا من قِبَل الأوصياء ألَّا يأذن لأحد في الدخول بعد الساعة العاشرة، وأن يخبرهم باسم كل من يدخل قبل ذلك الوقت.

ومع هذا الضغط الشديد الخانق نشأ إسكندر حائزًا قسطًا كبيرًا من مروِّضات الجسد ومثقِّفات العقل. فقد برع براعة فائقة في السباحة وركوب الخيل، وكان باسلًا شجاعًا لا يهاب الموت ولا يعرف معنًى للخوف. وشبَّ على الشعور بالواجب وعدم التردد في الأمور.

ولم تَطُل مدة جلوسه على العرش حتى أبدى من قوة الإرادة وثبات العزم ما أدهش عقول الشعب. وكان في أول الأمر قد تحمَّل إرهاق أوصيائه له وجورهم عليه، صابرًا متجلدًا لا يبدي تذمرًا ولا يبوح بشكوى. حتى زادوا إمعانًا في تهضُّم جانبه والاعتداء على حقوقه، ومن شدة غلوِّهم في ظلمه أنهم منعوا والدته التي كانت مقيمة في بلغراد حتى من الدنو إلى قصره الذي كانت أبوابه مقفلة في وجهها. فظلَّت تسعة أشهر محرومةً لمحةً من وجهه إلا عندما كان يمر بجوار بيتها مع رجال بلاطه. ولما شَكَت إلى أحد الأوصياء هذه المعاملة الجائرة أجابها بكتاب مملوءٍ هجاءً وازدراء.

وفي أحد الأيام دعا الملك إسكندر أوصياءه ووزراءه إلى عشاء أولمه لهم في قصره، وفيما هم جالسون يتناولون الطعام نهض الملك ووقف أمامهم وشكر لضيوفه عمومًا والأوصياء خصوصًا خدمتهم له وعنايتهم به، وطلب إليهم أن يمضوا صكَّ إلغاء الوصاية عليه والنيابة عنه، خاتمًا كلامه بقوله: «ومن الآن فصاعدًا لا يكن في سربيا كلها مشيئة تأمر وتنهى سوى مشيئتي. وبأمري المطاع أقول لكم أيها السادة إنكم ستقضون هذه الليلة هنا، وغدًا أنظر في إطلاق أسركم.» ولم يفرغ كلامه إلا وقد فتحت أبواب القاعة، ودخلت طائفة كبيرة من الجنود شاهرة حرابها، وبذل الأوصياء والوزراء جهدهم في حمله على العدول عمَّا أمر تارةً بالتوسل والاستعطاف، وطورًا بالوعيد والتهديد، فلم يظفروا بطائل. وقضوا ليلتهم معتقلين في قاعة الطعام. وفي صباح اليوم التالي أُعلِن بلوغ الملك سن الرشد واستقلاله عن الأوصياء والنواب.

وفي هذا الوقت كانت والدته الملكة ناتالي مقيمة في قصر ساشينو قرب بيارتز (في فرنسا)، وفي أثناء زيارته لها لقي دراغا ماستشين إحدى وصيفات والدته وأجمل امرأة في سربيا، فوقع حُسنها منه موقعًا سبى لُبَّه وأسر قلبه. ويقال إنه فيما كان يستحم ذات يوم أشرف على الغرق، واتفق أن دراغا كانت حينئذٍ واقفة على الشاطئ بثوب الاستحمام تراقب السابحين والمستحمِّين، فرأت الخطر المحدق بالملك، وعلى الفور اندفعت إلى معونته وكادت تفقد حياتها في سبيل إنقاذه من الموت غرقًا. وكان عملها هذا أوضح دليل على شدة بسالتها، وهو في الوقت نفسه برهان جلي على فرط ولائها للملك. وهاتان الخلَّتان — البسالة والولاء — إذا اقترنتا بالبهاء الباهر والحُسن البديع الساحر كان للمجموع أكبر تأثير في قلب كقلب الملك إسكندر؛ ولذلك نراه عمَّا قليل بات صبًّا والهًا متيَّمًا بغرام هذه البطلة الحسناء.

وكانت دراغا أرملة تكبر الملك بتسع سنين، وهي رشيقة القد تَرِفة البنان ناعمة الأطراف بيضاء البشرة وردية الخدين، ولها عينان نجلاوان إن شاءت ذابتا رقةً وحنوًّا، أو نفثتا سحرًا يخلب القلوب ويفتن العقول. ويزيِّن قامتها الهيفاء شعرُها الطويل الجميل. وجملة القول أن دراغا غاية الشاعر المقصودة وضالة المصوِّر المنشودة، وهي مخلوقة لتستعبد قلوب الرجال. ومع أنها ليست من مَحتدٍ رفيع شريف لم تخلُ من دم كريم يجري في عروقها؛ لأنها حفيدة نقولا لونيفيتزا أعز صديق للأمير ميلوش أوبرنوفيتش الأول جد الملك إسكندر. ولمَّا كانت فتاة قضى عليها نكد الطالع أن تقترن بمهندس بوهيمي ساقط خليع، وبعد بضع سنوات ذاقت فيها أمر كئوس الشقاء والعناء، تركها أرملة ولم يخلف لها سوى مبلغ لا يستحق الذكر. فظلَّت مدةً عائشة في بلغراد عيشة الفقر والمسكنة، وكانت تسليتها الوحيدة أن تحضر جمعية الترانيم الكنسية مرة في الأسبوع. هناك كانت ملكة سربيا المستقبلة تجلس على مقعد من خشب يطوِّقها أحد العامة بذراعه وهي تنشد أناشيد سربيا الشجية. وفي ذلك الحين وهي في أسمى درجات الحُسن والبهاء وأسفل دركات البؤس والشقاء، رأتها الملكة ناتالي فأُعجبت بحُسنها، واتخذتها وصيفة لها، ولم يخطر قط ببالها ما كان مزمعًا أن ينتج من هذا الاتخاذ.

وكانت الأيام التي قضاها إسكندر في بيارتز بعدما توثَّقت عرى المعرفة بينه وبين دراغا كلها بهجةٌ وصفاءٌ ورغدٌ وهناءٌ؛ إذ كان يقضي كل ساعة مع هذه الأرملة الجميلة الطلعة الخفيفة الروح الحسنة التناول، وهي تشوقه وتروقه حتى بات أسير غرامها. وبلغ من شدة تسلُّطها عليه أن وزراءه طفقوا يشتكون قائلين إن الملك لا يفعل شيئًا قبلما يستشيرها فيه. وإذا كان حاضرًا مجلسهم وعرض له شيء ذو شأن لا يجيب الوزراء عنه ما لم يسألها عنه بالتلفون، وبموجب رأيها يعمل.

وهذا المستقبل المجيد الذي بسم لها عن ثغر السعادة ورفعة الشأن لم تهشَّ له في أول الأمر، ولا أقبلت على انتهاز فرصته السانحة، بل ولته جانب الإعراض. وكانت إحدى صديقاتها في البلاط قد لمَّحت إلى المجد المُزمِعة أن تناله بمشاركتها للملك إسكندر في أُبَّهة التاج والصولجان، فانتهرتها بمزيد الاستياء وقالت لها: «كُفِّي عن هذيانك وأريحيني من شقشقة لسانك. نعم إن الملك يحبني، وهذا لا أنكره، بل أعترف به بملء التباهي والافتخار، وأنا أحبه حبًّا لا يقل عن العبادة إن لم يزِد عليها، ولكن لا يخطرنَّ ببالك أني أحُول بينه وبين الواجب عليه لعرشه ومملكته. يجب عليه أن يتزوَّج أميرة ذات حسب ونسب؛ إحدى بنات الملوك والقياصرة في أوروبا، فيستعين بها على توثيق صلات القربى والتعارف مع الكبراء والعظماء. وأما أنا فحسبي أن أضحِّي بسعادتي في سبيل حصوله على السعادة التامة.»

وهذا التصريح يدل على شجاعتها الأدبية وما عندها من إنكار النفس. وليس من ريب في أنها عنت كل كلمة منه، وكانت فيما عزمت عليه صادقة غير كاذبة. ولكن عندما ينشب الكفاح بين الحب والواجب، فالنصر يكون في الغالب حليف الأول، وهذا ما حصل الآن. ويقال إن دراغا ظلت ثلاث سنوات متوالية ترفض رفضًا باتًّا أن تجيب طلب إسكندر وتكون زوجة له وتصبح في عِداد ربَّات التيجان في العالم.

وكانت الملكة ناتالي غافلة عن هيام ابنها بوصيفتها، وعدَّت كثرة تردُّده إليها من قبيل اللهو والتسلية، ولكنها لمَّا اطَّلعت ذات يوم على كتاب من ابنها إلى دراغا ورأت ما فيه من بيِّنات تصبِّيها له وتسلُّطها عليه، استشاطت غيظًا وسخطًا عليها. واتفق أنها كانت قبيل ذلك في باريس، فقال لها أحد العرَّافين المدَّعين معرفةَ الغيب: «إنكِ تحفظين في صدرك حية سامة سوف تلدغك يومًا ما لدغةً مميتة.» وبعد اطلاعها على الكتاب تحقَّقت صدق النبوءة، وعلى الفور طردت دراغا، فخرجت تجرُّ ذيل الخزي والعار.

ولو أن ناتالي تعمَّدت إلقاء دراغا في حضن ابنها لم يكن في استطاعتها أن تجد وسيلة أشد وأفعل من طردها لها من قصرها. فإن الملك عندما بلغه ما أصاب حبيبته خفَّ إليها على جناح السرعة ليؤاسيها ويعزيها ويستعطفها متوسلًا إليها أن تجيب طلبه وترضى أن تكون شريكة حياته قائلًا لها: «عندما تصبحين زوجتي — زوجتي الوحيدة — تبيتين في أمن ولا يبقى لأحد أقل سلطان عليكِ. فامنحيني هذا الحق؛ حق حمايتكِ والدفاع عنكِ.» وحينئذٍ لم يبقَ في وسع دراغا إلا الرضا والإذعان. ومن تلك الدقيقة صدر حكم القضاء والقدر على هذين العاشقين المنكودي الحظ.

ولما بلغ وزراءه خبرُ عزمه على الاقتران بها أسرعوا إليه وشدَّدوا في نصحه وإنذاره بالعدول عن هذا الخرق والطيش، وأروه سوء المغبَّة ووخامة المصير. ولكنه أعار كلامهم أذنًا صمَّاء، وقال لهم بحدَّة وهياج: «ليس في العالم كله سوى امرأة واحدة أحبها وأفضِّلها على كل شيء حتى على تاج الملك. وهي وحدها قادرة على تسليتي وتعزيتي، وبقربها فقط أستطيع أن أنسى مرارة حياتي الماضية، وأنال ما تشتهيه نفسي من المسرة والهناء. ومهما يكن من نتيجة اقتراني بها فإياها وحدها أروم أن تكون زوجة لي.» وهكذا صارت دراغا الفقيرة البائسة أرملة المهندس الوضيع الحقير ملكة سربيا.

ولما بلغ أباه هذا الخبر، وكان إذ ذاك في باريس، غَلَتْ مراجل غضبه وصاح: «يا له من أمر هائل مخيف! حقًّا إنه يفوق الإدراك ويتعدَّى حد التصديق. وإن رضي السربيون بهذه المرأة ملكة لهم كانوا أجدر أهل الأرض بتقمُّص الخزي والعار. أفهكذا يفعل ابني! ابني الوحيد إسكندر؟! إنها لمعرَّة تصمه بوصمة الاحتقار إلى الأبد. وكنت دائمًا أخاف عليه من الوقوع في شرك إحدى النساء الشريرات، وها قد وقع الآن وقُضي على أسرتي؛ على أسرة أوبرنوفي!»

وكأني به نطق بهذه الكلمات بروح الوحي والإلهام؛ لأن ما أنذر به ثم بعد وقت غير طويل، وارتقاء دراغا عرش السرب مهَّد سبيل السعاية بها والكيد لها والائتمار عليها. لم تستطِع أن تحسن التصرف في شيء، وكان إسراف زوجها في تدليلها وترفيهها عبارة عن أمضى سلاحٍ شهره أعداؤها عليها، ولم يبقَ للسربيين حديث في ليلهم ونهارهم سوى تنقُّصها وتعييرها واتهامها بكل ما يلبسها ثوب العار والشنار ويوغر الصدور بنار كرهها، والسعي في تطهير العرش من رجاساتها. ومما نقموه عليها شدة تعجرفها وكبريائها وإفراطها في التبذير والإسراف، وعجزها عن ولادة وارث للعرش، وسعيها في ترشيح أخيها له. وهذه التهمة الأخيرة جلَّت على غيرها من التهم، وكانت أكبر سبب مباشر لوقوع الكارثة العظيمة التي هزَّ العالمَ قاطبة هولُ اقترافها.

•••

والمشهد الأخير من هذه الفاجعة الملكية كان بعد منتصف الليل في يوم من شهر يونيو سنة ١٩٠٢، وكان إسكندر ودراغا قد دخلا مخدعهما ليناما حسب عادتهما كل ليلة، وعلى رغم الخوف الذي كان يساورهما (لأنهما كانا قد أُنذرا غير مرة بالمخاطر التي تتهدَّدهما) رقدا ولم يعرهما شيء من الأرق والقلق. وخيَّم السكوت على القصر الذي كان ملاك الموت باسطًا عليه جناحَيْه؛ لأن المتآمرين كانوا قد طوَّقوه بالجنود ليتمكَّنوا من إجراء ما أرادوا بلا أقل مقاومة.

وانسلَّ بعض الضباط النشاوى بحميا الخمر وشهوة سفك الدم إلى القصر متذرِّعين إلى دخوله من منفذ في مؤخره، وكانوا قد رشوا حرَّاس بابه ففتحوه لهم، واندفعوا إلى داخله وهم يطلقون الرصاص بلا شفقة ولا هوادة على الخفراء الذين ظلوا إلى تلك الساعة موالين لملكهم، وخفُّوا صاعدين إلى الطبقة العليا، ووقفوا أمام باب الغرفة حيث يرقد الملك والملكة، وكانا قد استيقظا على أصوات إطلاق الرصاص وجلبة الثائرين، ووقفا متلاصقَيْن والاضطراب يحفُّهما من كل جانب، وبذل قائد الحرس جهده في صد الثائرين فلم يستطِع، وكانوا قد جاءوا بفأس فأخذوا يعالجون فتح الباب بضربات شديدة منها، ولما تحقَّق قائد الحرس أنه لا فائدة من المقاومة، قال لهم: «احلفوا لي أنكم تُبقون على الملك لكي أطلب إليه أن يفتح لكم.» فحلف له بعضهم، وحينئذٍ صاح صوته بأعلى: «افتح يا مولاي، افتح، إن ضباط جيشك الواقفين هنا لا يريدون بك شرًّا.» وعلى الفور انفتح الباب ووقف القتلة السفاحون وجهًا لوجه أمام مليكهم ومليكتهم، وكلاهما في ثياب النوم، ولكنهما كانا ثابتَي الجأش لا يبديان شيئًا من الخوف والجزع.

ثم انفصل الملك عن الملكة وتقدَّم إلى أعدائه، وقال لهم بلهجة الحزم والرزانة: «ماذا تريدون مني في ساعة كهذه؟ أهذه علامة إخلاصكم لمليككم؟» فلبث الضباط هنيهة صامتين وقد استولى عليهم الذعر في حضرة ملكهم وفريستهم، وكان بينهم ضابط يمتاز بجسارته وإقدامه، فصاح بهم: «ويلكم أيها الجبناء الرعاديد! ما بالكم واقفين وقد غلَّ الرعب أيديكم، وشلَّ الخوف قلوبكم! انظروا ها أنا ذا أُرِي الملك ولائي وإخلاصي.» قال هذا وصوَّب مسدسه نحو الملك وأطلقه عليه، فخرَّ جريحًا بين ذراعَي دراغا.

وإذ ذاك هبَّ الضباط الباقون بأسرع من لمح البصر مقتدين به في إطلاق الرصاص على فريستهم حتى مزَّقوا جلديهما وجسديهما، ثم استلُّوا سيوفهم وأعملوها فيهما ثأيًا وتمثيلًا تقشعر لهما الأبدان. وصرخ قائدهم الكولونيل ماستشين: «اقذفوا بهما من النافذة! اطرحوا جثتيهما إلى الكلاب.» وكانت دراغا قد فارقت الحياة، فجرُّوا جسدها المغشَّى بالجراح وفيه ما فيه من آثار التمثيل والتفظيع وألقوه من النافذة إلى حديقة القصر، ثم ألقوا بعدها جثة الملك إسكندر، وكان فيه بقية من الرمق، فأجهزوا عليه وقذفوا به إلى الحديقة وهم يصيحون: «ليحيَ الملك بطرس! ليحيَ الملك بطرس (وهو الملك بطرس قرجيورجيفتش الذي ملك بعد إسكندر.)» ثم تصاعدت أصواتهم تشق عنان الهواء فرحًا وابتهاجًا باقتراف جريمة ترتعد لشدة هولها وفظاعتها فرائص الإنس والجن.

وظلَّت جثتا الملكين مطروحتين في الحديقة ساعتين حتى جاء تشريكوف سفير روسيا وطلب إلى قائد السفاحين الكولونيل ماستشين (صهر دراغا) أن يدخلهما إلى القصر ولا يتركهما في المطر الذي أخذ حينئذٍ يهطل بغزارة. وإذ ذاك أدخلوهما إلى طبقة القصر السفلي.

وبعد الفراغ من ارتكاب هذه الجناية الشنعاء أصيب السفاحون بمسٍّ من الجنون، فطفقوا يمرحون ويرقصون ويصخبون صارخين بأعلى أصواتهم، ويندفعون كالثيران الثائرة من غرفة إلى غرفة وهم يطلقون مسدساتهم على الصور والمرايا والآنية الخزفية النفيسة، ويحطِّمون بالفئوس سرير الملكين ويتلفون كل غالٍ كريم على منضدة الملكة. ثم أمروا الخدم أن يأتوهم بالخمر المعتَّقة من مخزن الملك، فشربوا وازدادوا سكرًا وعربدة.

ولم يكتفوا بكل ما اجترحوه من الموبقات، بل زادوا عليها أن فتكوا قبل طلوع الفجر بجميع الموالين من الوزراء والضباط، وبينهم أخوا دراغا؛ وهما شابَّان في مقتبل العمر، لقيا حتفهما معًا وخرَّا صريعين أحدهما بجانب الآخر، متجرعين كأس الردى ببسالة الأبطال الصناديد. ولم يكفَّ القتلة عن سفك الدماء البريئة حتى تهدَّدهما سفير النمسا بزحف الجيش النمسوي على بلغراد إن لم يضعوا حدًّا لهذه الفظائع المنكرة.

وهكذا تمت نبوَّة ذلك الفلاح واغتيل الملك إسكندر وملكته الجميلة التي كللت محبتها سني حياته الأخيرة بتاج الرغد والصفاء، ولكنها جلبت عليه وعليها شرَّ عقبى، وختمت تاريخ الأسرة المالكة بأفظع فاجعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤