اختفاء أرشديوق

ما أكثر القصص التي تُروى عن أمراء هاموا بحب فتيات دونهم حسبًا ونسبًا، وفي سبيل محبتهم لهن ضحُّوا بكل عزيز وغالٍ من زخارف المُلك وبهارج العظمة والجلال. ولكن هذه القصص كلها مع ما فيها من غرائب الحوادث ومُدهِشات الوقائع ليست شيئًا يستحق الذكر بالنسبة إلى قصة جوهان سلفاتور أرشديوق النمسا التي لا تزال حوادثها إلى الآن مدعاة الدهشة والاستغراب، ولا يبرح سرها مُودَعًا زوايا الغموض والخفاء. ولا ينفك الفصل الأخير منها غير مكتوب، ومن يُتَح له أن يعيش ويقرأه فسوف يرى فيه حوادث أعجب وأغرب من حوادث الفصول السابقة.

كان جوهان سلفاتور ابن الغراندوق ليوبولد وأقرب نسيب إلى إمبراطور النمسا، وقد ولد وفي عروقه أشرف دم ملكي، وأعدَّ له القدر أن يتمتع فيما بعدُ بتراث سَنِيٍّ مجيد، ومهَّد له دخول أسمى مقام يزيِّنه عرش معدود من أفخم عروش العالم. وفي حداثته لاحت عليه مخايل نجابة ونبالة بشَّرت بأنه سيكون أسطع كوكب في سماء هذا المقام؛ فقد رُزق أكبر قسط من جمال الطلعة وذكاء العقل ونباهة الشأن، ومنذ صغره سَمَتْ به نفسه لأن يكون عالمًا كبيرًا وجنديًّا شهيرًا. وقد أوتي مَلَكة تعلُّم اللغات وقريحة وقَّادة في نظم الشعر، ونبوغًا فائقًا في الموسيقى وتضلعًا في العلوم الطبيعية. ولكنه أولع على الخصوص بعلم الحرب، وقبلما بلغ أشده كان ملمًّا بأكثر القواعد والمسائل المتعلقة بهذا العلم.

وكان خيرًا له أنه لو اجتنب التعرض للشئون العسكرية؛ لأنه كان كلما أوغل في الدرس والبحث والتقصي يزداد سخطًا وكراهةً للطُّرق العسكرية القديمة المستخدَمة في بلاده. ولم يضرَّه ذلك لو أنه كتم آراءه أو استعمل الحكمة والكياسة في إعلانها، ولكنه لسوء الحظ لم يكتمها ولا لزم خطة الاعتدال في نشرها؛ فقد طُبِع على الثورة والإصلاح. وكان نظير كثيرين ممن هم كذلك لا يتأنَّى في وضع آرائه، بل يندفع مستعجِلًا محتدًّا في عرضها وإذاعتها. وأول خطأٍ ارتكبه في هذا القبيل نشره رسالة انتقد فيها المدفعية النمسوية، وحمل أشد حملة على نظامها مبيِّنًا ما فيه من العيوب الفاضحة، فحمي غيظ قادة المدفعية وكبار ضباطها من هذا الانتقاد الجارح، حتى اضطر الإمبراطور نفسه أن يوبِّخه على طيشه وتهوره.

ولكن الأمير جوهان لم يكترث لحنق القادة واستياء الإمبراطور، وخيِّل إليه أنه مرسل لإصلاح الجيش النمسوي، ولا بدَّ من تأدية هذه الرسالة. وبعدما نشر رسالته المشار إليها طبع كتابًا عنوانه «التدريب والتمرين» انتقد فيه خُطط النمسا الحربية انتقادًا هتك فيه سِتر عيوبها ونقائصها من أولها إلى آخرها. فلما انتشر هذا الكتاب أحدث رجَّة هياج في البلاد، فوقع أحسن وقع عند عامة الشعب وصغار الضباط، وانقض كالصاعقة على بلاط الملك ووزارة الحربية، وأثار في النفوس دهشةً وغيظًا لا يعبَّر عنهما بالكلام. وأخذ قادة الجيش وكبار ضباطه يتساءلون قائلين أَمَا من وسيلة لكسر يراع هذا الثائر وقطع لسانه؟

أما الأرشديوق فنظر إلى العاصفة التي حرَّك ساكنها هاشًّا باشًّا، وكان في استطاعته أن يهشَّ ويبشَّ لأن الأمة مؤيدة له. والنمسويون على بكرة أبيهم تعشَّقوا صراحةَ وفصاحةَ الأمير الذي برهن غير مرة في ميدان الكفاح في بلاد البوسنة أنه من نخبة أبطال الحسام كما هو من خلاصة رجال القلم، حتى إن وزارة الحربية اضطرت أن تعترف بمقدرته الفائقة وترقيه إلى رتبة فيلد مارشال وهو في سنٍّ يتمنى صاحبها وإن كان أرشديوقًا أن ينال رتبة كولونيل.

وهذه كلها لم يكن يتعذَّر تلافيها لو أن جوهان حصر حملاته في سبيل إصلاح الجيش، ولكن طيشه ونزقه استأثرا به وأركباه مركب السياسة الخشن الخطر. فارتأى تحرير روسيا من مساوئ حكومة القيصر باتحاد النمسا وفرنسا على محاربتها. وتعرض لشئون البلقان السياسية، واتهم بسمارك بأنه يكيد لآل هبسبورغ (الأسرة المالكة في النمسا). وبهذه الأمور وغيرها أصبح خطرًا يهدِّد سلام أوروبا العام. ولم تقف به رعونته عند هذا الحد من المغامرة والتهور، بل دفعه خرقه وحماقته إلى مخاصمة ولي العهد رودلف أعز صديق له، واستخفَّ جهارًا بالفيلد مارشال الأرشديوق ألبرت في أثناء محاورته له.

وحينئذٍ فرغ صبر الإمبراطور عليه، فاستدعاه إليه وخيَّره في أمرين: إصلاح سلوكه إصلاحًا تامًّا أو ترك الجيش والتخلي عن منزلته الملكية. فاختار الأمر الثاني وخرج من لدن الإمبراطور ساقط الوجه خاثر النفس، وعلى الفور صدر الأمر بتجريده من رتبته العسكرية، وحذف اسمه من سجل الجيش ومنعه من دخول البلاط الملكي. ولم يهمه سقوطه من منزلته الملكية ولا حمو غضب الكبراء عليه. ولكن إخراجه من الجيش أفعم قلبه غمَّا وأسًى، ولم يدُر قط بخلده أن يعاقَب عقابًا شديدًا كهذا؛ لأن الجيش كان أعظم شيئًا يُعنى به على وجه الأرض، فبفصله عنه رأى الحياة عبئًا ثقيلًا عليه يود إراحة نفسه منه. ولما رآه أصدقاؤه على هذه الحالة نصحوا له بالصبر والتأنِّي والإخلاد إلى الهدوء والسكينة ريثما تركد رياح الأحوال، ويسكِّن غضب الإمبراطور ويرق قلبه، فعمل بمشورتهم. ولما طال انتظاره وفرغ اصطباره استولى عليه اليأس والقنوط فزايل فينا وذهب إلى ضيعته قرب غمندن، وأقام يتقلَّب على لظى السآمة والضجر، فكان يقضي نهاره في الصيد والقنص وجانبًا من ليله في الدرس والمطالعة.

ولم يلبث أن ملَّ هذه العيشة الجافة ومال إلى طلب التسلية خارج ضيعته، فبرحها إلى فينَّا، وأخذ يلهو في التردد إلى المسارح والمراقص وغيرها من الملاهي. وفي ذات ليلة بينما كان في المسرح الملكي شاهَدَ بين الممثلات فتاة رآها فريدة في عقد الغيد الحسان كأنها إحدى حور الجنان، وكان ذلك فاتحة عهد جديد له لم يعلم عنه قط شيئًا من قبل. ففي كل لمحة من قسمات وجهها البديع رأى جمالًا باهرًا خالبًا، وفي كل نظرة من عينيها الجميلتين آنس سحرًا جاذبًا.

وقبل أن غادر المسرح عزم على البحث عن ساحرة لُبِّه وسالبة قلبه والسعي في إحرازها. وفي تلك الليلة نفسها عرف من هي وأين تسكن، وكانت ابنة تاجر من صغار التجار في فينَّا واسمها إملي ستوبل، ولها أختان كلتاهما ممثلتان نظيرها. وكان لجمالها وبراعتها في التمثيل شهرة تحدَّث بها جميع سكان فينَّا، وذاع صيتها في عواصم أوروبا.

هكذا كانت إملي ستوبل حين أَسَرَت قلب نسيب الإمبراطور وهي خالية الذهن لا تعلم شيئًا عن هذا الأمر، ولم يبالِ الأرشديوق بكونها وضيعة الحسب والنسب، فقد كان ساخطًا أشد السخط على أهل النسب والرتب، هاجِرًا لمجالستهم وقاطعًا علاقاته بهم. ورأى إملي أجمل جميع الفتيات اللواتي شاهدهن في قصور الملوك، وهي أغلى جوهرة تزان بها الصدور.

ولم يصعب عليه التعرف لها بصورة طالب علم، وهي عرَّفته هكذا لوالديها اللذين أُعجِبا كل الإعجاب بجمال منظره ونباهة شأنه، وودَّا أن يتخذاه صهرًا لهما. ولم يمضِ وقت طويل حتى شغف حبه فؤاد إملي كما سبقت هي وتصبَّته وسبته. وخيِّل لها أنها بخطبته لها ارتقت إلى أوج الغبطة والسعادة، وثمل أبواها براح المسرة والابتهاج، وأصبح الخطيب يرى نفسه أسعد إنسان في فينا.

وبعد بضعة أسابيع ذهبت إملي وأمها لتشاهدا عرض الجيش، وهناك فوجئت برؤية ما أدهشها وكاد يذهب بصوابها؛ إذ إنها أبصرت خطيبها لابسًا بذلة رسمية سَنية، وقالت في نفسها ما شأن هذا التلميذ الحقير بالوقوف متنكرًا في حلَّة بهية كهذه؟ فلا بدَّ أن تكون مخطئة. ولكن لا محل لاتهامها بالخطأ، فهو خطيبها لا ريب فيه. ثم سألت فتًى واقفًا بجانبها: «مَن الواقف هناك؟» وأشارت إلى التلميذ خطيبها، فأجابها: «إنه الأرشديوق جوهان.»

وفي اليوم التالي ذهب الأرشديوق إلى بيت خطيبته، فانبرت له والدتها وأوسعته تأنيبًا وتقريعًا على سوء تصرفه؛ إذ حاول إغراء قلب ابنتها متنكرًا في زي تلميذ، وهذا أمر شائن لا يليق به وهي لا تسمح بوقوعه. ومهما يكن من فقر ابنتها وضعة شأنها فهي أعفُّ وأنزه من أن تُتخذ ألعوبة بيد واحد من أعضاء الأسرة المالكة. فأجابها جوهان مقسمًا لها بأغلظ الأيمان أنه أحب إملي من كل قلبه محبة صادقة، وأنه لم يبقَ أميرًا ملكيًّا، بل هو الآن واحد من رعايا الإمبراطور كالهر ستوبل أبي خطيبته، وأن أعظم شيء يتمناه في هذه الحياة أن يصير زوج إملي. فسكن غيظ أم خطيبته، وبعد أيام قليلة احتفل بزفِّها إليه، ثم ذهب بها إلى ضيعته حيث أقام في رغد وصفاء وسرور وهناء.

وبعد سنة نفض الأرشديوق غبار الخمول والبطالة، وجعل شعاره هذا القول: «أطلب الحصول على حق السعي والعمل، وإن لم يؤذَن لي في التمتع به في بلادي طلبتُه في غيرها، وأرض الله واسعة الفضاء.» وعلى رغم ما أبدته والدته العجوز من التوسلات وما ذرفته من الدموع ظلَّ مصرًّا على عزمه، فتخلَّى عن ألقابه وضياعه، وأعلن أنه من الآن فصاعدًا سيكون اسمه مقتصرًا على «جوهان أورث». وقد وافقته قرينته على قراره هذا. وبرحا كلاهما منزلهما في غمندن، وسارا إلى حيث ظلا مدة لا يعلم أحدٌ عنهما شيئًا.

فزعم بعضهم أن جوهان اشتغل عاملًا مأجورًا اقتداءً ببطرس الأكبر، وادَّعى البعض الآخر أنهم شاهدوه في أحد مطاعم برلين. وآخرون قالوا إنه مخبر إحدى الصحف الأميركية. ومهما يكن من صحة هذه الأقوال وكذبها، فالمعروف أن الأرشديوق وزوجته كانا سنة ١٨٩٠ في لندن حيث أعادا اقترانهما رسميًّا. وقدم جوهان أورث امتحانًا في فن الملاحة (سلك البحار) ونال رخصة في تعاطيه. ثم شخص إلى همبورغ وابتاع سفينة شراعية متينة مصفَّحة بالحديد يبلغ محمولها نحو ثلاثة عشر ألف طن واسمها «سانتا مرغريتا»، وأقلع عليها مع قرينته إلى أمريكا الجنوبية، وكانت مشحونة ملاطًا (أسمنت). ومن هناك كتب إلى صديق له في فينا يقول: «ربان سفينتي مريض جدًّا، وإني مضطر أن أعزل أحد ضباط السفينة؛ لأنه غير صالح للعمل. وأن أرخِّص لضابط آخر في الانقطاع عن العمل (إجازة) لأسباب كثيرة. فأنا والحالة هذه كل شيء للسفينة — ربانها وضباطها — وسأقلع إلى فلباريزو بلا ربان ولا ضباط.»

ويقال إنه لم يفقد الضباط فقط، بل فقد البحَّارة أيضًا، واعتاض عنهم غيرهم من هناك، وأقدم على سفرته المحفوفة بالمخاطر والأهوال. ومنذ خرجت سانتا مرغريتا لطيتها هذه غابت عن الأبصار كأن اللجج ابتلعتها، فلم يظهر أثر لها ولا لأحد من رَكْبها من ذلك الحين إلى الآن. وظل الأرشديوق إلى هذا الوقت يكتب إلى والدته غراندوقة توسكانيا. ومنذ أقلعت سانتا مرغريتا من مرساها إلى فلباريزو لم تقف والدته قط على كلمة منه، ولم يسمع أحد خبرًا، ولا رأى أثرًا لواحد من البحَّارة. وقد شاعت عنها إشاعات كثيرة أجدرها بالقبول والتصديق أنها غرقت في عاصفة شديدة وهبطت بجميع من فيها إلى قعر البحر، حيث يبقى سر جوهان أورث مكتومًا إلى ذلك اليوم الذي فيه تبلى السرائر وتظهر الضمائر.

وأرسل الإمبراطور جوزيف بعثة على دارعة حربية للبحث عن السفينة المفقودة في شواطئ أميركا الجنوبية، وكان بين المبعوثين الأرشديوق فرنسيس فردينند١ وارث تاج النمسا. ولكن لسوء الحظ لم يستطيعوا الوقوف على أقل أثر للسفينة ولا لأحد من رَكْبها.

ولم يسع العالم التسليم بأن مصير ذلك الأمير الخطير الشهير كان على هذا الوجه، ولا قامت قط بيِّنة تدل دلالة صريحة على غرق سانتا مرغريتا. والذين كانوا لا يجهلون شدة إقدام صاحبها على المغامرة واستخفافه بالمخاطر ذهبوا إلى أنه غيَّر اسمها ولونه وقذف بها في غمار بحار مجهولة. وفي أحد كُتب إملي ستوبل الأخيرة إلى والديها تشير إلى ما يتعللان به من أمل كشف «جزيرة لا مالك لها» يعيشان فيها برغد وهناء.

وكان جوهان أورث قبلما غادر النمسا أودع ماله بنكًا سويسريًّا وبواسطة وكيله الدكتور فون هبرلر كان يحوِّل عليه من وقتٍ إلى آخر. وبعدما مضى سنتان على غرق سانتا مرغريتا طلب الدكتور هبرلر المال بموجب صك الوكالة الذي في يده، فأبى البنك أن يدفع، ولكن المحاكم حكمت بأن الوكالة صحيحة؛ لأن وفاة الموكل لم تتحقق. وحينئذٍ قبض الوكيل المال، ولكن هذا الوكيل من جهة أخرى طالب أربع عشرة شركة لضمان الحياة في همبورغ بمبلغ ثلاثة عشر ألف جنيه كان جوهان أورث مضمونًا عليها. وكانت هذه الشركات كلها قد أبت الدفع، ولكن المحاكم أرغمتها عليه؛ إذ عدَّت غرق السفينة ومن فيها أمرًا لا ريب فيه.

وعلى رغم هذا القرار لا يزال كثيرون مصرِّين على اعتقادهم أن الأرشديوق باقٍ حيًّا، ولا بدَّ أن يسترد يومًا ما حقَّه المسلوب، ويسترجع ما كان له من رفعة الشأن وسمو المنزلة ومعه زوجته الأمينة. وقلما تمضي سنة لا يجدُّ فيها نبأٌ عنه يؤيد صحة هذا الاعتقاد. ففي جهة من جهات العالم يُروى عنه أنه كان موجودًا، وقد شاهده هذا أو ذاك أو ذلك، ادَّعى بعضهم أنه رآه يحارب في صفوف اليابانيين ضد الروسيين، وقد أبلى بلاءَ الأبطال الصناديد. وادَّعى بعضهم أنه هو المارشال ياما غاتا المشهور! وقال غيره إنه كان في شيلي يقود جيشها الزاحف على بلاما سيدا. ويقول جورج لاكور المؤلف الفرنسوي المشهور في كتابه المطبوع حديثًا في باريس إن جوهان أورث يقيم الآن في الأرجنتين منتحلًا اسم دون رامون.

ويقول غيرهم إنه هو وقرينته يعيشان برفاء وصفاء في إحدى جزائر الباسفيك. ويدعي آخرون أنه شوهد مؤخرًا مع نسيبه الأرشديوق لويس سلفاتور في مالوركا. وبالأمس قالت عنه الصحف إنه كان أحد القادمين على باخرة من أميركا إلى إنكلترة، وقد عرفه واحد من الركاب وسأله عن نفسه، فاعترف بأنه جوهان أورث الذي كان سابقًا أرشديوق النمسا، ثم رأوه بعد ذلك سائرًا في أحد شوارع لندن.

هذه بعض الإشاعات الكثيرة التي ذاعت وظلت مدة عشرين سنة تعين على إحياء ذكر جوهان في أذهان الجمهور. وستظل هذه الإشاعات ملء الألسنة والأفواه حتى يعود ظاهرًا في الجسد لعينَي كل إنسان، أو يصبح خبر موته حقيقة لا يختلف فيها اثنان.

أما والدته فظلت إلى آخر ساعة من حياتها تعتقد أن ابنها حيٌّ، وقضت سِني حياتها الأخيرة تتوقع رجوعه إليها بملء الصبر والتسليم، قائلة لكل من يحاول تعزيتها: «إنَّ ابني حيٌّ لم يمت، ولسوف يأتي إليَّ وتقر عيناي برؤيته قبلما أموت.» وكانت على الدوام تعنى بحفظ غرفه مكنوسة مفروشة ومعدة لنزوله فيها ساعة وصوله، وتعلِّق مصباحًا خارج بوابة القصر لينير طريقه عند مجيئه ليلًا. ولكن الغراندوقة المنكودة الحظ ماتت وابنها لم يأتِ، وجميع الجبليين سكان التيرول يقولون بصوت واحد وبإيمان راسخ وطيد: «سيعود. نعم سيعود بلا أقل ريب.» يقولون هذا وهم دائمًا على أتم استعداد للاحتفال بقدومه.

ولا يزال في قيد الحياة رجلان على الأقل يُظَنُّ أنهما يعلمان الحقيقة؛ أحدهما وكيله الدكتور هبرلر الذي يقال إنه يتلقى منه رسائل كل شهر بلا انقطاع، والآخر صديقه البارون فون أباكو الذي كان قائد الحرس الملكي ليلة اختفاء الأرشديوق، ويقال إنه كان مطلعًا على الخطة التي رسمها صديقه قبيل سفره. ومنذ عدة سنين انقطع البارون عن العالم وأقام في نيو غينيا الألمانية يشتغل بزراعة ضيعته هناك، ولا يمر لأوروبا ذكر بشفته ولسانه، فإن لم يعد الأرشديوق المختفي إلى عالم الوجود فسرُّه المكتوم في صدر البارون يُدفن معه في ضريحه.

١  هو الذي قتله تلميذ سربي في سراجيفو يوم ١٨ يونيو سنة ١٩١٤، وكان قتله سببًا لنشوب الحرب الكبرى في تلك السنة. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤