ابنة أخت الكردينال

قالت عقيلة دي فالروي لغاستون دي أورليان مشيرةً إلى فتيات جميلات كنَّ موضوع إعجاب ندماء الملك لويس الرابع عشر في القصر الملكي: «هل تنظر هؤلاء الفتيات؟ إنهن الآن فقيرات ولكنهن عمَّا قليل سيصبحن ربَّات قصور فاخرة وثروة وافرة وحلل نفيسة وحِلى غالية، وربما نلن فوق هذا كله عزًّا ومجدًا.» وقد حقَّقت الأيام صدق ما أنبأت به عقيلة فالروي، فتم بحرفه؛ لأن أولئك الفتيات اللواتي شغفن قلوب رجال لويس بحسنهن الباهر وجمالهن الساحر كُنَّ بنات أخت الكردينال مازارين، وقد أتاح لهن القدر أن يطلعن فيما بعد كواكب بهجة وبهاء ساطعة بين نجوم الحسن في سماء الهيئة الاجتماعية في أوروبا. فصارت ثلاث منهن دوقات وواحدة كونتس، والخامسة زوجة أحد كبار الأغنياء في إيطاليا.

ولما تمكَّن مازارين من بلوغ ما كانت نفسه تطمح إليه، وبات أكبر رجالات فرنسا قوةً وثروةً، وتملَّك فؤاد الملكة حنة النمسوية (ابنة فليب الثاني ملك إسبانيا وزوجة لويس الثالث عشر) وأصبح عاشقها الوحيد غير منازع (وقيل إنه كان زوجها) استدعى من إيطاليا بنات أخته الأرملة عقيلة مانشيني ليرتعن في ظلال عزه وسؤدده، ويستعين بهن على مد رواق سلطانه.

وعندما وصلن إلى بلاط فرنسا لقين ما يعجز القلم عن وصفه من الحفاوة والتكريم، وخصَّتهن الملكة نفسها يعطف وحنان لا مزيد عليهما، وأنزلتهن عندها منزلة أولاد لها، وجعلتهن رفيقات لعب وتسلية لابنها الفتى الملك لويس الرابع عشر ولأخيه الدوق دي أنجو الصغير، وأصبح جميع الذين في القصر يترضَّونهن، ويبذلون جهدهم في العناية بهن.

وكنَّ كلهن بارعات في الحسن والجمال، ولكن هورتنس كانت بإجماع الذين عرفوها أبرعهن حسنًا، ولم تلبث أن امتازت من شقيقاتها بالمكانة الرفيعة التي حازتها عند خالها، بحيث تملَّكت قياده وجعلته لها أطوع من بنانها. وقد يستلمح القارئ شيئًا كثيرًا من أخلاقها وصفاتها من مطالعة ما كتبته إلى خالها من إيطاليا وهي بعدُ ابنة عشر سنوات. قالت:

لقد سرَّني أني رأيتُك تشمل هورتنس الصغيرة بشرف تذكرها والافتكار بها. ولعل دي كوتانس يتمكن من أن يصف لك مبلغ ابتهاجي بالهدية التي قدَّمها إليَّ بالنيابة عنك. وإنني موقنة بصحة ما قاله لي عن فوزي بشيء من محبتك. وغاية ما أتمناه من صميم فؤادي أن أبقى ناعمة بهذه المحبة. والله أسأل أن يرعاك بعين عنايته، ويهب لي أن أبقى دائمًا جديرة بشرف انتسابي إليك وشمولي برعايتك. وحسبي هناءً وصفاءً أن أكون ابنة أختك الوضيعة المطيعة التي تحبك من كل قلبها.

هورتنس دي مانشيني

وشرعت تعبث بقلوب الرجال وهي بعدُ في هذه السن. وكان أرمان دي لابور ابن المارشال مليراي أول من أَسَرَه حبُّها وسحره حُسنها، وهي كما قلنا ابنة عشر سنوات. وأقسَم ليعتزلنَّ العالم إلى صومعة إن لم يتمكن من الاقتران بها. ومما قاله حينئذٍ وهو يهذي من حمى الوجد والغرام: «إن تم لي ما أروم وصارت زوجة لي فلا أبالي إن مت بعد ذلك بثلاثة أشهر!» ولكن الكردينال أبى عليه ذلك، ولم يرضَ به زوجًا لابنة أخيه.

ولم يكن دوق سافوي شارلس عمانوئيل بأحسن حظًّا من أرمان، فإنه شَخَصَ إلى باريس ليخطب أشرف فتاة في فرنسا؛ أي شقيقة الملك. ولكنه لمَّا رأى هورتنس أغمض عينيه عن الأميرة وحصر سعيه في الحصول على ابنة أخت الكردينال، وإلا عاد من حيث أتى ولم يطلب غيرها. وكاد يظفر بما أراد؛ لأن مازارين لم يطمع بزوجٍ لابنة أخته أشرف منه، ولكن الدوق اشترط شروطًا لم يقبلها الكردينال. وهكذا نراها وهي في مطلع صباها تزاحَمَ لخطبة ودِّها وطلب يدها شبانٌ يحسدها عليهم أشرف فتيات فرنسا.

وكان لويس نفسه وأخوه الدوق دي أنجو ممن تصبَّاه هواها وتيَّمه جمالها، وكانت تطارحهما كليهما الوجد والغرام، وتبالغ في إخضاعهما لسلطان غنجها ودلالها، ولو شاءت لاستطاعت الاقتران بأيهما أرادت. ولمَّا يئس لويس من أمل استمالتها إليه وجَّه التفاته نحو شقيقتها ماري التي كانت دونها حُسنًا وبهجةً، ولكنها أرق منها جانبًا وألين عريكةً.

ولمَّا بلغت هورتنس أشُدَّها إذ بهلال البهاء الذي طلع في أفق حداثتها قد أشرق في فلك المحاسن بدرًا منقطع النظير في كمال جماله وجمال كماله. قال بعض واصفيها: «ليس للون عينيها شبه بين ألوان العيون المألوفة، لم يكن أزرق ولا أشهب ولا أسود، بل كان مزيجًا من هذه الألوان الثلاثة. فقد استأثرت حدقتاها بما في العيون الزرق من الطلاوة والحلاوة، وبما في العيون الشهب من السناء والبهاء، وما في العيون السود من تألُّق النور وتوقُّد النار، فلم يكن لهما نظير في هذا الجمال المثلث البديع. وكان لابتسامتها قوة على تليين أقسى القلوب، وعلى أنفها سيماء النباهة والنبالة البادية آثارهما على سائر ملامحها. ولها في صوتها رنة عذبة رخيمة تأخذ بمجامع قلوب المنصتين إلى حديثها، وكان لبياض لونها الناصع نقاء وصفاء يتعذَّر وصفهما، ولشعرها الأسود الناعم جعدة خفيفة أشبه بإكليل جمل مضفور على رأسها الأنيق.» هذا مجمل وصف هورتنس عندما فتحت زهرة صباها وأشرق بدر قسامتها وأصبحت معدودة أجمل فتاة في أوروبا.

ولم يبلغ من كثرة العشاق والمحبين حول غادة حسناء ما بلغ منهم حول هورتنس ابنة أخت مازارين. ومع أن قلبها مال إلى غير واحد منهم فإن خالها الصعب المراس كان يردُّهم على أعقابهم واحدًا بعد الآخر، وبينهم اثنان أُتيح لكليهما أن يكونا من أصحاب التيجان؛ وهما بطرس الثاني ملك البرتوغال وتشارلس الثاني ملك إنكلترة. ولو دار في خلد مازارين أن جلوس تشارلس على عرش إنكلترة كان هكذا قريبًا، لما عارض في زفِّ هورتنس إليه لتشاركه في لبس تاج الملك، ولكنه لم يتوقَّع حصول ذلك في وقت قريب، ولا رأى من الصواب أن يتصدَّى لإغضاب القابضين على أزمَّة الحكم في لندن في ذلك الحين. وبعد بضعة أشهر بلغه أن تشارلس الذي أبى أن يجيب طلبه لمَّا جاءه خاطبًا ابنة أخيه قد ظفر بالاستيلاء على العرش، فبعث إليه من فوره متعمِّدًا يعرض عليه هورتنس ومعها أربعة ملايين جنيه. ولكن هذا العرض جاء متأخرًا، فإن تشارلس رفض بلطف وأدب ما سبق وترجَّى الحصول عليه كشريد طريد.

ولم يجهل مازارين أن أيام حياته أصبحت معدودة، ومن الواجب عليه أن يبادر إلى البحث عن زوج جدير بابنة أخته المحبوبة، التي كانت مزمعة أن ترث أكبر جانب من ثروته. وبعدما أعاد النظر في جميع أسماء الذين تقدَّموا إلى خطبتها، ورفض قبولهم واحدًا بعد الآخر لأسبابٍ مختلفة، انتهى به الأمر في الغربلة والفرز إلى رفض الجميع ما عدا الخاطب الأول المركيز مليراي، الذي ردَّه الكردينال منذ سنوات يتعثَّر بأذيال الخيبة، ولكنه ظلَّ مقيمًا على ولائه لهورتنس. وفيما كان مازارين على فراش النزع أجاب طلب المركيز، وحمل الملك على أن يرقِّيه إلى رتبة دوق دي مازارين، وبعدما فرغ من هذا الأمر أسلم الروح.

وبعد أيام أهدى إليها خطيبها خزانة كبيرة مملوءة بالتحف الغالية والطرف النفيسة. من ذلك اثنا عشر ألف طبنجة صغيرة مصوغة من ذهب، فأهدت جانبًا كبيرًا منها إلى إخوتها وأخواتها، وألقت بالباقي من نافذة قصر مازارين لتتمتع بمشاهدة عدد كبير من الخدم يزحمون بعضهم بعضًا في حديقة القصر لالتقاطها.

وكانت قيمة نصيب هورتنس من تركة خالها لا تقل عن خمسة ملايين جنيه، علاوة على ما يخصها من قصره — قصر مازارين — وما فيه من الطرائف التي لا تثمَّن. ولكن هذه العروس كانت من أنكد العرائس حظًّا وأسوأهن طالعًا؛ لأن الدوق دي مازارين كان من أقبح شبان فرنسا صورةً وأغربهم أطوارًا وأقربهم إلى العته والجنون. وكان عرضةً لتسلط الغيرة العمياء عليه أو استئثار الهوس الديني به. فما فعله مرة أنه أخذ مطرقة بيده ودخل أروقة قصر مازارين الحافلة بأغلى العاديات وأكرم الآثار القديمة، وشرع يحطِّم الأنصاب والتماثيل والصور بحجَّة أنها مغايرة لذوقه. قالت الدوقة: «لم أكلِّم خادمًا إلا طرده في اليوم التالي. ولم يزُرني أحدهم مرتين إلا منعه من دخول القصر. وإن رآني أفضِّل إحدى خادماتي على غيرها لأسباب يستوجب التفضيل، أخرجها من خدمتي. ولم يكن يأذن لي في مشاهدة أقربائي ولا أقربائه.» وبهذه وغيرها من أعمال العنف والإرهاق أفعم قلب زوجته غمًّا ويأسًا. وقد تحمَّلت غرابة أطواره وقساوته بصبر وجَلَد نادرَي المثال. ولكنها لما رأته أضاف إلى هذه الفظائع فظائع أخرى وبدَّد أموالها بالإسراف والتبذير ومدَّ يده إلى جواهرها وحِلاها، هجرته ملتجئة إلى دير أخوات سنت ماري.

وفي هذا الدير وجدت سيدة من نساء الأشراف كان زوجها قد سعى في إدخالها إليه. وما لبثتا أن تعارفتا وشرعتا في مداعبة الراهبات ومشاكستهن تارةً بالرقص أمامهن، وطورًا بازدرائهن والاستهزاء بهن. ومما فعلتاه مرة أنهما سكبتا حبرًا على الماء المقدس ونضحتا الراهبات به. ومرة أخرى شرعتا تركضان في مخادع النوم وتقلقان راحة الراهبات وترشَّان أسرَّتهن بالماء. ولما فرغ معين صبر الراهبات عليهن شكون أمرهن إلى الملك، فأمر بنقلهما إلى دير آخر حيث عوملتا بالشدة والعنف.

وإذ لم تُطِق هورتنس الإقامة تنكَّرت في ليلة حالكة الأديم بلباس رجل، وهربت مصحوبة بإحدى خادماتها وهي متنكِّرة مثلها، ومعهما رجل يُدعى كوبرفيل كان قد أعدَّ لهما جوادًا أركبهما عليه، وسار هو في خفارتهما راكبًا على جواد آخر. ولما وصلت إلى ميلان (في إيطاليا) وجدت أختها ماري وزوجها في انتظارهما.

ولكنها لم تُسَرَّ بملاقاة أختها لها، وودَّت أن تكون بمعزل عن جميع أنسبائها، فخلت في المسكن الذي اختارته لنفسها، ولم تأذن لأحد في الدخول عليها من غير الخدم وكوبرفيل الذي صحبها في هربها من الدير، وتعرَّضت في علاقتها به لذم الناس ولومهم؛ ولذلك لم تَطُل إقامتها في ميلان؛ إذ غادرتها إلى دير ثم انتقلت إلى بلدة أخرى.

وفي ميلان تمتعت هورتنس ما شاءت بمغازلة كثيرين من المحبين والعشاق. ولما برح كوبرفيل إيطاليا شغل مكانه عندها غير واحد من أهل الصبابة والهيام، مثل جاكس بلبيف النورمندي، وهو شاب بارع الحسن والجمال، والمركيز دي غريلو، والكونت دي مورسن، وسواهم من الذين تصبَّتهم وتيَّمتهم، وأذكت بينهم نار الغيرة والحسد، حتى ملَّت الاغتراب وسئمت مغازلة العشاق والأحباب. فعادت أدراجها إلى فرنسا يحدوها روح التوبة والندامة، وهناك تمكَّن الملك بعد مواصلة السعي من حملها على قبول راتب زهيد يدفعه إليها زوجها، بشرط أن يؤذن لها في الإقامة وحدها منفصلة عنه.

وفي الربيع التالي رجعت إلى رومية حيث وجدت أختها في أسوأ حالة من جرَّاء إعراض زوجها عنها وشدة قساوته عليها. فإن محبته السابقة لها تحوَّلت إلى فتور واشمئزاز ثم إلى بُغض وكراهية، ولما شَكَت إليه هذه المعاملة الجائرة وعيَّرته غدره وخيانته، حاول أن يدسَّ لها سمًّا يذهب بحياتها، وحينئذٍ لم ترَ ماري بدًّا من الفرار والنجاة بنفسها، ورفعت أمرها إلى لويس فوعدها بحرس ينتظرونها على حدود فرنسا ويأتون بها. وعندما تم لها ما أرادت أخبرت أختها هورتنس بما عزمت عليه، وطلبت إليها أن تصحبها في فرارها، وانتهزت له فرصة غياب زوجها وخرجت مع أختها ليلًا في مركبة مقفلة يحرسها رجلان. وسارت المركبة بما يستطاع من السرعة إلى سيفيتا فيكا؛ حيث توقعتا أن تجدا سفينة في انتظارهما لتسافرا عليها.

ولما وصلتا إليها أرسلتا أحد الرجلين اللذين معهما إلى السفينة التي كانت مزمعة أن تنتظرهما في مكانٍ يبعد أربعة أميال من البلدة ليخبر ربانها بقدومهما. ثم غادرتا المركبة ودخلتا حرجة كثيفة قرب الشاطئ، ورقدتا فيها إلى الصباح حيث استيقظتا ووجدتا الرسول قد عاد وأخبرهما بأنه لم يعثر على السفينة في المكان المعين. وإذ كانت خيول المركبة قد برح بها السير وباتت غير قادرة على استئنافه، تركتاها وسارتا ماشيتين تكابدان ما لا يوصف من شدة الحر والتعب واضطراب البال لعدم وصول السفينة المنتظرة.

وعلى رغم هذه المشقَّات كلها واصلتا المسير بصبر ورباطة جأش حتى وصلتا إلى المكان المعهود، فرأتا فيه بدل السفينة الواحدة سفينتين، فاختارتا أكبرهما وصعدتا إليها، ولكن ربَّانها طلب أجرة أكثر جدًّا مما وقع الاتفاق عليه، مهدِّدًا لهما بأنه يقذف بهما من على ظهر السفينة إن لم تدفعا إليه الأجرة التي طلبها على الفور. ولم يسعهما إلا الإذعان والقبول. وكان كولونا (زوج ماري) قد علم بفرارها، وبعث رجالًا على جناح السرعة يبحثون عنهما برًّا وبحرًا.

وبعد تسعة أيام قضتها الشقيقتان في السفر بحرًا وتعرَّضتا غير مرة لإخطار الغرق رست بهما السفينة في سيوتا (بلدة فرنسوية في جنوب مرسليا الشرقي) حيث استأجرتا جوادَيْن وأغذَّتا عليهما سرى الليل إلى مرسليا. وعند وصولهما إليها أرسلا رجلًا إلى لويس يخبره بقدومهما، ولكن هذا الرسول وقع في كمين على الطريق؛ حيث بات مجندلًا بين حيٍّ وميتٍ. ولم تلبث الأختان أن وجدتا الأعداء والمصاعب محدقة بهما من كل جانب، وذلك بسعي كولونا. ثم بلغهما ما زادهما قلقًا وجزعًا، وهو أن بعض الجنود كانوا قادمين إلى مرسليا للقبض على الدوقة هورتنس بأمر زوجها الدوق دي مازارين.

فلم يبقَ لهما أقل أمل بالوصول إلى باريس. وبلغ اليأس من هورتنس أن تركت شقيقتها وفرَّت إلى سافوي معلِّلة نفسها بأن أميرها الدوق شارل عمانوئيل الثاني الذي كان أحد عشاقها وطالبي الاقتران بها ينجدها في كربتها وينقذها من الضيق المحيق بها. وقد حقَّق الأمير رجاءها، فإنه لقيها مرحِّبًا بها مُكرِمًا وِفادتها، وعلى الفور أعدَّ لها قصرًا وأنزلها فيه وبالغ في الاحتفاء بها. وظلَّت مقيمة عنده على ما شاءت من الإعزاز والإكرام إلى يوم وفاته، وحينئذٍ أوعزت إليها أرملته أن تلتمس لنفسها ملجأً في مكان آخر. وإذ كان السفر إلى فرنسا متعذرًا عليها، وكانت لا تود الرجوع إلى إيطاليا، لم يبقَ أمامها سوى إنكلترة، فصمَّمت على الرحيل إليها وسارت تقطع المسالك المتعادية والمسافات المترامية على ظهر جواد، مجتازة سويسرا وألمانيا وهولندا.

وكان تشارلس الثاني ملك إنكلترة لا يزال يذكر ابنة أخت الكردينال التي سلبت لُبَّه وأسرت قلبه، وكان في استطاعتها الاقتران به لو أرادت عندما كان في منفاه. وقد أبصر بدر جمالها مشرقًا بنور يبهر النظر ويفوق ضياء جميع الكواكب الطالعة في سماء بلاطه. فبسط لها ذراعَي الترحيب والاحتفاء، وبوَّأها أرفع منزلة بين محظياته، وجعل لها راتبًا سنويًّا قدره أربعة آلاف جنيه.

وبعدما كانت شريدة طريدة إذا بها قد بلغت من سمو المنزلة ورفعة الشأن ما لم يخطر في بال إنسان، فإن الملك جعلها أقرب الناس إليه، وشملها بعنايته ورعايته، وباتت قبلة أنظار الذين في قصره من الجلساء والأخصاء. وصار التغزُّل بحسنها وجمالها والتغنِّي ببهائها وسنائها موضوع الأناشيد في أفواه الكبار والصغار؛ ومما أنشده فيها والر شاعر البلاط قوله مترجَمًا:

تنقُّلَ الشمس في أبراجها انطلقت
هورتنس من بلد تجري إلى بلد
ونحونا أقبلت تغزو بمقلتها
كل القلوب فلا تُبقي على أحد

وفي هذا الوقت كان جمالها الرائع قد بلغ أوج كماله فجلت به على جميع أترابها والمنافِسات لها من المحظيات المشهورات في الحُسن، كدوقة بورتسوث ودوقة كليفلند وغيرهما. وعلاوةً على جمالها المنقطع النظير كانت ذات براعةٍ ونباهةِ شأنٍ وسرعةِ خاطرٍ نادرة ساحرة، وبهذا كله خلبت العقول وسلبت القلوب، واستعبدت أكبر رجال إنكلترة وأعظمهم شأنًا. حتى إن سنت أفرموند صرَّح جهارًا بكونه عبد رقٍّ لها، وبأن أكبر شرف يناله في حياته أن يتاح له أن يراها كل يوم، وأن يكون كاتم أسرارها وشاعرها وحامي ذمارها. وعدَّ الملك تشارلس وجودها معه الوسيلة الوحيدة لجعله أسعد الناس حالًا وأنعمهم بالًا. وهذا الافتتان بها — وهو أشبه شيء بالجنون — صحبه إلى قبره، ويظهر أنها انغمست في كل ما كان في بلاط الملك من الخلاعة والتهتك والدعارة وغيرها من مفسدات الأخلاق. وانقادت على الخصوص إلى رذيلة القمار انقيادًا ضحَّت في سبيله بكل شيء، وصارت تقضي الليالي جالسة إلى مائدة المقامرة من المساء إلى الصباح، وكثيرًا ما كانت خسارتها تبلغ ألوفًا من الجنيهات. ولمَّا خسرت كل ما عندها من النقود، واشتدت حاجتها إلى الدراهم، استعانت بزوجها، فأبى أن يساعدها وقال لها إن أفضل شيء تفعله هو أن تعلن إفلاسها.

وكانت في هذا الوقت قد ناهزت سن الأربعين وصارت جدة، ولكن جمالها كان باقيًا في ريعان بهائه وإشراقه، وبه ظلَّت محاطة بالمحبين والعشاق وبينهم الشفاليه دي سواسون ابن أختها أولمبيا. هذا الشاب أولع بهوى خالته، وبلغ من شدة شغفه بها وغيرته عليها أنه دعا مناظره في هواها إلى البراز، وكان من أعيان نروج، واسمه البارون دي بارير، فأصابه بجرح بالغ أرداه بعد أيام. وهذه الكارثة راعت هورتنس، فظلَّت أسابيع في غرفتها لا تقابل أحدًا وهي مرتدية ثياب الحِداد، وعازمة أن تقضي أيامها في دير. ولكن هذا العزم لم يلبث أن زال، وعادت هورتنس إلى ما كانت عليه من الانصباب على القمار وغيره من الرذائل الشائعة المستفيضة في البلاط.

وزادت على الانغماس في القمار الإيغال في السُّكْر، فأفرطت في تعاطيه حتى عبث بصحتها وهدَّ أركان قوتها، فلفظت نَفَسها الأخير وهي في الثالثة والخمسين. وكانت قد قضت الأسبوع قبل وفاتها لم تذُق فيه سوى المسكر. وعندما نُعيت إلى زوجها الدوق دي مازارين نقل جسدها إلى فرنسا، وكان يأخذه معه في تجواله من مكان إلى آخر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤