مجنون متوَّج

في أحد أيام شهر أغسطس من سنة ١٨٤٥ عمَّ الفرح والسرور جميع أنحاء بافاريا، واستيقظ الناس على قصف المدافع وقرع أجراس الكنائس تبشيرًا بأن قرينة ولي العهد الأميرة ماري — أو ملاك الله كما لقَّبها البافاريون — قد وَلدتْ وارثًا للعرش. وقلَّما لقي مولود في إحدى الأسرات المالكة ما لقيه هذا الطفل من مجالِي الابتهاج والحبور ومظاهر التجلة والتكريم. ولمَّا احتفل بعماده حملته الملكة تريزا بين ذراعَيْها أمام حوض المعمودية حيث نُضِحَ بماءٍ من نهر الأردن. وكثيرون من عظماء الملوك وقفوا كفلاءَ له. وسُمِّيَ لودوك١ باسم جده الملك، وكان لا يزال جالسًا على العرش، وباسم القديس لودوك؛ لأنه وُلِدَ يوم عيده.

ومع أنه وُلد في مهد الرخاء والترف، فقد رُبِّيَ في طفولته وحداثته تربية الشدة والخشونة، التي كان يجب أن يشبَّ منها أصدق مثال للرجولية الصحيحة. ففي سن الحداثة كان هو وأخوه أوتُّو المولود بعده يعيشان على أبسط الأطعمة من الخبز والجبن وقليل من اللحم وغيرها مما عافه لودوك واستكرهه، حتى إنه لما بلغ أشدَّه قال: «الآن أصبح زمام أمري بيدي، ولم يبقَ لأحد سلطة عليَّ. فأطلب ألَّا يخلو عشائي كل يوم من لحم الطيور وأنواع الكعك.» ولكيلا يتمكَّن هو ولا أخوه من شراء ما ينعمان بأكله كان المعيَّن لنفقتهما الأسبوعية نحو عشرة قروش. وهذا التقتير الشديد غاظ أوتُّو فاحتج عليه شاكيًا متذمِّرًا. ولما بلغه أن السنَّ الصحيحة تُباع بجنيه، ذهب إلى أقرب طبيب أسنان وعرض أن يبيعه أسنانه كلها؛ لأنه غير محتاج إليها.

وهذه الخشونة التي لابست معيشة الأميرَيْن في صغرهما لم تقف عند هذا الحد، بل جاوزته إلى تخريجهما في الصنائع، فتعلَّم لودوك صناعة البناء، وأوتُّو صناعة النجارة. وبعدما قضى لودوك وقتًا قصيرًا يزاول تعلُّم صناعته عند بنَّاء، ذهب إلى والدته وقال لها بلهجة العجب والافتخار: «أصبحتُ الآن بارعًا في بناء الآجر — الطوب — كأحذق البنائين.» فسألتْهُ ضاحكة: «وهل تظن أنك قادر أن تعيش من تعاطي هذه الصناعة؟» فأجابها: «نعم، قادر بسعة وغنى.»

ولكن على رغم هذه الخشونة كلها كان لودوك منذ حداثته مائلًا أشد الميل إلى التعلُّق بحبال الأوهام والهيام في أودية الرؤى والأحلام. وفي ذات يوم رآه مؤدِّبه مضطجعًا محقوقفًا على متكأٍ في غرفة مظلمة، فقال له: «ينبغي لسموك أن تلهو بشيء يشغلك ويدفع عنك سآمة البطالة وملل الفراغ.» فأجابه: «لستُ في بطالة ولا في فراغ، بل أنا مشغول بالتأمل في عدة أمور، وعلى ما أروم من البهجة والسرور.» وهكذا كان يقضي ساعات مستلقيًا على ظهره وسابحًا على أجنحة التخيُّلات. وفي منتصف إحدى الليالي وجدوه جالسًا بين المقابر وهو غارق في لجَّة الهواجس والوساوس.

وكان إذا جالَس الغرباء يستولي عليه الخجل والاستحياء، فيجلس مُطرِقًا لا يتكلَّم ولا ينظر إلى أحد منهم. وكان يبدي اشمئزازًا لا مزيد عليه من رؤية الدمامة (قبح المنظر) أية كانت. وإذا شاهد من يكرهه أو لا يستحسنه تقزَّز وتكرَّه وأغمض عينيه أو اختبأ وراء ستار حتى ينصرف الشخص المكروه.

فهل كان مجنونًا؟ لا ريب في أن الخلل العقلي الذي اعتراه في السنين الآتية كانت آثاره ظاهرة في صبوته كما يتضح من القصص الكثيرة التي رُويت عنه. فمنها أن أحد ضباط البلاط كان يتمشَّى يومًا في حديقة القصر، فرأى أوتو مطروحًا على الأرض وهو موثَّق اليدين والرجلين، وحول عنقه منديل يشدُّه أخوه لودوك ليخنقه به. ولمَّا بادر الضابط إلى إغاثة أوتو المشرف على الموت اعترضه لودوك وصاح به: «ليس لك حق المداخلة في ما لا يعنيك. وهذا الولد عبدي. وقد عصى أمري فأروم قتله.» وبعد بذل الجهد العظيم تمكَّن الضابط من إنقاذ حياة أوتو المسكين.

ومع شدة تسلُّط الهواجس والوساوس والخجل والاستحياء عليه كان ممتازًا بالحصول على كثير من صفات الرجولية. وفاق أقرانه بالبراعة في الألعاب الرياضية كلعب السيف والفروسية (حذاقة ركوب الخيل) والسباحة والرماية وغيرها من مقتضيات الحرب والكفاح. وعلى ذكر الفروسية نقول: رُوي عنه أنه عندما كان يتعلَّم ركوب الخيل رماه الجواد وأخذ مدرِّبه يضحك عليه لرعونته وطيشه، فحمي غضب الأمير عليه، وبعدما نهض انتهره قائلًا: «ليتك تستطيع أن تعلِّمني السقوط على وجهٍ لا يستدعي سرورك وضحكك عليَّ، ولستُ أرى ما يُضحِك في حادثة يتعرَّض لها أبرع الفرسان.»

وبعدما بلغ أشُدَّه أضاف إلى هذه الصفات حُسن الهيئة وجمال الطلعة، وكتب عنه من عرفه حينئذٍ يقول: «كان في الثامنة عشرة من عمره ذا شكل لم تقع العيون على أجمل منه. فكان يميس بقامة طويلة ممشوقة وجامعة لكل محاسن التناسق والتناسب. وشعره الأجعد يُلقي على رأسه شبهًا واضحًا لما مثل به اليونان البطولة والبأس. وكان أجمل ما فيه عيناه اللتان كانتا تسطعان ببهاء ساحر جاذب يتعذَّر وصفه بقلم كاتب. ومن نورهما المغنطيسي كانت تنبثق أشعة حزن عميق يعبِّر عن القلق والاضطراب العابثَيْن بدماغ صاحبهما.» وهاك ما وصفه به أستاذه وغنر: «كان فائقًا في جماله وذكائه. وأما سِحر عينَيْه فيفوق الوصف. فإن فسح الله في أجله كان آية عصره.»

ولمَّا كان ابن ثماني عشرة سنة احتفل بجلوسه مَلِكًا على عرش بافاريا بعد وفاة أبيه، وكان الاحتفال بتتويجه بالغًا حدَّ الأبهة والعظمة والفخامة. ولم يلبث أن أخذ يرأس مجالس رجال الحكومة، ويستقبل سفراء الدول بما لا مزيد عليه من البراعة والكياسة والظُّرف وحُسن التناول، واستمال إليه قلوب الرعية بحُسن رعايته لهم وعنايته بهم وعطفه عليهم. وخرج في موكب المهابة والجلال يعرض جيوشه لابسًا خوذةً أنيقة، وممتطيًا جوادًا أبيض يستحثُّه بمهمازَيْن من ذهب، وحوله كبار القادة والضباط. وفي هذه المظاهر كلها لم يبدُ عليه من علامات العته والجنون ما يجعله دون غيره تعقُّلًا وإدراكًا. ومع هذا كله كان جنونه كامنًا فيه يحاول الظهور على رغم مقاومته له، كما سنرى فيما بعد.

وبعد الاحتفال بتتويجه، سُرَّ البافاريون إذ علموا أن مليكهم عازم على الاقتران بابنة عمِّه الأميرة صوفيا شارلوت. وطفق رجال البلاط يستعدون ليوم الزفاف استعدادًا لا مثيل له، ولاحت على مُحيَّا الملك أمارات ابتهاج لا مزيد عليه، فقضى معظم أيامه يجول متنزِّهًا مع خطيبته إما في مركبته الملكية في شوارع مونيخ، وإما في زورقه في بحيرة ستارنبرغ. ولمَّا جاء اليوم المعيَّن للاحتفال بزفِّها إليه وجيء بالأميرة إلى الكنيسة، أعلن لودوك رفضه المطلَق للذهاب إلى الكنيسة، واضطرت العروس أن تعود من حيث أتت تذرف دموع الكآبة، والناس من حولها يتعثَّرون بأذيال الخيبة.

ثم فتشوا له عن عروس أخرى، وهي أرشديوقة نمسوية كانت مشهورة ببارع حسنها وجمالها. وكان الأمل وطيدًا أن بهاءها المنقطع النظير يمكِّنها من أن تنال نعمة الرضا والقبول في عينيه. ولكنه إذ كان ذات يوم يتمشَّى في حديقة قصره، لقي عروسه الحسناء تقطف وردًا وهي غير شاعرة بقُربه منها، ثم رفعت نظرها فرأته محملقًا وعيناه تقدحان شرر الغيظ والحنق، ثم أقبل عليها يوسعها سبًّا وشتمًا، فولَّت مذعورة وهي تبكي وتكتئب، ولم يبقَ فيها أقل مَيْل إلى مشاهدته مرة أخرى.

وكان ميله في أيام حداثته إلى العزلة والانفراد قد تجدَّد فيه الآن مشتدًّا كل الاشتداد، حتى باتت أعراض جنونه ظاهرة لكل ذي عينين. فكان في النهار يروع بمخاوف هائلة تشبُّ من طوق الحصر. وفي الليل يرى في حُلمه وجوهًا ملطَّخة بالدماء ملتهبة الشعور وهي محدقة بسريره ترقبه هازئة صافرة، حتى كان من شدة ارتياعه يندفع خارجًا من القصر ويركب حصانًا ويقضي الليل كله هائمًا على وجهه في الغابات فرارًا من هواجس دماغه وأخيلة أفكاره.

وكان عندما تخفُّ وطأة الوساوس عليه يستدعي مغنِّيات الأوبرَى إليه ليُطرِبنه برخيم إنشادهنَّ، وهو راكب زورقه في حديقة الشتاء التي أنشأها على سطح القصر، وكانت من أبهى جنان الأرض. وكثيرًا ما كان يستصحب أشهر مغنِّيات الأوبرى في ذلك الحين؛ وهي فرولين تشيفسكي. وحدث مرَّةً أنها وهي راكبة معه في الزورق رأته مستغرقًا في ذهوله وشرود ذهنه، فأخذت تعبث بشعره، فأفاق من ذهوله مغيظًا محنقًا، ودفعها بعنف دفعة أمالت الزورق وكادت تفضي إلى انقلابه وغرق من فيه.

وأحيانًا كان يتزيَّا بزي لوهنغرين (الموسيقي الشهير) فيتقلَّد السيف والترس ويضع على رأسه عفرة طويلة، ويقضي ليله في البحيرة في زورق خفيف تجرُّه أوزة كبيرة وحوله مئات من المشاعل والمصابيح المختلفة الألوان، ومراوح ريش تروح الهواء، والموسيقى تصدح بألحان رقيقة وراء خمائل الأشجار، أو يجلس في الأوبرى وحده صاغيًا لإيقاع تلاحين وغنر، حتى إذا سمع ما ساءه ولم يسرَّه، هاج غضبًا على الممثلين المنكودي الحظ.

وحدث مرة أخرى لمَّا كان الملك الشخص الوحيد السامع للغناء والمُشاهِد للتمثيل، أنَّ موضوع الرواية كان يتعلَّق بهبوب عاصفة عظيمة، فقصفت رعود المسرح وعصفت رياحه، وتلا ذلك أصوات هطول أمطار غزيرة على ما هو مألوف في المسارح، فازداد الملك مِن جرَّاء هذا هياجًا واضطرابًا، وصاح صارخًا من «لوجه»: «حسن! حسن جدًّا! شائق إلى الغاية! لكني أروم مطرًا حقيقيًّا. افتحوا أنابيب المياه! لقد رأيت بروقًا خاطفة، وسمعت رعودًا قاصفة ورياحًا عاصفة، فأروم أن أرى سيولًا جارفة.» فاعتذر مدير الأوبرى عن ذلك مخافةَ أن الأمطار تُتلف ما في الأوبرى من رياش وزخارف.

ولكن الملك لم يقبل هذا الاعتذار، وأصرَّ على طلب المطر الحقيقي قائلًا: «ليتلف ما يتلف. لا بأس، إني أروم الحصول عليه فعجِّلوا في فتح أنابيبه وإطلاق ميازيبه!» ولم يروا بدًّا من امتثال أمره، فتدفَّقت المياه الغزيرة على الأوبرى كلها وغمرت المسرح، وتناول رشاشها حُلَل المغنِّيين والمغنِّيات، وأتلفت كل شيء نفيس طريف. وظلَّ الممثلون والممثلات يوالون التمثيل الغنائي متجاهلين ما هو جارٍ، فسُرَّ الملك سرورًا لا يوصف، وأخذ يصفِّق ويصيح: «أحسنتم! أحسنتم كل الإحسان! لِيَزِدْ إيماض البرق وهزيم الرعد وعصف الزوابع وتهطال الأمطار! زيدوا! زيدوا! ومن يخالف أمري يُشنَق.»

وزاد فيه حب العزلة والانفراد حتى إن قصوره عادت لا تكفي لإجابة ما تمليه هواجسه وتخيُّلاته، فصار عندما تحزبه الوساوس وتشد وطأتها عليه يهجر القصور إلى بعض القرى ويقيم في خان أو بيت فلاح. وإذا اتفق أن أحدًا عرفه هناك طلب الاعتزال في مكان آخر. ولمَّا كان وزراؤه يعترضون على غيباته المتكرِّرة، كان يجيبهم بقوله: «من المحتَّم على كل أمير أن يفكِّر في واجبات دعوته. وهذا إنما يستطيعه إذا اعتزل البلاط وضوضاءه، وخلا بالله في ظلال سكون الطبيعة.»

ولم يقتصر جنونه على هذه الأمور، بل تعدَّاها إلى بناء المعاقل والقصور، فشاد منها كل فخم أنيق حصين، وأنفق عليها — على فرشها وتزيينها — نفقاتٍ لا تُحصَى.

وعلى رغم ما أنفقه من ملايين الجنيهات على هذه القلاع والصروح، ظلَّت الوساوس والرؤى والأحلام تساوره وتحرمه الراحة والسلام والطمأنينة. وكان لعدم استطاعته النوم يقضي أكثر ساعات الليل في مركبة يجرُّها ستة من أشد الجياد جريًا وإحضارًا، فكانت تجري به كالبرق الخاطف وهي تنهب الشوارع نهبًا. وكان منظرها في ظلام الليل الحالك أشبه بحكايات الجن؛ إذ يشاهد الناظر إليها شيئًا أشبه بأوزة ذهبية ناشرة جناحيها، وداخلها الملك النحيل الجسم الأصفر الوجه، متكئ على نمارق مخمل مطرَّزة بالفضة والذهب، وهي منورة بنور ساطع أنيق.

ومما زاده عتهًا وجنونًا عِلمُه أن أخاه أوتُّو حُكِمَ عليه بالجنون واعتُقل في قلعة نيمفنبرج. فاشتدَّ حزنه على فراقه، وأوجس خوف المصير إلى ما صار أخوه إليه. فغلا في اجتناب الناس غلوًّا عظيمًا، واتخذ جنونه شكلًا جديدًا غريبًا، فصار يبصق في وجوه الخدم، وإذا أساء إليه واحد منهم إساءة طفيفة ولو سهوًا على غير عمدٍ، كان يبالغ في ضربه والتنكيل به. حتى إنه بلغ يومًا عددُ الذين أصابهم بالجراح ٣٠، توفي واحد منهم بضربة من قبضة يده. وحَكم يومًا على خادم رفع نظره إليه أن يتقنَّع بقناع أسود سنة كاملة، وعلى خادم آخر أن يتزيَّا بزي أبله ويُطاف به على حمار في شوارع مونيخ. وأبى مفاوضة وزرائه إلا بواسطة سيَّاس خيله ومروِّضيها. وارتأى في يومٍ أن يُنشئ مملكةً في بلاد العرب. وفي يوم آخر أن هدَّد وزراءه بالنفي إلى أمريكا. وأمر مرة أن يُجلسوه في مركبة تجرُّها الطواويس. وطلب مرة أخرى أن يدخِّن الأفيون ويشرب خمر الرين والشمبانيا في كئوس بلور، وعلى وجوهها أوراق الورد والبنفسج. وغير ذلك من الأعمال الشاذة الغريبة التي يضيق المقام دون وصفها.

هذه الأعمال السيئة تَحمَّلها البافاريون في أول الأمر بما لا مزيد عليه من الصبر وسعة الصدر، حتى ضاقت صدورهم وفرغ مَعِين اصطبارهم وعزموا على خلعه، وألَّفوا لجنة عهدوا إليها فحص قواه العقلية، فقرَّرتْ أنه مصاب باختلال عقلي لا يستطيع من جرَّائه أن يحكم شعبه، وأن جنونه هذا لا يمكن إشفاؤه. فلما بلغه قرار اللجنة هاج هياج اللبؤة الفاقدة أشبالها، وصاح قائلًا: «لا أعارض في خلعي، وأما الحكم عليَّ بالجنون فلا أُطيق احتماله.»

ولمَّا جاء الوفد المعيَّن لإبلاغ خبرِ خَلْعه إليه وجدوا القلعة مخفورة بسَرِيَّة من الجيش كان قد استدعاها لحمايته ومعها جمهور كبير من الفلاحين المسلَّحين، وهم كلهم مستعدون لسفك دمائهم في سبيل الذود عن مليكهم المحبوب على رغم جنونه. وحينئذٍ عاد الوفد من حيث أتى. وفي اليوم التالي ذهبوا إلى القلعة فأخبرتهم الحامية أن الملك قضى ليله يهدِّدهم بالانتحار؛ ولذلك أذِنوا لهم في الدخول. ولمَّا اجتمعوا به خاطبه الدكتور غودن أحد أعضاء الوفد قائلًا له: «يسوءني جدًّا يا مولاي أن أخبرك بأن أربعة من كبار أطباء الأمراض العقلية قد فحصوا قوى جلالتك. وبناءً على تقريرهم تعيَّن عمك الأمير لويتبولد نائب الملك، وسأتشرَّف بالذهاب مع جلالتك إلى قلعة برغ.» وعلى الفور ساروا به إلى هذه القلعة التي لم يقُم فيها سوى يوم واحد.

فإنه في عصر اليوم التالي إذ رآه طبيبه الدكتور غودن مستردًّا شيئًا قليلًا من الهدوء والسكون خرج يتمشَّى به في حديقة القصر. وبعد مغيب الشمس خيَّم الظلام، وهطلت أمطار غزيرة واستبطأ الحرس رجوع الملك وطبيبه، واشتد القلق والخوف على سلامتهما، وأسرع الحرس في التفتيش عنهما وبأيديهم المشاعل والمصابيح، وركب الدكتور مولر زورقًا ومعه رجل آخر، وسارا يبحثان عنه في البحيرة.

قال الدكتور مولر: بينما نحن سائران في الزورق صاح رفيقي فجأةً وألقى بنفسه في الماء، وقد غمره إلى ما فوق صدره، وقبض على جثة طافية تسير مع التيار؛ وكانت جثة الملك، ثم جاءت بعدها جثة الدكتور غودن. وعلى أصوات الاستغاثة هرع الحراس إلينا وأخرجوا الجثتين من الزورق. ولم يكن على جثة الملك شيء من آثار الخدوش أو الرضوض بخلاف جثة الدكتور غودن، فإن وجهه كان مغشَّى بالخدوش، وفوق عينه اليمنى لطخة سوداء كبيرة أشبه شيء بأثر ضربة عنيفة بقبضة اليد، وعلى فمه ابتسامة لطيفة كما كان عهد الناس به في حياته. وهكذا يكون هذا الطبيب الخالد الذكر قد ضحَّى بنفسه وهو يحاول عبثًا إنقاذ حياة مليكه.

وبعد أيام وُضعت جثته في كنيسة القلعة وعليها ملاءة حرير بيضاء، وتقاطر شعبه من كل صوب لندبه والبكاء عليه. وكان الحزن عامًّا وشاملًا جميع رعيته رجالًا ونساءً، كبارًا وصغارًا، وكأنهم كلهم قد نسوا ما عرفوه من حوادث عتهه وجنونه. ولم يبقَ في لسان أحد منهم سوى «مليكنا لودوك المحبوب الجميل، النابغة الكريم، الذي أسر القلوب منذ كان ولدًا.»

١  يجب لفظ كافه كالجيم المصرية أو الكاف التركية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤