الفصل الأول

ما أكبر الفرق بين القاهرة اليوم، في هذه العشرة السادسة من القرن العشرين، وبينها أيام طفولتي وصباي في العشرة الأولى من القرن نفسه! وما أكبر الفرق بين الحياة في هذه المدينة العاصمة اليوم، والحياة فيها إذ ذاك!

أنا اليوم أسكن شارع الهرم على مقربة من نهايته عند فندق «مينا هاوس»، وتقلني السيارة إلى قلب المدينة في عشر دقائق أو نحوها، وذلك ما لم يكن يحلم به أحد في أخريات القرن الماضي وأوائل هذا القرن، لم يكن أحد يومئذ يسكن شارع الهرم، بل كان النيل يفصل بين «القاهرة» وما على شاطئه المقابل لها من مزارع ممتدة إلى مدى النظر، ولم تكن السيارات يومئذ وسيلة المواصلات، بل لم تكن موجودة بالنسبة لسواد الناس، ولست أذكر متى جاءت أول سيارة إلى مصر! لكن السيارات بقيت بعض مظاهر الترف إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى؛ أي إلى سنة ١٩٢٠، فكان طبيعيًّا أن تظل رقعة المدينة ضيقة مع وسائل مواصلاتها، وأسرعها عربات الخيل — الحناطير — والحمير، أما الترام الذي بدأ يسير في السنوات الخمس الأخيرة من القرن الماضي، فلم تكن شبكته قد امتدت إلى ما وراء حدود المدينة كما صورتها.

ثم إني لأذكر يومًا من سنة ١٩٠٩ ذهبت فيه مع أبي إلى ضاحية «مصر الجديدة»، وكانت في بدء إنشائها، فلم يكن بها غير عدد قليل من المنازل، على مقربة من فندق «هليوبوليس بالاس»، ويومئذ سمعت أبي يبدي عجبه: كيف تغامر الشركة البلجيكية القائمة بهذا المشروع باختيار تلك البقعة من الصحراء لبناء ضاحية فيها، لكن المصريين كانوا يومئذ يؤمنون بعبقرية الأجانب، حتى ليكادون يضعونهم في مصاف الملائكة أو في مصاف الشياطين، ولذلك كانوا يحتاطون في الحكم على تصرفاتهم لاقتناعهم بأن هؤلاء الأجانب يدركون ما لا ندرك.

ولقد آمنت يومئذ بما أبداه أبي من عجب؛ لأنه أبي، ولأنني رأيت الترام الأبيض الذي يصل «القاهرة» ﺑ «مصر الجديدة» ينساب بعد العباسية في صحراء خالية لا حياة فيها، فلا ترى العين على جانبيه إلا الرمال الممتدة لتلامس السماء عند الأفق، وكانت العباسية نهاية القاهرة من هذا الجانب، وكانت أشبه بضاحية يقطنها العسكريون الذين ألِفُوها في أثناء خدمتهم في الجيش؛ لأنها تجاور ثكناته، فلما انتهت خدمتهم فيه أقاموا مساكنهم هناك، على أرض رخيصة الثمن؛ لبعدها عن المدينة وعن مواصلاتها.

أما سُرَّة المدينة فكان ميدان «العتبة الخضراء»، منه كانت خطوط الترام تبدأ سيرها، وفيه كانت تقوم المحكمة المختلطة ميدان النشاط القضائي بين الأجانب والمصريين في العاصمة وما حولها، وعلى مقربة منه كانت تقوم حديقة الأزبكية، التي كانت قبل مائة عام بركة، ثم انقلبت حديقة باسقة الشجر محاطة بأسوارها المنيعة. ومن ميدان العتبة الخضراء يمتد شارع عابدين المعروف إلى قصر الحكم عن شمالك، وتقوم متاجر فخمة عن يمينك، وينحدر شارع الموسكي ذو الشهرة العالمية؛ لأنه كان شريان النشاط التجاري بالمدينة.

وكان ميدان «العتبة الخضراء» والشوارع المتفرعة منه يفصل بين الأحياء المصرية والأحياء الأجنبية في القاهرة، فما امتد منه غربًا إلى النيل كان مستقر الأجانب، وما امتد شرقًا متجهًا إلى جبل المقطم كان مستقر المصريين والشرقيين، وميدان نشاطهم؛ لذلك كان شارع «الموسكي» تختلط فيه العناصر الثلاثة: الشرقيون، والأجانب، والمصريون، يزداد الأجانب في جانبه القريب من العتبة، والمصريون في جانبه المتصل بالسكة الجديدة المؤدية إلى أحياء سيدنا الحسين والأزهر وما وراءها إلى الجبل من أحياء وطنية صميمة، وكان سكان القاهرة يومئذ لا يبلغ عددهم الثلث، بل الربع من سكانها اليوم.

كان طبيعيًّا — وتلك حال القاهرة في العشرة الأولى من هذا القرن — ألَّا ترى فيها عمارات شاهقة كالصروح التي تراها اليوم، وأن تتألف منازلها من طابقين أو ثلاثة على الأكثر، وكانت منازل الذوات وأهل اليسار أشبه بالحصون، ترتفع جدرانها الخارجية لتستر كل ما فيها وكل من فيها، ولتستر السيدات المخدرات صاحبات العصمة بنوع خاص، وبين هذه الجدران كان المنزل يتألف من «سلاملك» متصل بالباب الخارجي خاص بالرجال، ومن «حرملك» منفصل عنه هو مستقَرُّ السيدات، ويغلب أن تقوم أمام «الحرملك» حديقة صغيرة تتنسم السيدات فيها الهواء، بعيدات عن أعين الرجال.

وكان والدي من المصريين ذوي الجاه واليسار، فكان البيت الذي ولدت به ونشأت فيه من هذا الطراز الذي وصفت، وكان يقع على الميدان الذي يقوم فيه تمثال «لاظوغلي»، وكان سلاملكه يقع إلى يمين الداخل من بوابته الكبيرة، مكونًا من غرفة واسعة للجلوس، ومن غرفة أصغر منها، يدخل الإنسان إليهما من بهو فسيح أمامهما، ويرتفع الكل عن الأرض بضع درجات، وكان يفصل بين «السلاملك» و«الحرملك» جدار يزيد ارتفاعه على قامة الرجل، ومن ورائه حديقة غُرس فيها الجازون، وقامت على جوانبها أحواض من أشجار الورد والأزهار المختلفة، كما قامت في أحد أركانها «جبلاية» صغيرة تجري فيها المياه.

كنت إبان طفولتي أقضي معظم وقتي في هذه الحديقة ألعب مع اثنتين من بنات الجواري اللاتي يعملن في خدمة المنزل، وكانت والدتي إذا أرادت دعوتي إلى داخل الدار بعثت إليَّ بإحدى هاتين الطفلتين أو بجارية من الجواري، ولم تكن تناديني مخافة أن يسمع صوتها خادم من الرجال، أو أحد معارف أبي الجالسين معه في «السلاملك»، فصوت المرأة كان يومئذ عورة لا يجوز أن تداعب آذان الرجال.

وكانت والدتي من قريبات أبي، وكان أهلها من الأعيان الذين يرون تعليم البنت القراءة والكتابة أمرًا نكرًا، ولكنها كانت بارعة في إدارة المنزل، تحذق كل شئونه، وكانت لذلك مدبِّرة في غير شُحٍّ، لا ترمي قرشًا في غير موضعه، ولا تضن على خادم، رجلًا كان أو امرأة، بما يحتاج إليه برغم أنها لم تكن ترى الخدم الرجال أو تخاطبهم.

وكانت والدتي تستقبل السيدات من صديقاتها مساء الثلاثاء من كل أسبوع، وفي هذا اليوم كان الخدم الرجال يتمتعون بإجازة من بعد الظهر، وكان والدي يغادر المنزل فلا يبقى به رجل إلا بوابنا العجوز المتهدم ليستقبل السيدات عند دخولهن من البوابة وخروجهن منها، وكنت أغتبط بمقْدِم يوم الثلاثاء؛ لأنه كان أشبه بأيام العيد، ولأن بعض المغنيات والراقصات من معارف والدتي كن يحضرن فيحيين هذا الاجتماع النسائي، وكنت قلَّما أحضر هذه الاجتماعات إلى نهايتها، فقد كانت والدتي تبعث بي إلى الحديقة ألعب فيها، أو إلى صديقة لي من الأطفال كان منزل أهلها قريبًا منا؛ لأن هذه الاجتماعات النسائية كان يدور فيها من الحديث ما لا يجوز أن يسمعه الأطفال، ذلك ما تيقنته من بعدُ حين كبرت، وحين عرفت ما تتبادله النساء من أحاديث تافهة، أساسها الغيبة التي لا تخلو من قصص يألفها النساء، ويرين عيبًا أن يسمعها الأطفال، أو يسمعها الفتيان.

وكنت أغتبط بالذهاب إلى منزل صديقتي الصغيرة التي تجاورنا؛ لأن والدها كان رجلًا رقيقًا غاية الرقة، وكان يحبها أعظم الحب، وكان يحبني لأنني صديقتها، وكان ينتظرني يوم الثلاثاء وقد أعد لي هدية من اللعب التي يغتبط بها أمثالي، فكنت لتوقعي الهدية أسارع إلى تلبية والدتي، والذهاب مع خادم من الجواري أقضي مع صديقتي ووالدها سويعات هنيئة سعيدة.

ولما بلغت السابعة بعث بي والدي إلى المدرسة السنية، ولم يكن بينها وبين دارنا ما يدعو إلى ركوب عربتنا؛ لذلك كنت أذهب مع البواب العجوز كل صباح، وأعود معه كل مساء، ومعي كتبي وكراساتي، وكان معلم القرآن والديانة والخط العربي يشغل معظم حصص الدروس معنا، فكنا نراه ثلاث ساعات كل يوم على الأقل، وكان شيخًا رقيقًا شديد اللطف بنا، يعاملنا معاملة الأب لبناته، فكنا نحبه ونُسَرُّ بمقدمه، وكنا لذلك نحفظ الدروس التي يلقيها علينا ونحن مغتبطات أشد الاغتباط، ولهذا حفظت من القرآن جزء «عمَّ» في السنة الأولى، وجزء «تبارك» في السنة الثانية، وكنت أشعر بالمسرة حين أتلُو منهما أمام والديَّ ما يزيدهما عطفًا عليَّ، واغتباطًا بنباهتي، وازداد عطفهما عليَّ وضوحًا حين رأياني منذ تخطيت الثامنة من سني لا أترك فرضًا إلا صليته لوقته، فكنت أصلي الصبح قبل الذهاب إلى المدرسة، وأصلي الظهر في مُصلَّى المدرسة، وأصلي بقية الفروض لأوقاتها بالمنزل. ولم يكن العطف عليَّ هو وحده مظهر تقدير أبي لهذا الصلاح وهذه التقوى، فقد جاء يومًا إلى المدرسة وطلبني، وطلب الشيخ معلم القرآن والديانة والخط، وشكره أمام ناظرة المدرسة — وكانت إنجليزية — على عنايته بتقويم أخلاق التلميذات عن طريق الدين وفرائضه.

ومنذ بدأت السنة الدراسية الثانية بدأنا نتعلم اللغة الإنجليزية، وفي السنة الثالثة كنا ندرس التاريخ والجغرافيا، تاريخ مصر وجغرافيتها باللغة الإنجليزية، ولذلك أسرعنا إلى التقدم فيها، وأمكننا أن نتكلم بها.

•••

كان لأبي على حدود مديريَّتي القليوبية والشرقية عزبة كنا نقضي بها جانبًا من الصيف في كل عام، وكانت والدتي تغتبط أشد الاغتباط بهذه الفترة التي نقضيها في الريف، فقد كان حول منزلنا حديقة فسيحة فيها أزهار وفواكه، وكان كثيرون من أهلنا الأعيان يترددون علينا هناك، فيجدون من والدي مودة ولطفًا، وتجد والدتي في أحاديث قريباتنا الريفيات عن الزراعة وأحوالها لونًا من الحياة غير الذي أَلِفَته في العاصمة، فتتسلى بهاتيك القريبات الودودات وبقصصهن، وكنت أنا أجد في الحديقة وفي الحقول القريبة ما يبعث إلى نفسي المسرة، فلما بلغت الثالثة عشرة من عمري ذكرت لي والدتي أن التقاليد تمنع خروجي نهارًا إلى ما وراء أسوار الحديقة، وتمنع نزولي بها ساعة وجود العمال من الرجال فيها، عند ذلك شعرت بأنني بدأت أدخل ميدانًا جديدًا من ميادين الحياة، وأنني موشكة متى عدت إلى القاهرة أن ألبس ملابس النساء: الحبرة والبرقع، وألا أخرج إلى الطريق وحدي.

كانت عمتي تكثر التردد علينا في أثناء مقامنا بالعزبة، وكانت سيدة من أعيان الريف المحترمات في وسطها، المحافظات على كرامة الأسرة ومكانتها، المتصدقات على الفقراء والمساكين من أهل قريتها، وكانت تكبر والدي عدة سنوات، وكانت ورعة تقية، قوية الإيمان بالله ورسوله، شديدة المحافظة على فروض دينها، تصلي الخمس فرضًا وسُنة، وتصوم ثلاثة الأشهر: رجب، وشعبان، ورمضان. وكان والدي يحبها ويحترمها، وكانت تغدق عليَّ من عطفها وحبها ما كنت أغتبط به، وكان حبها الشديد إياي يرجع إلى أنني كنت — برغم أنني تلميذة بالمدارس — شديدة المحافظة على فروض ديني، وكنت أتلو عليها من سور القرآن ما يثلج صدرها، سواء أفهمته أم لم تفهمه.

وكانت عمتي تقضي معنا أحيانًا أسابيع متعاقبة، وكان لها غرام بأن تقص علينا صورًا من ماضي الحياة في الريف، هذا الماضي الذي تطور في نظرها تطورًا لا تطمئن إليه نفسها، وكانت تقص عليَّ من تلك الصور ما يثير عجبي؛ كانت تذكر أن أسرتنا التي استأثرت بعُمُدِيَّة البلد ومشيختها، ولا تزال تستأثر بهما، كانت تُعَدُّ بالعشرات وتقيم في منازل عدة، وأن الفلاحين الذين كانوا يعملون في أراضينا كانوا يجتمعون كل مساء بعد صلاة المغرب في صحن الدار الكبيرة يتناولون طعام العشاء الذي يُطهَى لعشراتهم في هذه الدار، ثم لا يُصدُّ عن الطعام فقيرٌ وإن لم يكن يشتغل معهم في المزارع، وأنهم جميعًا كانوا ينظرون إلى جدي لأبي على أنه والدهم جميعًا، فلا يتزوج أحدهم إلا بعد مشورته، ولا يختلف اثنان إلا احتكما إليه وقَبِلا حكمه، ولا تُطلَّق امرأة من زوجها إلا بعد أن يقتنع بأن الصلح بين الزوجين غير مستطاع.

وكانت تذكر أن هذه الأبوة لم تكن مقصورة على أبناء الأسرة والعمال في مزارعنا، بل كان أهل القرية جميعًا ينزلون على حكم جدي اقتناعًا منهم بعدالته، وبأنه رجل صالح يخاف الله ولا يرضى بما يغضبه، وأنه إلى ذلك رجل خيِّر يعين البائس والمحتاج، ويأنف أن يتدخل في شئون البلد غريب أو أن يستبد بأهله حاكم ظالم.

وإن نسيت الكثير مما قصت عليَّ إذ ذاك فلن أنسى تصويرها للقرية المصرية في النصف الثاني من القرن الماضي، فهذه الصورة لا تزال عالقة بذاكرتي، وهي تجعلني أرى أهل تلك القرية يعيشون عيش القبائل في البادية برغم أنهم أهل زراعة، ولم يكن هذا النوع من العيش عجيبًا في ذلك العهد؛ فقد كانت كل قرية تعيش في عزلة عن غيرها من سائر القرى؛ لأن المواصلات السريعة لم تكن قد ابتُكِرت، وكان أهلها لا يكادون يسمعون شيئًا عن حياة المدن، إلا ما اتصل منها بعقائدهم وإيمانهم الراسخ بالمشايخ والأسياد، وتطلعهم لزيارة هؤلاء الأسياد للتبرك بهم، ولم يكن ذلك مستطاعًا لغير ذوي اليسار ومن يلوذون بهم، أما سائر أهل القرية فكانوا يمضون حياتهم كادحين في غير ملل، مؤمنين بأن الله قسم الحظوظ، وأنَّا لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، هو مولانا عليه توكلنا، وعليه فليتوكل المؤمنون.

كنت أطيل الاستماع لعمتي، وأطرب لحديثها، وكنت أشد اغتباطًا بما تقع عليه عيني من مناظر هذا الريف الممتعة حين أتردد عليه غير مرة خلال السنة، ولم يكن جمال الريف هو وحده الذي يأخذ بناظري، بل كان لي من الطمأنينة إلى أهله حظٌّ عظيم، وكيف لا أطمئن إليهم وأنا أرى من مظاهر ورعهم وتقواهم ما يثير إعجابي؟! لقد كنت أخرج مع والدي أحيانًا بعد الغروب فأرى أحدهم يقوم لصلاة العشاء في مصلى ساذج مفروش بالحلفاء على حافة الترعة بعيدًا عن الأعين، فيهتز لذلك قلبي، وتتأثر بهذا المنظر كل مشاعري، فهذا الرجل المنفرد وسط لا نهايات المزارع في هذه الساعة من المساء يدعو ربه ويستغفره، كان مثال الورع في نظري، ولم يَدُر بخلدي في تلك الأيام من طفولتي وبَدْء صباي ما عساه يدور برأسه في أثناء صلاته أو بعدها من أفكار قد لا يرضى الله عنها، بل كنت أُومن بأنه في وحدته قريب من ربه، وأن حرصه على فروض دينه خير شاهد على نقاء قلبه، وصفاء سريرته.

وعدنا إلى القاهرة في أخريات الصيف من تلك السنة، وأنا موشكة أن أدخل ميدانًا جديدًا من ميادين الحياة، وأن ألبس ملابس النساء: الحبرة، والبرقع، وإني لأذكر اليوم في ابتسامة لا تخلو من مرارة ما كان يدور برأسي الطفل إذ ذاك من غبطة لهذا الانتقال من حرية الطفولة إلى قيود المرأة، هذه الغبطة التي لا تفسير لها إلا التطلع إلى المستقبل الذي كُتِب على جنسنا، والذي لا نعرف غيره، ولا مفر لنا منه، والذي تنتظره كل فتاة، أو على الأقل كانت تنتظره فتاة ذلك العهد، وترى فيه أحلام السعادة، ويرى أهلها فيه أحلام الطمأنينة إلى الحياة، أقصد الزواج، أوَّاه لو علمت كل فتاة، وآه لو علم أهلها ما يخبئ الغيب!

لا أريد أن أسبق الحوادث، أو أعبِّر عما شعرت به في لحظة غير اللحظة التي أكتب عنها، لقد كنت يوم دخلنا القاهرة في ذلك العام سعيدة تفيض عني المسرة، لقد كنت أحبو من الطفولة إلى الصبا في صحة ونضارة، وكانت تحيط بي كل أسباب النعمة على ما كان يتصورها ذلك الجيل، كان أبواي يسبقاني إلى رغباتي، وكنت أجد من حنانهما وعطفهما وبرهما ما يسبغ على الحياة خير ألوانها، وما يجعلني أشعر كأنني في جنة الخلد، وكان تقدير أساتذتي في المدرسة، وتقدمي فيها يزيدني نعيمًا وغبطة.

وكان الأمل الباسم الذي يفتح أجنحته الأثيرية للشباب الموشك أن يتفتح كما تتفتح الأزهار ينشر أمام خيالي الساذج ألوانًا من الهناءة لم أعرف لها في الحقيقة مثالًا، وكان مرجع رضاي يومئذ عن نفسي إلى ما عُرِفت به بين زميلاتي في المدرسة من حسن الخلق لشدة محافظتي على صلواتي، حتى كان بعض معلماتي يسمينني «رضوان الجنة» نسبة إلى حارس جنة الخلد؛ وذلك لشدة عنايتي بمصلى المدرسة.

وبعد أسابيع من استقرارنا في العاصمة فكرت والدتي في أن تُفَصِّل لي حبرة ألبسها وألبس البرقع معها، ولهذه المناسبة جعلت أذهب معها إلى المحال التجارية لتختار القماش المناسب، وإلى الخياطة لأُفَصِّل الحبرة، ويومئذ أحسست شعورًا جديدًا يخالط نفسي، شعور الأنوثة التي تسري في عروقي وأعصابي كما يسري ماء الحياة في الشجر فيزيده رواء، ويزيد خضرة أغصانه بهجة، وأكمام أزهاره تفتُّحًا.

ولقد كنت إذ ذاك أُعنَى بملاحظة السيدات المبرقعات وما يسبغه عليهن الحجابُ من جمال يزيد عيونهن النُّجْل روعة وبراعة، وكنت نحيفة القوام معتدلة، وكانت والدتي لا تفتأ تلفتني إلى هاتيك السيدات الممتلئات يتحدث جسمُهن البض عن معاني النعمة، وتكاد تؤنبني لنحافتي، بل لقد كانت تذكر لي أن من هاتيك السيدات من تشعر بنحافة جانب من جسمها، فتطالب «الخياطة» بأن تضع تحت الحبرة أسلاكًا، أو تحشوها فتستر هذه النحافة، مع ذلك بدأت أشعر أن في عيني من الجاذبية ما يغنيني عن هذا الجمال المصطنع، وإن لم أجرؤ على أن أذكر شيئًا من ذلك لوالدتي.

ولبست حبرتي وبرقعي، وانتعلت حذاء عالي الكعب، وأخذت أخرج مع والدتي إلى الأسواق، وفي بعض زياراتها لصديقاتها فإذا هذا الشعور بالأنوثة يزداد في نفسي، وإذا حيويته تسرع إلى النماء أضعاف نموها قبل أن ألبس الحبرة والبرقع، ولعل ما شعرت به من اختلاف نظرة الرجال إليَّ في أثناء سيري مع والدتي عما كانت عليه قبل هذا الحجاب قد كان سببًا في هذا التزايد السريع في نمو شعوري.

وأدى ذلك بي إلى مزيد من عنايتي بهندامي، فكنت أقضي أمام المرآة زمنًا أصلح في أثنائه من شأني، وألاحظ في أثنائه أدق التفاصيل في مظهري، فكنت أُعنى حتى بالشعرات التي تخرج من تحت رأس الملاية ونظامها عنايتي بموضع البرقع من أنفي حتى يزيد في جاذبية نظراتي، ثم أعنى بانسدال الملاية على جسمي حتى تنم في دقة عن ميول قوامي وبارع اعتداله.

ولم يزعجني حديث والدتي عن نحافتي، فقد كنت أقرأ بعض المجلات والقصص الإنجليزية، فأرى فيها تصويرًا للسيدات والأوانس النحيفات يشهد بجمالهن ويثير الإعجاب بهن، وكنت أقرأ مثل ذلك فيما تترجمه هذه المجلات عن الأدب الفرنسي. ليست النحافة إذن عيبًا لذاتها، وإن أثار الجسم الناعم البض من المعاني المألوفة في مصر ما لم يكن يدور إذ ذاك بخاطري، ثم إنني رأيت في هذه المجلات والقصص حديثًا عن جاذبية المرأة، وأنها ترجع إلى رقتها ودماثة طبعها وحسن حديثها، فأغراني ذلك بالعناية بهذه النواحي من أنوثتي أكثر من عنايتي بما أقاوم به نحافتي.

على أن شيئًا من ذلك كله لم يصرفني عن صلواتي احتفاظًا بمكانتي بين زميلاتي وأساتذتي في المدرسة، وإرضاء لشعور داخلي كان يتردد في أعماق وجداني بأن الزينة لا تخالف التقوى، وكم اغتبطتُ حين سمعت الشيخ الذي يتلو القرآن كل صباح جالسًا في غرفة الانتظار بالطابق الأسفل من منزلنا يرتل: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ، فقد ثبَّتت هذه الآية شعوري الداخلي، واطمأن لسماعها وجداني، فازددت عناية بزينتي كما ازددت حرصًا على أداء فروض الله.

وازددت على الزمن شعورًا بأن القراءة تُتِم الزينة، صحيح أنها ليست الزينة المادية التي تلفت النظر إلى أشخاصنا حين مسيرنا في الأسواق ودخولنا على صديقات والدتي، بل هي الزينة المعنوية التي تزيد نظراتنا ذكاء وجاذبيتنا فعلًا في النفوس، لذلك أكببت على الكتب والمجلات التي كنت أستعيرها من مكتبة المدرسة، أو أشتريها من المكتبات، وشعرت لهذا الإكباب بلذة قوية كانت تأخذني عن نفسي، وتصرفني عن كل ما سواها، وإن جلبت عليَّ في كثير من الأحيان لوم والدتي خوفًا على عيني، وإشفاقًا منها أن تصرفني القراءة عن الاضطلاع بواجبات الفتاة والمرأة في العناية بأمور المنزل وحسن تدبيره.

وخشي والدي حين رأى إكبابي على قراءة الكتب والمجلات الإنجليزية أن يضر ذلك بلغتي العربية وثقافتي الدينية، فاختار لي مدرسًا شيخًا كانت له به ثقة، وكثيرًا ما رأيته يصحبه، بل لقد حضر إلى العزبة في أثناء مقامنا بها في الصيف مما دلني على أن له على أبي دالة تزيد في ثقته به.

وكان هذا الشيخ على حظ غير قليل من الذكاء، درس أول أمره في الأزهر، ثم انتقل إلى دار العلوم فجود اللغة العربية بها، وجعل همه أن يطلع على ما يظهر من كتب مؤلفة أو مترجمة إلى العربية ليجاري العصر ولا يقبع في زوايا الماضي على حد تعبيره، فلما بدأ تدريسه لي لم يلبث حين وقف على مبلغ علمي أن اختار لي كتاب «عيسى بن هشام» للمويلحي، وكتاب «تحرير المرأة» لقاسم أمين، وكتاب «التربية» الذي ترجمه محمد السباعي عن هربرت سبنسر.

وقرأت جانبًا من هذه الكتب الثلاثة معه، وسمعت إليه يفسر ما رآه غامضًا عليَّ من ألفاظها وعباراتها، فأغراني ذلك بالمضي في قراءتها في أثناء وحدتي، وتفتحت لذلك أمامي آفاق جديدة يقصر دونها الكثيرات من أمثالي، بل يقصر دونها كثيرون من رجال ذلك الوقت ونسائه، وقد كنت أقف وَجِلة أحيانًا أمام ما أقرأ؛ لأنه يخالف مألوف الحياة في مصر إذ ذاك، وهو مع ذلك مكتوب بلغتنا العربية، فيجب أن نفكر فيه، وألا نعتبر قراءته مجرد تسلية لقتل الوقت، ويجب أن ننتهي من هذا التفكير إلى رأي، وكنت أسأل أستاذي الشيخ أحيانًا فيما يستوقفني، فلا يزيد على أن يبتسم ثم يقول: الزمن يا فتاتي كفيل بإنضاج رأيك في كل ما تقرئين.

ولقد أخذني العجب يومًا لحوار جرى بين والدي وأستاذي حسبت حين سمعته أن الشيخ يبالغ فيما يسميه «عصريته»، فقد ذكر والدي أن شابًّا من أبناء أحد أصدقائه تزوج من أجنبية يهودية، فكان جواب الشيخ: وماذا في ذاك؟ ثم تطور الحوار إلى جدل ديني كان الشيخ فيه دون والدي تعصبًا لعقيدته، فقد رأى والدي أن زواج اليهودية من المسلم يتيح لها الفرصة لتقف من زوجها أو من أهله أو من خلطائه على حقيقة الإسلام، فإذا هي لم تعتنقه من بعد كانت مكابرة، وكان مصيرها إلى الجحيم، أما الشيخ فرأى أنها إذا لم تقتنع بحجة زوجها أو أهله أو خلطائه وعملت صالحًا فلا جناح عليها أن تقيم على دينها، وأن يغفر الله لها، ويدخلها الجنة.

كانت تدور أحاديث من هذا القبيل بين الرجلين، وكان الجدال بينهما يبلغ الحدة، ثم لا يغير ذلك من ثقة والدي بالشيخ، واطمئنانه لحسن إيمانه، فإذا نودي للصلاة من مئذنة المسجد القريب من دارنا، وقام الشيخ للصلاة، ائتم به والدي وقضى فرضه وراءه.

كنت أسمع وأرى ما يحدث من مثل ذلك فلا أقف طويلًا عنده، ومن كان في مثل سني يومذاك لا يقف طويلًا عند شيء، بل تمر أمامه الأحداث والآراء، فيلم بها إلمامات سريعة تبقيها في ذاكرته لتنضم على الأيام لأشباهها، ثم تكون موضع تفكير وعبرة من بعد، حين نصبح قادرين على أن نبدي حكمًا ذاتيًّا على ما نرى ونسمع، وكذلك بقيت ذاكرتي تختزن ما استطاعت اختزانه، حتى إذا آن الأوان تفاعل ذلك كله في نفسي، وكوَّن وجودي الذاتي وكياني المعنوي.

تعاقبت الأيام والأسابيع والشهور، وانقضت السنة الدراسية، واحتملنا قيظ العاصمة أسابيع من أوائل الصيف، ثم ذهبنا إلى العزبة، وبدأ أقاربنا يزوروننا، وأقبلت عمتي وعلى رأسها طرحة بيضاء على خلاف ما أَلِفت من لباس رأسها في الأعوام الماضية، إذ كانت طرحتها سوداء؛ ذلك لأنها سافرت إلى الحجاز وأدت فريضة الحج، واستبقت الطرحة البيضاء من لباس إحرامها، ولم يكن حديثها ذلك الصيف عن ماضي الحياة في قريتنا العزيزة، بل كان كله عن الحج والحجاز والكعبة، ومسجد المدينة، والمقصورة النبوية، وكانت تقصُّ ذلك في تفصيل يشهد بطمأنينة نفسها إليه، واستراحة قلبها له، وكنت أشعر في بعض ما تقصه بأنه أدنى إلى الأساطير، لكنها كانت ترويه في حرارة إيمان تنقل صداه إلى قلب والدتي، فلا تفتأ تكرر: يا بخت من زار النبي.

ولو أنني استطعت يومئذ أن أنقل كل ما روته عمتي عن حجها لتألَّف منه كتاب شائق، فقد كان حديثها عن هذا الحج يتصل يومًا بعد يوم، وكأنها شهرزاد في ألف ليلة وليلة، لكنني كنت في شغل بقراءة مجلاتي وقصصي الإنجليزية، وبمراجعة عيسى بن هشام وتحرير المرأة والتربية؛ لأن أستاذي الشيخ أخبرني قبيل سفرنا أنه سيزورنا بالعزبة بعد شهر من مقامنا، ويسألني عما قرأته.

وجاء الشيخ إلى العزبة في الشهر الأخير من أشهر الصيف، وكنت في فترة هذه الإجازة المدرسية قد أسرعت في النمو وبدأ تكويني النسوي برغم نحافتي، وشعرت في نظراتي بجاذبية قوية كنت أغتبط بها حين أقف أمام المرآة أصلح من هندامي، ترى أكان هذا هو السبب في أن والدي لم يكن يذرني وحدي مع الشيخ ساعة تدريسه لي؟! فقد لاحظت أنه كان يحضر دروسي جميعًا على غير عادته من قبل، وما أحسبه خالجته شبهة في خلوتي مع الشيخ ساعة الدرس، أو خالطت نفسه ريبة من أمره، فقد كانت ثقته بورعه فوق كل شبهة، وإنما أحسبه خشي قالة الناس، وقالة النساء أكثر من قالة الرجال؛ فقد علمتني السنون من بعد أن الناس في مصر، من أهل المدن كانوا أو من أهل الريف، يسرعون إلى الريبة في غير موضع الريبة، ويتناقلون من الأحاديث الكاذبة في أمر غيرهم ما يسرعون إلى تصديقه. هذا في اعتقادي هو ما دعا والدي لمصاحبة الشيخ ساعات تدريسه لي، وبخاصة بعد أن رأى منذ كنا بالقاهرة عنايتي بهذه الدروس واستفادتي منها.

وجاءت موليات الصيف، وآن لنا أن نعود إلى العاصمة، وإننا لنأخذ أهبتنا للعودة، إذ شعرت والدتي بمرض ألزمها فراشها، وتولت عمتي الحاجة العناية بها، فكانت تلازمها ليلها ونهارها، وكانت تتلو وهي في مجلسها إلى جانبها كل ما عرفت من رُقًى وتعاويذ، وكانت تدير البخور على رأسها تطرد به حسد الحاسد، لكن المرض كان يشتد يومًا بعد يوم، واستدعى والدي الطبيب من أقرب مدينة، فلما فحص والدتي أشار بضرورة إسراعنا إلى القاهرة أو بإدخالها مستشفى المدينة القريب منا، وآثر والدي أن نعود إلى القاهرة فعدنا إليها مسرعين.

وجاء الطبيب الذي اعتادت والدتي أن تعرض نفسها عليه كلما مرضت، ففحص وأطال الفحص ودقق فيه، ثم كتب تذكرة دوائه، ووعد أن يعود المريضة بعد ثلاثة أيام، وخرج والدي معه من غرفة المريضة، ووقفا هنيهة يتهامسان، وبعد أن ودعه عاد يؤكد لوالدتي أن الأمر بسيط، ولن يمضي أسبوع حتى تكون قد استردت عافيتها، ورأيت على وجه والدتي سيما الألم، وإن ردت إليها هذه الكلمات من الطمأنينة ما خفف بعض وقعه.

وفي المساء جاء والدي بعد أن خلع ملابسه، وتمطى على «كنبة» تواجه السرير الذي رقدت والدتي فيه، بعد أن دعا الخادم وأمرها ففرشت عليها ملاءة، ووضعت على طرفها الملاصق للحائط مخدة نوم، وعجبت لما رأيت من ذلك، فلم أر والدي من قبل ينام على هذه «الكنبة» قط، وألحت عليه والدتي أن ينام على السرير في الغرفة المجاورة لغرفتها فأبى قائلًا: لقد نمت أنت على هذه «الكنبة» غير مرة حين مرضي، فلا أقل من أن أؤدي بعض ما عليَّ من دين لك، وإن كنت موقنًا أنني لن أؤدي إلا القليل، مقابل ما غمرتِني به دائمًا من رقة وود خالص.

وغادرت الغرفة وقد زادني ما رأيت وسمعت إعجابًا بأبي، وبهذا الحب المتبادل، وتمنيت أن أسعد في الحياة بمثله.

وانقضت الأيام الثلاثة التي تحدث عنها الطبيب وشكوى والدتي من عنائها لا تنقص، بل تزيد، وجاء الطبيب في موعده وأعاد الفحص وخرج بعده مع والدي، وفي صباح الغد علمت أنه سيحضر ومعه طبيبان آخران من كبار الأطباء لإجراء «كونسلتو» يشخصون بعده المرض، ويصفون علاجه. وجاء الأطباء الثلاثة بعد الظهر من ذلك اليوم، وفحصوا المريضة وما عولجت به من دواء، ثم تبادلوا الرأي، وكتبوا تذكرة جديدة.

كانت والدتي تذكر للأطباء الثلاثة، في أثناء الفحص، ما ينتابها الوقت بعد الوقت من آلام مبرحة، وتنظر إليهم نظرة رجاء واستعطاف لعلهم يخففون آلامها ويبرئونها من علتها، وكان الأطباء ينظر بعضهم إلى بعض لدى سماع حديثها، ثم يقول كبيرهم العبارات المطمئنة المألوفة، وكأنه يتلو وردًا من الأوراد أو دعاء من الأدعية التي تتلوها عمتي الحاجة، فلا يفر ثغره عن ابتسامة، ولا يلمع في عينيه معنى الرجاء الذي طمعت والدتي في أن ترى بريقه، فلما انصرفوا وودعهم والدي وعاد إلى غرفة المريضة نظرت إليه نظرة استفهام، فقال: إنهم يستحسنون نقلك إلى المستشفى زيادة في العناية بك، وأجابته والدتي منزعجة: المستشفى؟! كلا، كل شيء إلا المستشفى، وإذا كان قد كُتِب لي أن أموت، فخيرٌ لي أن أموت على فراشي هذا، أما إن كان الله قد كتب لي الشفاء، فلن يكون في المستشفى شفائي.

figure
ولبست حبرتي وبرقعي وأدى ذلك بي إلى مزيد من عنايتي بهندامي.

ورأيت في عينيها دمعة تترقرق، فأخذ والدي يسكن من روعها، ويذكر لها أنه كان على يقين من أنها لن تقبل الذهاب إلى المستشفى، وأنه ذكر ذلك للأطباء، ولقد رأى أن يعيد على مسمعها ما قالوا، وأنهم يرون الخير في أن تكون في عناية ممرضة ورقابة طبيب، ثم إن والدي أضاف: وقد ذكرت لهم أننا نستطيع أن ندعو الممرضة لتكون إلى جانبك هنا، وأن طبيبك يستطيع أن يعودك كل يوم في الصباح وفي المساء.

وجف الدمع في عين والدتي، ونظرت إلى والدي نظرة عرفان، وبدت على ثغرها المتألم شبه ابتسامة، لكنها قالت: لا ضرورة لممرضة، فأنا لا أريد أن تطَّلع أجنبية على دخائل بيتنا، وإذا أمكن أن تحضر عمتي الحاجة إلى هنا ففيها البركة، وفي يدها الشفاء.

وكانت والدتي تحب عمتي حقًّا، وتبادلها عمتي هذا الحب الصادق، وقد رأيتها تحضر صبح الغد من هذا الحديث، وتدخل على والدتي تقبِّلها وتكرر لها الدعوات بالشفاء، وفي لحظات خلعت ملابس السفر، وجاءت وعلى رأسها طرحتها البيضاء، وجلست إلى جانب والدتي، وأخذت تتلو من الأدعية ما اطمأنت له المريضة وشعرت لسماعه براحة نفسية، لعل سببها أنه أزال ما تبدَّى لناظرها من شبح المستشفى ومنظر الممرضة.

وقد قامت عمتي بمهمة التمريض بإخلاص وإتقان، لما بينها وبين والدتي من الود الصادق والمحبة الخالصة، فلم تكن المريضة ترغب في شيء إلا سبقت إلى تنفيذ إرادتها بهمة لا تعرف الكلال، وكم من ليلة باتت إلى جانبها ساهرة تقص عليها من أخبار القرية أو من أخبار الحجاز ما تتسلى به المريضة عن آلام كانت مبرحة في بعض الأحيان، وكثيرًا ما سمعت العمة العزيزة تمنيها بعد أن يمن الله عليها بالشفاء أن تؤدي فريضة الحج، وتزور القبر النبوي وتتمتع بلمس شبَّاكه ولثمه، ووالدتي تسمع لذلك فيعاود نظراتها أمل يرد إليها الحياة بعد ذبولها، ولا أحسب ممرضة كانت تستطيع — وإن بلغت من الدقة في عملها أعظم مبلغ — أن تخدم المريضة بخير مما كانت تخدمها الصديقة الوفية الصادقة الود.

وكان الطبيب يعود والدتي كل يوم، بل كان يعودها مرتين أحيانًا، وكان والدي يقف إلى جانبه في أثناء هذه العيادة، فإذا فرغ منها وطمأن المريضة بأن صحتها في تقدم، خرج مع والدي ووقفا برهة يتحدثان، وقد لاحظت غيرة مرة أن أسارير والدي خلال هذا الحديث كانت أدنى إلى الانقباض، وأنه كان يودع الطبيب إلى الباب، ثم لا يعود إلا بعد زمن لعله كان يحاول فيه أن يدخل غرفة المريضة بوجه تبدو عليه ملامح الطمأنينة، ولا ينم عن شيء من اليأس والألم!

ولم يكن شيء يبعث الطمأنينة إلى نفس والدتي ما تبعثها إليها صلوات عمتي الحاجة ودعواتها الصادرة من القلب، فقد كانت تؤدي الفرائض لأوقاتها على مقربة من سرير والدتي، وكنت كثيرًا ما أأتم بها، فإذا ما قضيت الصلاة رفعت كفيها ضارعة إلى الله أن يشفي المريضة لتتمتع بشبابها وتفرح بابنتها، وكانت نجواها في أثناء هذه الدعوات تخالطها حرارة الإيمان الصادق والرجاء العميق في وجه الله أن يستجيب لها.

برغم هذه الدعوات، وبرغم العناية الصادقة، شعرت والدتي في إحدى الليالي بألم مُمِضٍّ لا قِبَل لها به، وأسرعت عمتي فأيقظت أخاها من نومه، وجاء والدي مسرعًا يحسب أنه يستطيع أن يخفف من هذا الألم بما يضفيه على زوجه من محبة وعطف وحنان، لكن الألم قد بلغ بالمريضة، فكانت تتأوَّه وترسل من أعماق صدرها أنَّاتٍ تذيب الجماد. وأسرع والدي إلى الطبيب في منزله، فكان كل ما استطاعه أن حقن المريضة بالمورفين تسكينًا لحدة الألم، وأن أشار بضرورة استدعاء زميليه اللذين شاركاه في «الكونسلتو» وفي تقرير العلاج. وهدَّأت حقنة المورفين من شدة الألم، وأغمضت والدتي عينيها في غفوة ذكرت لي عمتي من بعد أنهم كانوا يرجون أن تنام بعدها نومًا هادئًا، لكن الصباح تنفس عن معاودة الألم للمريضة، ولما جاء الأطباء وفحصوا المريضة كانت سيماهم تنطق بمعاني اليأس، ولا يبدو في نظرات بعضهم لبعض شيء من الأمل أو الرجاء، وكتبوا تذكرة دواء جديدة، وودعهم والدي منصرفين.

أفأستطيع اليوم أن أصف حالي في أثناء مرض والدتي؟ لقد انقضى الآن على ذلك الزمن ما يزيد على ثلاثين سنة، ولا أزال مع هذا أذكر كيف كنت في ذلك الظرف القاسي أدور في أنحاء الدار، كأني الروح الحائر لا يعرف لنفسه مستقرًّا، ثم أرتد إلى غرفة المريضة فإذا سمعتها تتأوه أو تئن اضطرب قلبي في صدري، وشعرت بالألم يحز في كبدي، فارتسم ذلك على قسمات وجهي، ثم لم يُغنِني ما كان يسبغه والدي عليَّ من عظيم عطفه وسابغ حنانه، بل لقد كنت أشعر حين يزيد به الحنان عن مألوف عطفه، كأنني أصبحت يتيمة الأم، وكأنه يريد أن يكون أبي وأمي في وقت واحد، وكانت عمتي تحاول جاهدة أن تقنعني أن والدتي ولله ألف حمد وشكر تتقدم نحو العافية، وتذكر لي أنها رأت رؤيا تفسيرها أن المريضة ستعود إلى مثل صحتها في خير أيام عافيتها، وأن رؤياها لا تكذب أبدًا، فأطمئن لحديثها بعض الشيء، ثم لا ألبث حين أسمع أنَّات الألم تكظمها المريضة جهدها، كلما رأتني مقبلة عليها، أن تذهب طمأنينتي وأشعر في دخيلة نفسي وأعماق وجداني بأنني مقبلة على أمر جلل، فتزداد روحي حيرة، ويزيدني الحنان والعطف الأبوي وحشة على وحشة.

وتشتد مخاوفي أحيانًا، وأكاد أسائل نفسي: أأذنبت في حق والدتي يومًا حتى أجثو أمامها وأطلب عفوها ومغفرتها؟ بل لقد اعتزمت ذلك يومًا، ودخلت عليها أريد أن أقبِّل وجهها ويديها وقدميها، وأسألها العفو عما لعله سلف مني، لكنها إذ رأتني أتخطى الباب نحوها أشارت إليَّ إشارة فهمت منها أنها تريد أن تطالعني بشيء أو تُسِرُّ إليَّ أمرًا، فلما دنوت منها أجلستني على السرير إلى جانبها، وأخذت تقبِّلني وتبكي، وكأنها هي المذنبة تطلب الصفح، ولم أملك عبراتي فوضعت خدي على خدها، واختلط دمعي بدمعها، ولم تنبس أيَّتُنا ببنت شفة.

وإننا لكذلك إذ دخل علينا والدي، ورأى ما نحن فيه، فانهمرت من مآقيه عبرات جعل يحاول حبسها، ثم تقدم نحونا، وقد اختنق صوته، وأخذ يقول لزوجته: آمني بالله يا حبيبتي، إنه الرءوف الرحيم، وعما قريب سيشفيك، فلا ترهقي نفسك، ولا ترهقي هذه الصبية العزيزة بما لا طاقة لها باحتماله، ودفعتني أمي عنها دفعًا رقيقًا لدى سماعها هذه الكلمات، فخرجت من الغرفة مسرعة إلى غرفتي، وحبست نفسي، وأرسلت العنان لدموعي، وبعد هنيهة رأيت والدي يقبل عليَّ وحمرة عينيه تشهد بأنه مسحها ساعة دخوله عندي، وما زال يتلطف بي حتى خرجت معه من الغرفة إلى البهو، وهناك جلسنا ندعو للمريضة بعاجل الشفاء.

لكن رؤيا عمتي والدعوات الصادقة الصادرة من قلوبنا جميعًا لم تكن لتغير حكم القدر، فلكل أجل كتاب، وإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.

فقد خرجت مطلع الفجر يومًا من غرفتي، فإذا عمتي جالسة على باب غرفة والدتي، وإذا هي لا تكاد تراني حتى تأخذني إلى صدرها وقد هزه البكاء المختنق وتقبلني وتقول: الأمر لله يا بنيتي، والله يحفظ لك أباك. ثم إنها لم تطق كتمان بكائها، فعلا صوتها به، وبكيت أنا كذلك وارتفع صوتانا، وأقبل أبي وعليه ثياب النوم وما يزال، وأخذ يسكن من ألمي، وكل ملامحه تدل على أنه لا يقل ألمًا عني، وعبراته تحدث عن عميق حزنه، ولما تنفس الصبح جاء الخدم وهن يتوقعن المصاب الفاجع، فلما عرفنه ارتفعت أصواتهن بالصريخ المزعج، وبعد سويعة أقبلت جاراتنا، وانقلب البيت مناحة تدوي أصواتها فيما حولنا من الأرجاء.

وتركنا والدي إلى غرفته وهو يدق رأسه كأنما خرج الألم به عن صوابه، وأقبل صديق له من جيراننا سمع الصريخ، وكان يتردد من قبل على والدي يسأل عن أخبار زوجته، فلما رآه والدي ناداه قائلًا: أرأيت يا أخي خراب بيتي؟! وأخذ الصديق يسكن من لوعة صديقه، ويذكر له أن أهله ومعارفه سيحضرون له عما قريب، فلا مفر له، برغم هول المصاب، من أن يتجمل بالصبر حين يتقبل العزاء، وذهب الرجلان إلى السلاملك بعد أن ذهب والدي إلى غرفته، وارتدى ملابسه محاولًا جهد طاقته أن يبدو في وقاره الذي اشتهر به وعُرف عنه.

ودُفِنت أمي في مشهد مهيب، وتقضَّت ليالي المأتم الثلاث، وانصرف المُعَزُّون والمعزيات، وأقفر بيتنا من روحه، فكنت أرى والدي يتنقل فيه من غرفة إلى غرفة، في حين كانت عمتي تدير شئونه وتبذل الجهد لراحة أخيها وراحتي، وكم رأيت أبي في تطوافه من غرفة إلى غرفة يدق يدًا بيد، أو يسير شارد الذهن، مشتت اللب كأنما أذهله الخطب الذي نزل بنا! أو كأنما يفكر في أمر خطير، وكنت كلما رأيته على هذه الحال ازددت شعورًا بفداحة اليتم الذي أصابني فحرمني حنان الأم وأنا أشد ما أكون حاجة إليه. وكان والدي يحاول ما استطاع أن يخفف لوعتي، غير متكلف في محاولاته إلا ما يمليه عليه وجدانه، وتفيض به عاطفة الأبوة، وقد اختص بها الابنة الوحيدة التي رزقها منذ تزوج، وكنت ألمح في عينيه حين يحدثني أنه لم يبق له في الحياة أمل غيري، وكنت أتمنى لذلك لو استطعت أن أدخل إلى قلبه من السعادة ما كانت أمي تدخله على هذا القلب العطوف الرقيق، ولم يجر في خاطري أن أبي يمكن أن يتزوج بعد موت أمي، وإنني لفي براءة صباي إذ طرق سمعي حديث يتبادله الخدم فيما بينهن وهن لا يرينني، حديث أفزعني ولم أكد أصدقه، قالت إحداهن إنها سمعت عمتي تتحدث إلى أخيها بأنه لا يزال في فتوة رجولته، وأن بيته لا يصلح إلا أن يتزوج، وأن والدي أظهر بادئ الرأي عدم الرضا إكرامًا لذكرى المرحومة أمي، بعد الذي كان بينهما من صادق الحب، فكان جواب أخته أنها كانت تحب المتوفاة كما كان يحبها، وأنها حزنت لموتها مثل حزنه، لكنَّ لله في تصاريفه أحكامًا لا يدركها البشر، وإنا إذا وجب علينا الوفاء لمن نحب فذلك واجب ما عاش المحبوب، أما إذا اختاره الله إلى جواره فقد سقط عنا هذا التكليف؛ لأن قيمة الوفاء في تبادله، فإذا لم يكن متبادلًا فلا مسوغ لوجوده، والأموات يحلوننا بموتهم من واجب الوفاء لهم، ثم إن عمتي ضربت على الوتر الحساس من قلب أخيها، فقالت: ولعل الله قد كتب لك ذرية صالحة من البنين يحفظون اسمك، ويفتحون بيتك، والزواج سبيلك إلى هذه الذرية، وابنتك هذه لا تستطيع أن تعيش وحدها في هذا البيت الفسيح، فهي بحاجة إلى من تحسن توجيهها، وتقوم بشأنك وشأنها.

وسمع والدي هذا الكلام من عمتي فأطرق قليلًا، ثم خرج بالصمت عن كل جواب، وسمعت أنا هذا الكلام من خادمات البيت فأخرجني من أحلامي السوداء حزنًا على أمي إلى مخاوف أشد سوادًا؛ إشفاقًا من المستقبل الذي يفغر فاه ليبتلعني في جحيمه، لكنني لم أكن أستطيع أن أقول شيئًا أو أنبس بكلمة، وكل الذي فعلت أن منَّيت نفسي أن تكون إطراقة أبي شاهدًا بعدم رضاه عما سمعه من أخته، ولقد بدأت أشعر لهذه العمة بالبغض والكراهية، وبدأت أفرُّ من كل مكان أراها فيه، فإذا جلستْ في بهو الطابق الأول أو نزلت إلى الطابق الأرضي أسرعتُ إلى الحديقة ألتمس فيها الوحدة، وإذا نزلتْ إلى الحديقة — وقلما كانت تفعل — صَعِدتُ إلى الطابق الأعلى والتمستُ في غرفتي ملجأ أسكب فيه الدمع السخين على هذا اليتم الباكر.

ولست أدري أأفضت عمتي إلى والدي بميلي إلى العزلة، أم أنه لاحظ هذا الميل من تلقاء نفسه، أم أنه كان صريحًا حين قال لي إن عمتي تريد العودة إلى قريتها، وإنه يؤثر أن نغيِّر الهواء بالسفر إلى الإسكندرية والمقام بها أسبوعًا أو أسبوعين؟

وسافرنا بالفعل، وسافرت معنا طاهيتنا، ونزلنا طابقًا صغيرًا استأجره والدي من أحد معارفه كانت به خادم صغيرة السن تتقن تنظيف المسكن وقضاء ما تحتاج إليه الطاهية من السوق القريبة منا.

وكان لهذا التغير في لون حياتنا من الأثر الحسن على نفسيتي ما خفف بعض الشيء من عميق لوعتي، فقد كنت أجد من هواء البحر المنعش في هذه الأيام الأولى من فصل الخريف ما يُنشِّط ذابل حيويتي، وكنت أجد في زرقته الممتدة إلى الأفق حيث يتعانق الماء والسماء مسرحًا لأفكار مبهمة يذوب خلالها جوى الحزن الذي ناء به صدري، وكان صريف أمواجه المتكسرة على الشاطئ يداعب سمعي وكأنه أنغام يبعث تشابهها إلى الأعصاب نوعًا من السآمة المريحة التي تدعونا إلى النوم كما تدعو أنغام الأم طفلها الرضيع إليه.

ثم إنني قلما كنت أرى ما ينبهني إلى ذكر والدتي، فقد كان والدي يخرج كل صباح، ثم لا يعود إلا لتناول طعام الغداء، وليستريح بعده في سريره ساعة يخرج بعدها من جديد، ولم أكن أسأله كيف كان يقضي وقته، وكانت الطاهية تدخل مطبخها في الصباح لإعداد الإفطار، ثم لإعداد طعام النهار، أما الخادم الصغيرة فكانت من الإسكندرية، ولم أكن قد رأيتها من قبل، وقلما كنت أجد الفرصة للتحدث إليها، إلا حين تصحبني ساعة خروجي بعد الظهر أسير على شاطئ البحر، وفي تلك الساعة كانت تقص عليَّ أنباء تافهة عن مخدوميها أصحاب الطابق الذي نقيم به، ولم يُثِر عنايتي من حديثها إلا إعجابها الذي لا حد له بجمال سيدتها، وجمال أخت هذه السيدة التي تزوجت قبلها، ثم ظلت سنوات مع زوجها لم تنجب فطلقها؛ لأنها لم ترض أن تشاركها فيه امرأة أخرى يرجو أن يُرزَق منها الخلف الصالح.

على أن هذه المسكينة المحسنة التي خففت بعض لوعتي لم تبلغ أن أنستني فادح مصابي، ولا حجبت عني طيف المتوفاة العزيزة التي أذاقني موتها طعم اليتم المرير، فقد كانت تتبدى لي في أحلامي، وكنت أرى طيفها في شبه اليقظة وأنا أنظر من الدار إلى غاية الأفق، وكأنها ترنو إليَّ بعيون ممتلئة حنانًا وعطفًا، وكثيرًا ما كنت أناجي السماء عند هذا الأفق البعيد أسائلها: لم حرمني الله أمي وما جنت ذنبًا، بل كانت البر والرحمة بكل محتاج إلى البر وإلى الرحمة؟!

وكنت أعيد هذا السؤال على نفسي إذا تبدت لي أمي في أثناء النوم، ثم استيقظت بكرة الصباح دامعة العين منقبضة النفس، واستبد بي هذا السؤال أيامنا الأخيرة بالإسكندرية، حتى كنت أخرج أحيانًا من صلاتي قبل أن أتمها مخافة أن يجزيني الله بالتعرض لقضائه أو الاعتراض عليه، وكنت في بعض الأحيان أجمع بين يدي كل قوتي، وأمضي في الاعتراض على ما أراه ظلمًا وقع بوالدتي وبي، حتى إذا شعرت أنني أصبحت على شفا جرف من هاوية التجديف ارتددت فزعة أبكي، وأنا لا أدري: أكان بكائي فرقًا من هول ما اجترحت في حق ربي، أم من هول المصاب الذي أذبل صباي وشبابي، وجعلني أرى المستقبل أمامي أسود لا يبدد ظلمته خيط من ضياء؟

وأدت بي هذه الحال إلى إهمال بعض صلواتي، وكنت من قبل حريصة على ألا يفوتني فرض منها، كما بدأ يخامرني شيء من الشك فيما كان أستاذي يلقيه عليَّ من دروس الديانة.

وعدنا إلى القاهرة لموعد بدء الدراسة في المدرسة السنية، فلما كنت بين زميلاتي ومعلماتي لم أجد بدًّا من العودة إلى العناية بمصلى المدرسة محافظة على مكانتي، وانخرطت في الدرس، وضاعفت مذاكرة علومي في البيت، ووجدت في ذلك مسلاة عن همي، وجاءت عمتي من جديد فتولت تدبير المنزل، ثم أعفتني المذاكرة من طول المكث معها، واطردت حياتنا على هذه الوتيرة زمنًا كان والدي يسبغ عليَّ في أثنائه أضعاف ما كان يسبغه عليَّ من قبل من عطف وحنان، وأخذت عمتي تدنيني منها، فأنساني مر الزمن ما سمعته من خدم البيت عن حديثها مع أبي في أمر زواجه، فلم تبق في نفسي من ناحيتها تلك الحفيظة التي شعرت بها من قبل، وتعودت حياة اليتم وأخذت أشعر بضرورة الاعتماد على نفسي في كل شأن من شئوني، وبأني مطالبة فوق ذلك بالاشتراك مع عمتي في تدبير شئوننا المنزلية، وبخاصة ما تعلق براحة أبي في ملبسه وفي غرفة نومه، آملة أن يجد في عنايتي بأمره ما يصرفه عن التفكير في الزواج.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤