الفصل الحادي عشر

عدت إلى المدينة وإلى مكاني من الروضة في المسجد النبوي، وقلبي مفعم غبطة أن أتاح الله لي فرصة كاملة لتطهير روحي من كل شائبة، ورآني خادم المسجد أعود وحدي إلى مكاني بعد أن كان زوجي وابنتي يصحباني إليه، فتلطف في السؤال عنهما، فلما علم أنهما عادا إلى مصر، وأنهما سيحضران إلى المدينة في زيارة رجب دعا لهما بالخير، وأثنى عليهما أجمل الثناء، وتمنى لهما زيارة رجب موفقة، وكذلك عدت إلى مألوف سيرتي قبل مجيئهما من مصر، ولا أشك في أن الله قد رضي عني، وأن بقائي بالمدينة بإذن بذله زوجي طيب النفس ببذله خير مظهر لهذا الرضا.

وأقمت الأيام والأسابيع والشهور من يومئذ أمعن في تطهير نفسي وقلبي، وأطمئن إلى من بمصر من رسالاتهم إليَّ، وأدعو لهم وللناس جميعًا بالخير. وإن شهر رجب ليقترب، وإن نفسي لتهفو لرؤية الأعزة ولصحبتهم في زيارة مدينة الرسول ومسجده وآثاره، إذ تناولت من ولدي برقية نصها: «صحة عمي توجب حضورك فورًا.» ولشدَّ ما أزعجتني هذه البرقية، وجعلتني أضرب أخماسًا لأسداس أحاول أن أحدس ما أصاب زوجي! لقد كان في كمال صحته يوم كان هنا، ويوم ودعته بينبع، ترى أصابته نوبة من تلك النوبات التي تُخشَى مغبتها، فدفعت ولدي ليبعث إليَّ يدعوني إلى القاهرة؟ فأنا أعرف ولدي، وأعلم أنه لا يزعجني هذا الإزعاج لطارئ لا تُخشَى عواقبه، لا بد إذن من السفر على أول باخرة تبحر من ينبع.

وتجهزت للسفر، واتخذت له كل عدته، وذهبت إلى ينبع وأبحرت منها إلى مصر، وكان زوج ابنتي في انتظاري بالسويس، فلما رأيته سألته في لهفة عن أنباء عمه، وحاول الشاب أن يطمئنني لكن محاولته لم تُزِل مخاوفي؛ لأن سؤالي جعله في حيرة اضطرب لها هنيهة قبل أن يتكلم، ثم لم تكن عبارته حين تكلم عبارة الواثق بنفسه، وقلت له: «لا تُخفِ عني شيئًا يا بني، إنني سأرى الرجل بعد ساعات إن كان لا يزال على قيد الحياة، فاصدقني ولا تزد بمحاولتك اضطراب نفسي.» وكان جوابه: «لقد أصابته يا أماه نوبة قلبية شديدة هي التي دفعتنا لاستدعائك على عجل، وكانت صحته قد بدأت تتحسن حتى لقد عاتبنا أمس على إزعاجك، لكنه استيقظ فجر اليوم متعبًا فدعونا له الطبيب قبل أن تطلع الشمس، ولم أستطع البقاء لأعرف رأي الطبيب مخافة ألا أدرك الباخرة أول وصولها، وكلنا ندعو الله من أعماق قلوبنا أن يمن عليه بالشفاء، وأن يرد إليه العافية.»

وأطرقت لما سمعت، ورفعت رأسي أدعو الله من أعماق قلبي ألا يسيئني في هذا الرجل الطيب الذي أحسن إليَّ وأنقذني، ثم أحسن إليَّ سنوات طوالًا بعد زواجنا، ثم أحسن إليَّ مرة ثالثة، فأذن لي في مجاورة الرسول الكريم.

وأقلتنا السيارة تنهب طريق الصحراء إلى القاهرة، فلما دخلت غرفة المريض العزيز وأنا في ثوب الإحرام الناصع البياض، نظر إليَّ بعينين ملأهما الدمع نظرة شوق ويأس، وأقبلت عليه فقبَّلت جبينه ويده وأنا أرتجف لشدة ما أصاب قلبي من الخفقان، فلما هدأ رَوْعي بعض الشيء أمسكت بيده وقلت: «شفاك الله يا حبيبي وعافاك، إنها دعوة يهتف بها قلبي منذ عرفت وأنا بالمدينة بعض ما أصابك، وظل يهتف بها في كل صلواتي وخلواتي، وساعات قنوتي وتهجدي، وأرجو أن يسمع الله لي، إنه سميع الدعاء.» فنظر إليَّ بعينين مُلئتا يأسًا، وقال في همس: «شكرًا يا حبيبتي، لكني أحس دنو الأجل! نعم، إنها النهاية؛ فاستغفري لي ربك هنا، واستغفريه حين تعودين إلى المدينة تجاورين رسول الله الأكرم»، وسكت بعد ذلك برهة، ثم قال في صوت خافت لا يكاد يبين: «وداعًا وحمدًا لله أن رأيتك قبل أن ألقاه لتستغفريه لي؛ فأنت ولية الله الصالحة!»

قلت: «بل أنا يا حبيبي المذنبة التائبة، فليغفر الله لك ولي، وليرحمك ويرحمني، إنه رب التقوى ورب المغفرة!»

وأسبل الرجل عينيه؛ أتراه ودع الدنيا؟ أتراني حضرت من المدينة إلى القاهرة لأراه هذه اللحظة القصيرة؟ أتراه ودعني حقًّا وداع الأبد؟!

عاد إلى قلبي خفقانه، وعادت إلى جسمي رجفته، ولم أشعر ويده لا تزال في يدي أأثلجها الموت أم أنها لا يزال فيها دفء الحياة! وإنني لفي هذه الحال من الحيرة والاضطراب إذ دخل الطبيب الذي عاده وأنا لا أزال بالسويس، فلما رآني استأذنني وأخذ يد زوجي من يدي، ثم وضع أذنه على قلب الرجل، ثم قال: البقية في حياتك يا سيدتي. وانصرف.

رباه ماذا أصنع؟! هذا قضاؤك لا مرد له، أأصيح كما تصيح النساء؟ أأخلع ثياب إحرامي لألبس السواد؟ خنقتني العبرة وهوى قلبي إلى قرار سحيق، وحُبِس صوتي فلم أجد إلى الصياح سبيلًا، ولقي الطبيب ابنتي صاعدة إلى الغرفة التي أنا بها فأسرَّ إليها النبأ الفاجع فدخلت عليَّ والدمع يملأ عينيها، وقبلتني وفي نبرات صوتها حزن لم تعرفه يوم مات أبوها، وأقبل ولدي ومعه زوجه وزوج ابنتي، واجتمعنا كلنا حول هذا الميت المسجى في فراشه، وأنا لا تنفرج شفتاي عن كلمة، وانهملت عيناي بالدمع الهتون، وجاء جيراننا يشاركوننا مصابنا فتلقيناهم في حجرة أخرى.

وخرج ولدي وزوج ابنتي يعدَّان لدفن الميت، وذهبت ابنتي وزوج ولدي فلبستا السواد وعادتا، أما أنا فبقيت في لباس إحرامي؛ لأن وجيعة قلبي لم تكن بحاجة إلى لباس يعبر عنها، بل كانت تعبر عن نفسها بأبلغ مما يعبر عنها أي مظهر.

وأي وجيعة لقلب امرأة في كهولتها أقسى من أن ترى حبها الذي اكتمل وملأ دمها وأعصابها كما ملأ قلبها يتحطم على صخرة الموت، فلا يبقى له في متاع الحياة أمل أو رجاء.

ودُفِن زوجي — عليه رحمة الله — قبيل المغيب من يوم وفاته، فلما ذهبت إلى مرقدي بعد أن صليت العشاء الآخرة ذكرت، ويا لهول ما ذكرت! ذكرت يوم رجاني رسول زوجي الأول أن أذهب إليه وهو في ساعات احتضاره ليسمع مني بأذنه أنني سامحته فأبيت! ألا كم كنت قاسية يومئذ! أَوَيغفر لي ربي هذه القسوة؟ وغفوت فإذا الطيف الملتف في أكفانه؛ طيف زوجي الأول، يتبدى لي قائلًا: لا عليك مما صنعت يومئذ، لقد سامحتك كما سامحتني، فليغفر الله لك ولي، فنامي هادئة مطمئنة.

واستيقظت الصباح بعد غفوة غفوتها بعد صلاة الفجر، فلما تقدم النهار انتقلت إلى بهو الاستقبال أتلقى العزاء ممن جئن مواسيات، فإذا بينهن صديقتي، فلما مال ميزان النهار وانصرف الناس بقيت هي حتى خلت إليَّ، عند ذلك قالت: «جئتك يا صديقتي معزية في زوجك الذي اختاره الله إليه أمس، وفي زوجك الأول، ولأقسم لك أنني ما كان بيني وبين أيهما إلا المودة البريئة الطاهرة أملاها عليَّ اعترافي بجميلهما في استخلاص ميراثي وميراث أبنائي، وأملاها عليهما شهامتهما ومروءتهما، أما وأنت اليوم ولية الله الصالحة التي جاورت رسوله الكريم فقد جئت إليك مستغفرة عما فرط مني في حقك، راجية أن تسامحيني ليغفر الله لي.»

وذكرت لحديثها ما رأيت في نومي وأنا بمكة حين سعينا معًا، وطفنا معًا، وأقسمنا أن نعود صديقتين كما كنا، فقصصت عليها رؤياي تلك، وتفسير الأستاذ الذي يحاضر الناس في الحج مغزاها، وكيف أني طهرت نفسي من كل موجدة عليها، فعدنا صديقتين كما كنا، ثم قلت لها: «وأنا يا صديقتي لست ولية الله الصالحة كما تذكرين، وكما ذكر زوجي أمس وهو في احتضاره، إنما أنا المذنبة التائبة التي ترجو عفو ربها ومغفرته ذنوبها.»

وقامت صديقتي فقبلتني قبلة شعرت بها صاعدة من أعماق قلبها، وقالت: «شكرًا لك، والحمد لله أن عدنا صديقتين كما كنا، وإني لشاكرة من كل قلبي أن أكون من جديد صديقة لولية الله الصالحة»، وقلت من جديد: «بل للمذنبة التائبة، ولعلنا نلتقي يا صديقتي عمَّا قريب في بيت الله فنطوف معًا ونسعى معًا لتصبح رؤياي حقًّا، ولتزوري معي مدينة الرسول الكريم، وتتبركي بمسجده والصلاة في روضته.»

وقبَّلتني صديقتي من أعماق قلبها قبلة أخرى، وقالت: «فليسمع الله منك، وليهيئ لي بفضله حج بيته وزيارة نبيه ورسوله»، وودعتني وودعتها وقد امتلأ قلبي حبًّا لها، وعطفًا عليها، وبرًّا بها، فلما عدت إلى مجلسي بعد انصرافها رفعت كفي أشكر الله على تطهير قلبي وروحي ووجداني.

وانقضت أيام العزاء، فلما كنَّا عشية الجمعة الذي تلا الوفاة أوصيت بشراء قدر كبير من الورود وأغصان الشجر ومما يُوزَّع على الفقراء في المقابر من الطعام. وفي صباح الجمعة صحبني ولدي وابنتي وزوجاهما إلى قبر المتوفى، وهناك قمنا بمراسم تحيته، والدعاء أن يرحمه الله ويغفر له، ووضعت نصف ما معنا من الورود وأغصان الشجر على قبره، ووزعت على الفقراء الذين أحاطوا بنا ساعة خرجنا من عنده نصف ما معنا من طعام، ثم قلت لولدي: هيا بنا إلى قبر أبيكما، فأقبل ابني وابنتي يقبلانني في لهفة وقد ملأ الدمع أعينهما، وبلغنا مقام القبر ودخلناه وحيينا صاحبه، ودعونا الله أن يغفر له ويرحمه، ووضعت الورود وأغصان الشجر على قبره، ووزعت ما بقي معي من طعام على الفقراء. وقبيل خروجنا لم أملك عبرتي، فقد ذكرت الطيف الملتف في أكفانه يوم هتف بي أن الله غفر له ولي، وقلت مناجية ربي: «رب ما أعدلك، وما أرحمك، وما أعظم فضلك! رب لقد بلوتني حتى طَهُر قلبي، رب فاعفُ عني، وسعت رحمتك كل شيء.»

ومن المقابر عدنا إلى بيت ولدي، فلما دخلنا بهو الاستقبال وواجهتني في صدره صورة زوجي الأول، شعرت لمرآها بصدمة لم أكن قط أتوقعها بعد أن كنت منذ قليل على قبره وأديت له واجبه، فقد أثارت هذه الصورة أمام بصري منظره الكامل في حياته، كما رأيت عينيه تنظران إليَّ وكأنما تريدان أن تخترقا شغاف قلبي إلى دخيلة ضميري لتريا فيه الدافع الصحيح لذهابي إلى قبره، وقيامي بما قمت به عنده، إذ ذاك رأيتني أضطرب في موقفي، وشعرت بالرعشة تسري في جسمي، وخُيِّل إليَّ أن ماضي حياتنا يرتسم كاملًا أمام بصيرتي، ولم يغنني ما ذكرت من صفح هذا الرجل الكريم عني، بل تضاءلت نفسي أمام هذه الذكرى، وبدا لي أن أوهامي تخدعني، وأنني لم أبلغ بعدُ من طهر قلبي والضمير ما حسبت أن الله أكرمني به، وأفاء عليَّ من أجله حال الرضا.

وعدت في المساء إلى بيت الزوج الذي أصفيته حبي إلى آخر نسمة من حياته، واتخذت من أصغر حجرة فيه مصلى أخلو بها إلى نفسي ساعات وحدتي، وأحاسب فيها نفسي بعد صلواتي، وكانت كثيرات من صديقاتي يزرنني يسرِّين عني بعض ما أمضَّني من عميق شجني، وكن جميعًا يجئن لابسات السواد المألوف في مصر، فرأيت ناصع البياض الذي ألبسه غير متفق مع مظهرهن، فلبست السواد مثلهن، وإن استبقيت طرحتي البيضاء لصلواتي، ولأذكر بها أيام سكينة النفس وطمأنينة الضمير، وكان ولدي وابنتي يقضيان معي أوقات فراغهما حتى لا تثقلني الوحدة بهمومها فتزيد اضطراب نفسي ووجيعة قلبي.

وبدا لي بعد زمن أن أعود إلى المدينة المنورة؛ لعل في حياتها ما يخفف عني، ويهون علي مصابي، لكني خشيت أن يبلغ ما كان يعاودني من تخاذل النفس واضطراب الأعصاب مبلغ الخطر على حياتي وأنا في وحدتي وغربتي، وقد استشرت الطبيب فأقر مخاوفي، وأشار بضرورة تريثي، فآثرت أن أبقى حتى تهدأ ثائرتي وتثوب إليَّ سكينتي، فإذا ذهبت بعد ذلك إلى المدينة استطعت أن أؤدي لله حقه، وأن أرجو عفوه ومغفرته.

وأقمت في بيت زوجي أستقبل زائراتي، وأستريح إلى صحبة ابني وابنتي، فإذا لم يبق بالمنزل جليس ذهبت إلى حجرة خلوتي أؤدي فرائضي، وألتمس عون الله في محنتي، وكنت أحسب أن مُضِيَّ الزمن كفيل بشفاء نفسي من الاضطراب الذي كان يعتادني، لكني شعرت بعد لَأْيٍ بأن نفسي تزداد اضطرابًا، وبأن الأرق يتولاني، وبأن الهواجس تعصف بفؤادي، ثم إنني ما لبثت أن استبد بي الفزع حين شعرت بأن صلاتي وخشوعي وتهجدي وقنوتي لم تبقَ خالصة من الشوائب، فقد جعل زوجي الذي أصفيته كل حبي تتبدى لي ذكراه؛ فتنهمل من مآقيَّ عبرات سخينة، وأذكر ما قلت له حين زارني بالمدينة من أنني أصبحت أحبه حب امرأة لرجل، وأحبه بحواسي وبدمي وبأعصابي، فيزداد دمعي هملانًا على حبٍّ مَلَكَ عليَّ كل وجودي، ثم أتى عليه الموت حين بلغ عنفوانه، وقبل أن أستمتع بثمراته.

ولم تكن هذه الذكرى المريرة بعض أحلامي وكفى، بل كانت غصة يقظتي، وكانت تساورني وأنا في صلاتي، وقد حاولت مغالبتها بالفزع إلى ربي كي ينقذني منها، فإذا هي تزداد تمكنًا من نفسي، وورودًا إلى خاطري، وتبلغ من ذلك أن تخرجني من صلاتي فأستغفر ربي، ثم أعود إلى الصلاة، فلا يلبث شيطان الذكرى أن يثير أشجاني، ويفسد من جديد صلاتي.

ذكرت وأنا في هذا المضطرب النفسي ما كنت قطعته لزوجي من عهد أن أعود معه إلى مصر بعد زيارة رجب لنستمتع بهذا الحب الذي استوفى كماله، وكيف اضطررت إلى العودة قبل هذا الموعد بأيام لأشهد احتضاره، ولأودعه الوداع الأخير، ترى لو أن الله قد غفر لي حقًّا، وكانت الرؤى التي رأيتها شاهدة بهذه المغفرة صادقة، أفكان الله يمتحنني هذا الامتحان القاسي الذي لا يصبر عليه قلب إنسان؟ أم أن تلك الرؤى كانت من أفانين الخيال، وأن هذا المصاب الذي حل بي كان بعض الجزاء الذي ادخره القدر لي عن ماضي حياتي؟

وكنت أزداد كل يوم شعورًا بالوحدة والعزلة، وبأنني لم يبق لي في هذا العالم صديق أو أنيس بعد أن فقدت هذا الصديق الأنيس والزوج الحبيب. ولم يدُرْ بخلدي في هذه الساعات التي كوت لواعجُ الحزن فيها شغافَ قلبي أن الله وهبني ابنًا وابنة يؤنسان وحدتي، ويضمدان جراح قلبي، بل كدت أنسى هذين الولدين اللذين أراهما كل يوم، وأنسى أنهما بضعة مني، وأنهما امتداد حياتي.

وكذلك كان شعوري بالفاجعة يزداد عنفًا على الأيام، حتى لقد كنت في كثير من الأحيان أقضي الليل مسهدة محزونة، فإذا أوشك الليل أن يولي غفوت وطالت غفوتي فلم أستيقظ لصلاة الفجر، ثم لم يسعفني أن أستغفر عما فرط مني؛ لأنني كنت لا أكاد أتم استغفاري حتى أعود إلى بثي وحزني، وأندب ما قضى عليه الموت من حبي، وأعود على نفسي باللائمة أن لم أعد مع زوجي من المدينة المنورة إلى مصر يوم دعاني للعودة معه؛ لأمتع هذا الحب بما يشفي غلته خلال الأشهر الخمسة التي عشتها بعيدة عن هذا الحبيب، ومن يدري؟ فلعلي لو صحبته يومئذ وعدت معه لما دهمه الموت مستعجلًا، ولكنت قد بعثت إليه من حيويتي وحياتي ما أطال في حياتي وحفظه لي!

وكانت تقواي تعاودني فأحاول التغلب على هذه الحال، فكنت أمرغ وجهي في التراب لعل روحي تطهر بتعذيب جسمي، وكنت أصوم الأيام المتعاقبة راجية أن يعيد إليَّ الصوم طمأنينة النفس، وكنت أهرع إلى البؤساء والمساكين الذين يقفون على أبواب المساجد أستجديهم كلمة عطف لعل الله أن يغفر لي، ثم كنت بعد كل ما أصنع من ذلك أشعر بنزغ الشيطان، وكأنما يقول: «وماذا أفدت من تقواك وصلواتك، وقنوتك وعبادتك، إلا أن قضيت على الرجل الذي كان يحبك حب العبادة؟! عودي إلى صوابك، وفكري لغدك أكثر مما تفكرين في أمسك، ولعل الحظ الذي أتاح لك من أنقذك من وحدتك يوم طلقك زوجك الأول يمد إليك يده مرة آخرة، ويهيئ لك من ينقذك من شجنك ومن هموم كهولتك!»

ولقد سخرت من نفسي حين نزغ الشيطان لي، ونظرت مع ذلك إلى وجهي في المرآة، فرأيتني ولا تزال في عيني جاذبية شبابي، وإن خطت الكهولة على جبيني بعض سطورها، وسرعان ما استعذت بالله من الشيطان ونزغه، وهتفت به — جل شأنه — ضارعة إليه أن ينقذني من شر نفسي، وأن يهديني إلى سواء السبيل.

وإنني لتساورني هذه الهواجس، وتعبث بي هذه الهموم إذ جاء إليَّ ولدي ذات صباح مقطب الجبين، يذكر لي أن أخته تركت بيت زوجها، وجاءت إلى بيته تقيم به، وأنه حاول أن يعيد الصفاء بين الزوجين فلم تفلح محاولته، وأن هذه لم تكن أول مرة اشتد الخلاف فيها بينهما، وأنه يلجأ إليَّ لأتدبر الأمر بحكمتي بعد أن تولاه اليأس منه، وبعد أن خشي أن يؤدي إلى نتائج لا تُحمَد عاقبتها.

وتولتني الدهشة لما سمعت، فقد كنت مقتنعة إلى يومئذ بأن ما دار من حديث بيني وبين ابنتي حين زارتني مع عمها بالمدينة قد ردَّها إلى صوابها، وأن ما قلته لها عن ذكاء الأنوثة وسلطانه القاهر قد مكَّنها من التغلب على نزواتها ونزوات زوجها، وكان مصدر اقتناعي هذا أن ما كان يرد لي من خطابات، خلال الأشهر الخمسة التي كنت فيها بعيدة عنهم، لم يرد فيه شيء يزعزع هذا الاقتناع، بل كانت كلها تتحدث عن هناءتهم وسعادتهم في انتظار عودتي إليهم، أَفَجَدَّ بعد عودتي إلى مصر جديد أثار منازعات الزوجين؟ وهل يحدث مثل ذلك ونحن نعالج همنا، ونحاول أن نداوي مصابنا؟

وأطرقت برهة أفكر في الأمر وكيف أتدبره، وفجأة انحدرت من عيني دمعة لخاطر مرَّ بخيالي؛ أولم تكفني وفاة زوجي عقابًا لي على ما سلف من أوزاري؟ أم يريد القدر أن يضاعف عقوبتي في شخص ابنتي؟ أين إذن ما كان من توبتي واستغفاري؟ لست أنا إذن ولية الله الصالحة، بل لست إذن المذنبة التائبة، فها هي ذي توبتي لم تُقبَل، وهأنذي أواجه من قسوة القدر ما لا قبل لي به، ولا طاقة لي باحتماله.

وبصر بي ولدي والدمعة تنحدر من عيني، فزايل جبينه قطوبه وأقبل عليَّ يواسيني ويخفف الهم عني، ورفعت عيني ونظرت إلى وجهه، فإذا الطيبة بكامل معناها مرتسمة على أساريره، طيبة أبيه زوجي الأول، وإذا هو يقول لي: «لا تجزعي يا أماه، سأبذل لراحة أختي كل ما أستطيع بذله، وإذا لم يكن إلى مصالحتها مع زوجها من سبيل، فسأحمل عبء حياتها، لتعيش كريمة ما حييت وما استطعت إلى ذلك سبيلًا.»

وقبَّلته وقد ازداد تأثري لمشابهته أباه في طيبته، كمشابهته إياه في ملامحه، ألا كم جنيت عليه وعلى أخته بانفصالي عن أبيهما بعد أن بذل في سبيل رضاي كل ما يستطيع إنسان بذله! وبعد هنيهة قلت له: «عد إلى منزلك، وسألحق بك فيه عما قريب.»

وانصرف الشاب وذهبت أنا إلى خلوتي أصلي بها ركعتين لعل الله يهديني الرشاد في أمر ابنتي، وما كدت أتم صلاتي حتى امتلأت عيناي بالدمع مرة أخرى؛ إذ خُيِّل إليَّ أن شواظًا من جهنم قد سُلِّط على ضميري يعذبه، وأن هذا الشواظ قد صُوِّر في شخص ابنتي، وأنني لن يهدأ لي بعد اليوم بال، ولن تطمئن لي نفس؛ لأنني عذبت أباها، فحق عليَّ أن أُوفَّى جزاء ما قدمت يداي فأتعذب لعذابها، وأتألم لألمها. وعبثًا حاولت أن أطرد هذا الهاجس الذي استبد بي زمنًا لم أدرِ أطال أم قصر، ولولا أنني خشيت أن يطول على ولدي غيابي لأمسكني هذا الهاجس، فلم أستطع من خلوتي حراكًا، لهذا قمت وارتديت ملابس خروجي، وذهبت إلى منزل ولدي.

ودخلت على أهله فألفيت زوج ولدي تحدث ابنتي في رفق تحاول إقناعها بالعود إلى زوجها، وجلست إليهم وسألت ابنتي: ما أغضبها؟ قالت وفي نبرة صوتها حدة لم آلفها يوم تحدثت إليها وأنا بالمدينة المنورة لأعيد الصفاء بينها وبين زوجها: «لم يبق يا أماه في قوس صبري منزع، ولم يبق من انفصالي عن زوجي مفر، لقد كنت أشكو من قبلُ تدخُّله في أخص شئوني، وقد استطعت بفضل نصائحك أن أتغلب على ذلك بتمليق غروره تارة، وبالتظاهر بموافقته أخرى، أما اليوم فالأمر مختلف، لقد تمكنت الغيرة من نفسه على نحو يشبه الجنون، وهو لا يغار من رجل بذاته، بل يغار من كل رجل يتجه إليَّ نظره، وإن له لصديقًا يزورنا بين الحين والحين ويجاملني بالثناء على ثوبي، أو يبدى إعجابه بحسن حديثي، فإذا انصرف رأيت زوجي انقلب شيطانًا يحاسبني على كل كلمة قالها صديقه، وقلت له حين تكرر ذلك منه: «إذا جاء صاحبك هذا إلى هنا فلا تدعُنِي لألقاه حتى لا تثور غيرتك»، وكان جوابه: «وما تريدينه أن يقول عني؟ أتريدين أن يتهمني بالتأخر؟ لكن واجبك ألا تتزيني زينة تثير إعجابه، ولا تتحدثي حديثًا يستدعي طول إنصاته.» وأجبته إلى ما أراد، فلما جاء صديقه يومًا ودعاني هو إلى مجلسهما ذهبت إليه في ثياب أشبه ما تكون بثياب المنزل، ولم أزد في الحديث على أن أجيب بإيجاز عما أُسأَل عنه، ولم يزد صديقه في أثناء ذلك على أن جاملني بكلمات من مألوف القول، ومع ذلك اشتد زوجي في تأنيبي على إهمال ثوبي، ثم اتهمني بأني أردت بثوبي وبحديثي أن أثير عجب صديقه بدل أن أثير إعجابه، وليس هذا يا أماه إلا مثلًا مما يدور بيننا كل يوم، أترين حياة كهذه يمكن أن تُطَاق؟ أوليس انفصالنا خيرًا من الصبر عليها أو انتظار ما هو شر منها؟!»

دار بخاطري وأنا أسمع حديث ابنتي أن القدر ينتقم في شخصها من مثل غيرتي، حين كنت ألوم أباها على العناية بصديقتي، أَفَقُدِّر لهذه المسكينة أن ترث كل حظي، وأن تعاني في حياتها ما عانيت في حياتي؟ أفحقٌّ أن الآباء يأكلون الحِصْرِم والأبناء يضرَسُون؟ وهل تجمع هذه العبارة القديمة في ألفاظها القليلة قوانين الوراثة التي تُحدِّثنا الكتب الحديثة عنها؟ مهما يكن من أمر فمن واجبي اليوم أن أعالج ما حدث بين ابنتي وزوجها، فإن نجحت فذلك ما أرجو، وإن لم أنجح فمن حسن حظ ابنتي أنها لم تنجب بعد، فهي لذلك غير معرضة في مستقبل حياتها لما تعرضت وأتعرض له من تبعات تثقل الضمير وتبعث إلى النفس الأسى والشجن.

أتمت ابنتي كلامها فقلت: «أريد قبل أن أحكم لك أو عليك أن أسمع كلام زوجك لأكون أدنى إلى العدل بينكما، فدعينا أنت الآن، واذهب يا بني فادع زوج أختك إلى هنا، وقل له إنني أريد أن أتحدث إليه.» ولم يبطئ ولدي في العود مع زوج أخته، فهما يسكنان عمارة واحدة، وحيَّاني الشاب تحية حسنة، وإن بدا الجد على وجهه، فلما اطمأن به المجلس قلت له: «أنت يا بني شاب حصيف عاقل، وابنتي في عصمتك، فأنت الذي تعصمها من خطئها إذا أخطأت، وأنت الذي تعصمها من الغير إذا حاول الغير أن يسيء إليها، وأنت كذلك الذي تعصمها من غضبك إذ بلغ هذا الغضب أن يعرِّضكما لسوء، فكيف — وذلك مكانك منها — يبلغ النفور بينكما مبلغًا لم يستطع زوجي — عليه رحمة الله — في وقت من الأوقات أن يتغلب عليه، ولم يستطع ولدي أخيرًا أن يصلح منه؟ إني ألجأ يا بني إلى حكمتك وحسن رأيك، فإن تكن زوجك مخطئة عاونتك عليها ورددتها إلى صوابها.»

أمسك الشاب برهة عن الكلام وكأنه يريد أن يبحث في ذاكرته عن تهمة يلصقها بزوجه، وأحسبه لم يجد شيئًا معينًا يذكره، فاندفع يقول: اسمعي يا أماه، يجب أن تعلمي أنني رجل شديد الغيرة، وفي ابنتك جاذبية شديدة أحببتها من أجلها لأول ما رأيتها، ولا أزال أحبها أشد الحب وأعنفه، لكن هذه الجاذبية تجعل غيري من الرجال يحاولون التقرب منها، بل التمسح بها، أنا أعلم أنها لا ذنب لها في ذلك، فجاذبيتها بعض خلقها، لكن هذا التقرب يثير غيرتي إلى أبعد حد، ويدعو إلى ما يقع بيني وبينها من خلاف، وقد خُيِّل إليها أن انفصالنا بالطلاق هو الدواء لما أشكو منه، وأنت تقدِّرين أن ذلك أسخف الرأي، وأنه وهم باطل، فحبي إياها سبب غيرتي عليها، ولولا هذا الحب العنيف لهان عليَّ أن أنفصل عنها، فهل لديك لهذا الموقف الشاذ دواء؟»

وسارعت إلى إجابته بقولي: «نعم يا بني، الدواء الناجع أن تنجبا أطفالًا تُشغل أنت وتُشغل أمهم بهم، فيقسم حبك بينها وبينهم، وتخف بذلك غيرتك عليها، وتتجه جاذبيتها إليهم، فتقل عناية الرجال بالتقرب إليها.»

ونظر إليَّ الشاب في دهشة، وكأنما خُيِّل إليه أني أمزح معه أو أسخر منه، وقال: «هذا اقتراح مفيد لعلاج طويل الأجل، وهو كذلك إذا افترضنا أن إنجاب الأطفال رهن مشيئتنا، إنما أريد دواء سريع المفعول للتغلب على الموقف الذي نقفه اليوم، ومحال أن يكون الانفصال بالطلاق هو هذا الدواء، فأنا أحب زوجتي، ولن أتيح لغيري فرصة الاستيلاء عليها برد حريتها إليها، وأنت يا أماه سيدة مجربة تعرفين ما لا نعرف، وتستطيعين أن تصفي الدواء السريع المفعول، فنحن في أشد الحاجة اليوم إليه.»

قلت: «هذا الدواء في يدك ولدي، وابنتي طوع بنانك إذا عالجتها وعالجت نفسك به؛ ذلك أن تجعل الحكم في غيرتك لعقلك لا لهواك، ولو أنك فعلت لأدركت أنك تبالغ في لوم زوجك على ذنب تعترف أنت بأنها لم تجنه، ثم لأدركت أن القدر وهبك سعادة تريد أن تدس إليها السم بدل أن تستمتع بها صافية سلسبيلًا، أنت تلوم زوجك، بل تؤنبها، بل تعاقبها لأن الرجال يتملقونها أو ينظرون إليها مفتونين بجاذبية أسبغها عليها بارئها، وأنت مع ذلك تعلم أن هذه الجاذبية في ملكك أنت، أنت وحدك الذي تستمتع بها نهارك وليلك، في يقظتك وفي أحلام نومك، وأن نصيب غيرك منها لا يزيد على غبطتهم إياك أو حسدهم لك عليها.

أنت كمن يملك قصرًا منيفًا يقف عنده من يمرون به ويتمنون أن يكون لهم مثله، وهم لا يملكون إلى ذلك الوسيلة! أفتلوم أنت هذا القصر وتحاول هدمه؟ أم تزداد اعتزازًا به وحمدًا لله على أن جعله لك؟ هذا إلا أن تتهم زوجك في وفائها أو في عفافها، وذلك ما أعيذك وأعيذها بالله منه، فإن يكن ذلك ورددت الأمر إلى حكم عقلك ولم تُرخِ فيه العنان لهواك، استرحت وأرحت زوجك، وهيأت خير مكان للسعادة من بيتك. هذا دوائي الذي أقترحه أملته عليَّ تجربة قاسية، أود ألا تعصف بحبكما تجربة مثلها.»

وأطرق زوج ابنتي هنيهة ثم قال: «إن منطقك دقيق يا أماه، وسأحاول جهدي أن أغالب غيرتي، لكني بحاجة إلى معاونة زوجي في هذه المحاولة.»

قلت: «فعد إليَّ يا بني ساعة الشاي، وإنني لعظيمة الرجاء أن تعود الحياة الزوجية بينكما مصدر هناء وسعادة.»

ودعوت ابنتي بعد انصرافه، وطالعتها بكل ما دار بيني وبين زوجها، وأعدت عليها ما ذكرته لها حين زارتني بالمدينة عن ذكاء الأنوثة وسلطانها، قالت: «أؤكد لك يا أماه أني أجهدت هذا الذكاء، وابتكرت لزوجي من حِيَله ما كدت أضيق ذرعًا به، ألم أقل لك ونحن بالمدينة إن الرجل إذا بلغ حبه المرأة حد العبادة لم يكفه أن يملك منها قلبها وعقلها وذوقها وكل شيء في وجودها، وإن غيرته عليها تشوبها عند ذلك وحشية تخرج بالرجل عن منطق العقل وعن منطق القلب، إلى حال أقرب ما تكون إلى الجنون، فكيف ترينني قادرة على معاونة زوجي كي يتغلب على جنون حبه؟»

قلت: «هَبِي يا ابنتي هذه الحال مرضًا، أوليس واجبًا على الزوجة أن تسهر على زوجها إذا مرض حتى يشفى؟ وقد وصفت أنا الدواء واقتنع بفائدته إذا أنت عاونته بذكاء أنوثتك على الاستفادة منه، فحاولي مرة أخرى لعل هذه المحاولة تكون موفقة، فإذا جاء ساعة الشاي فعودي معه إلى بيتك كأن لم يكن بينكما شيء، وسأدعو لكما الله من كل قلبي أن يهديكما ويوفق بينكما.»

وكذلك كان، جاء زوجها ساعة الشاي، وتحادثنا كأن لم يكن شيء، ثم عادا بعد الشاي إلى مسكنهما، وعدت أنا إلى بيت زوجي فأويت فيه إلى خلوتي، ودعوت الله من كل قلبي أن يرزق ابنتي أطفالًا تسعد ويسعد زوجها بهم، ويشغلونهما عن منازعاتهما بما يبعثون إلى حياتهما من روح الأبوة والأمومة، ومن عواطف الحنان والمحبة والرحمة. وتفتَّح قلبي إثر هذا الدعاء، ورجوت الله مخلصة أن يحققه، ففيه لي كذلك عزاء وسلوى إذ يعود الأطفال بنا معشر الجدات إلى أيام طفولتنا وشبابنا، ويبعثون إلى حياتنا من براءة طفولتهم ما ينبت على أغصان كهولتنا التي كادت تجف وتذوَى أوراقًا جديدة تبتعث حيويتنا إلى نشاط كادت تنساه، وكادت لذلك تنظر إلى المستقبل بعين زايلها كل أمل أو رجاء؛ لأن المستقبل يصبح في نظرها المنحدر الذي يهوي بنا إلى الفناء.

والحق أنني لم أكن أمزح مع زوج ابنتي ولا كنت أسخر منه حين قلت له إنه إن أنجب هو وزوجه أطفالًا شُغِلَ هو بهم عن غيرته، وشُغلت هي بهم عن تمليق الرجال جاذبيتها، وظل ذلك دأبهما سنوات عدة حتى يكبر الأطفال، وفي هذه السنوات يصبح هو أقل غيرة، وتُشغَل زوجه عن نفسها بأبنائها، وتتغير حياة الأسرة كلها تغيرًا أرجو أن يفيء عليهما الرضا والطمأنينة!

وانتقلت من حجرة خلوتي إلى غرفة نومي، فلما دخلت سريري وأطفأت الأنوار ذكَّرتني غيرة زوج ابنتي بما كان من غيرتي أيام شبابي، وما كان لهذه الغيرة من أثر في حياتي، وما أدت إليه من انفصالي بالطلاق عن زوجي، وأن طفولة ولدينا لم تمنع يومئذ الانفصال، ولم تشغلني عن هذه الغيرة، على أنني دفعت ما أثارته هذه الذكرى من مخاوفي بأن غيرة المرأة ليست كغيرة الرجل؛ حسبُ الرجل من المرأة أن يؤمن بوفائها له، ومحافظتها على عهده؛ ليطمئن قلبه، وليستريح إلى أن مجاملة الرجال لامرأته بالثناء عليها، بل بتمليق مزاياها ومواهبها، لا أثر لهما في وفائها وإخلاصها له ولأسرتهما. أما غيرة المرأة فمرجعها إلى أن الرجال لا وفاء لهم إلا ما ندر؛ لأن تعدد النساء في طبعهم، ولأن عدم وفائهم لا يدخل على أسرتهم من ليس منها، فمن حق المرأة أن تكون دائمة اليقظة دفاعًا عن نفسها، ولها عذرها إن دفعتها الغيرة إلى مثل ما دفعتني إليه، مع ما في ذلك من مضرة بها وبأبنائها، وأقنعتني هذه الحجة بأن ابنتي ليست معرضة لمثل مصيري ما وفت هي لزوجها، فاطمأننت لهذا المنطق، وذهبت بي الطمأنينة إلى عالم النوم.

تنصَّف شهر شعبان، فأديت لزوجي واجبه، فذهبت إلى قبره، ووضعت عليه الورود وأغصان الشجر، وتلا قارئ القرآن هناك ما تيسر منه، ووزعت الطعام على الفقراء، ثم عدت إلى بيتي، ولا يزال أثر البكاء في عيني، وفي الأيام الباقة من هذا الشهر أخذت أعد لسهرة رمضان، وأفكر في نظام حياتي بعد نهايته.

وكان هذا التفكير في سهرة رمضان جديدًا عليَّ، فلم يعتد زوجي — ولا اعتاد زوجي الأول قبله — إحياء هذه السهرة، ولا أخالني كنت أفكر في إحيائها لولا ما عاودني من تقوى صباي مما دفعني بعد ذلك للحج وللمقام بالمدينة، ولولا وفاة زوجي وفاة حزَّت في كبدي. فلما بدأ رمضان، وأخذت القارئة التي اخترتها ترتل القرآن بصوتها الرخيم، شعرت لسماعه بطمأنينة النفس إلى قضاء الله وقدره، وازددت يقينًا بمغفرة الله للتائب الذي صدقت توبته وإنابته، وإن أيقنت كذلك بأن التوبة الصادقة تقتضي صاحبها التكفير عن خطاياه بصدق الندم عليها، والإيمان بأن ما أصابه وما يصيبه من جرَّائها ليس إلا الجزاء العدل عنها جزاء يجب أن نتقبله شاكرين.

وقضيت رمضان في العبادة والتهجد، أقوم الليل، فإذا تناولت طعام السحر وصليت الفجر، أويت إلى مضجعي لأستيقظ لصلاة الظهر، أو للجمع بين الظهر والعصر، وقبيل المغرب تجيء القارئة تتلو ما تيسر من القرآن، فإذا غابت الشمس صليت ثم أفطرت، ثم صليت العشاء وبدأت السهرة، فجاءني بعض صديقاتي وزارني أبنائي، وأقمنا نستمع للقرآن ونتداول الحديث، حتى إذا انصرفوا قبيل موعد السحر أقمت أتحدث مع القارئة حتى نتناول طعام السحر معًا، ثم ذهبت إلى حجرة خلوتي، وأقمت بها حتى أصلي الفجر لأذهب بعد الصلاة إلى مضجعي.

وانقضى رمضان وأديت في فترة العيد واجباته لزوجي ولزوجي الأول، فذهبت إلى قبريهما ومعي أولادي، وهناك قمنا بالمراسم المألوفة في هذه المواسم.

وأخذت أفكر في المستقبل القريب وما أصنع فيه؛ ذلك أنني جال بخاطري غير مرة في أثناء رمضان أن أحج البيت وأهب حجي لزوجي لعل الله يغفر له، وأن أحج العام الذي يليه وأهب حجي لزوجي الأول عسى الله أن يرحمه. وإنني لكذلك إذ تناولت مع البريد رسالة فضضتها فتولتني الدهشة، وأخذ مني العجب، فهي مكتوبة بالألمانية، ونظرت في التوقيع فإذا هي من زوج السفير الألماني الذي عرفت منذ أكثر من عشرين سنة، والتي اعتزت يومًا بمركزها وجنسيتها فنال ذلك من كبريائي ومن قوميتي، فأتقنت الألمانية وقرأت أمهات أدبها، حتى لا تزعم أنها خير مني في المجتمع مكانًا، وابتسمت لهذه الذكرى، ذكرى الشباب وكبريائه وغروره، وتلوت الرسالة فإذا صاحبتها تذكر سابق معرفتنا، وأنها جاءت إلى القاهرة إثر وفاة زوجها تتسلى عن شجنها بذكريات سعيدة نعمت بها في عاصمة مصر مع ذلك الزوج الذي كان يحبها من كل قلبه، وتطلب إليَّ أن نلتقي في الموعد الذي أحدده لنجدد بالتقائنا عهدًا تنافسنا فيه، ثم تصافينا ولم يطرأ بعد ذلك على صفائنا ما يشوبه.

وابتسمت بعد أن فرغت من تلاوة الرسالة، فقد أثارت أمام خاطري عهد الشباب ونضارته، ورسمت أمام كهولتي تلك المرأة الشابة الجذابة الساحرة الحديث التي كنتها، والتي أثارت إعجاب المعجبين، وتمليق المملقين، وذكرتني لغة الخطاب بذلك الألماني الذي عرفت في الأقصر، والذي زارني بعد ذلك في القاهرة، بعد أن بلغ إعجابه بي أن قال إنه يراني على الأرض كما يرى الله في السماء، ألا ما أجمل الشباب وبراءة غروره! ما أجمل تلك الأيام التي يشعر الإنسان فيها بأنه محور الوجود، وأن كل ما في الكون يتجه بنظره نحوه ويتحدث إليه! بل ما أجمل أخطاء الشباب وخطاياه وأوزاره! إنها مصدر سعادتنا في شبابنا، والتكفير عنها والتوبة منها مصدر نعيمنا في كهولتنا. ترى لو أن الشباب لم يندفع مع غروره إلى الخطأ وإلى الخطيئة، فهل تكون الكهولة وهل تكون الشيخوخة إلا فراغًا ثقيلًا لا معنى له، إلا أنه غرفة انتظار للأجل المحتوم؟!

تُرى كيف حال هذه السيدة الألمانية زوج السفير الذي سبقها إلى العالم الآخر؟ ألا تزال فيها بقية من ذلك الجمال الذي كانت تتيه به، وتلك الكبرياء القومية التي كانت تدفعها إلى التعالي على الناس؟! وما لي أسأل نفسي عن ذلك وحسبي — لأراه رأي العين — أن أضرب لها موعدًا كما طلبت في كتابها، وعندئذ يصبح الخبر خبرًا، إذ أراها وأتحدث إليها، وأذكر معها عهدًا سعدت به ثم شقيت، ونعمت به ثم استغفرت الله عنه.

وكتبت إليها أدعوها لتناول الشاي معي في يوم قريب عينته، وجاءت لموعدي فكدت أنكرها لأول ما رأيتها؛ لقد ابيضَّ شعرها، وتجعد وجهها، وأطفأ منظارها الأزرق بريق عينيها، وأثقلت سمنتها جسمها، وبدت وكأنها تكبرني بأكثر من عشرين سنة، وحمدت الله حين رأيتها لما أنعم به عليَّ، ثم أخذت أحدثها عن سالف أيامنا وفتوة شبابنا، فتنهدت ثم قالت: «وا رحمتاه لذلك العهد السعيد! لم أكن أصدق ما قيل من أن مصرية في عهد الفراعنة كتبت على قبر ولدها: «من انتهك حرمة هذا القبر فليكن آخر من يموت ممن يحبهم»، وكنت أحسب أن الحياة لذاتها أحب إلينا من كل من نحب، لكني رأيت أمي وأبي وإخوتي وأعز صديقاتي وأصدقائي يتهاوون إلى قبورهم كما تهوي ريح الخريف بورق الشجر إلى الأرض، فكنت أشعر لكل صدمة بجانب من نياط قلبي ينقطع، وبنفسي تساقط أنفسًا، وبحيويتي يغيض معينها، وكأنما يذهب جزء منها مع كل واحد منهم إلى مثواه الأخير، فلما مات زوجي العام الماضي كانت الضربة القاضية، حتى لقد شعرت بأن حياتي كلها تذبل وتذوى، وأنني أصبحت كالشجرة التي سقط عنها كل ورقها، وانحدر منها ماء حياتها، فهي تجف وتجف لتسقط مع أول ريح تعصف بها، وقد جمعت كل قوتي لأقاوم أحزاني ومصائبي، وجئت إلى هنا ألتمس في الذكريات السعيدة الماضية ما يزيد في هذه القوة لأتمكن من مغالبة الحياة، والتغلب على همومها، أتراني أنجح فيما قصدت إليه؟ أم أن لعنة هذه المصرية القديمة ستحل بي بعد موت أحبتي، وسيكون ما بقي من حياتي بعدهم أنشودة بؤس وشجن؟!»

قلت: «لا تذهب نفسك حسرات على الماضين يا صديقتي، وليكن لك في إيمانك بالله وعفوه ومغفرته لك ولهم ما تتسلين به عن همك وشجنك.»

قالت: «ليتني عرفت الإيمان يا صديقتي في شبابي لألجأ إليه اليوم! أما ولم أعرفه إذ ذاك فإنني أخجل من نفسي أن أستعيره اليوم لأجعل منه وسيلة سلواي وعزائي، ولو فعلت فمن ذا أخدع؟ أأخدع رب السموات، والمؤمنون يذكرون أنه يعلم السر وأخفى؟ أم أخدع نفسي وأتخذ من هذه العارية علالة أعالج بها سقم حياتي كما يُخدَع الطفل باللعبة يقدمها إليه أهله ليتسلى بها عن مرضه أو عن ألمه؟»

لم أدرِ بم أجيبها فصمتُّ برهة جالت بخاطري في أثنائها حكمة لقاسم أمين: «أتعس البرية إنسان ضاع إيمانه يدس الموت بسمه في حياته، فيفسد عليه لذتها، وينغص عليه شهوتها.» ودعاني تذكُّر هذه الكلمة للعدول بالحديث إلى أمور لا تثير نفسها، فسألتها: كيف تريد أن تقضي إقامتها في مصر؟ وأجابتني أنها تريد أن تقضي ستة أسابيع بأسوان، وأنها كانت تود لو نصطحب في هذه الرحلة، واعتذرت بأن عاداتنا القومية لا تجيز لحزينة مثلي أن تغادر المدينة التي تقيم بها، إلا أن تذهب لأداء فريضة دينية، عند ذلك سألتني عن ولديَّ وما صارا إليه، فذكرت لها أنهما تزوجا. قالت: «أسعدك الله بهما، وكم أتمنى اليوم لو كانت لي ابنة تجعل المستقبل أملًا أرجوه، وتكون لي في هذا الحاضر عزاء وأنسًا. لقد كنت صدر شبابي أعجب لبنات وطنك كيف يحز في كبدهن ألا ينجبن، وكنت أسائل نفسي: ما لهن يردن أن يحملن في الحياة أعباء ما أغناهن عن حملها؟! وكان عجبي يزداد حين أسمع الآباء؛ إذ يكفل الواحد منهم عدة أبناء، وينفق على كل ابن وابنة أضعاف ما أنفق عليه أبوه ليكون خيرًا منه في المجتمع مكانًا.

أما اليوم فإني أشعر بالحزن أن لا ولد لي كشعوري بالحزن لفقد زوجي، لقد أظلم ماضيَّ بموت زوجي والأحبة من أهلي وأصدقائي، وأظلم مستقبلي لأنني لا أرى فيه طفلًا يمت إلى أحشائي، وتبعث براءة ابتسامته إلى نفسي أجمل الرجاء في أن أسعد بسعادته، لم يبق لي إذن ماضٍ ولا حاضر، ولم يبق لي إلا أن أجاهد الحياة بعزيمتي المفردة ما بقيت، وسأجاهدها وسألتمس في ظلمائها قبسًا من نور، لا أدرى كيف أجده ولكني موقنة بأن العزم القوي الصادق قدير على كل شيء، بل قدير على المستحيل!»

لا أريد أن أقص هنا ما دار بيني وبين صاحبتي من حديث عن ذكريات شبابنا، فالحديث في أيام الكهولة عن ذكريات الشباب يوجب الحسرة، وحسبي — وأنا موشكة أن أختم قصتي — ما سطرت فيها مما أثار ألمي وتندى له جبيني، ثم حسبي أن أذكر أني زرت صاحبتي هذه وزارتني من بعد غير مرة، وأني رأيتها — برغم صلابة عزمها في مجالدة الحياة — تضعف أحيانًا حتى تنحدر الدموع من عينيها حين تذكر أحبتها، وحين تذكر زوجها، وحين تذكر عقمها، وكم قبَّلتُ بعد كل زورة من هذه الزورات ظاهر يدي وباطنها شكرًا لله على ما أنعم به عليَّ من ولد، وما أبقى لي في كهولتي من صحة وحيوية لا تخجلان حين يُذكر الشباب. أما الأحبة الذين انحدروا إلى ظلمات القبور فهم السابقون، ونحن اللاحقون، وشكرًا لله أن أنعم عليَّ في صباي وكهولتي بنعمة التقوى والإيمان؛ لأستغفر لهم الله، ولأتوب إليه لعله يشملهم ويشملني برحمته.

وكم أدخلَتْ هذه المقارنة بين حظي وحظ هذه الألمانية من الطمأنينة إلى نفسي، وذكَّرتني بأن متاعب الحياة ومصائبها لا تُحصَى، فحق علينا أن نحمد الله، كلما رأينا حظنا من ذلك خيرًا من حظ غيرنا.

وذكرت لي الألمانية حين زارتني للمرة الأخيرة أنها مسافرة إلى أسوان بعد ثلاثة أيام بقطار عربات النوم، وذهبت إليها قبيل الغروب من يوم سفرها أودعها فرأيتها في بهو الفندق الذي تقيم به، فندق سميراميس، ورأيت معها رجلًا يتحدث إليها وكأن بينهما معرفة قديمة، فلما اقتربت منهما قام الرجل فأقبل نحوي مبتسمًا وهو يقول: هذه أنت! وحدَّقت به فإذا هو الألماني الذي عرفت بالأقصر منذ أكثر من عشرين سنة، ولا تزال تبدو عليه مع ذلك مخايل الفتوة؛ برغم بياض فَوْدَيْهِ وبياض شعرات في شاربه وحاجبيه، واغتبطت لمرآه، وذكرت إعجابه بي كما ذكرت الهدية التي قدمها لي من صنع يده، وابتسمت حين حييته وقلت: «ألا ترى أن العالم ضيق الرقعة، وأن الزمن سريع الدوران؟!» قال وهو يبتسم كذلك: «كما أرى أن كهولتك لا تقل جاذبية عن شبابك، ألا تسافرين الليلة مع السفيرة؟ أنا مسافر في القطار الذي تسافر به، ولكني سأغادره بالأقصر أقضي بها أيامًا أستعيد بها أسعد ذكرياتي قبل أن أذهب إلى أسوان.» وأجبته: «أمتعكما الله بالسلامة، أما أنا فإني أعد منذ الآن عدتي للسفر إلى الحجاز.»

وجلست معه إلى السفيرة فأخذنا نتجاذب أطراف الحديث، ونذكر خلاله ما بالأقصر من روائع الفن الفرعوني، وفيما نتحدث سمعنا ضجة إعجاب في شرفة الفندق، فأسرع الألماني يرى سببها، ثم نادانا قائلًا: «هلمَّا، إن مغرب الشمس اليوم بديع، وهي تلقي من أشعتها على صفحة النيل وعلى أشجار الجزيرة ما يحيلهما سحرًا رائعًا»، وقمنا في بطء؛ السفيرة لسمنتها وشيخوختها، وأنا لزهدي وتقواي، لكنا ما لبثنا حين رأينا هذا المنظر البديع أن وقفنا نستمتع بروعة جماله في مثل حماسة الشباب، وكأنا لم نر من قبل مثله على كثرة ما تنعم به مصر من مغارب الشمس الرائعة، فلما آن للشفق أن يولي، والليل أن يسحب على هذا المنظر البديع رداءه، بدأ الناس يعودون إلى مجالسهم، وبدأت أستدير لأدخل بهو الفندق من جديد، لكني شعرت بيد ناعمة على كتفي، فنظرت فإذا صاحبتها صديقتي، وما لبثت حين استدرت إليها أحييها أن قالت: «أنت هنا! ذلك ما لم أكن أصدقه!» على أنها رأت صديقنا الألماني مقبلًا نحونا وسرعان ما عرفته، وقالت: الآن فهمت، وسألتها: ماذا فهمت؟ ولم تجب، ولم يذكر الألماني شيئًا عن سحر عينيها، وكأنه لم يفتن بهما في شبابها، فسرني ذلك منه، واعتبرته خير جواب على سوء ظنها، وجاءت السفيرة بخطاها المتثاقلة فقدَّمت إليها صديقتي، ثم قلت: أخشى أن يحول وجودي دون إلقائك النظرة الأخيرة على متاع سفرك، ووجهت الكلام إلى صديقتي قائلة: «لقد جئت أودع السفيرة في سفرها هذا المساء إلى أسوان، فألفيت صديقنا الألماني معها، فسررت لهذه المصادفة كسروري لمقابلتك الساعة مصادفة كذلك.»

واستأذنت السفيرة وصاحبنا الألماني، ورجوت لهما سفرًا سعيدًا، واستأذنت كذلك صديقتي، وعدت إلى بيتي، فلما خلوت إلى نفسي أثارت هذه الزيارة بمصادفاتها أمام خاطري منظرًا تعدل روعته منظر مغيب الشمس الليلة على صفحة النيل وعلى أشجار الجزيرة، ذلك منظر مغيب الشمس الذي كنا نشهده ونحن في شرفة «ونتر بالاس» بالأقصر، ونرى النيل، ونرى هضاب «طيبة الأموات» تتابع عليها ألوان هذا المغيب، فتبعث إليهما من الجلال والجمال ما يثير في النفس أعظم الإعجاب. عند ذلك ذكرت الإنجليزية التي لقيتني عامين متتابعين بونتر بالاس، والتي أخذ المنظر بمجامع قلبها فحدثتني — وهي تحدق بي — عن إعجابها الذي لا حد له بالفراعنة وحضارتهم، وقلت في نفسي: من يدري؟ لعلها كانت بين الحاضرين في شرفة سميراميس الليلة، هذا إن لم تكن قد تخطت حدود عالمنا إلى عالم الأرواح.

وهاجت هذه الذكرى خواطر شبابي، فأردت كبتها فأويت إلى حجرة خلوتي، وقسرت نفسي على التفكير في جهاز سفري إلى الحجاز، فقد كنا إذ ذاك في منتصف ذي القعدة، ولم يكن باقيًا على سفر الباخرة التي أبحر عليها غير أسبوعين اثنين، وإنني لأفكر في ذلك إذ دخلت عليَّ ابنتي ومعها زوجها، وقالت بعد أن قبَّلتني: جئت يا أماه أزف إليك البشرى، لقد استجاب الله دعاءك أن تصبحي جدة لطفلنا المنتظر.

لم أشعر منذ عهد بعيد بمثل هذه السعادة التي شعرت بها لسماع هذه البشرى، وقمت إلى ابنتي أقبلها، وأقبل زوجها، وأنا في فيض من الغبطة أنساني كهولتي، وأنساني خلوة عبادتي، وفتح أمامي آفاقًا من الأمل الحلو، وصوَّر لناظري الطفل المرجو باسم الثغر والعينين، ورأيته يكبر بعناية أمه وعنايتي، فيملأ البيت على أبويه وعليَّ بشرًا وحبورًا، وخرجت من خلوتي ومعي ابنتي وزوجها، وذهبنا إلى غرفة نومي وقد عقد السرور لساني، فلما اطمأنت الأنفس قلت: كنت أفكر الساعة في جهاز سفري إلى الحجاز لأهب حجتي إلى عمكما، ولأقيم بالمدينة حتى عامنا المقبل لأحج كرة أخرى، وأهب حجتي لأبيك يا ابنتي، ثم أبقى بعد ذلك بالمدينة راجية أن أظل في رحابها حتى يقبضني الله إليه بها، وأدفن في ترابها، أما وقد وهبنا الله هذه النعمة التي بشرتني الساعة يا ابنتي بها، فسأعود بعد حجي وزيارتي هذا العام أنتظر إلى جوارك حتى أطمئن عليك وعلى وليدك، ثم أعود العام المقبل فأحج وفاء بنذري، وراحة لضميري، وعند الله حسن الثواب.

وأخذنا نتحدث، وجعلت أذكر لابنتي وقد حُلَّت عقدة لساني ما يجب عليها لنفسها ولجنينها في أثناء حملها، وكان زوجها يسمع لحديثنا، وعلى محياه أمارات السعادة ولا يقول شيئًا، وفيما نتحدث دخل علينا ابني وزوجه، وكانا قد عرفا النبأ السعيد قبلي فشاركانا في حديثنا، وأراد ابني لهذه المناسبة أن يصرفني عن الحج هذا العام لأبقى إلى جانب أخته، فقلت له إن حجي وزيارتي لن يطولا أكثر من ستة أسابيع، وإن أخته لا يزال أمامها في الحمل أكثر من ستة أشهر، وما كنت لأعدل عن الوفاء بنذر نذرته والسبيل مهيأ للوفاء به.

وحججت وزرت ووهبت حجي وزيارتي لزوجي، ولم يستغرق ذلك كله ستة الأسابيع التي ذكرتها لولدي، ووقفت ساعة الوداع أمام المقصورة النبوية، وهتفت بصاحبها — عليه أفضل الصلاة والسلام: «معذرة نبيَّ الله ورسوله! لقد حرصت على أن أبقى في جوارك حتى يختارني الله إلى جواره، فأنعم في عالم الأرواح بطمأنينة السكينة الأبدية، فأبى القدر إلا أن أعود إلى وطني وأهلي، وأنتظر هذا المولود ليرد إلى أهله وإليَّ نعمة الحياة، وليحمِّلني من جديد أعباءها، فكن شفيعي عند ربي ليجعل لنا من هذا الحفيد سعادة ونعمة.»

وعدت إلى مصر وبقيت إلى جوار ابنتي حتى تم وضعها، فأسمت الوليد باسم جده — أبيها — واستأثر هذا الوليد البريء بكل ما في قلبي من حنان وبر، ونظرت إليه يومًا وهو بين ذراعي، وقلت في نفسي: ترى لو أن جده زوجي الأول كان اليوم حيًّا، أفما كان قلبانا يجتمعان حول هذا الطفل يحوطانه بأجمل ما ينبضان به من عواطف؟ ولم ألبث حين مر هذا الخاطر بخيالي أن سألت نفسي: كيف سوَّلت لي يومًا أن أفكر في فصم كل صلة بيني وبين هذا الرجل، وأن أنسى أننا إذا انفصل جسمانا فمصير قلبينا إلى اجتماع حول حفيدنا، وأن الحكمة تقتضينا لذلك أن نعالج بالصبر أهواء الحياة؟ فأهواء الحياة قُلَّب، وأساس الحياة الحق المحبة، فإذا استبقيناها في قلوبنا أبقينا على خير ما في الحياة، بل أبقينا على أساس الحياة وسر وجودنا فيها.

وجعل الطفل ينمو فيزيد نموه في محبتي إياه، فلما انقضت أشهر على مولده، وآن موعد الحج وفيت بنذري فحججت وزرت، ووهبت حجتي وزيارتي لجده، ثم عدت إلى مصر متشوقة أشد الشوق لاجتلاء ابتسامته. وجاء ولدي إلى السويس يستقبلني، وفيما نحن في طريق الصحراء إلى القاهرة زفَّ إليَّ البشرى بحمل زوجه، وبأنني سأصبح عما قريب جدة لولده كما أنني اليوم جدة ابن أخته، واغتبطت وقبلته ونحن في السيارة تنهب بنا الأرض إلى غايتنا، فلما بلغت بيتي ألفيت ابنتي وزوجها وابنها وزوج ولدي في انتظاري، ثم ألفيتهم جميعًا يقبلون عليَّ يقبِّلونني ويرجون لي حجًّا مبرورًا، وتناولت الطفل العزيز من أمه وقبلته وضممته إلى صدري، وشعرت به فلذة من قلبي.

وفي المساء ذهبنا جميعًا نتناول العشاء في بيت ولدي، وجلسنا كلنا في بهو الاستقبال وفيه صورة زوجي الأول، وكأنه ينظر بعينيه الثابتتين إلى بنيه وحفدته.

عند ذلك أيقنت بأن الله أكرمني بأن لم أعقب من زوجي الثاني، وإن حز في نفسي ما تيقنته من أن هذا الرجل الذي أنقذني وأكرمني سيصبح عمَّا قليل نسيًا منسيًّا.

أتراني أستطيع بعد اليوم أن أفكر في العود إلى المدينة المنورة لأقيم في رحابها حتى يقبضني الله إليه بها فأُدفَن في ترابها؟ أم أن الحياة أمسكتني هنا مع أبنائي وحفدتي الأبرياء حتى أرقد الرقدة الأخيرة في صحراء القاهرة؟

وهل أنعم الله عليَّ بهؤلاء الحفدة ليكونوا عزاء كهولتي وشيخوختي؟ أم أن الحياة لا تزال تعدُّ لي من بأسائها ما يضطرب قلبي لمجرد تصوره؟

عِلْم ذلك كله عند ربي، والحمد لله الذي وهبني على الكبر نعمة العود إلى الحياة والمتاع بها من جديد مع حفدتي الأطفال الأبرياء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤