قصة باميلي الغامضة

مَن يزُر مدافن مونمارتر الشهيرة الباقية إلى الآن شاهدةً بتقانة رائعة، وناطقة بعظمة خالية، يجد بينها رمسًا ساذجًا مكتوبًا عليه هذه الكلمة «باميلي» فقط، ولا يرى معها تاريخًا ولا شيئًا آخر يدل أقلَّ دلالةٍ على الشخص المدفون فيه؛ ولذلك توارد على شفاه ألوف من الواقفين عليه هذا السؤال: «مَن كانت باميلي؟»

وفي أحد أروقة فارسيل الأنيقة صورةٌ مكتوب فوقها «درس القيثارة»، تمثِّل فتاة بديعة الحسن والجمال، تقلِّب صفحات كتاب موسيقى. فإذا سألتَ أحد الحجَّاب الواقفين هناك: مَنْ هذه الفتاة؟ أجابك: «باميلي»، كأن ذكر اسمها كافٍ للوقوف على كل ما يُراد إيضاحه.

والجواب عن هذا السؤال — مَن كانت باميلي؟ — كان متعذرًا حتى في وقت طفولتها وحداثتها حين كانت رفيقة لأولاد الأسرة المالكة. وفي عهد صباها حين صارت زوجة ابن دوق، ولا يزال إلى الآن — بعد مُضي نحو قرن ونصف قرن — مودعًا أطباق الغموض والخفاء.

في سنة ١٧٧٧، هاجت خواطر أولاد الدوق دي شارتر — وفيما بعدُ الدوق دي أورليان — عندما أخبرتهم مربيتهم مدام جنليس بأنه عن قريب يصل إليهم من إنكلترة ولد جميل الصورة ليصحبهم في لعبهم ودرسهم. ولما جاء الولد الغريب، وكان بنتًا، سُرُّوا به سرورًا لا يوصف؛ لأنهم وجدوها تفوق جدًّا وصف المربية في حسنها وجمالها وخفَّة روحها وسرعة خاطرها ونباهة شأنها.

وعلى الفور أخذ جميع الذين شاهدوا هذه البنت الصغيرة البارعة الجمال يسألون: من هي؟ ومن أين جاءت؟ وكان نخبة أهل البلاط من رجال ونساء في مقدِّمة السائلين عنها والمعجبين برائع حُسنها وبهائها. ولشدة اهتمامهم بمعرفة هُويتها وتعذُّر ذلك عليهم، شرعوا يتقوَّلون الأقاويل ويذهبون في التخرُّص والإرجاف كل مذهب. ومما أشاعه بعضهم أن هذه الفتاة ابنة غير شرعية لمدام دي جنليس. وبعضهم أسرف في الإرجاف وعدَّها نغلة الدوق دي شارتر، وأن الأولاد الذين جيء بها لمجالستهم ومعاشرتهم في الدروس والألعاب إنما هم إخوتها وأخواتها. وبعضهم جمع التهمتين معًا زاعمًا أن الدوق أبوها والمربية أمها.

لكن المربية ماطت اللثام عن حقيقة الفتاة، وأزالت الغموض والخفاء بوضوح وصراحة لا مزيد عليهما، فقالت إنها اتفقت هي والدوق على البحث عن بنت إنكليزية صغيرة تصلح لمرافقة أولاده ومعاشرتهم؛ ولهذا الغرض أرسل الدوق أحد رجال حاشيته — وهو المستر فورث — إلى إنكلترة. وفيما هو ينشد ضالته هناك عثر عليها في إحدى قرى همبشير؛ حيث وجد بنتًا عمرها خمس سنوات، زرقاء العينين، ذهبية الشعر، فريدة في حسنها وملاحتها.

وكانت أمها في فقر مدقع. وخلاصة حكايتها أن رجلًا يُدعى سيمور من أسرة معروفة، أحبَّها (وكان اسمها ماري سمس)، ولكونها وضيعة الأصل ولم يأذن له والده في الاقتران بها، فرَّ بها إلى نيوفوندلند، حيث ولدت ابنتها وسُمِّيت نانسي. ثم توفي زوجها وعادت وابنتها إلى إنكلترة، فأنكرها والداه ولم يعترفا بها ولا بابنتها، ونبذاهما، فاضطرت أن تعمل لتعيش هي وطفلتها. فعرض عليها المستر فورث أن يأخذ ابنتها إلى بلاط فرنسا، حيث يضمن لها مستقبلًا باهرًا مجيدًا، فعارضت في أول الأمر، ولكنها أخيرًا قبلت ولم تمانع.

قالت مدام دي جنليس: «ولمَّا مال قلبي إلى باميلي (وهو الاسم الذي أطلقته على هذه الفتاة) وتعلَّقتْ نفسي بها، خفت أن تأتي أمها وتطلب مبلغًا باهظًا من المال لا قدرة لي على دفعه، فاستشرت عدة محامين من الإنكليز، فأشاروا عليَّ بأن آخذ صكًّا موقَّعًا من والدتها تصرِّح فيه بأنها سلَّمت ابنتها إليَّ بأجرة خمسة وعشرين جنيهًا. ففعلتُ بحسب مشورتهم ودفعت المبلغ وأخذت الصك.» وظلَّت باميلي تحت وصاية مدام دي جنليس حتى بلغت سن الرشاد.

هذه رواية مدام دي جنليس، ولكنها على صراحتها وجلائها لم تكن كافية لقطع ألسنة المرجفين والنمَّامين. وكانت شدة مشابهة الفتاة لأترابها وعشيراتها تُعين على التشكيك في صحة دعوى المربية. وقال أحد المؤرخين المعاصرين: «إن شدة مشابهة باميلي لأولاد الدوق كانت تحمل كل ناظر إليها على أن يظنَّها أختًا لهم لولا وجود نبرة في كلامها.»

أما باميلي نفسها كانت خالية الذهن من جميع الريب والشكوك التي أثارها حولها أهل البلاط، فرتعت في ظلال الرخاء ورغد العيش تجرُّ ذيول الغبطة والهناء، وتجري على مقتضى الأحوال مطبوعةً بطابع النشوء في بحبوحة الترفُّه والترف، لابسةً لبوسهما، كأنها مولودة في مهدهما وسريرهما. وقد تعلَّقت بها قلوب أولاد الدوق وأحبُّوها محبة العابد لمعبوده، ونالت مكانة عالية من العطف والإعزاز عند دوق دي شارتر ومدام دي جنليس التي كتبت عنها في مذكِّراتها ما خلاصته:

«كنتُ مولعة بحبها وكأني بها سحرتْ لُبِّي وأخذتْ بمجامع قلبي، وعلى رغم ما كان يبدو منها من الرعونة والطيش، كانت فتنة لكل ناظر إليها؛ لرشاقة حركاتها وخفَّة روحها.»

وعلى توالي السنين كان غصن جمال باميلي يزداد نضارةً وإيراقًا، وبدر ملاحتها إنارةً وإشراقًا. ولمَّا صارت ابنة ست عشرة وصفها بعضُ عارفيها فقال: «إنها مطبوعة على اختلاب العقول واجتذاب القلوب، فما من فتاة تباريها في سحر النفوس وامتلاك أزِمَّة الخواطر، وجمالها آية في كماله. ومن يسعده الحظ بالظفر بها فقد نال السعادة بحذافيرها!»

وقد خطبها كثيرون من الكبراء والعظماء أصحاب الألقاب السامية والشرف الباذخ، فردَّتهم واحدًا بعد الآخر مفضِّلة عيشة الحرية واللهو على قيود الحياة الزوجية ولو أنها من ذهب. ويقال إنه كان في وسعها لو أرادت أن تصير دوقة مونبنسيه وإحدى أميرات البلاط، ولكنها رفضت ذلك عندما عُرِضَ عليها.

وأخيرًا لقيت مَن حَنَّ قلبها إليه وحام طائر حبِّها عليه، وهو اللورد إدورد فتزجرالد ابن دوق لينستر الأصغر. وكان هذا الشاب الإرلندي الكريم المحتد جميل الطلعة نبيل الشأن، وقد ذاعت شهرة ذكائه ونجابته، وبَعُدَ صيت بسالته وشدة بأسه. وقيل إنه هام بها لمَّا شاهدها أوَّل مرة في لوج دوق شارتر في أوبرى باريس، ثم لقيها مرة ثانية في أثناء زيارتها القصيرة للندن سنة ١٧٩٣. ومنذ اجتمعا أحبَّا أحدهما الآخر، ولم يلبثا أن اقترنا في تورناي على رغم معارضة مدام جنليس.

وهاك وصفهما في عقد الزواج المحفوظ في تورناي: «إدورد فتزجرالد من لندن، ابن المرحوم دوق لينستر، عمره ٢٩ سنة. وستيفاني كارولين إن سمس المعروفة باسم باميلي من لندن ابنة وليم باركلي وماري سمس.» وهذا العقد ممضى من إدورد فتزجرالد وباميلي سمس وبعض الشهود. ومنه يتضح أنها على رغم الأقاويل التي شاعت عن حقيقة أصلها تزوَّجت منتسبة إلى الاسم الذي كان لأرملة من همبشير قبل زواجها، وأبوها بركلي لاسيمور كما جاء في رواية مدام جنليس.

والوارد عن نسب باميلي في عقد الزواج يناقضه ما جاء عن نسبها في المجلة الماسونية. وقد ورد في جزئها الصادر في شهر يناير سنة ١٧٩٤ بما ترجمته: «احتفل بعقد إكليل اللورد إدورد فتزجرالد على الآنسة باميلي كريمة سمو الدوق دي أورليان.» ويقول مور في كتابه: «حياة اللورد إدورد فتزجرالد» ما مترجمه «أن باميلي كانت ابنة مدام دي جنليس من دوق أورليان.»

وعاشت باميلي مع زوجها في إرلندة خمس سنوات في رغد وهناء وصفاء ورفاء، وكتبت يومًا إلى مدام جنليس تقول: «إن حياتي هنا أشبه بحلم جميل. ونحن كلانا في سعادة لا توصف، ولأجلها ترينني بعض الأحيان أسائل نفسي بخوف قائلة هل تدوم هذه السعادة لنا؟» ويقول زوجها في رسائله إلى والدته: «تعوَّدت أنا وزوجتي المحبوبة حياة البطالة والكسل. ففي كل يوم نبطئ في الاستيقاظ والنهوض، ونقضي الوقت في المنادمة والمحادثة حتى ينقضي النهار ونحن لا ندري. وقد أقيمت لنا في دبلن عدة احتفالات — ولائم ومراقص — حضرتها زوجتي كلها، وهي مولعة بالرقص. وأودُّ لو أمكنكِ أن تشاهديها وهي ترقص فكنتِ تعجبين برقصها البديع الجميل. والجميع هنا يحبونها ويحترمونها.» ثم كتب إليها بعد شهر من بلاك روك قرب دبلن: «جئتُ أمس بزوجتي المحبوبة إلى هذا المكان، ونحن ناعمان فيه بظلال الراحة والمسرَّة نمتِّع عيوننا بمشاهدة كل ما شاق وراق من مناظر الطبيعة، وآذاننا بسماع تغاريد الطيور. وهذا كله يزيدنا بهجة وحبورًا، وإن كان وجود زوجتي وحده كافيًا ليجعل سعادتي منقطعة النظير.»

ولكن تلك الأيام السارة الجميلة لم يُكتب لها البقاء والدوام، وتلك السعادة كانت كما خافت باميلي نفسها معرضةً للزوال. فإن اللورد إدورد الذي كانت محبَّته لوطنه لا تقل كثيرًا عن محبَّته لزوجته لم يعتِّم أن انساق إلى هجر السلام والراحة بجانب باميلي، واقتحام بحر السياسة العجاج المحفوف بالمغامر والمخاطر. وأصبح من أركان جمعية الإرلنديين المتحدين. واختير للسفر إلى فرنسا ليسعى في إعداد حملة فرنسوية لمهاجمة إرلندة. على أن هذا السعي اقترن بالخيبة والإخفاق. وفي أحد أيام مارس سنة ١٧٩٨ قبضت الحكومة البريطانية على المتآمرين ما عدا اللورد إدورد، فإنه تمكَّن من الفرار والاختباء في مكان مخفي عن عيون الحكومة.

وفي أثناء ذلك أقامت باميلي في مسكن حقير في زقاق وراء ساحة مريون، وهي في أشد حالات القلق والاضطراب موجسة كل ساعة خوف سماعها لخبر اعتقال زوجها المحبوب. وكثيرًا ما كان اللورد إدورد يخرج من مخبئه تحت ستار الظلام ويزورها ويخلس التمتع بمشاهدتها. وفي إحدى الليالي وصوصت جارية من ثقب مفتاح الغرفة فرأت الزوجين جالسين حول سرير ولدهما، ولشدَّ ما توسَّلت باميلي إلى زوجها أن يكفَّ عن هذه المغامرة مخافةَ أن تلحظه عيون الرقباء والجواسيس ويقبضوا عليه. وكان اثنان من سكَّان المنزل الذي هي فيه يعرفانه جيدًا على رغم تنكُّره وتَخفِّيه. وقال الخادم يومًا لرب المنزل: «إني أعرف الرجل الذي يزور السيدة.»

– هل تعرفه جيدًا؟

– نعم، كما أعرفك، فقد أعطاني حذاءه لأصبغه، ووجدت اسمه مكتوبًا عليه من الداخل. ولكن لا يخطرنَّ ببالك أني أسلِّمه ولو بعشرة آلاف جنيه. وإني مستعد لأن أبذل حياتي فداءً عنه وعن زوجته.

ولكن رجال الحكومة لم يبطئوا أن استدلوا على مخبئه فأحاطوا به ذات ليلة بعد رجوعه من زيارة زوجته، وخلعوا باب غرفته ودخلوا وقال له ضابط الجند: «إنك اللورد إدورد فتزجرالد، وأنا مأمور بالقبض عليك، وأرجو ألَّا تبدي أقل مقاومة.»

ولشدة بسالته وشجاعته آثر الموت على التسليم، فاستلَّ خنجره وحمل على الجنود وكافحهم كفاح الأبطال الصناديد. ولكن كثرتهم تغلَّبت على بسالته وشدة بأسه، فقبضوا عليه بعد عراك عنيف أصابوه فيه بعدة جراح بالغة تضرج بدمائها. على أنه باعهم حياته بأغلى ثمن؛ إذ كان قد أثخن في كثيرين منهم وغادر ضابطهم مجندَلًا في زاوية الغرفة يعاني سكرات الموت، وبعدما ذهبوا به إلى القلعة نقلوه إلى نيوغايت. وهناك سألوه هل يروم أن يبعث برسالة إلى زوجته، فأجاب: «لا، ولكن تلطَّفوا في إطلاعها على خبر مصيري.»

ولمَّا علمت باميلي أنهم قبضوا عليه ودَّت من شدة بأسها لو أمكنها أن تفديه بنفسها، ولكنها لم تستطِع ذلك، فباعت حلاها والهدايا التي جاءتها يوم زواجها، وحاولت أن ترشو حراس السجن بثمنها، فلم يقترن سعيها بالنجاح، وطلبت أن تقاسمه الأَسْر والاعتقال، فلم تلقَ أذنًا صاغية، بل صدر إليها الأمر بأن تغادر إرلندة بما يستطاع من السرعة، وتترك أولادها ولا تعلِّل نفسها بأمل رؤية زوجها الذي بلغها أنه في حالة النزع متأثرًا من جراحه. وبُعيد سفرها أسلم اللورد إدورد الروح وتركها شريدة طريدة. وقبيل وفاته أوصى بكل ما يملكه «لزوجتي اللادي باميلي فتزجرالد عنوان احترامي ومحبَّتي لها وشدة ثقتي بها.» ولكن الحكومة أصدرت قرارها بحرمانها ما أوصى لها زوجها به.

وقد نُعي إليها وهي في لندن عند دوق رتشموند، فحزنت عليه حزنًا يعجز اللسان عن وصفه. وفي سنة ١٧٩٩ برحت لندن إلى همبورغ، ونزلت ضيفة عند صديقة لها، وهي ابنة أخت مدام دي جنليس وزوجة صاحب مصرف كبير هناك. ثم عرفت في همبورغ رجلًا يُدعى بنكارين، فعرض عليها أن يتزوجها، وأجابته إلى ما طلب مدفوعة لا بداعي الحب، بل لشدة الفقر والاحتياج. ولكن زواجها لم يقترن بشيء من الرفاء والهناء. وفي سنة ١٨٢٠ أقامت في طولون وهي في فقر لا يوصَف.

وبعد إحدى عشرة سنة انتهت حياتها الغامضة الغريبة في باريس، وكان القرار بحرمانها تركة زوجها قد أُلغِيَ، فعاشت في سنيها الأخيرة في سعة. وماتت في سن السابعة والخمسين؛ أي بعد فاجعة زوجها بثلاث وثلاثين سنة، وعلى وجهها بقية من حُسنها الغابر وعزِّها الدابر، ولم يُعرف عنها سوى المكتوب على ضريحها: «باميلي».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤