التاج في سبيل الحب

من يزُر مكتبة جامعة لوند في أسوج ويهمُّه الوقوف على بعض الأمور العجيبة الغريبة يجد فيها رزمتَي رسائل غرام تحتويان على ما يُعد من أهم المكتوب في هذا الموضوع. وعلى مر السنين والأيام حال بياض ورق الرسائل إلى صفرة قائمة يعلوها الغبار، وفي كثير منها خفي سواد الحبر فأصبح مطموسًا تكاد العين لا ترى الحروف المكتوبة به. ومع أن الأنامل التي تحرَّكت في تسطيرها قد شلَّها الردى وحوَّلها إلى تراب، فإن كلماتها لا تنفك تختلج بعامل الحب الذي أوحى بها منذ أكثر من مائتي سنة. وفي كل صفحة منها وصف شائق شامل لجميع الأدوار التي تتقلَّب فيها حوادث الحب والغرام. فمن قطيعة وصدٍّ ويأس إلى تلاقٍ وتواصل وتشاكٍ وتباكٍ، ومن غيرة وتظلُّم وتنافر إلى مصالحة ومسالمة ومسامرة ومنادمة، وغيرها من الأمور التي ربطت قلبَي هذين العاشقين برباط الحب المتين، وفي سبيله ضحَّى أحدهما بحياته وبذل الآخر حريته وتاجه.

•••

ولدت صوفيا دورثيا — بطلة فاجعة من أعظم فواجع الحب في تاريخ البشر — في قلعة سل (في ألمانيا) في يوم من شهر سبتمبر سنة ١٦٦٦، وهي ابنة جورج وليم دوق سل من زوجة غير شريفة المحتد اسمها إليونور دولبروز ابنة مركيز فرنسوي، كانت على جانب عظيم من الحسن والجمال. ومع ولادتها في قصر ملكي وكون أبيها كبير أسرة برونسويك لونبرغ العريقة في المجد والشرف فإن أنسباءها وذوي قرباها وأصحاب الشرف الأسمى والمقام الأسنى أنكروها وتبرَّءوا منها، وكان أشدهم ازدراءً لها واستهزاءً بها الدوقة صوفيا زوجة إرنست أغسطس أخي دوق سل، وجدة جيمس الأول ملك إنكلترة.

ومع هذا الاستقبال الشائن الذي لقيته صوفيا دورثيا من أنسباء أبيها نالت أكبر محبة وأعظم إعزاز من والدَيْها وأهل بلاط سل. وهذا كله لا يستعظمه من ينظر الآن إلى صورتها في أحد متاحف الصور الجميلة، ويشاهد على محيَّاها المحاسن الباهية الباهرة التي خصَّتها بها الطبيعة وجعلتها أجمل فتاة في عصرها. وتدرَّجت في سِني حداثتها مترقية في كل ما جعلها كعبة الأفكار وقِبْلَة الأنظار. وقضت هذا الطور — طور الحداثة — في فرح وسرور ولعب ولهو مع أولاد من سنِّها، بينهم الفتى الجميل الكونت فليب فون كونغسمارك الذي اتصل بها فيما بعدُ اتصالًا انتهت فيه حياة كلٍّ منهما بفاجعة أليمة.

ولما كانت دورثيا ابنة عشر سنوات ذهب أبوها دوق سل بزوجته — والدة دورثيا — التي كانت دونه في شرف المحتد إلى الكنيسة، حيث احتفل باقترانهما رسميًّا أمام أهل البلاط، وكان ذلك بموافقة إمبراطور ألمانيا. فأصبحت إليونور المنبوذة المحتقَرة زوجة ملك سل، وارتقت ابنتها إلى مصاف الأميرات. وهذا الشرف العظيم اتفق أنها نالته عندما بلغ هلال جمالها التمام، وبات موضوع حسنها ورفعة شأنها ووفرة غناها حديث الخاص والعام.

وبعدما كانت موضوع الهزء والازدراء عند دوقة صوفيا — زوجة عمها — المتغطرسة صار لها عندها شأن عظيم، وعزمت أن تخطبها لابنها جورج لويس؛ لأنها رأتها فائقة في حسنها وجمالها وعِلمها وتهذيبها وكثرة ثروتها؛ لأنها وارثة أبيها الوحيدة. فباتخاذها زوجة لابنها تمهِّد سبيل الاتحاد بين إمارتَي سل وهنوفر. وكان زوجها إرنست أغسطس صاحب عرش الإمارة الثانية.

وكانت الدوقة صوفيا معروفة بمَضاء العزيمة وقوة الإرادة، فما أبطأت أن مهَّدت عقبات الموانع وذلَّلت أعناق الصِّعاب وعقدت إكليل ابنها على ابنة عمه الأميرة صوفيا دورثيا. أما العروس فقد قال فيها بعض واصفيها: «إنها كانت حنطية اللون سوداء الشعر نجلاء وردية الخدين جميلة المبسم طويلة العنق، وجميع ملامحها وأعضاء جسدها متناسقة متناسبة على ما يرام من حسن الانتظام وجودة الالتئام. وقد استوفت قسطها من فصاحة اللسان وسرعة الخاطر وسلامة الذوق، وضربت بسهمٍ كبيرٍ في العلوم والآداب وفنون الرقص والموسيقى وغيرهما.» أما الفتى الأمير جورج لويس الذي لِنكد طالعها اختير زوجًا لها، فكان لسوء الحظ جلفًا فظًّا أخرق سيئ الأخلاق وفاسد الآداب.

وهذا العقد كان من أشأم عقود الزواج طالعًا وأسوئها مصيرًا، ولما علمت الأميرة دورثيا به انقضت عليها صاعقة الغم والأسى، وعندما قدم إليها أبوها هدية الدوقة صوفيا، وهي تمثال صغير لصورة جورج لويس مرصَّع بالألماس ضربت به عرض الحائط ضربة عنيفة، سحقته ونثرت حجارة الألماس في أرض الغرفة. ولم ترضَ أن تشاهد خطيبها إلا بعدما ألحَّت عليها والدتها وذرفت دموع التوسل والاستعطاف. وحين وقعت عيناها عليه سقطت مغمًى عليها في حضن والدتها، ولما وقفت بجانبه يوم الاحتفال بزفافها إليه في كنيسة قلعة سل غشيت المعبد ظُلمة مطبقة تكاد تلمس باليد، وحالت جلجلة السحب والعواصف دون سماع شيء من أصوات الكهنة والمرتلين.

وإن لم تكن غلطة زوجها وصاعقته كافيتين لإخماد أنفاس سعادتها وتصويح زهرة هنائها في فجر صباها — وكانت ابنة ست عشرة سنة فقط في يوم عرسها — فقد زاد عليهما ما لقيته من العنت والانزعاج في أسلوب معيشتها في بلاط هنوفر؛ حيث حفَّتها مجالي الأبهة والسؤدد، ومظاهر العظمة والفخامة، وقيَّدتها أغلال الاحتفاظ بقواعد المعاشرة وآداب السلوك. فلا يؤذَن لها في الخروج من القصر إلا في مركبة فخمة مذهَّبة تجرُّها الجياد المطهَّمة يعلو جيادها الخفراء والحجَّاب ويتقدَّمها العداءون. هذه الزخارف والبهارج ثقلت وطأها على العروس الحديثة السن، فحنَّت نفسها إلى عيشة اللهو والمرح في ظلال حديقة القلعة في سل مع رفيقاتها ورفقائها أيام حداثتها. ومما ضاعف أسباب الحسرة والوحشة عندها أنها لم تسعد قط في بلاط هنوفر بسماع كلمة لطف أو برؤية نظرة حنان تتعوَّض بهما ما فقدته من حنوِّ والدتها ولطف أبيها. لم تجد شيئًا ينسيها لذة قبلات الأم وابتسامات الوالد. فلم يكن لها من التعزية سوى معاشرة وصيفتها التي استصحبتها، فكانت تخلو بها متذكرة مسرات أيامها الغابرة.

وكان شقاء حالها ينمو ويزيد على مر الشهور وكرور السنين؛ لأن إهمال زوجها لها وعدم مبالاته بها تحوَّلا شيئًا فشيئًا إلى جفاء فقسوة فشراسة وحشية، فإنه لم يكتفِ بتخليه عنها وإغفاله لها، بل زاد عليها أن نقض عهد محبتها وتبدَّل بها على مرأًى ومسمع منها الهيامَ بغيرها، كعقيلة بوش وعقيلة فون شولنبرغ الضخمة الجسم والخشنة الملامح التي جعلها فيما بعد عندما صار ملك إنكلترة دوقة كندل. ولما وبَّخته زوجته على خيانته ونكثه لعهد المحبة والولاء استشاط غيظًا وحنقًا، وأمعن في تنقُّصها وتحقيرها. وقد رُزق منها ابنًا وابنة، ولكن هذه العلاقة الجديدة بينهما قصرت على أن تردَّه عن غيِّه وتستميله إلى الفتاة التي عاهدها على الولاء والوفاء.

فليس عجيبًا بعد هذا أن نرى الأميرة دورثيا ناشطة من عقال الخضوع للذل، وقد أبت عليها عزة نفسها احتمال الضيم، وتاقت إلى المؤاساة والمحبة، فأتاح لها القَدَر الحصول عليهما كلتيهما متنكرتين في صورة غارة خطيرة؛ فبعد زواجها بست سنوات جاء إلى بلاط هنوفر الكونت فليب كونغسمارك أليف حداثتها، وقد أضحى الآن شابًّا في الثامنة والعشرين من سنِّه، جميل الطلعة نبيل الشأن ذائع الصيت في البسالة والإقدام، وقد استطارت شهرة بأسه وشجاعته في أنحاء أوروبا، وكان ممن يشار إليه بالبنان في شدة ذكائه وكثرة غناه وفرط سخائه، فلقي في بلاط هنوفر ما يستحقه من الحفاوة والإكرام. ولكونه جنديًّا متفوقًا في الفنون العسكرية ولَّاه الدوق أرنست هنوفر قيادة حرسه، وأصبحت أبواب القصر مفتوحة أمامه يدخل ويخرج منها كلما شاء. وكانت الأميرة دورثيا رفيقته في اللعب منذ عشر سنوات أشد سكان القصر ترحيبًا به؛ إذ وجدت به خير جليس ينصت إلى سماع شكواها المُرة بملء الشعور والمؤاساة.

وقد يتعذَّر تصوُّر موقف أشد تعرضًا للخطر من موقف خلوِّ الأميرة بصديقها الحميم القديم؛ فإن محبة كونغسمارك في أيام حداثته لدورثيا الصغيرة — تلك المحبة الطاهرة النقية — أخذت تتحول الآن شيئًا فشيئًا إلى غرام وهيام. وهذا الشغف الشديد الذي تملَّك فؤاده جرف تيارُه قلبَ صوفيا دورثيا، ولكن لا على رغمها، بل برضاها واختيارها. ولما ذهب الكونت إلى بلاد المورة لمحاربة الأتراك أخذ قلب الأميرة معه، ومن هذا الوقت ابتدأت المكاتبات بينهما وانتهت بمقتل كونغسمارك.

فمما قاله لها في أول رسالة بعث بها إليها: «ما أغلى ما أتكلَّفه في سبيل محبتي لكِ. فهل يتاح لي أن أتمتع بمشاهدتك مرة أخرى يا حياتي وإلهتي؟ ومجرَّد افتكاري في احتمال انقطاع الأمل من تلاقينا هو عندي عبارة عن الموت، بل شرٌّ منه. فلا يخطر هذا الاحتمال على بالي إلا ويدفعني إلى البخع والانتحار. ولكن لمَّا كان من المحتَّم عليَّ أن أعيش، فإن حياتي تكون دائمًا وقفًا عليكِ.» ثم كتب إليها بُعيد ذلك: «أعندكِ أقل ريب في حبي لكِ؟ إنه يفوق الوصف، والله على ما أقول شهيد. وليس الغم الذي أعانيه سوى نتيجة مفارقتي لكِ، وقد يصعب عليكِ تصديق كلامي هذا، ولكنه كلام رجل شريف لم يتعوَّد الكذب قط. إذن ثقي بما أقوله لكِ، واعلمي أن جزعي كثيرًا ما يشد وطأته عليَّ حتى أوشك أن أغيب عن صوابي … ولولا كتابكِ الذي بعثتِ به إليَّ لكنت في شرِّ حال. إني بملء الرضا والمسرَّة مستعد أن أضع عند قدميك حياتي وشرفي ومستقبلي وكل ما أملكه.»

وكثيرًا ما كانت هذه الرسائل تتضمَّن وصف ما يعانيه من تباريح الغيرة واليأس. فقد كتب في واحدة منها يقول: «لقد ساءني ما آنسته في كتابك من الفتور، وقضيت ليلي في أرق وحزن ويأس، فجثوت على ركبتي والدموع تنهال من سحب أجفاني، وابتهلت إليه تعالى أن يريحني من حياتي إذا صحَّ أنكِ هجرتِني ونسيتِني.»

ثم كتب إليها في رسالة أخرى: «لا يسعني أن أصف لكِ شدة حزني وأسفي عندما علمت أنك كنتِ بين ذراعَي غيري. إن محبَّتي لكِ أشبه بالعبادة، بل هي العبادة نفسها. ومع هذا كله لا يمكنني أن أراكِ لغيري. إن عذابي من جراء هذا الأمر يفوق جميع أنواع العذاب التي في جهنم. فمتى ترأفين بي وتعطفين عليَّ؟ متى أتغلَّب على ما أراه فيكِ من فتور وقلة اهتمام؟ أأظل إلى الأبد محرومًا التمتع بلذة مسرَّة تامة خالية مما يكدِّر صفاءها؟ إن مسرَّة كهذه أنشدها عندكِ، فإن لم تسعديني بالحصول عليها فعلى الدنيا كلها السلام.» ولما رقَّت الأميرة له وضربت له موعدًا لاجتماعهما كتب إليها يقول: «أرى الدقائق في عينيَّ أطول من السنين. فمتى تحين الساعة الثانية عشرة؟ متى يأتي الأجل المضروب؟ الليلة! نعم، نصف الليل أعانق أجمل غادة، وأقبِّل أعذب ثغر. حقًّا إن سروري يكاد يقتلني!»

ولم تكن رسائل الأميرة إليه تقلُّ عن رسائله إليها من حيث وصف لواعج الشوق وتباريح النوى؛ فقد كتبت إليه مرة تقول: «جرَّعني فراقك مرارة لا أنساها إلا إذا ذقتُ حلاوة لقائك. إن احتمال فراقك فوق طَوْقي، ووقتي أقضيه بالبكاء حتى يغشى عليَّ. لقد أحببتك حبًّا يفوق جميع ما عرفه الناس من حب النساء للرجال. والحق أقول لك إن حبي هذا سينتهي بحياتي.» ولما كان كونغسمارك في ساحة القتال ساورتها المخاوف فكتبت إليه: «إن كنت تحبني فابذل ما تستطيعه من العناية بنفسك والمحافظة على حياتك. وأقل مكروه تُصاب به يكون سببًا للقضاء على حياتي. ولكن … يا لسروري وابتهاجي حين ألقاك عائدًا إليَّ سالمًا! حينئذٍ يتعذَّر عليَّ أن أملك قياد نفسي، فيفتضح أمري لدى كل من يراني. ولكن هذا لا يهمني؛ لأنك أهلٌ لأن أضحِّي في سبيل هواك بكل عزيز وغالٍ.»

وكتب إليها كونغسمارك جوابًا عن إحدى رسائلها يقول: «طلبتِ إليَّ أن أزيدك إثباتًا وتوكيدًا لحبي لك. فاعلمي أني لن أحول عن عهد ولائي ما دام في عروقي قطرة دم، وما دام في صدري نَفَس يتردَّد. فأنتِ أغلى ذخر عندي وأنفس كنز. وإني لأبذل كل ما في العالم ثمن قُبلة من شفتيك الحلوتين. إني أكره الحرب وأمقت كل ما يقضي بفصلي عنك. فمَن لي بأن أكون دائمًا معكِ في الحياة والموت؟»

وبعدما وصلا إلى هذه الحالة من شدة شغف كلٍّ منهما بالآخر، لم يبقَ في إمكانهما أن يظلا في مأمن من عيون الرقباء والعذَّال. وخافت الأميرة على الكونت من كيد الكائدين، فتوسَّلت إليه أن يكفَّ عن المجيء إليها فأجابها: «لا أنقطع عن زيارتك إلا إذا انقطعتُ عن العالم بأسره وصرمتُ حبل حياتي بيدي.»

وقد تلاقيا عدة مرات خلسة، وكانا في كل دقيقة منها عرضة لخطر الوقوع في أيدي الرقباء والجواسيس. وكتبت إليه الأميرة مرة عن موعد لقاء، فقالت: «أتوقَّع طروقك من الساعة العاشرة مساءً إلى الساعة الثانية بعد نصف الليل. ولستَ تجهل العلامة أو الإشارة التي اتفقنا عليها، وباب السور يبقى دائمًا مفتوحًا. فلا تنسَ إبداء الإشارة الأولى. وسأنتظرك تحت الأشجار. وبفروغ صبر أتوقع قدومك. ولو كان الفرح يقتل لم يُبقِ عليَّ. ولسوف تجدني كما تعهدني مستعدة لأن أمتعك بقُبلات حارَّة فتأسف أشد الأسف على ارتيابك في صدق مودتي.» أما شدة ابتهاجهما بهذه الاجتماعات السرية على رغم المخاطر المحدقة بهما فقد فاقت الوصف، وأشار إليها الكونت غير مرة في رسائله إلى الأميرة؛ من ذلك قوله: «لا أستطيع أن أنسى تلك الدقائق الحلوة اللذيذة. فما كان أعظم سرورنا وأشد اغتباطنا. ليت تلك الدقائق تحولت إلى شهور وسنين وصارت العمر كله، أو ليتها على الأقل تعود من وقت إلى آخر. بل ليتني قضيت نحبي في آخر دقيقة منها ثملًا براح حبك ورحيق ثغرك.»

ولكن من المعلوم أن سعادة كهذه لا يُكتب لها طول البقاء، بل تكون دائمًا قصيرة العمر وسريعة التحول والزوال؛ لأنه كان لهذين العاشقين المستهامَيْن كثيرون من الأعداء في بلاط هنوفر، وجميعهم واقفون لهما بالمرصاد يبثُّون عليهما العيون والأرصاد، ويُخفون الحبائل والمصايد، وكان أشدهم اجتهادًا في التنكيل بهما الكونتس بلاتن محظية دوق هنوفر، فإنها كانت قد سبقت وعرضت لفون كونغسمارك وراودته عن نفسها، فأعرض عنها مزدريًا لها ومستخفًّا بها، ومضرِمًا في قلبها نار ضغينة لا تعرف الخمود. وحدث أن كونغسمارك أقام حفلة ذات ليلة تنكَّر فيها الراقصون والراقصات وحضرتها الأميرة وغيرها من أعضاء الأسرة المالكة، وفيما كان المدعوون جالسين حول مائدة الطعام سقط قفاز الأميرة على غفلة منها، ورأته الكونتس بلاتن، فسوَّلت لها نفسها الشريرة انتهاز الفرصة السانحة للانتقام، والتقطت القفاز وأخفته، ثم طلبت إلى كونغسمارك أن يخرج معها لقضاء بضع دقائق تحت خميلة في الحديقة، وهناك أوغلت في مداعبته ومغازلته وشغلته عن سماع وقع خطوات، حتى وقف رجلان أمامهما في ضوء القمر؛ وكانا الكونت بلاتن وجورج لويس زوج الأميرة، فاضطربت الكونتس وصاحت تنذر كونغسمارك وتستعجله في الهرب، وفي أثناء فرارها ألقت القفاز عمدًا، فالتقطه جورج لويس وعرف أنه لزوجته، فحمي غضبه، وكان منذ وقت طويل يرى ما يريبه من العلاقات بين زوجته وكونغسمارك. والآن لم يبقَ عنده أقل شك في أنه هو ذلك الرجل الطويل القامة الذي أبصره في ضياء القمر يفر بالأميرة من أمامهما.

وقد اقترنت هذه المكيدة بالنجاح الذي توقعته الكونتس؛ فإنها أسفرت عن وقوع خصام شديد بين جورج لويس وزوجته. وأخذت الأمور تسير سيرًا حثيثًا نحو الخاتمة المحزنة، وظلَّ العاشقان الوالهان ثملين براح الغرام وغافلَيْن عن الخطر المحدق بهما.

ففي مساء يوم من شهر يونيو كتبت الأميرة إلى كونغسمارك تدعوه إلى موافاتها في جناح القصر المختص بها، فأسرع إليها مفتكرًا ومتقلِّدًا سيفًا قصيرًا تحت ثيابه، وأدخلته الوصيفة إلى حجرة الأميرة. وكان جواسيس الكونتس يراقبونه، فساروا في أثره حتى دخل الحجرة، وذهبوا على الفور وأخبروا الكونتس، فطيَّرت الخبر إلى دوق هنوفر، ففوَّض إليها أن تضع أربعة جنود من حَمَلة الرماح والفئوس خارج غرف الأميرة ليعتقلوا كونغسمارك عند خروجه منها. ولم تبطئ بأن جاءت بأربعة الجنود وأقامتهم على أبواب الغرف، وأصدرت إليهم أمرها قائلة: «يجب أن تقبضوا عليه حيًّا أو ميتًا.»

وبعد ساعات قبَّل الكونتُ الأميرةَ قُبلة الوداع وانطلق جذلًا مسرورًا حتى وصل إلى الباب الذي دخل منه، وكان قد غادره مفتوحًا، فإذا به مقفَل! وفيما هو يدور ليعود من حيث أتى انقضَّ عليه الجنود الأربعة من مكمنهم واصطادوه كالجرذ في الفخ. ولكنه عزم أن يموت موت الجندي الباسل في ساحة القتال، فاستلَّ حسامه وحمي وطيس الكفاح بين أربعة هاجمين على واحد، وهذا الواحد أشد من الأسد بأسًا وإقدامًا، ومن أبرع رجال أوروبا في استعمال السيف. فعاجل أحد الأربعة بضربة جندلته قتيلًا وأتبعه الثاني، وإذ ذاك انشطر حسامه شطرين وأصابته ضربة فأس على رأسه فخرَّ صريعًا، وتلتها طعنة رمح اخترقت حشاه، ولكنه عند سقوطه صاح: «أبقوا على الأميرة! أبقوا على الأميرة البريئة!»

وكانت الكونتس بلاتن مختبئة وراء الباب وشاهدت فريستها مطروحًا مضرجًا بدمائه، فبرزت إليه تُجرِّعه غصص التشفي والشماتة، وكان لم يزَل فيه بقية رمق، فلما رآها حانية عليه تلحظه بعين الفرح والسرور شرع وهو يلفظ النفس الآخر يمطرها بوابل اللعنات حتى أسعر نار غيظها وحنقها، فرفعت رجلها ووطئت فاه بأخمص قدمها.

وبعد دقائق معدودة قضى كونغسمارك نحبه واسم الأميرة التي بذل حياته في سبيل محبتها ملفوظ مع آخر نفس خرج من فمه. وقبل طلوع الفجر جرُّوا جثته إلى حفرة مملوءة بالجير، فألقوها فيها وأخفوها عن الأنظار.

وبعد أيام قضتها الأميرة متقلِّبة على جمر الانتظار علمت بمصرع حبيبها، فبلغ منها الحزن واليأس مبلغًا يفوق حد التصور. وكانت منذ سنوات قد كتبت إليه تقول: «إن حياتي مرتبطة أشد الارتباط بحياتك؛ فلن أعيش دقيقة بعدك.» والآن لم يبقَ لها بعد موته سوى أمنية واحدة؛ وهي أن تموت وتدفن بجانبه. ولكن المراقبة الشديدة التي أحيطت بها من كل جانب حالت دون مرامها، وغادرتها تتجرَّع مرارة اليأس.

•••

وبعد مقتل كونغسمارك فتشوا منزله وأخذوا أوراقه التي أعلنت مطالعتُهم لها خفايا علاقات الأميرة بعاشقها، وشدة كراهيتها لآل هنوفر عمومًا وزوجها خصوصًا، فلم يبقَ عند أحد أقل ريب في خيانتها، فنقلوها إلى قرية أهلدن البعيدة حيث شدَّدوا عليها المراقبة، وبعد قليل صدر الحكم بطلاقها من زوجها. ومن ذلك الحين عُدَّت ميتة في صورة حية، فانقطع ذكر اسمها في بلاد هنوفر، وحُذِفَ من صلوات الكنيسة، ومُحِيَ من السجلات الرسمية، وأُوصدت دونها أبواب بلاط أبيها، فقضت اثنتين وثلاثين سنة رهينة أسرٍ ذاقت فيه أمَرَّ صنوف الإرهاق والإذلال، ولم يكن يُرجى لها الخلاص منه إلا بالموت، ولم يؤذَن حتى لوالدتها أن تراها. وهذا الحرمان كان أمَرَّ جرعة في كأس عذابها وعقابها.

وفي سنة ١٧١٤ ارتقى زوجها إلى عرش بريطانيا باسم جورج الأول على أثر وفاة الملكة حنة. ولما بلغها هذا الخبر لم يبدُ منها أقل زفرة حزن أو أسف على ما أضاعته من العظمة والمجد في حرمانها حق التمتع بلقب ملكة إنكلترة، ولم تطلب سوى منحها حق حرية الحياة. وهذا الحق أباه زوجها عليها ولم يسمح لها به، وبعد ثلاث عشرة سنة أجاب الموت ملتمسها وأراحها من عذابها، والتابوت الذي ضمَّ رفاتها أُلقي في قبو القلعة بما لا مزيد عليه من الازدراء والاحتقار ريثما يصدر أمر زوجها الملك بدفنها. ثم نُقلت جثتها ليلًا إلى كنيسة سل؛ حيث دفنت تحت المذبح من غير أن يصلى عليها.

وبعد شهر برح جورج الأول لندن إلى هنوفر، فلما وصل إلى تخوم هولندة، وكان الوقت نصف الليل ألقيت إليه رسالة من نافذة المركبة وسقطت على ركبتيه، وكانت هذه الرسالة من زوجته المتوفاة تعنِّفه فيها على شدة إساءته إليها وجوره عليها، وتدعوه إلى الحضور معها في غضون سنة، ويوم للمحاكمة أمام كرسي الديان العظيم، فلم يفرغ من تلاوة الرسالة إلا سقط مغشيًّا عليه. ولم يعتم أن أسلم الروح ومضى ليقف أمام محكمة الله العادلة. وكانت وفاته في المكان الذي ولد فيه — قصر أونسبروك — منذ سبع وستين سنة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤