خاتمة

فرغت الآن من تدوين قصتي، متوخية فيها الصدق جهد طاقتي، أتراني أستطيع أن أغامر فأنشرها على الناس؟

لقد كان جبيني يندى وأنا أسطر بعض صفحاتها، ولشدَّ ما أخشى إذا هي نُشرت أن يندى هذا الجبين كلما لاح لخيالي قارئ يحاول أن يستشف من خلالها ما يرضي طلعته، أو يقف منها على أسرار لا شأن لغيري بها، ولا علم لغيري بدوافعها وملابساتها!

ولست آسف مع ذلك على ما أنفقت من وقت في تدوينها، فقد متعت في أثناء كتابتها بألوان من المسرة، سواء وأنا أجلو الصحف المضيئة أو الأركان المظلمة من حياة قلَّبتني على ورود وعلى أشواك يثير مسها في النفس أحاسيس متباينة تبعث إليها الرضا برغم تضاربها؛ لأنها مظهر حياتي خلال عشرات السنين التي طويت من عمر الحياة، والتي أذاقتني كل ما في الحياة من هناء وشقاء، ومن سعادة وبؤس، ومن لذة وألم، ومن أمل ويأس.

وكيف آسف وإني لتهزني الغبطة كلما عدت إلى هذه الصورة التي رسمتها من حياتي، ورأيت هذه الحياة كاملة أمامي، لا يحجبها عني تعاقب الأزمنة ولا تغيُّر الأمكنة التي مررت بها؟! فأنا أرى فيها الطفلة التي كنتها، والصبية التي ترعرعت على أعواد هذه الطفلة، والشابة والزوج والأم، وأرى انسياب الأيام يندس إلى هذا الشباب رويدًا رويدًا فيحيله كهولة تتخطى على هون إلى ما بعد الكهولة، وإني لأبتسم لهذه الأطوار جميعًا، وأبتسم لآلام حزت يومًا في نفسي، وأوقفتني على حافة اليأس، ثم مر الزمن بيده المحسنة على هذه الآلام فأصبحت اليوم موضع عطفي، ومدعاة تقديري وغبطتي.

يذكر الذين ترجموا للمثَّال الإيطالي الخالد ميكل أنجلو أنه لما أتم تمثاله «موسى» ورآه بلغ الكمال، خاطبه مبديًا إعجابه بكماله، فلما لم يجد لكلامه من جانب التمثال صدى، نظر إليه مغضبًا وضربه بإزميله وصاح به: ما لك لا تتكلم؟! ولست من الغرور بحيث أنظر مغضبة إلى هذه الصفحات التي كتبت وأنا أعجب كيف لا تخرج من بينها الصبية والمرأة التي رسمت ممتلئة حياةً ونشاطًا، فلم يبلغ إيماني بالفن ما بلغه من نفس المثال الإيطالي الخالد، وأنا أقل إيمانًا بفني من أن يدور مثل هذا الخاطر بخلدي.

ولهذا لا أحسبني أغامر فأدع هذه القصة تُنشَر يومًا على الناس، وما جدوى نشرها؟ لست من السذاجة بعد الذي قطعت من عمر الحياة وقطع الوجود من عمري لأتوهم ما يذهب بعض الكُتَّاب إليه من أن قرَّاءها سيجدون فيها عبرة تنفعهم في حياتهم، فالعبرة كلمة نقولها ولا مدلول في الواقع لها. وهل اعتبرت الإنسانية بما يصيبها من أهوال الحرب وويلاتها فأقلعت عنها؟ وهل يعتبر الشباب بما أصاب آباءهم وذويهم؟ إذن لاحتاطوا فلا يقعون فيما وقع هؤلاء الآباء فيه، وكيف تنفع العبرة وفي الحياة من الغيب المستور ما تتغير معه المقدمات والنتائج تغيرًا لا يستطيع أكثر الناس ذكاءً وعلمًا توقعه، بله التقدير له.

وكيف يستطيع الشباب أن يتخذ العبرة من المشيب ولما يعرف من أمر المشيب قليلًا ولا كثيرًا؟! لقد طالما اطَّلعت في شبابي على مثل هذه القصة فوجدت في مطالعتها تسلية ولذة لم يتعديا حدود اللذة والتسلية، وكان لأصحاب هذه القصص من البراعة ما ليس لي، فإذا لم تظفر قصتي بتسلية قرائها فمن حقهم أن ينقموا مني، وأن يلعنوا غروري، وخير لي أن أتقي النقمة واللعنة كلتيهما، فلا أطالع الناس بما يدفعهم إليهما، ذلك خير لهم ولي، وأدعى أن ينفقوا وقتهم فيما يعود عليهم بما يلذهم ويرضيهم.

ولا أحسبني أبالغ حين أذكر أن العبرة بما يصيب الغير كلمة لا مدلول لها في الواقع، فنحن لا نعتبر إلا بما يصيب ذاتنا.

كانت لي أخت طفلة لما تبلغ عامها الثاني، وكانت بادية الذكاء منذ طفولتها، وكان أبي مغرمًا بها، يغتبط بمداعبتها، ويقضي في ذلك سويعات كل يوم، وقد أدنى من إصبعها يومًا عودًا من الكبريت ملتهبًا، ثم سحبه في حركة تدل على خوفه من أن يحرقها، لكن الصغيرة لم تفطن لهذه الحركة ولم تعتبر بها حتى أدنى والدي عود الكبريت الملتهب من إصبعها فكاد يحرقها، هنالك أدركت أن النار تحرق، وصارت تسرع إلى سحب يدها كلما أدنى أحدٌ النار منها، وذلك شأننا جميعًا في الحياة؛ إذا لم نكن نحن موضع العبرة لم يكن للعبرة مدلول في نظرنا، وكثيرًا ما نخطئ في تقدير مدى العبرة ممَّا يصيبنا نحن، فلا نفيد منها إلا القليل.

وليس عجيبًا أن تكون العبرة كلمة لا مدلول في الواقع لها، فنحن نحكم على الأشياء بمجموعة من العناصر الذاتية، يختلف الحكم باختلاف تأثرها بما في الحياة وتأثيرها فيها، نحن نحكم بعقلنا وعلمنا وعواطفنا، وميولنا وإحساسنا وأعصابنا، وهذا المزاج من العناصر يتأثر بما نكون عليه من أحوال الغضب والرضا والطمأنينة والقلق، كما يتأثر بالبيئة المحيطة بنا، ولا سلطان لنا عليها، فأي هاتيك العناصر تكون أقوى أثرًا في اعتبارنا بما نقرأ؟ وقد تكون البيئة أقوى من كل تلك العناصر أثرًا.

كنت في العاشرة من سني، وكنت تلميذة بالمدرسة السنية للبنات في العشرة الأولى من هذا القرن العشرين، فلم يكن يومئذ للبنات مدارس مصرية غير السنية وأم عباس، وإني لأمر بفناء الدار دعاني والدي فدخلت غرفة الجلوس وحوله فيها جماعة من أصدقائه ومعارفه، بينهم مطربشون ومعممون، وسألني والدي عما ندرسه في الجغرافيا والتاريخ، وخرجت من عنده وانتحيت جانبًا في الفناء فلم ألبث أن سمعت مناقشة حادة بين الموجودين مع أبي؛ يبدي أحدهم إعجابه بما سمع مني، ويعترض آخر على ذهابي إلى المدرسة اعتراضًا شديدًا، ويعترض على تعليم البنات بوجه عام قائلًا: إن مصير البنت أن تتزوج، فما فائدة أن تتعلم القراءة والكتابة؟! بل إن في تعليمها لضررًا أبلغ الضرر، إنه يمكِّنها من قراءة الروايات وما فيها من قصص الحب ومن كل ما يفسد الأخلاق، وهي بعد في غير حاجة إلى هذه المعرفة، فنحن لا نعدها لوظيفة في الحكومة، ولا لعمل من الأعمال يحتاج إلى القراءة والكتابة. واستمر الرجل يؤيد هذا الرأي، ويزداد حماسة في تأييده كلما ازداد مناقشه تأييدًا لضرورة تعليم البنت لتستكمل وجودها الإنساني، وقد كان يؤيد ذلك المعارض في تعليم البنت يومئذ كثيرون حتى من المتعلمين تعليمًا مدنيًّا، وكانت البيئة تسيغ يومئذ مثل ذلك التفكير. ترى أيمكن أن يدور مثل هذا التفكير اليوم بخاطر أحد أو يجرؤ على الجهر به وقد أخذت البنات مجلسهن من مقاعد الجامعة، وقد غصت وظائف الحكومة بالكثيرات منهن، وقد أصبحت ميادين العمل الحر مفتوحة أمامهم؟ أفلا يشهد ذلك بأن آراءنا وأحكامنا تتأثر بالبيئة إلى حد كبير؟ وهي تتأثر كذلك باعتباراتنا الذاتية، وقتية كانت هذه الاعتبارات أو غير وقتية، مما يدل على أن العبرة التي نتلمسها في القصص قليلة الأثر في الواقع، إن كان لها من هذا الأثر أي حظ!

لم أُعنِّ نفسي بهذا الحوار حول تعليم البنت يوم سمعته وأنا في موقعي على مقربة من باب غرفة الجلوس، بل فررت مسرعة إلى داخل الدار خيفة أن يراني أحد ويتساءل عن سبب وقوفي، وما كنت لأفكر يومئذ أي المتحاورين على حق؟ فقد كان أبي هو الذي يفكر لي، وهو الذي ينفذ تفكيره، إن شاء أن أبقى بالمدرسة بقيت، وإن شاء أن أغادرها وألزم البيت كان الرأي رأيه، ولقد مرَّ هذا الحوار من بعد بخاطري فأثار مني ابتسامة إشفاق حينًا، وابتسامة تخالطها المرارة أحيانًا، أما الإشفاق فعلى هذا الذي توهم أن البنت تتعلم الحب في قصص الحب، وهل تقرأ الطير قصص الحب وهي في عشها وفي سمواتها، وللطير على اختلاف أجناسها قصص في الحب أروع من قصص بني الإنسان؟ فالحب غريزة رُكِّبت في الذكر والأنثى يلتمس كلاهما في سبيلها تخليد النوع، والفتى الساذج في الحقل وفي المصنع والفتاة الساذجة التي تشاركه العمل؛ ينجذب أحدهما نحو صاحبه في غير حاجة إلى كتاب يقرؤه، مندفعين في ذلك بحكم الغريزة التي لا تُقهَر، وهما يسمعان من قصص الحب ما يغنيهما عن قراءة شعر «المجنون»، أو قصة «روميو وجولييت»، فإذا توهم أحد أن قراءة قصص الحب مفسدة للأخلاق فهو جدير بالإشفاق وبأكثر من الإشفاق.

وأما المرارة التي خالطت ابتسامتي أحيانًا، فقد أثارها في نفسي شعور ذاتي لاعتبار قلَّ أن يرد بخاطر أحد، فإن كثرة القراءة وإدمان القراءة يدعو إلى شيء من العمق في التفكير وإلى عزلة لا مفر منها يدفع إليها التفكير العميق، فهذا التفكير فيما حولنا يكشف لنا عما في حياة المجتمع من حمق وسخافة، ويدفعنا للتعالي على هذا المجتمع، بل إلى ازدرائه في كثير من الأحيان.

هذا لون من الغرور لا ريب، وهو غرور يجعلنا ننطوي على أنفسنا، ونتذوق في دخيلتنا غبطة كبيرة بتفوقنا، ولكنه يدس إلينا مع هذه الغبطة مرارة سببها انكماشنا عن الناس، وتعذر التفاهم بيننا وبينهم في كثير من الأحيان، وقد تبلغ هذه المرارة أن تدفعنا إلى حافة اليأس فلا ينجينا منه إلا أن ننزل إلى المستوى العام، وأن ننسى أنفسنا في ألوان من المسرة يمجها ذوقنا، لولا هذه المرارة التي تضطرنا للرضا بما لا نرضاه بحكم عقلنا وثقافتنا.

وإذا كان للبيئة من السلطان على أحكامنا ما قدمت فلظروفنا الخاصة سلطان لا يقل عن سلطان البيئة، فهذه الظروف هي التي تكيِّف اتجاهنا في الحياة، وهي التي تكيف أحكامنا على ما رأينا وما نرى، أليس يختلف حكم الأغنياء عن حكم الفقراء على الأشياء؟ وهلَّا يختلف حكم الأذكياء عن حكم الأغبياء، ويختلف حكم أبناء الحرفة الواحدة عن أبناء الحرفة الأخرى على ما يرون؟ أوَلَا ترى شخصًا يوهب منذ مولده أذنًا واعية للأنغام والألحان، وآخر يوهب عينًا بصيرة بالصور والألوان، وثالثًا لا يُعنَى من الأنغام ولا من الألوان بأكثر من التسلية، برغم ما له من ذكاء نفَّاذ وحسن بصر بالأمور؟!

وليس يسيرًا أن نحيط بظروف الناس الخاصة، فهي لا تحصى، ولكني طالما سألت نفسي: أترانا برغم هذه الظروف نزعم أن لنا في هذه الحياة اختيارًا بأي مقدار؟ وهل كان لي اختيار أن أولد أنثى، وأن أولد في المدينة وأبواي من أهل الريف، وأن أكون على حظ قليل أو كثير من الجمال أو الذكاء أو الجاذبية، وأن يكون أبواي من طبقة معينة من طبقات المجتمع، وأن يقيدني كل واحد من هذه الظروف بقيود لا فكاك لي منها، ولا سلطان لي عليها؟ وما هذا الاختيار الذي يحدثوننا عنه إذا كان الإنسان مهددًا بالعقاب لعمل يجترحه موعودًا بالمثوبة إذا عمل صالحًا؟ أم نحن مختارون حين يشتهي أحدنا صنفًا من الطعام، ويشتهي صاحبه صنفًا آخر لأن معدة الأول لا تطيق ما تطيقه معدة الثاني؟! الحق أشهد أنني لم أشعر بأنني كنت مختارة في يوم من الأيام، وإنما فرضت الحياة نفسها عليَّ، فلم يكن لي اختيار في قبول ما فرضَتْ مذ كنت طفلة إلى هذا اليوم، وإلى أن أموت.

وإذا لم يكن لنا في الحياة اختيار، فهل يبقى لكلمة العبرة معنى أو مدلول في الواقع؟ لقد عدت غير مرة إلى كتب قرأتها منذ سنوات عديدة فتغير حكمي على ما فيها عما كان عليه يوم قرأتها أول مرة، فأيقنت أن أحكام شبابنا تختلف عن أحكام كهولتنا، لأن عناصر الحكم الكمينة فينا يختلف مزاجها بتقدم السن، أو بتغيُّر أحوالنا المعيشية، أو باختلاف البيئة التي تحيط بنا، أو بما يمر بنا من حالات الصحة والمرض والنجاح والفشل والرجاء واليأس، وبعض هذه الكتب التي عدت إلى قراءتها ليست قصصًا جانب التسلية فيها أوفر من جانب العبرة، بل هي كتب تفكير ورأي، أو كتب علم أو فلسفة، فإذا كانت صور الأشياء تتغير أمامنا على هذا النحو، فهي إذن وهم وليست حقيقة، وهي صورة لما نشعر به في دخيلة أنفسنا أكثر منها حقيقة كونية مادية يمكن الاطمئنان إليها.

وبعدُ فهل في الحياة حقيقة ثابتة؟ أم أن ما في الحياة كله حقائق وإن كانت لا ثبات لها؟ أترى الحقيقة هي النور أم الظلام؟ وهي السعادة أم الشقاء؟ وهي الرجاء أم اليأس؟ وهي الحياة أم الموت؟ لقد طالما تبدت لتفكيري صور وألوان من هذه الحقائق التي لا ثبات لها، والتي نمر بها على دوام تغيرها متفانية متجددة، فأوقعني التفكير فيها في حيرة كانت بعض أسباب المرارة التي اندسَّت على حياتي، وبعض أسباب العزلة التي باعدت بيني وبين الناس، ثم وجدت الوسيلة في بعض الأحيان إلى التغلب عليها بأن اندمجت في غمار الناس، وسرت سيرتهم، وطلقت التفكير حتى اهتديت آخر أمري، وفي موليات عمري، إلى أن الحقيقة فوق هذه الصور جميعًا، وإلى أن التماسها يقتضينا السمو فوق صور الحياة في انهيارها وتجدُّدها لنطالع وجه الله الأكرم ذي الجلال.

وما لي أطيل التفكير فيما كتبت؟ وهل يُنشر على الناس أو لا يُنشر؟ وفيما إذا كان لكلمة العبرة مدلول في الواقع أو أنها ليس لها هذا المدلول؟ أليس خيرًا أن أدع التفكير في هذا لغيري، فإذا رأى قصة حياتي حقيقة بأن يطالعها غيري فيجد فيها متعة أو عبرة فلينشرها، وإلا فليُلقِ بها في سلة المهملات كما يقولون.

إنني قد اعتزمت مغادرة مصر إلى حيث أستطيع التوجه إلى الله بكل قلبي ألتمس عنده المغفرة من ذنوبي، وأجد منه الهدى إلى الحقيقة التي يستريح لها وجداني، ويوم يتاح لي تنفيذ غرضي فسأدع هذه القصة بين يدي من يستطيع أن يحكم عليها بأعدل مما أستطيع، وله يومئذ أن يفعل بها ما يشاء، فإذا نُشِرت فلن أستطيع قراءتها مطبوعة؛ لأنني سأكون بعيدة عن مصر، بعيدة عن هذا المجتمع الذي نعمت به وشقيت، والذي عرفت بين أحضانه ألوانًا من السعادة والبأساء، ومن اليأس والرجاء، أكثر مما عرفت كثيرات من بنات جنسي!

والله أسأل أن يهيئ لي فيما بقي من أيام حياتي سبيلًا أهدى من السبيل التي اخترت إلى اليوم، وأن يكتب لي أن أموت راضية مرضية، وأن يجعل من توبتي ومن أيام شقوتي شفيعًا عنده، إليه المرجع والمآب، وهو الحكم العدل اللطيف الخبير.

•••

أتممت كتابة ما تقدم عشية الحج أول مرة، وكنت أحسب يومئذ أني فرغت من تدوين قصتي، ورسمت الطريق لما بقي لي في الحياة من أسابيع أو شهور أو سنين كثيرة أو قليلة، لكن القدر سرعان ما أثبت لي مرة أخرى أنه لا يعبأ بإرادتنا الإنسانية، وما نرسم أو نصور، وأنَّا أضعف أمامه من أن نثبت بإرادتنا شيئًا في لوحه.

صحيح أني حججت وزرت مدينة الرسول، وعزمت أن أجاوره، لكن هذا العزم ما لبث أن عبثت به الأقدار، واضطرتني للعود إلى القاهرة لأواجه بها أقسى ما يواجه إنسان في حياته، وعدت فعزمت أن أقيم بالمدينة آملة أن أظل في رحابها حتى يقبضني الله بها، وأُدفَن في ترابها، فإذا هذا العزم لا يثبت للمرة الثانية أكثر مما ثبت للمرة الأولى، وإذا بي أضطر للمقام في مصر في جوار أحفادي، سعيدة بهذا الجوار، مشفقة من هذه السعادة، خائفة أترقب ما يخبئ الغد في طياته مما قد أنوء به.

وقد قصصت ذلك كله بعد زمن طويل من تدوين ما جرى في شبابي وبوادر كهولتي، ولست أدري أيُعنَى أحد بأن يطلع عليه، ولذلك تركته مع ما سبقه إلى من يستطيع أن يقطع فيه بحكم فينشره أو يهمله.

وسواء عليَّ أنُشرت هذه القصة أم لم تُنشر، فحسبي أن دوَّنتها، ولن أعود إلى قراءتها من بعد، فلي من هؤلاء الأحفاد ما يشغلني عنها، وعما كان زوجي الأول يسميه غيرتي وغروري.

والله أرجو أن يتوب عليَّ ويغفر لي، إنه الغفور الرحيم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤