ملكة بلا تاج

في صباح اليوم السابع والعشرين من شهر يوليو ١٧٨٤ بشَّرت جريدة المورتن هرلد قرَّاءها بطلوع كوكب جديد في سماء لندن يبهر العيون بضياء حُسنه ويأسر القلوب ببهاء جماله. فما اطَّلع الناس على هذا النبأ السار المفاجئ حتى أخذتهم الحيرة والدهشة، وجعلوا يتساءلون قائلين: «من هذه الجميلة الحسناء التي بشَّرتنا بقدومها الأنباء؟» فمعظمهم لم يسمعوا بها ولا عرفوا عنها شيئًا قبل ظهورها على حين غفلة في عاصمتهم. ولكن كان في بعض أنحاء إنكلترة البعيدة كثيرون من الذين هاموا من قبل بقسامتها البارعة وبهجتها المونقة الرائعة. كانت هذه الشمس الطالعة في فلك الهيئة الاجتماعية في لندن حفيدة السر جون سمث كبير أسرة عريقة في النسب في دورهام، ومنذ حداثتها أسرت القلوب بقساوتها. ولما صار هلال جمالها بدرًا تامًّا أصبحت مضرب المثل في بهائها الغض النضير، وحسنها المنقطع النظير، وكان يزين تقاسيمها البديعة التكوين والتامة التناسق ما هي مفطورة عليه من رقَّة الجانب ولين العريكة وسلامة الذوق وحسن التناول.

وبديهي أن جوهرة كهذه يكثر طلابها ويشتد التنافس في اقتنائها. وما كان أعظم دهشة الناس عندما أعرضت عن جميع خطَّابها الذين كانوا من نخبة الشبان وزهرة الفتيان، ومدَّت يد الرضا والقبول إلى المستر إدورد ولد، وهو من ذوي الثروة ولكنه أكبر من أبيها سنًّا! وطالما جلست على ركبتيه في أثناء طفولتها، وبعد سنة من اقترانها به خلعت حلَّة زفافها إليه ولبست السواد حدادًا عليه. وبعد ثلاث سنوات تزوجها المستر توماس فتزهربرت وهو من أسرة غنية مشهورة، ولم تقضِ معه بضع سنوات حتى فجعت به وهي ابنة خمس وعشرين سنة، وقد ورثت عنه عقارًا يبلغ ريعه ألفي جنيه في السنة.

ولما أراها الاختبار سوء حظها في الزواج عقدت عزمها على السياحة في أوروبا، فقضت فيها سنتين ثم عادت إلى لندن بحُسن أغض وأنضر وجمال أبهى وأبهر، لتسحر العقول وتأسر القلوب. وكان ذلك يوم ذكرت جريدة المورنن هرلد خبر وصولها إلى لندن كما تقدَّم في صدر هذا الفصل.

ولما كانت لا تزال في إبان طراءتها ونضارتها وريعان زخرفها وبشارتها وعلى جانب من الغنى والثروة، فليس عجيبًا أن نراها باسطة رواق سلطانها على كبار رجال لندن، وهي مستعبدة لقلوبهم ومستأسرة لنفوسهم. ولم يمضِ عليها بضعة أسابيع حتى أجمع كلُّ مَن في لندن على تلقيبها بملكة جمال بارع رائع ليس لها فيها منازع، وبات أكبر الأغنياء والعظماء والأمراء يتسابقون إلى خطبة ودها وانتجاع رضاها. ولكنها كانت ترد جميع خطَّابها يتعثرون بأذيال الخيبة قائلة إنها اختبرت حظها من الحياة الزوجية غير مرَّة ولم يبقَ لها أقل ميل إلى تكرار التجربة والاختبار، على رغم ما تراه من المغريات المشوِّقات. وهي في حالتها الحاضرة ناعمة بظلال الراحة والهناء لا تجد مسوِّغًا لمحاولة التبديل والتغيير.

ومع ظهور ولي العهد في طليعة خطَّابها وطالبي الاقتران بها، ظلَّت مصرَّة على عزمها، ولم تتزحزح عنه قيد شعرة. وغير معلوم لدينا أين التقى ولي العهد والأرملة الحسناء وكيف تعارفا. فالبعض يزعمون أنه لقيها في رتشموند، ويظن آخرون أنها بهرت عينيه بحسنها حين رآها في لوج اللادي سفتون في الأوبرى. ومن المحقق أنه لم يلبث بعد مشاهدته لها أن صار في مقدمة أسراها العانين لها والمشغوفين بها. ومما ينبغي ذكره ولا يصحُّ إغفاله أن ولي العهد جوج كان من أجمل الشبان طلعةً وأنبههم شأنًا وأسلمهم ذوقًا وأحسنهم تناولًا. وكان معدودًا في عصره ملك الثقافة والتأنق في استطراف الملابس والظهور في كل مظهر مستملح مستظرَف.

هكذا كان الشخص الذي ظهر على مسرح التمثيل في حياة عقيلة فتزهربرت، وقُدِّرَ له أن يمثل منها أعظم فصل انتهى بخاتمة مفعمة بالحزن والأسى. على أن أرملة فتزهربرت لم تواجه هيامه بها بشيء من التشويق والتشجيع، بل قابلته بالفتور والجفاء؛ لأنها لم تكن من النساء اللواتي يحملهن النزق والطيش على الاستسلام إلى هوى الأمراء والكبراء مهما يكن جمالهم بديعًا ومقامهم رفيعًا، والتعرض لما قد يكون في ذلك من خطر سوء الصيت وخبث الأحدوثة. ومما زادها حذرًا واحتراسًا أنه كان أصغر منها سنًّا وشديد التعرض للتقلب والتحول. ولكن إعراضها عنه ونفورها منه لم يكونا إلا ليزيدا نار هيامه احتدامًا واضطرامًا.

وفي كتبها إليه بيَّنت موقفها تجاهه بما لا مزيد عليه من الوضوح والصراحة، فأجابته مرة حين سألها أن توافيه بعد الخروج من حفلة رقص قائلة: «أوافيك؟ كيف أوافيك؟ بل كيف تطلب إليَّ ذلك أنت ولي العهد المشهور في كياسته وسلامة ذوقه؟ أيصح في شرعك أن أُقدم على لقاء كهذا أو أخاطر بما لي من حسن الصيت وطيب الأحدوثة؟» وكتبت إليه مرة تقول: «لماذا تقصر اهتمامك عليَّ؟ فالنساء اللواتي هنَّ أجمل مني لا يحصين عددًا. اختر لنفسك منهن من تشاء ودَعْ مرغريت المسكينة وشأنها.»

وقد بذل ما يستطيعه من الجهد في سبيل استمالتها إليه فلم يظفر بطائل، ولما هدَّدته بفصم عرى صداقتها له إن لم يكفَّ عن إعناتها وإزعاجها، صاح بصوت اليائس الجازع: «آه! ليتني كنت قادرًا أن أهدم سياج التفوق الذي يفصلني عنك! إذن لتمكَّنت حينئذٍ من الوقوف أمام والدتي الملكة ومعي زوجة تضارعها في الفضائل، وأنا وشعبي في أشد احتياج إلى الاقتداء بمثالها والنسج على منوالها. ولكن آهٍ من غرور الحياة وأباطيلها! إني شاعر باستحالة ما أروم، وآسَف على ذلك من صميم فؤادي. فلا تحرميني التمتع بصداقتك، وهبي من لدنك عزاءً لقلبٍ حزينٍ كسيرٍ.»

إلى هذا الحد بلغ اليأس والقنوط بولي العهد حين أخفقت مساعيه وخابت آماله، فهدَّدها غير مرة ببخع نفسه والقضاء على حياته إن أصرَّت على رفض طلبه. وزاد عليه أن أخرج تهديده ذات يوم إلى حيز الفعل محاولًا الانتحار. وخلاصة ذلك نقلًا عن اللورد ستورتن:

«جاء يومًا الجراحي كيث واللورد أنسلو واللورد سوثمبتن والمستر إدورد بدفري مسرعين إلى منزل عقيلة فتزهربرت قائلين إن ولي العهد طعن نفسه بخنجر، وإن حياته في خطر لا ينقذه منه إلا إسراعها في الذهاب إليه. ومع شدة إلحافهم عليها في الذهاب أصرَّت على الامتناع. ولما تمادوا في اللجاج وأسرفوا في التوسل والاستعطاف، أجابت طلبهم مشترطة عليهم أن تصحبها سيدة ذات مقام رفيع؛ لأنها كانت موجسة خوف الوقوع في مكيدة تجر عليها العار والشنار. فانتدبوا دوقة ديفونشر وأخذوها معهم. ولما وصلت أرملة فتزهربرت وجدت الأمير مضرجًا بالدماء وعلى وجهه صفرة الموت، فراعها منظره وكاد يغشى عليها من شدة الجزع والاضطراب. وقال لها الأمير إنه لا شيء يثنيه عن عزمه على تجرع كأس الموت إلا أن تَعِدَه أن تصير زوجة له، وتأذن له أن يضع خاتمًا في إصبعها. وأظن أن الخاتم الذي استخدم حينئذٍ في هذه الغاية لم يكن من عند الأمير بل استعير من دوقة ديفونشير. وسألتها عقيلة ديفونشير بعد ذلك أَلَا تظن أنهم احتالوا عليها بما لفَّقوه لها من حكاية محاولة الانتحار، وأن ما رأته على ولي العهد لم يكن دمًا؟ فأجابت سلبًا وقالت إنها رأت بعينيها غير مرةٍ أثر الجرح، وإنها عندما ذهبت إليه يوم طعن نفسه شاهدت قرب سريره قليلًا من الكونياك ممزوجًا بالماء.»

لكنها بعدما عادت إلى منزلها وخلت بنفسها وراجعت تفاصيل هذه الحادثة ناظرة إليها بعين التأمل والتدبر، اتضح لها فساد ما سبقت واعتقدت صحته، وتحقَّقت أنها أخذت بحيلة سافلة، وأن شعيرة الزواج التي حصلت (إي إلباسها الخاتم) أضحوكة لا قيمة لها. فساءها ذلك وأضرم في قلبها نار الغيظ والحنق، وكتبت إلى اللورد سوثمبتن تُوسعه تقريعًا وتوبيخًا على ما بدا منه ومن رفقائه من الخداع الشائن المعيب. وفي اليوم التالي برحت إنكلترة وهامت على وجهها في عواصم أوروبا محاولة تناسي هذه الإهانة والهرب من وجه محبِّها.

وحينما بلغ الأمير جورج فرارها تنازَعه عاملا حزن وغضب كادا يذهبان بصوابه. وقد وصفته عقيلة فوكز للورد هولند بقولها: «زارنا يشكو إليَّ وإلى زوجي تباريح هجر حبيبته له، فرأينا في بكائه وانتحابه، وفي كل حركةٍ أبداها وكلمة نطق بها دليلًا واضحًا على شدة محبته لها وشغفه بها. وقد أقسم ليهجرنَّ وطنه وتاجه وكل غالٍ عزيزٍ عنده ويتبعنَّها ولو إلى أقاصِي الأرض.»

ولكنه كان غير قادرٍ أن يبرح إنكلترة بلا إذن أبيه الملك، وقد رفض أبوه أن يأذن له في ذلك على رغم ما بذله من التوسل وما ذرفه من الدموع. وكان الملك جورج الثالث قد لقي من طيش أخويه وانبعاثهما في العشق والغرام ما أحرج صدره وأذهب صبره، ولم يترك عنده أقل جَلَد لتحمل شيء من هذا من ابنه ولي عهده ووارث عرشه من بعده.

فاستعان جورج بالرسل فانتشروا في عواصم أوروبا وأمهات مدنها يفتشون ويبحثون عن حبيبته الشاردة. ولما وجدوها في هولندة أخبروه، فكتب إليها رسائل مطوَّلة يبثها فيها شوقه وغرامه، ويصف لها ما يعانيه في نواها من العذاب الأليم، ويتضرَّع إليها أن ترأف به وتعطف عليه وتسرع في العودة إليه، وإلا عرَّض نفسه للردى وذهب شهيد حبها وغرامها.

ولا يخفى أن إلحاحًا شديدًا كهذا لا بدَّ له من أثرٍ، وهكذا حدث، فإن عقيلة فتزهربرت لم يسعها أن تظل إلى النهاية مُغضِية عنه؛ لأن قلبها الرقيق لم يطاوعها على ذلك. فأخذت تشعر بشيء من الندامة وتوبيخ الضمير. وكانت قد سبقت فوعدته أنها لن تتزوج غيره، والآن ارتضت أن تقترن به إن لم يعارض الملك في ذلك، وعلى شروط أرضت ضميرها وإن لم يكن لها حق شرعي في أن تكون زوجة الأمير.

وفي يوم من شهر ديسمبر سنة ١٧٨٥ رجعت إلى منزلها في بارك لاين، ولم يخطر قط في بالها في وقت انهماكها بالاستعداد للزواج أن الرجل الذي قبلته زوجًا لها يصرِّح لعقيلة فوكز وزوجها بأنه لا صحة على الإطلاق لما يشاع من عزمه على الاقتران بأرملة فتزهربرت.

وفي اليوم الخامس عشر من شهر ديسمبر احتفل بزواجهما في منزلها، وقام بصلاة الإكليل قسيس شابٌّ يدعى روبرت بورت بأجرة قدرها خمسمائة جنيه، مشفوعة بوعد رعايته والعناية به في المستقبل. وحضر الأمير ماشيًا يصحبه أورلندو بردغمن. وقدَّم العروس خالها المستر أرنتون، وكان هو وأخوها جاك سميث شاهدَيْن. وبما لا مزيد عليه من الحذر والتكلُّم جثا العروسان — ماري فتزهربرت وجورج ولي العهد — وفاها بالعهد الذي جعلهما زوجين.

وقضيا بعد ذلك سنة أو أكثر في صفاء وهناء لا يفارق أحدهما الآخر. وهذا الاتصال بينهما صار مصدرًا لكثير من الإشاعات والأقاويل. وكانت أحوال الأمير المادية تزداد ضيقًا وعسرًا، ومسَّت الحاجة إلى عرضها على مجلس النواب، وهذا ما شدَّ عليه وطأة الحيرة والارتباك. فمن جهة كانت حاجته إلى المال بالغة أقصاها، ومن جهة أخرى يجب إبقاء زواجه سرًّا مكتومًا؛ لأن اقترانه بزوجة كاثوليكية يقضي بحرمانه حق الجلوس على العرش.

فلأجل التخلُّص من هذه الورطة انساق بدافع جبنه وضعف عزيمته إلى إغراء صديقه فوكز بالتصريح في مجلس النواب بأن خبر اقترانه بعقيلة فتزهربرت من أقبح التخرصات السافلة والأراجيف الشائنة. وبناءً على هذا التصريح قرر المجلس إيفاء ديونه ووافق على إضافة مبلغ عشرة آلاف جنيه إلى الاعتماد المخصص لنفقاته. ويقول اللورد ستورتن إن ولي العهد بكَّر في صباح اليوم التالي إلى أرملة فتزهربرت وقال لها: «يسوءني جدًّا أن أخبرك بما فعله فوكز أمس، فإنه وقف في مجلس النواب وأنكر صحة اقتراننا. فهل سمعتِ بأفظع من هذا الأمر؟» فلم تجِبه بشيء، ولكنها امتقعت وعلا وجهها قتام الغيظ والغضب.

ولما أخبرته أنها بعد حدوث هذا الأمر المعيب لا يمكنها أن تعيش معه، أكَّد لها أنه لم يفوِّض إلى فوكز التصريح بإنكار اقترانهما، وأنه سينشر بيانًا يكذِّب فيه هذا التصريح. وبعد أيامًا ألقى شريدان بيانًا موعَزًا به من ولي العهد، وهذا البيان مع عدم الاعتراف فيه بالزواج يحمل سامعيه على الاستدلال والحكم بأن عقيلة فتزهربرت لم تكن سريَّته.

فعادت المياه بينهما إلى مجاريها بخيانة مزدوجة كان وجهها الأول ادعى للاحتقار والامتهان من وجهها الثاني. واستأنفت أرملة فتزهربرت علاقتها بزوجها الجبان ولكن على غير ما يرام من الصفاء والوئام.

وإليك وصفًا موجزًا لبعض ما كانت تعانيه منه في تلك الأيام مقتبسًا من مذكرات المستر ريكس، قال: «كان الإفراط في تناول المُسكِرات شائعًا في ذلك الحين، وكان من عادة عقيلة فتزهربرت ألَّا تنام قبل مجيء قرينها. وكثيرًا ما كانت تسمع بعد نصف الليل وقع أقدام على الدرج تستدل منه على مجيء زوجها مع بعض أصحابه، وقد لعبت برءوسهم سَوْرة الخمر وهم يضجُّون ويعربدون، فتفرُّ هاربة من وجوههم مختبئة تحت إحدى الأرائك أو المتكآت. وكان الأمير يدخل وإذ لا يجدها في البهو يستل حسامه هازلًا مازحًا، ويأخذ في البحث عنها حتى يعثر عليها فيجرَّها من مخبئها مروعة مذعورة.

ولكنها على رغم ما رأته فيه — ولم تكن تعلمه من قبل — من قلة الأمانة والإخلاص وسرعة التقلب والتحول، وشدة الانغماس في مفسدات الأخلاق، لم تكن عيشتها معه خالية من بعض مظاهر الرغد والسعادة. وهذه السعادة الضئيلة القليلة كانت من وقت إلى آخر عرضة للحئول والزوال بما كان يشغلها من عسر الأمير المالي وضيق ذات يده.

وقد بلغ مرة من اشتداد عسره أنهما بعد رجوعهما من بريتون إلى لندن لم يستطيعا الحصول على مبلغ خمسة جنيهات كانا في أشد احتياج إليه. ولما تفاقم على الأمير خَطْب الإملاق وتراكمت عليه الديون، اضطر أن يلتمس النجاة من هذا الضيق الخانق بالاقتران بكارولين برنسويك، وكان ذلك على رغمه. فاستعان على تسكين جأشه وإخماد جذوة اضطرابه ساعة الاحتفال بزفافها إليه بتجرع مقدار كبير من الكونياك.

قال دوق بدفورد: روى لي أخي أن الأمير كان حينئذٍ في أشد حالات السكر، حتى إنه بالجهد استطاع أن يسنده ويحول دون سقوطه. وقد أفضى إلى أخي بأنه كرع عدة كأسات من الكونياك ليخدِّر بها أعصابه ويتمكَّن من تحمُّل هذه الصدمة — صدمة الاحتفال بالزواج على رغمه وضد إرادته.

وفي أثناء صلاة الإكليل ذرف الأمير دموعًا سخينة عندما كرر رئيس أساقفة كنتربوري القول: «هل عند أحد مانع شرعي؟» والتفت إلى الملك وإلى ولي عهده. أما النتيجة المالية التي أحرزها الأمير من هذا الزواج الإكراهي فكانت إيفاء ما تراكم عليه من الديون، وزيادة دخله حتى بلغ مائة ألف جنيه في السنة.

وما أبطأ جورج بعد اقترانه بهذه العروس الغنية أن أعلن شدة رغبته في الرجوع إلى «زوجته في عيني الله» مصرِّحًا جهارًا بأنه لا يستطيع أن يحب غيرها. لكن أرملة فتزهربرت أعرضت عنه إعراضًا تامًّا. ولما طلب إليها الملك والملكة وغيرهما من أعضاء الأسرة المالكة أن تقبل توسطهم في المصالحة بينها وبين الأمير، اشترطت أن يعترف البابا بصحة زواجها. وعندما وافق البابا على عقد الزواج عادت كما كانت قبلًا زوجة محبة وأمينة لزوج ساقط الشأن وإن كان رفيع المقام. وقضت معه ثماني سنوات على ما شاءت من الصفاء والهناء. وأحسن جورج معاملتها وبالَغ آلُهُ في إكرامها. وأطبق الناس على أنها جديرة بالاحترام اللائق بزوجة ولي العهد.

ولكن أنَّى يرجى دوام لأيام الصفاء والهناء مع رجل غملاجٍ قُلَّب حُوَّل كزوجها؟ فإنه لشدة تقلبه وعدم ثباته على حال واحدة، وتنقله في الحب من إحدى سيدات البلاط إلى غيرها، جرَّع أرملة فتزهربرت كثيرًا من غصص الشقاء ونكد العيش.

وكان آخرُ ما أمضَّها منه وأكرهها على تركه هيامَه بلادِي هترفورد الجميلة، ولفرط شغفه بها تحوَّل على زوجته وولَّاها ظهره. ولما أُعدت الوليمة الملكية للويس الثامن عشر حضرت عقيلة فتزهربرت المأدبة وسألت زوجها أين تجلس؟ فأجابها بقحَّة واحتقار لا مزيد عليهما: «لا محل لكِ يا سيدتي.» فأجابته بعزة وشمم: «نعم. ولكن لو شئتُ لكان لي.» وعلى الفور قطعت علاقاتها بهذا الزوج الجبان الروَّاغ، وبموافقة الملك وغيره من أسرته انفصلت عن الأمير، وذهبت إلى بريتون حيث أقامت إلى آخر أيام حياتها، وقد تعيَّن لها راتب قدره ستة آلاف جنيه في السنة.

وبعد ست سنوات جلس جورج على عرش أبيه فملك عشر سنوات، وقبيل وفاته أوصى بأن يدفن في فضلته (ثياب نومه) التي كان يلبسها حينئذٍ. ويقول اللورد البيمرل: «بعدما لفظ الملك النفس الأخير حضر دوق ولنتن الموكول إليه تنفيذ وصيته، ودخل إلى الغرفة الموضوع فيها جسد الملك، ودنا من سريره فوجد حول عنقه شريطة سوداء وسخة بالية فنزعها، وإذا فيها مثال صغير لصورة عقيلة فتزهربرت مرصَّع بالجواهر. ولأجله أوصى الملك بأن يدفن في الثياب التي كانت عليه.»

فحمل الملك جورج إلى ضريحه صورة التي وصفها في وصيته بقوله: «زوجتي المحبوبة المعبودة. قرينة قلبي ونفسي.» الزوجة التي أسرف في محبته لها وإساءته إليها. ورغبته هذه دلَّ عليها دلالة واضحة بما كتبه قبل موته قائلًا: «أروم أن أدفن وصورة زوجتي المحبوبة ماري فتزهربرت معلقة في شريطة حول عنقي كما كنت ألبسها في حياتي ومدلاة على صدري.»

وعاشت ماري فتزهربرت بعد زوجها سبع سنوات اكتسبت فيها محبة جميع الذين عرفوها لملاحتها وحسن تناولها وعكوفها على عمل الخير. وتوفيت في بريتون صباح اليوم التاسع والعشرين من شهر مارس سنة ١٨٣٧ وعمرها ٨١ سنة.

ويقول عنها غرنفيل: «لم تكن ذكية ولكنها كانت متفوقة في شرف نفسها وكرمها وأمانتها واستقامتها وصدق محبتها وصحة ولائها وعدم محاباتها. وكانت محبوبة من جميع أنسبائها وأصدقائها ومحترمة عند أعضاء الأسرة المالكة.» وظلت آثار الحسن والجمال بادية عليها إلى آخر يوم من حياتها.

قال غرنفلي بركلي: «لست أنسى ملامحها الباهية البهجة المزدانة بكل ما يبهر العيون ويسبي العقول. وهذا الحسن البارع الرائع لم يفارق وجهها وقوامها وسائر تقاسيمها حتى في كهولتها وبداءة شيخوختها. ودام محياها في أيامها الأخيرة ساطعًا بقبس جمال ضئيل أشبه بشفق الأفق بعد مغيب الشمس. وبالاختصار أقول عنها إنها كانت امرأة خليقة بالتجلة والاحترام ولم يعوزها لتكون ملكة سوى التاج».»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤