مغامرة نسيبة هنري الثاني

حدث ذات يوم في سنة ١٧٦٦ أنه بينما كان المركيز والمركيزة بولانفيليه يسيران في مركبتهما الفاخرة، يجرُّها أربعة جياد بين باريس وضواحي قرية باسي، عرضت لهما فتاة صغيرة رثَّة الثياب حافية القدمين، وعلى ظهرها ولدٌ أصغر منها، وسألتهما صدقة، وقالت وهي تحاول أن تجاري خيل المركبة في مسيرها: «تصدَّقا يا سيديَّ بقطعة نقود على يتيمَيْن بائسين من سلالة هنري الثاني ملك فرنسا.»

فرمقها المركيز شزرًا وانتهرها معرِضًا عن توسلاتها. لكن الفتاة لمحت علامات الحنان والمؤاساة بادية على محيَّا المركيزة، فاستأنفت السير والاستجداء، وكرَّرت قولها السابق. وإذ ذاك التفتت إليها المركيزة وسألتها: «أين تسكنين أيتها الفتاة؟» ولما أخبرتها بعنوان مسكنها قالت لها: «اذهبي الآن، فسوف أنظر في أمرك.»

وفي اليوم التالي بعدما بحثت المركيزة عن هذين الولدين اللذين يدَّعيان هذا الانتساب السامي استدعتهما إلى قصرها، وساءها ما رأتهما فيه من الضنك والبؤس، وعزمت أن تتبناهما وتُعنى بهما وبأخيهما جاك.

ولم يكن في وسع المركيزة أن تتحقَّق صحة ما يدَّعيه هؤلاء الأولاد، وقد كفاها باعثًا على المبادرة إلى إغاثتهم أنها رأتهم في أشد حالات الشقاء بلا معين ولا منجد. فأقدمت على إنقاذهم من براثن الفقر المدقع. وبعد سنين وقفت على تاريخ ماضيهم، وهو من أغرب ما يُروى في تواريخ البشر عن كوارث الدهر ونوائبه.

فقد حدث قبل ذلك بنحو قرنين أنَّ ملك فرنسا هنري الثاني من أسرة فالوي رُزق ابنًا من إحدى سراريه — وكُنَّ كثيرات — فخصَّه بلقب بارون دي فالوي، وأقطعه كثيرًا من الضياع الغنية الخصيبة. ومن صُلب هذا البارون خرج عدد ليس بقليل من أعيان فرنسا وعظمائها، ولكن الإسراف والطيش كانا متأصلين في أسرة فالوي، فكانوا كلهم مطبوعين على البطالة والإمعان في الترفُّه والتنعم وتبيد أموالهم وتبذيرها في سبيل لذاتهم وشهواتهم. وقبل بداءة قصتنا هذه بسنوات قليلة هبط عميد هذه الأسرة من مصاف الأعيان إلى مستوى السوقة، وباع كل ما كان باقيًا عنده من العقارات، وأصبح قصره الفخم الأنيق مجلى العفاء والخراب، وزاد على هذا كله أنه تزوَّج فتاة من أوضع الفتيات شأنًا، وهي ابنة حارس غابة الصيد. وانبعث في السُّكْر والخلاعة وقضاء وقته بين الغوغاء، ومزاولة سرقة الصيد والبساتين وعرض ما يسرقه من الطيور والثمار للبيع على أطباق محمولة على رءوس زوجته وأولاده.

قلنا إنه فرَّط في كل ما ورثه عن أجداده من ثروة وجاه ورفعة شأن، ولكنه ظلَّ حريصًا على شيء واحد، وهو وثائق نسبه وحُجج انتمائه إلى تلك الأسرة العريقة في الشرف. هذه الأوراق بذل في الاحتفاظ بها جهدًا لا يوصف، وكان يخبِّؤها تحت فراشه القذر الوسخ ويُخرجها في أثناء سُكره وينظر إليها ثم يستخرط في البكاء والانتحاب ذارِفًا دموع الأسف على عزٍّ ظِلُّه زالَ وشرفٍ لونُهُ حالَ.

أما زوجته الوضيعة الأصل، فلم يكن لهذه الوثائق من قيمة عندها سوى اتخاذها وسيلة للاستنجاد بالأغنياء والعظماء. وهذا الفكر خطر ببالها أخيرًا كأنه بإلهامٍ، فقالت في نفسها: «لماذا لا نذهب بهذه الأوراق إلى باريس ونستخدمها هناك في سبيل الحصول على قليل من المال لسد العوز؟ هناك يجد سليل هنري دي فالوي على الأقل ما يستر عورة فقره ويكفيه تصعير خده للناس بالتسول والاستجداء، ويَحول دون تعرُّضه لتجربة السرقة والسلب.» وبناءً عليه نهض اللص الشريف ذات يوم هو وزوجته واثنان من أولادهما وغادروا مظهر شرف الأسرة ومسرح عار سليلها، وساروا قاصدين باريس. وأما ولدهما الثالث ماريان، فإذ كانت أصغر من أن تستطيع قَطْع هذه المسافة البعيدة مشيًا على قدميها، تركاها عند باب بدَّال (بقَّال) تستندي جوده وعطفه بصمت أبلغ من الكلام.

ولما بلغوا عاصمة فرنسا لم يظفروا بشيءٍ يحقِّق الآمال ويصدِّق الأحلام. فلم يثق أحد بصحة دعواهم، ولا وقفوا في باب إلا صدَّهم أصحابه وردُّوهم يتعثَّرون بأذيال الخيبة والإخفاق، فاضطروا أن يطلبوا خبزهم اليومي، ويدفعوا غائلة الجوع بالتكدية والتسول في الأزقَّة والشوارع.

وكان الأب (البارون) قد بلغ من العمر أرذله، ولقي من عاديات البؤس والشقاء ما نهك قواه وقوَّض أركان صحته، فلم يلبث أن قضى نحبه في أحد فنادق باريس. وليس بعيدًا أن يكون قد قضى جوعًا. وما أبطأت البارونة (زوجته) أن تعزَّت عنه بالاقتران بعائر أفَّاق كان من قبلُ جنديًّا، واسمه ريموند. ولمَّا نبت به باريس ولم يستطع الإقامة فيها، هجرها مستصحبًا زوجته وقد تركا أولادهما لرحمة العالم يعيشون كما شاهدناهم في بداءة هذا الفصل.

وكان من حسن حظهم أن لاقوا المركيزة بولانفيليه، فشملتهم بعطفها وحنوِّها، وحوَّلت عسرهم يسرًا، وأدخلتهم إحدى المدارس المجاورة. ولما بلغت جان — أكبر الأولاد — الرابعة عشرة، أرسلتها المركيزة إلى إحدى الخائطات لتتعلَّم فن الخياطة، ولكن الفتاة لم تستحسن ذلك، وشقَّ عليها أن تتحمَّل مشاق التدريب على تعلُّم هذا الفن وتُعنى بأعمال هي من شأن الخدم كالطبخ والغسل وكي الثياب وغيرها. نعم إنها نافعة ومفيدة، ولكنها لا تليق بمن يجري في عروقها دم الملوك. وبعد تكرار التوسلات وذرف الدموع رقَّت المركيزة لها وأخرجتها من سجنها وأبقتها معها في القصر كوصيفة أو رفيقة. وهذا ما كانت تصبو إليه وتعلِّل نفسها بالحصول عليه.

وكانت في أثناء وجودها مع المركيزة لا تكفُّ عن ذكر نسبها، وطلب تحقيقه وإثبات صحته، فأوعزت المركيزة إلى أحد علماء الأنساب أن يُعنى بالأمر. وبعد قليل جاءها بالخبر اليقين، وقال لها إن دعوى الفتاة صحيحة، وهي سليلة هنري الثاني دي فالوي ملك فرنسا. وبعد بضعة أسابيع ذهبت المركيزة بالأولاد إلى باريس وقصَّت حكايتهم على الملك لويس الخامس عشر نفسه، فأذِن أن تُدعى الفتاة جان الآنسة دي فالوي، وأن يلقَّب أخوها جاك بالبارون دي فالوي ويتعيَّن ضابطًا في الحربية، وأن يُعطى كلٌّ منهم من خزانة الحكومة ثمانمائة ليرة في السنة.

وقد شعرت الأختان بما لنسبهما من العظمة والشرف عندما أعلن الملك رغبته في أن تعتزلا العالم وتقيما في دير، على أمل أن تكونا آخر من ينتسب إلى بيت فالوي. وبناءً عليه أُرسلت جان وأختها ماريان إلى أحد الأديار، ولكن المركيز كان قد أحبَّ جان وطارحها أحاديث وجده وغرامه، فوجد منها أذنًا صاغيةً. ولمَّا دخلت الدير واصل زيارتها بلا انقطاع حتى اضطرت الرئيسة إلى إخراجهما كلتيهما.

فدخلتا ديرًا آخر، ولكنهما لم تلبثا أن خرجتا منه؛ لأنهما بعدما أثبتتا صحة نسبهما لم يبقَ في طاقتهما وهما سليلتا الملوك أن تعيشا عيشة الزهد والاعتزال. ولكن الضِّياع التي كانت لأجدادهما لم تزَل محجوزة عنهما، فذهبتا إلى الجهة التي فيها تلك الإقطاعات لتطالبا بردِّ حقوقهما المغصوبة. وهناك لقيتا من الحفاوة والإكرام ما يقصر عن وصفه أبلغ الكلام. ونزلتا ضيفتين كريمتين عند سيدة غنية تسمَّى عقيلة دي سرمونت. وفي بيتها أُقيمت لهما الاحتفالات، وأولمت الولائم، وتسابق الضباط الذين في ثكنة لونفيل إلى ترضِّيهما وخطبة مودتهما. ويقول أحد عارفي الآنسة دي فالوي في وصفها: «إنها كانت رشيقة القوام، وذات عينين زرقاوين تنفثان سحر الجمال، وفوقهما حاجبان سوداوان كأنهما قوسان ترسل عنهما سهام الافتتان إلى قلوب الخليين، ومع أن وجهها كان مستطيلًا قليلًا، وفمها يزيد في اتساعه عن القدر المطلوب، فإن أسنانها كانت في بياضها وحسن انتساقها كاللؤلؤ المنظوم، يزيِّنها ابتسامة شائقة رائقة. وكانت جميلة اليدين نحيفة القدمين، ولكنها كانت عارية من حلية الأدب.» وهذا النقص كان أهم ما عرفت به في حياتها، وظل أكبر عامل فيما أقدمت عليه ووجَّهت التفاتها إليه.

وكان في طليعة عشَّاقها البارون دي لامونت، وهو شاب حسن البزة بهي الطلعة، ولكنه عاطل من حلية العقل والأدب، وقد قَبِلته الآنسة دي فالوي خطيبًا لها بعدما عبثت بضيافة عقيلة دي سرمونت بطول المكث وشدة التثقيل عليها وانتظام زوجها في سلك المغرمين بضيفتها غير المحتشمة.

ولم يمضِ على اقترانهما وقت طويل حتى رأت جان أنهما في عُسر مادي لا يطاق؛ فإن زوجها لم يكن له من الدخل فوق راتبه من الجيش سوى جنيه واحد في الشهر. ولم يبطآ أن أصبحا رازحَيْن تحت حمل دين ثقيل. وكانت البارونة مع شدة وطأة الفقر عليها، لا تنفك تواصل عيشة التبذير والإسراف. وحينئذٍ لم ترَ بدًّا من السعي فيما يخفِّف عنها أعباء البؤس والشقاء. ومن فورها قصدت ولية نعمتها المركيزة، وقرعت باب جودها وحنوِّها. وكانت المركيزة إذ ذاك في قصر سافرن نازلة ضيفة على الكردينال الأمير لويس دي روان، وقد أحسنت تمثيل حكاية بؤسها وضنكها، وهاجت الشفقة والرأفة في قلب المركيزة ومضيفها، فأوفت المركيزة ديونها كلها، وبادر الكردينال — وكان من أكبر الخاضعين لسلطة جمال النساء — إلى بسط ظل حمايته عليها.

وبعد اتصالها به واختبارها له وجدته على جانب عظيم من قلة العقل وشدة الغباوة وسفاه الرأي. وكان هذا كله لحسن حظها؛ إذ رأته خير وسيلة يسهل عليها استخدامها لقضاء مآربها. وفيما كانت تمهِّد السبيل لإدراك بغيتها بذلت جهدها في التقرُّب إلى سيدات البلاط، فأوهمتهنَّ بأنها صديقة حميمة للملكة ماري أنطوانيت، وأطلعتهن على عدة رسائل مكتوبة حسب الظاهر بخط جلالتها، ولكنها بالحقيقة مزوَّرة بخط أحد أصدقاء زوجها. وفي كلٍّ من هذه الرسائل تخاطبها الملكة بقولها: «حبيبة قلبي، وأعز صديقة لي، الكونتس» (متعمدة انتحال هذا اللقب). ولكن هذه الاحتيالات كلها لم تجدِها نفعًا حتى عند سراري الملك. فأعرضن عنها ولم يعِرْنها أقلَّ التفات، فوجَّهت اهتمامها إلى جهة أخرى، ولم تجد ما يشفي غليلها من هذا القبيل سوى التذرُّع بالكردينال الذي كان في هذا الوقت قد أصبح متيَّمًا بها، وعبدَ رقٍّ لها تأمره بما تريد وتنهاه عمَّا تشاء.

وكانت أخلاق الكردينال مظهرًا لكثير من مواضع الضعف ووهن العزيمة. واطَّلعت البارونة جان على أهم موضع منها وصوَّبت إليه حملات التسلُّط بما لا مزيد عليه من الدهاء والاحتيال حتى استأثرت به وأخضعته لسلطانها. وخلاصة ذلك أنه لمَّا كان في فينَّا منذ سنوات اطَّلعت ماري تريزا إمبراطورة النمسا على أعماله المغايرة للحشمة والأدب والعابثة بكرامة رتبته الدينية، فازدرته واحتقرته، ولم تقتصر على كراهتها له، بل حملت ابنتها ماري أنطوانيت أن تحذو حذوها، فلم تأذن للكردينال في الدخول إلى القصر الملكي في باريس.

وقد قضى وقتًا طويلًا يسعى في استعطافها وترضِّيها، واستخدم كثيرًا من الوسائط وأنفق مبالغ باهظة من الأموال، فذهبت كلها أخيب من صرخة في وادٍ أو نفخة في رمادٍ. وكان لشدة غروره واعتداده بنفسه يظن أنه إذا تمكَّن من المثول أمام جلالة الملكة ماري أنطوانيت يستطيع أن يستبيها بفصاحة لسانه وسحر بيانه وحسن صفاته وجمال منظره، ويحوِّل كراهتها له إلى إعجاب واستحسان إن لم يكن إلى غرام وهيام. ولكن هذا الشيء الوحيد — المثول أمامها — لم يقدر عليه؛ لأن ماري أنطوانيت أبت أن تراه إباءً مطلقًا.

وأمام هذه العقبة الكئود سنحت الفرصة لقرينة دي لاموت — الكونتس جان — واتسع مجال العمل. والإيهام الذي حاولت أن تأخذ نساء القصر بحبائله ولم تفلح، حاولت الآن أن تنصب أشراكه للكردينال. فأوهمته أنها أعز الصديقات على الملكة، ولكيلا تُبقي عنده أقل ارتياب من صحة هذا الأمر أرته رسائل جلالتها إليها مفعمة بتعابير الشوق والمحبَّة والإعزاز، وقالت له إن جلالتها متعلِّقة بها تعلُّقًا يتعذَّر وصفه؛ ولذلك هي مستعدة على الدوام أن تجيبها إلى ما طلبت، وليس في وسعها أن ترفض لها التماسًا مهما يكن أمره عظيمًا. ومن أسهل الأمور عليها أن تحمل جلالتها على الرضا عنه والميل إليه، وستبذل جهدها في قضاء الحاجة حتى يتمكن من دخول القصر على السعة والرحب.

فسُرَّ الأمير لويس دي روان (الكردينال) بهذا الكلام، وطفق يعلِّل نفسه ببلوغها غاية المنى حين تعطف عليه الملكة بنظرة وابتسامة. وبعد ذلك — من يعلم؟ — فقد يتمكَّن بحسن تناوله وبراعة أساليبه أن ينال منزلة في قلبها لم ينَلها أحد سواه.

وما عتَّمت قرينة دي لاموت أن جاءته مسرعة تتلو عليه بشرى نجاح مسعاها، قائلة له إنها تمكَّنت من إقناع الملكة بإخلاصه وولائه، ومحت ما كان عالقًا بذهنها من آثار البغض له والحقد عليه. ثم ناولته رسالة من الملكة إليه تعلن فيها رضاها عنه، فلم يبقَ عنده مجالٌ للشك في ما حدَّثته به. والرسالة نفسها أصدق شاهد، وهي مكتوبة بخط الملكة وممضاة: «صديقتك ماري أنطوانيت». وبعدما تلاها هذا الغرُّ الأبله قرَّبها إلى شفتَيْه وأشبعها تقبيلًا. ثم تلتها رسائل أخرى كلٌّ منها تفوق سابقتها في عبارات الشوق والمحبة، حتى خُيِّل إلى روان أنه أصبح في أوج السعادة، وأن السيدة العظيمة الشأن التي طالما أبت أن تشاهده، صارت الآن صديقته، بل أقرب إليه من صديقة له كما تدل عباراتها. ولم يبقَ لتتمة مشتهاه سوى أمر واحد، وهو أن يحظى بمقابلتها ويسعد بتقبيل يدها. وهذا ما وعدت حليفته البارونة أن توصله قريبًا إليه، وتسبغ نعمته عليه.

وكان الوعد بالمقابلة أسهل جدًّا من تهيئتها وتعيين زمانها ومكانها. ولكن السعد الخادم لقرينة دي لاموت أعانها على تذليل هذه العقبة. ففي ذات يوم لقي زوجها فتاةً بينها وبين الملكة مشابهة شديدة في الوجه والقامة. فتعرَّف لها وطلب إليها أن تصحبه إلى بيته. فلما رأتها قرينته سُرَّت بها سرورًا عظيمًا؛ لأنها ضالتها المنشودة. وكان اسمها ليغاي، وهي فقيرة تعيش بما تأخذه من الأجرة على ترتيلها في الكنيسة، فقالت لها جان أنها صديقة الملكة العزيزة، وأن جلالتها طلبت إليها أن تجد لها فتاة تمثِّل أمرها بخدمة تعيِّنها لها، فتجيزها عليها بمبلغ خمسة عشر ألف فرانك. وعلى الفور أعلنت الآنسة ليغاي استعدادها لهذه الخدمة مبتهجةً أشد ابتهاج بشرف خدمة الملكة وعِظم مقدار الأجرة.

وبعد أيام زَفَّت جان إلى روان (الكردينال) بشرى وعد الملكة أن تقابله سرًّا تحت ستار الظلام في حديقة قصر فرسايل. ففاضت كأس بهجته وسعادته، وكاد لبُّه أن يطير من شدة الجذل، وأخذ يعدُّ الساعات، بل الدقائق والثواني. وفي الوقت المعين دخل الحديقة، وطفق يروح فيها ويجيء وفؤاده يوشك أن يقفز خارجًا من فمه من شدة الهياج والاضطراب، وبعد دقائق ظنَّها ساعات وأيامًا جاءته الكونتس وأسرَّت إليه قائلة: «أسرِع، فإن الملكة في انتظارك!» والتفت حوله فرأى سيدة في حلَّة بيضاء قادمة نحوه مستذرية بظل سور الحديقة. فجثا على إحدى ركبتَيْه وانحنت السيدة فوقه بقامتها الطويلة الرشيقة، ووضعت في يده وردة، وقالت له بلهجة سحرت لبَّه: «ما أظنك تجهل معنى هذا.» وقبلما تمكَّن من جمع شمل أفكاره المشتتة فارقَتْه بسرعة وغموض لا مزيد عليهما، ولبث وحده يُمطر العشب الذي وطئته قدماها بقبلات شوق أحر من الجمر.

وفي مساء ذلك اليوم كتب إلى ماري أنطوانيت يقول: «إن تلك الوردة الساحرة مغروسة في قلبي. وسأحتفظ بها كل حياتي؛ لأنها تحيي فيَّ ذكرى أسعد ساعة في عمري.» ثم سلَّم الرسالة إلى الكونتس. وبعدما تلتها على انفراد وأوغلت في الضحك والاستهزاء بكاتبها، جعلتها طعام النار. وفي تلك الساعة نفسها كانت الآنسة ليغاي جالسة في أحد المطاعم تراجع في أفكارها الفصل المضحك الذي أجادت تمثيله، والأجرة الكبيرة التي نالتها عليه.

ولم يبقَ عند الكردينال أقل شك في شغف الملكة بمحاسنه وفوزه بصداقتها، بل بتملُّكه قلبها. ولشدة سروره وابتهاجه، أعطى الكونتس مبلغ خمسين ألف فرنك، ثم مبلغ مائة ألف فرنك، مصدِّقًا قولها له إن الملكة في أشد احتياج إليهما.

وبعدما قبضت جان هذين المبلغين ذهبت هي وزوجها إلى حيث كانا عندما اقترنا، وهناك قضيا أيامًا وعاشا عيشة تبذير وإسراف لم يروِ التاريخ أشد منها؛ إذ كانا ينفقان المال على الولائم والمراقص جزافًا بلا تدبُّر ولا حساب، حتى لم يُبقيا على شيء من المائة وخمسين ألف فرنك، وعادا إلى باريس ينصبان فخاخ المكر والاحتيال.

واتفق حينئذٍ أن المسيو بومر أحد جوهريي البلاط، كان قد قضى سنين في البحث عمن يشتري قلادة من أنفَس الألماس وأغلاه، وهي تكاد تُعَدُّ نادرة في جمال صنعها وإتقان ترصيعها. وقد أنفق عليها كل ما عنده من المال، ولكنه لم يستطِع أن يجد من يقدِّرها قدرها ويشتريها ويدفع له ثمنها مليونًا وستمائة ألف فرنك، وقد عرضها على جميع قصور الملوك في أوروبا وعاد منها كلها بخُفَّي حنين. وبذل جهده في إغراء الملكة ماري أنطوانيت بابتياعها فلم يظفر، فلما ألحَّ مرة على جلالتها قالت له: «لا أجهل أن الملك لا يبخل عليَّ بثمنها، ولكني لا أروم شراءها. فخُذْها ولا تعرضها بعد الآن.»

فاشتمله اليأس من جرَّاء حبوط مساعيه، ولم يكن يشأ أن يحلَّ عقد نظامها ويبيعها حجارة كلًّا منها على حدة، ولم يسعده الحظ بلقاء من يريد أو يقدر أن يبتاعها كما هي. وكان كل سنة يتحمَّل فيها خسارة سبعين ألف فرنك ربا ثمنها. ولم يبقَ أمامه سوى شعاع أمل ضعيف بإمكان بيعه لهذه القلادة، فكان قد سمع بالكونتس دي لامرت وما بينها وبين الملكة من الصداقة الوثيقة العرى، وقال في نفسه إن كان في استطاعة أحد أن يحمل الملكة على شراء القلادة فإنما هو صديقتها هذه. وبناءً عليه ذهب بالقلادة إلى الكونتس راجيًا أن تسعى في تحويل الملكة عما عزمت عليه، وإقناعها بوجوب ابتياع هذه الحلية النفيسة.

لكنها قابلت رجاءه بالرفض والامتناع، وأبت المداخلة في هذا الأمر، فعرض عليها رشوة مقدارها ألف فرنك، وإذا بها استشاطت غيظًا وحنقًا، وأوسعته تأنيبًا وتوبيخًا، وصرفته من عندها محتقَرًا مهانًا. لكنه تحمَّل ذلك كله وجاءها مرة بعد مرة. وفي المرة الثالثة آنس بعض علامات الرضا والانقياد، ولم يفتأ يلحُّ ويلمِّح حتى فاز بحَمْلها على الرضا والقبول، فقالت له: «سأبذل جهدي في السعي، فإن نجحت فعلت ذلك عفوًا بلا توقُّع أقل جزاء. ولكن سواء نجحت أم أخفقت لا أروم أن يرِدَ ذكر اسمي في هذه المسألة.»

وبعد خروجه من عندها زوَّرت كتابًا من ماري أنطوانيت إلى روان، وكان حينئذٍ خارج باريس، تطلب إليه أن يرجع حالًا إلى العاصمة؛ لأنها في حاجة شديدة إلى مساعدته على قضاء أمر ذي شأن. وختمت الكتاب بقولها: «فإن شئتَ أن تفوز بمحبتي فلا تتأخَّر عن المجيء.» وعلى الفور أسرع الكَرَّة عائدًا إلى باريس. ومن الكونتس صديقة الملكة وكاتمة أسرارها اطَّلع على ما تروم جلالتها قضاءه؛ ألا وهو شراء القلادة لها.

قالت له الكونتس برزانة وحزم: «إن جلالة الملكة تروم إجراء المفاوضات بشأن شراء القلادة بما لا مزيد عليه من التكتُّم، ولو في الوقت الحاضر، مخافةَ أن يطلع الملك على ذلك ويغضب. ولمَّا كانت جلالتها لا تستطيع الآن دفع الثمن نقدًا، فهي ترغب في أنَّ نيافة الكردينال يضمن الدفع.»

فطابت نفس روان بهذه الثقة الكبرى التي لجلالتها به، وعَدَّ ذلك أوضح دليل على تعلُّق قلبها به. وتم شراء القلادة بمبلغ ١٦٠٠٠٠٠ فرنك بضمان الكردينال، مقسَّطًا أربعة أقساط في مدة سنتين بمقتضى صك مُمضى بخط الملكة. وتسلَّمت الكونتس القلادة لكي تعطيها للملكة بيدها. ولا حاجة للقول إنها لم تلبث أنِ انتزعت حجارة الألماس من القلادة وأعطت أكثرها لزوجها، فباعها في سوق الجوهريين بمبلغ يكفيهما أن يعيشا في سعة ورخاء مدة الحياة الباقية.

ولما كان الكردينال قد أصبح واثقًا بحصوله على رضى المليكة ومحبَّتها، ذهب إلى القصر لتقرَّ عيناه بمشاهدتها، فلم يلقَ إلا ما كان يلقاه سابقًا من الصدود والإعراض والاحتقار والامتهان، ولكنه لشد غروره وغباوته سهَّل على نفسه تجرُّع كأس هذه الإهانة بقوله: «ألست واثقًا بأني مالك قلبها؟ كفاني هذا. وليس ما لقيته من الصد والإعراض إلا من باب المواربة والتعمية، حتى لا يطَّلع الآخرون على ما بيننا من الغرام والهيام.» ثم عرض شيء آخر أوجب القلق والانزعاج. وهو أن الملكة شهدت غير واحد من الاحتفالات الرسمية، ولم تكن القلادة في عنقها. وهذه الحقيقة أثارت الريب والشكوك في قلب المسيو بومر. وقد زاد به القلق حتى إنه عندما بعث إلى جلالتها ببيان حساب بعض الأشياء التي ابتاعتها من عنده، انتهز هذه الفرصة وذكَّرها القلادة، وقال في ختام كلامه: «ويسرُّني كل السرور أن أرى أغلى قلادة في العالم يزدان بها جيد أجمل ملكة.» فلما قرأت الملكة هذه الكلمات ولم تفهم معناها قالت: «لعله مصاب بالجنون.»

ولكن يوم الحساب وكشف الحجاب كان قريبًا، فإنه لما حان وقت دفع القسط الأول وقدره ٤٠٠٠٠٠ فرنك، انتظر الجوهريُّ فلم يأخذ شيئًا. وكانت قرينة دي لاموت قد أعطت الكردينال مبلغًا زهيدًا ليدفعه إلى الجوهري ويطلب إليه بالنيابة عن الملكة أن يمهلها في الباقي. وفي هذه الأثناء لاحظ باسنج شريك الجوهري بومر أن إمضاء الملكة على صك القلادة ليس فيه إلا مشابهة قليلة لخطِّها … وهذا الشك تحوَّل إلى حيرة وذعر، فذهب باسنج شريك بومر إلى الكونتس مستوضحًا. فقالت له إن الإمضاء مزوَّر، والملكة لا علم لها بالأمر، وعليه أن يقتضي المال من الكردينال!

ولما بلغ الملكة خبر هذه الخدعة، حمي وطيس حنقها وغضبها، وازدادت سخطًا ومقتًا للكردينال، وألحَّت في وجوب اعتقاله هو وجميع شركائه في هذه الجريمة الشنعاء لينالوا ما يستحقونه من العقاب. وبعد ساعة جيء بالأمير دي روان إلى حضرة الملك والملكة ليسأل عمَّا فعل، فوقف أمامها وقفة ذل وعار حرَّكت ساكن الشفقة عليه من قلوب المشاهدين. وقد استطاع تحمُّل نظرات الحنق المنصبَّة عليه من عينَي الملك بشيء من التجلُّد. وأما نظرات الملكة التي لشدة غرامه بها أقدم على اقتراف هذا الإثم الشائن، فقد اخترقت أحشاءه وكادت تذيبه بنارها، فسأله الملك وشرر الغيظ يتطاير من كلماته: «مَن فوَّض إليك شراء القلادة لملكة فرنسا؟» فأجابه بلهجة الانسحاق والانكسار: «سيدة دي لاموت. وقد أعطتني كتابًا من الملكة، فظننت أن بإطاعتي لأمر جلالتها أكون قد تشرَّفت بخدمتها.» فاعترضته الملكة بصوت يقذف بحمم السخط والغضب قائلة: «ظننت! ظننت أنك تخدمني! أنت الذي منذ جاء أول مرة إلى القصر لم أكلِّمه قط بكلمة، ولا وجَّهت إليه أقل التفاتة!» ولما عرض الصك الموقَّع بإمضاء الملكة إجابةً لطلب الملك صاح: «ليس في هذا الإمضاء من المشابهة لخط الملكة أكثر مما فيه منها لخطِّي، وزِدْ عليه أنك وأنت الأمير الكردينال تجهل أن الملكة لا تمضي اسمها ماري أنطوانيت فرنسا. فاذهب على الفور واكتب إلى الملكة معتذِرًا مستغفِرًا، ولا تنسَ أنك بأمر الحكومة موقوف رهن التحقيق.»

وبعدما كتب عريضة الاستغفار، أُودِعَ هو والكونتس دي لاموت وزوجها والفتاة التي مثَّلت الملكة سجنَ الباستيل.

لكن الفرنسويين على بكرة أبيهم شقَّ عليهم أن يروا أحد أقطاب الكنيسة فريسة العار والشنار بيد الملكة التي كانوا يكرهونها، فأعلنوا مؤاساتهم له واستياءهم من تحقيره إلى هذا الحد. ولما جِيء به للمحاكمة استقبلوه على جانبَي الطرق كملك، وحين أُعلِنت براءته ثملت فرانسا كلها براح الحبور والابتهاج.

وكان دي لاموت قد تمكَّن من الفرار إلى إنكلترة، وأما قرينته فقد حوكمت وحُكِمَ عليها بأن تُجلَد متجرِّدة، وتُوسَم في كتفها كمجرمة أثيمة، وتقضي حياتها كلها في السجن. فسِيقت معوِّلة مولولة مكمومة الفم وموثوقة اليدين والرِّجلين، ووُسمت بميسم حامٍ بالحرف V — أول أحرف كلمة فالوي — في كتفها، وجُلدت جلدًا شديدًا أمام جمهور غفير من المشاهدين، ثم أُلقيت في مركبة بين حيَّة وميتة، فسارت بها إلى السجن. ولما دخلته ورأت أنها سوف تقضي غابر حياتها مع أسفل طبقة من النساء المجرمات، استولى عليها الرعب واليأس، فاستخرطت في النوح والبكاء وذرف الدموع وهي تصيح: «يا لفالوي! يا لفالوي!»

وخلاصة ما يُعرف عنها بعد ذلك أنها بمساعدة أصدقائها خارج فرنسا، ورشوة بعض الموكَّلين بحراسة السجن، تمكَّنت من الهرب متنكِّرة إلى إنكلترة حيث لقيت زوجها، ولمَّا تراكمت عليها الديون وكثرت الدعاوى توسَّلت أن تعيش بما توجر عليه من نشر مذكرات مفعمة بالفضائح والمخازي عن ماري أنطوانيت، بحيث كانت تضطرها أن تقطع لسانها وتشتري سكوتها عنها بمبلغ من المال مرة بعد مرة. وكانت كل مرة تقضي المبلغ المتفق عليه واعدة بالكف والسكوت، ثم تنكث الوعد وتستأنف هتك الأستار عن الأسرار ونشر الأخبار، وزوجها يلذُّ وينعم بإنفاق ما كانت تناله من المال.

ولمَّا تمادت في نكث مواعيدها للويس السادس عشر، على الوجه السابق بيانه، بلغ الغيظ من رُسل الدوق دورليان في لندن مبلغًا يفوق الاحتمال، وكانوا قد ابتاعوا منها مذكراتها، فتآمروا على الانتقام منها، وزوَّروا أمرًا بالقبض عليها، وذهبوا إلى بيتها قاصدين اختطافها وأخذها إلى فرنسا؛ حيث يذيقونها غصص النكال. ولكنها بعدما دخلوا غرفتها احتالت عليهم بالخروج لقضاء حاجة، وأقفلت عليهم الباب، وفرَّت ملتجئة إلى الطبقة العليا من أحد البيوت المجاورة. على أن أعداءها عالجوا الباب بالخلع والكسر، واندفعوا يفتِّشون عنها ومراجل الغيظ تغلي في قلوبهم، وما لبثوا أن عثروا على ملجئها، فقرعوا الباب طالبين فتحه وإلا كسروه.

وإذ ذاك أيقنت أنه لا وسيلة للهرب إلا من النافذة، ولم يخفَ عليها أن مصير فرارها منها إلى الموت. ولكنها لشدة هلعها أقدمت عليه وألقت بنفسها من النافذة، فسقطت في الشارع محطَّمة الجسم مهشَّمة الأعضاء. وبعد أيام ماتت، وكان ذلك في اليوم السادس والعشرين من شهر أغسطس سنة ١٧٩١، وبهذه الفاجعة انتهت حياة جان دي فالوي سليلة الملوك، وختمت حوادث لم يدوِّن التاريخ أشد منها مغامرةً واقتحامًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤