الفصل الثاني

أقبل شهر رمضان بعد أسابيع من بدء السنة الدراسية، فاختار أبي فقيهًا ندي الصوت، أحيا لياليه مع الفقيه الذي أَلِفنا سماعه عندنا في هذا الشهر المبارك، فلما كان عيد الفطر خرجت مع والدي وعمتي وزرنا قبر والدتي، وذرفت عليه دمعات سخينة، ووضعت عليه الورود وأغصان الشجر التي أحضرها والدي، وبعد شهرين كان عيد الأضحى، فزرنا القبر كرة أخرى، وسمعنا عنده من يرتل القرآن، ووضعت عليه الورود وأغصان الشجر، وشعرت بدمعي أقل سخاء مما كان في عيد الفطر، وإن بقي قلبي يشعر بألم اليتم شعورًا قاسيًا عميقًا.

وبعد أسبوعين علمت أن أبي سافر إلى الإسكندرية لأمر لم أعرفه ولم تطل غيبته هناك غير أسبوع ثم عاد إلينا وقد تزوج.

تزوج السيدة الجميلة المطلقة شقيقة صاحبة الطابق الذي نزلنا به حين سافرت معه، فلما دخل البيت معها ناداني وقال: سلمي على «تيزة». ونظرت إليها فإذا هي جميلة هذا الجمال الشركسي البارع، فارعة القد، عالية العنق، دعجاء العينين، رقيقة البشرة، دقيقة الأنف والشفتين، يلفت جمالها النظر ويمسكه.

وسلمت عليها في تأديب، وبقيت هنيهة صامتة، ثم شعرت بأني أطلت المقام، فانفلت مسرعة إلى غرفتي، وقد أحسست بالعبرات تملأ عيني، وخشيت عدم القدرة على أن أحبس في صدري نشيج البكاء، وأغلقت باب الغرفة، وانخرطت في حزن صامت مخافة أن يسمع أبي صوتي، تُرى ما عسى أن يكون مصيري مع هذه السيدة البارعة الجمال؟ وهل اصطحبني والدي إلى الإسكندرية ليخطبها إلى نفسه وأنا عما صنع في جهل وعماية؟

لا ريب أن عمتي لن تلبث أن تغادرنا إلى قريتها وتترك أمر البيت وتدبيره إلى الزوجة الجديدة التي حلت محل أمي، وأصبحت ربة البيت ومن فيه، وستغادرنا عمتي بعد أن دبرت هذا الزواج مع أبي، وبعد أن علمت به منذ عدنا من الإسكندرية، ثم كتمته عني كل هذا الزمن.

وطال احتباسي في غرفتي، ولم يدعُنِي أبي ولم تدعُنِى زوجُهُ للانضمام إليهما، ولم تفكر عمتي في الدخول عليَّ لمواساتي، وأغلب الظن أنهم رأوا الخير في تركي أُسلِس العنان لعواطفي في هذه اللحظة الأولى؛ تقديرًا منهم لما أثاره هذا الموقف في نفسي من ذكر أمي وذكر مرضها وموتها، لكنني لم أقدِّر الأمر على هذا النحو في هذه اللحظة، فقد أيقنت أن العزلة أصبحت نصيبي، وأن هذه الزوج الجديدة قد اختطفت أبي كما اختطف الموت أمي، وأني لم يبق لي إلا أن أعتصم برحمة الله وأنزل على حكم قضائه القاسي.

ولم يَدُرْ بخاطري أن زوج أبي لم تلبث بعد أن اطمأنت إلى مكانها من بيتها الجديد أن قامت تدور في أرجائه لترسم في ذهنها صورته، ولترسم بعد ذلك أسباب تدبيره، وإنني لفي مجلسي من غرفتي وقد جف دمعي، وإن ظلت عيناي محمرتين من أثر البكاء، إذ فُتِح الباب ورأيت الأب والزوج والعمة يدخلون عليَّ ثم يقول أبي موجهًا الكلام إليَّ: أنت هنا يا ابنتي! وسرعان ما أقبلت زوجه نحوي وأخذت تطري نظام الغرفة وحسن ذوقي في تنسيقها، وكان صوتها رقيقًا فيه من الحنان ما لم تتكلفه، فلما آن لهم أن يتركوا الغرفة أخذتني من يدي، وأخذت تسألني عن شأني سؤال من يعنيه أمري ويحرص على راحتي، ونظرت إليها ألتمس مبلغ الصدق في كلامها فسحرني جمالها، وخلتها ملاكًا كريمًا بعثت به السماء ليضمد جراحي، ويأسو كلوم قلبي!

وسرت إلى جانبها وهي ممسكة بيدي، فلما كنا في البهو وأخذنا مجالسنا منه رأيتها تفتح حقيبة وتخرج منها عقدًا جميلًا تثبته حول عنقي، ثم تخرج من حقيبة يدها مرآتها الصغيرة لأنظر جمال العقد على صدري، ونظرت في المرآة فأعجبني العقد، وكان أول مصاغ تحليت به من نوعه، وأدرت عيني إلى ناحية أبي، فإذا على ثغره ابتسامة راضية تشهد باغتباطه لما يرى.

غادرتنا عمتي بعد ثلاثة أيام إلى قريتها، وانخرطت أنا في نشاطي المدرسي، وفي الدروس الخاصة التي كنت أتلقاها في اللغة العربية وفي الديانة، وأنا أحسب أن شيئًا ما لم يتغير في حياتي المنزلية، تُرَى هل كان للجمال البارع الذي اختصت به زوج أبي أثر في هذا الحسبان؟ فقد تخطت الثلاثين وكانت في نظرتها مع ذلك براءة الطفولة، وفي ضحكتها سذاجة الصبا الذي تتفتح عنه هذه الطفولة، وكانت قسمات محياها كأنما صوَّرها فنان أدق تصوير مرَّ بخياله، وكان شعرها الناعم الفاحم المنسدل على كتفيها خير إطار يزيد حديث عيونها بلاغة، وجمال قسماتها روعة وسحرًا، وكان قوامها بهجة للنظر باعتداله ودقته، وكان كلُّ شيء فيها يَقفُ الناظرَ إليها مسبِّحًا بقدرة الخالق الذي أبدع هذه الفتنة الباهرة، وكانت حركاتها وسكناتها طبيعية، وتبدو مع ذلك وكأنما درست بعناية لم تذر للمصادفة حظًّا في شيء منها، وكنت كلما رأيتها سُحرت بها وازددت إيمانًا بالله بارئها وشعرت بأن لجمالها من السلطان على جناني ما كان لحنان الأم الرءوم من السلطان على وجودي كله.

تنصفت السنة الدراسية ثم قاربت نهايتها وأنا منكبة أشد الانكباب على دروسي، ووالدي يحضر كعادته درسي الخاص مع الشيخ موضع ثقته، وإنني لكذلك إذ مرضت وانقطعت عن المدرسة قرابة عشرة أيام، فلما أبللت وأردت الإقبال على الدرس لأستعيض ما فاتني في أثناء علتي، دعاني والدي إليه وقال لي: «لقد رأيت يا ابنتي خوفًا على صحتك أن تنقطعي عن المدرسة ولا تذهبي إليها منذ غد.»

ولم يكن لي عهد بأن أناقش قرارًا اتخذه، فخرجت من عنده وآويت إلى غرفتي وقد عرتني الدهشة، صحيح أنني كنت أسمع زوج أبي تبدي من البرم بتعليم البنات الشيء الكثير، وتذكر أن البنت خُلِقت للبيت وللأمومة، لا لممارسة الأعمال والوظائف الحكومية، وأن الخير لذلك كل الخير في أن تتدرب منذ صباها الباكر لتتقن ما ستقوم به في مستقبل حياتها.

لكني لم أكن أعير حديثها في هذا الشأن بالًا؛ لأني كنت أعلم أن أبي على غير هذا الرأي، وأنه يرى أن تعليم الفتاة تعليمًا عاليًا بعض ما يجب لكمال وجودها الإنساني، واحتياطًا لمستقبلها حتى يكون لها فيه من الحرية ما يرفع عنها ذلة العبودية للرجل، أيًّا كان مصدر هذه الذلة، فماذا حدث؟ ما الذي دفع والدي ليبلغني هذا القرار ولم أبلغ بعدُ من التعليم غاية مرحلته الثانوية؟ وهل للمرأة من الأثر على الرجل، وإن كان حصيفًا حصافة أبي، أن تبدل تفكيره كما تشاء؟ أم أن السلطان كان لهذا الجمال الساحر الذي اختصت به زوج أبي؟ أيًّا كان الأمر لقد أيقنت من اللهجة التي أبلغ بها هذا القرار إليَّ أنه قرار مبرم، لا رجعة فيه.

وكان لهذا القرار أسوأ الأثر في حياتي، فقد أنشأ عندي عقدة نفسية لازمتني، ولم أنجُ قط منها، وقد كان الأثر الأول لقرار أبي أن بدأت أعرف ما كنت أجهل، بدأت أعرف الكراهية، وكان قلبي لا يعرف غير الحب، كنت أحب الناس على اختلاف طبقاتهم، وكنت أحب الطبيعة وفتنة جمالها، وكنت أحب الحيوان والطير، وكنت أحب الحياة ونعمتها حبًّا جمًّا؛ ذلك بأنني لم أشعر منذ ولدت بما يزهدني في الحياة، بل كان المتاع بها وبكل ما فيها بعض حظي. لقد كنت وحيدة بين أمي وأبي، وكانا يفيضان عليَّ من حنانهما وبرهما ما يجعل الهواء الذي أتنفسه كله الحنان والرحمة، وكله المحبة والود، وكله نسمات السحر وبسمات الزهر وأغاريد الطير والشذا المتضوع بأرق العواطف وأحلاها، لكني ما لبثت حين سمعت هذا القرار يبلغه إليَّ أبي أن شعرت بأن زوجه صاحبة الوحي به، وأن ما أسمعه عن زوج الأب وبرمها بأبناء زوجها صحيح، وشعرت لذلك بهذه العاطفة الكريهة عاطفة الكراهية تندس إلى قلبي، وتجد منه مكانًا لم يكن لها من قبل فيه موضع.

وعجبت كيف ينطوي هذا الجمال الفاتن الذي صوَّره الله في هيئة هذه المرأة على روح خبيثة كل هذا الخبث، وكيف تستر هذه النظرات البريئة قلبًا آثمًا كل هذا الإثم! وأيقنت في قرارة نفسي أن برمها بتعليم البنت لم يكن رأيًا تؤمن به وتبديه، بل كانت البنت أنا، وكانت برمة بتعليمي أنا، ولهذا لجأت إلى كل وسائلها وكل حبائلها وكل شباكها، فانتشرت بسلطان جمالها في دخيلة أبي، وحملته على أن يتخذ قراره فيحرمني نعمة كانت لذتي وسلواي، وكانت صارفي عن أن أرى ما في الحياة من قبح وسخف.

وأخذت أفكر كيف أقاوم ما قررا، ولم يكن الذهاب إلى المدرسة سبيلي بطبيعة الحال إلى هذه المقاومة، فأنا لم أكن أذهب إليها وحدي، بل كان يصحبني في ذهابي إليها وأوبتي منها بوابنا العجوز، كما أنني لم أكن أستطيع أن أعلن هذا العصيان الصريح، وأنا موقنة أن ثورتي لن تلبث أن تتحطم، ولن يكون من أثرها إلا أن يغضب مني والدي وتشمت زوجه بي، ولذلك قررت أن أقضي معظم وقتي في قراءة ما أستطيع قراءته من كتب عربية وإنجليزية أستطيع الحصول عليها بوسائلي، ولم أجرؤ يومئذ أن أستشير أحدًا فيما أقرؤه، فكنت أقرأ كل ما يقع في يدي، صالحًا كان أو طالحًا، نافعًا كان أو ضارًّا.

وبدأت زوج أبي تشغل نهاري بما سمته إعدادي لحياتي المقبلة، فأخذت تعلمني التطريز والخياطة والطهي وما إلى ذلك مما يتصل في نظرها بتدبير المنزل، فهي لم تكن تعرف القراءة والكتابة، لكنها كانت تجيد هذه الأعمال كما كانت تجيد العناية بجمالها كل الإجادة؛ لذلك كان إشرافها على نظام المنزل وحسن تدبيره وعلى كل ما نأكل ونشرب بالغًا غاية الدقة، صحيح أنها لم تكن تباشر من ذلك شيئًا بنفسها، لكن نظرتها إلى ما يجري في المطبخ أو في الكرار، وإلى ترتيب الأثاث وحسن تنسيقه، وما تبديه في هذه الشئون من نقد وما تصدره من أوامر، ذلك كان كافيًا ليجعل عيون الخدم في رءوسهم، فلا يهملون شيئًا، ولا يغفلون واجبًا، وهي لم تكن مسرفة ولم تكن مقترة، وكانت تعرف كيف تضع كل شيء في محله؛ لذلك أسرعت إلى كسب ثقة أبي كما كسب جمالها ناظره وقلبه وعواطفه منذ اللحظة الأولى.

أما أنا فلم أكن شديدة الإقبال على ما تعلمني من شئون المنزل، أكان ذلك رغبة مني عن هذه الشئون، أم كان لأنها هي التي تعلمني إياها؟ وقد خلق انقطاعي عن المدرسة جفوة بيني وبينها جعل كل ما تقوله لي أو تريدني أن أتعلمه موضع الريبة عندي، وأقبل والدي يومًا يوجه إليَّ لومًا رقيقًا على ما يبدو من عدم إقبالي، وينصح لي في لطف أن أقدِّر عناية زوجه بي وحرصها على مستقبلي، فازددت بسبب ملاحظته نفورًا من زوجه؛ إذ شعرت أنها تريد أن تصرف عني محبته لتستأثر وحدها بكل قلبه، وذكرت له أنني ربما ازددت إقبالًا على هذه الشئون لو تعلمتها في مدرسة، فابتسم ابتسامة ذات معنى وتركني وشأني؛ إذ أدرك أنني أريد أن أبتعد عن البيت وربته جهد المستطاع.

وخُيِّل إليَّ بعد زمن أنني وجدت الوسيلة لما أريد، فذكرت لأبي بحضور زوجه أن المرحومة والدتي كانت تود لو تعلمتُ البيانو، ذكرت ذلك وكنت مقتنعة بأن امرأة والدي ستعارضه، ولشد ما كانت دهشتي إذ رأيتها تقول: كلامك هذا معقول يا عزيزتي، فكل فتاة مهذبة لا تعرف اليوم أن تلعب إحدى آلات الطرب ينقصها شيء جوهري لحياتها الزوجية، ثم أشارت إلى والدي قائلة: ومن الخير أن تشتري لها البيانو منذ الآن، فهو بعض جهازها، ومتى جيء به إلى البيت جاءت معلمته تدرسه إلى بنتنا.

ونظر إليَّ أبي مبتسمًا، وهز رأسه كأنما يعاتبني على ما يدور بخاطري من ظنون بزوجه، وكأنما يقول لي: إن روحها جميلة جمال شخصها، وإنها تحبني حبها لابنة أحشائها. وجاوبت ابتسامته بابتسامة مثلها شكرًا له على عطفه، وانتظارًا للبيانو الذي كنت أحلم به.

وكان حقًّا عليَّ أن أشكر زوج أبي لتأييدها طلبي، لكنني لم أفعل، فقد كنت أريد أن أتخذ من تعليم البيانو فرصة للفرار من جو المنزل، أما أن تجيء معلمة البيانو إليه فقد أصبحت دروسه تحت سمع امرأة أبي وبصرها، وهذا السمع والبصر يضيعان عليَّ الفرصة التي كنت أطمع في انتهازها، ولم أكن أستطيع أن أعبِّر عمَّا يخالج خاطري من ذلك مخافة أن يُساء تأويلُه، وما أغناني عن سوء التأويل، وحسبي أن صديقتي وزميلتي التي كانت تقيم على مقربة منا كانت تكثر التردد عليَّ، وكان يُسمح لي برد بعض زياراتها.

واشترى والدي البيانو، وجاءت معلمته فأكببتُ على استذكار دروسه إكبابي على قراءة كتبي، بذلك شغلت معظم وقتي ولم يبقَ فيه لتدبير المنزل في صحبة زوج أبي ما يثقل على نفسي أو تنوء به روحي، ومع ذلك بقيت الحيرة تتولاني كلما خلوت هنيهة إلى نفسي، وأشعر كأني غريبة في هذا المنزل الذي ولدت به، والذي أعيش فيه مع أبي، وكأن روحًا آخر يرفرف من وراء الحجب، يريد أن يطمئن عليَّ، وعلى أنني لا أنوء بألم الحياة.

وكان أبي يشاركني الحيرة، وإن كانت حيرته من نوع آخر، لقد كان يسبقني إلى رغباتي، فلم أكن أطلب شيئًا إلا أجابني إليه، وأضاف إلى ما طلبت ما يظنه يزيد في غبطتي، وكان يرى زوجه تشاركه في العمل على إرضائي، ثم يراني برغم ذلك قليلة الابتسام ميالة إلى العزلة، يبدو عليَّ دائمًا أن شيئًا ينقصني، وأنني غير مستريحة لما أنا فيه، وكان من حقه والأمر كذلك ألَّا يعبأ باعتزالي، لكنه مع ذلك يحاول دائمًا أن يبلغ مرضاتي، على حين كانت زوجه ترى في تصرفه من المبالغة في تدليلي ما لا يتفق مع حسن تربيتي.

ولقد طالما ذكرت تلك الأيام، بعد أن تزوجت وصرت أمًّا، وطالما سألت نفسي: أكنت متجنية في حيرتي وفي عزلتي وفي عدم رضاي؟ فلم يكن ينقصني يومذاك شيء، ولم تكن زوج أبي تسيئني بكلمة، وكان جوابي عن هذا التساؤل هو الجواب الطبيعي، فسعادتنا لا تتعلق بحاجتنا المادية بقدر ما تتعلق بحالتنا النفسية، وبإحساسنا وعواطفنا، ولئن جرت في شأن امرأة الأب الأقاويل، لحق أن زوج أبي لم تتعمد يومًا أن تجرح عواطفي، أو أن تمنع عني خيرًا، بل لقد كنت أرى والدتي قبل مرضها ووفاتها توجه إليَّ من ألوان النقد ما لم توجهه إليَّ زوج أبي.

لكن النقد الذي كانت توجهه إليَّ أمي، والذي كان يغضبني أحيانًا، كان صادرًا من أمي، كان الدواء الذي لا نسيغ طعمه أحيانًا ولكننا نرى فيه الشفاء، فإذا لم نؤمن بأن فيه الشفاء فلا ريب عندنا في أنه صادر من قلب سليم، وإخلاص صادق لخيرنا، بلا ريب عندنا في أن الحنان المتفجر من أعماق القلب البر العطوف، قلب الأم، يمحو كل ما في هذا الكلام من شائبة تكدِّر صفونا. وهل الأم كلها، وكل ما يصدر عنها، إلا حنان وبر وعطف، وإيثار لبنيها على نفسها؟ وهل الأم وما أنجبت إلا شجرة واحدة تتشعب فروعها، وكل ما يمتصه الجذع من أسباب الحياة إنما يمتصه لحساب هذه الفروع ولبهائها ونمائها وحسن إثمارها؟ أَوَلا تدل قوانين الوراثة على أن الأسرة وحدة متصلة على الزمن، وأن عصارة الحياة في عروق الأجداد تمتد إلى أحفاد الأحفاد، وقلب الأم يعرف نفسه، ولا يفرح لصاحبته أو يأسى لما يصيبها، وإنما فرحه لابنها أو لابنتها، وأساه لما يصيبهم؟! والأم تجمع إلى قلبها قلب الأب لتسكبه حنانًا ومحبة وبرًّا في روح ذريتها، هذا كله تراث معنوي ضخم هو مصدر طمأنينتنا للحياة وسعادتنا فيها.

أما زوج الأب فشخص مستقل عنا كاستقلالنا عنه، تتضارب مصالحه مع مصالحنا، وميوله مع ميولنا، وهي تنافسنا في كسب قلب أبينا زوجها، قد تنشأ بيننا وبينها صداقة، ولكن محال أن يربط الحب الصادق بين قلبها وقلبنا، وأنَّى لها حب الوالدين لأبنائهما، وإن بلغت من طيبة القلب وصفاء النفس أعظم مبلغ؟ أذكر قصة طريفة تصور في سخرية عاطفة الأمومة، وكيف تسمو بفطرتها على العقل ومنطقه، فقد كان لواحد من أقارب أبي زوجتان أنجبتا في عام واحد ولدًا وبنتًا، وكبر الطفلان، وكان للولد غرام بأن يعض بأسنانه من يناوشه، وتأصلت هذه العادة فيه، فكان يلجأ إليها من غير أن يناوشه أحد، وإن أخته لتجلس إلى جانبه يومًا إذ بدا له أن يعضها ففرت منه إلى أمها، وحمتها أمها من أخيها فبكى وأمعن في البكاء، وعرفت أمه سبب بكائه فصاحت بضرتها: «ألا تشفقين على هذا الطفل؟ وما ضر أخته إذا هو عضها واستراح وانصرف عن البكاء؟»

فأجابت أم الطفلة: «أتريدين أن يستريح هو وأن تبكي أخته لغير ذنب جنت؟ فليبكِ ولينفلق من البكاء فلن أريح شذوذه!»

وتبادلت الضرتان ما شاءت الشحناء أن تتبادلاه من عبارات أوحت بها لكل واحدة منهما أمومتها، ألا يدل ما في هذا الحادث من سخرية وسخف على احتقار نظرة الأمومة لكل منطق؟ أو لو كان الطفلان توءمين لأمٍّ واحدة، أفكانت تحاول أن تريح شهوة الولد على حساب البنت، أو أن تدع الولد يمعن في بكائه ولو انفلق؟ أم كانت تجد في حنان أمومتها ما يسكن الطفل عن غضبه، وما يصلح بينه وبين أخته من غير أن يعضها؟

ولا ذنب على زوج الأب فيما تتهمها به الأقاويل، فالأقاويل تريدها أن تكون لغير بنيها، وهي لا تستطيع ذلك وإن حاولته، ولا وزر في ذلك عليها، إنما الوزر على الرجل الذي تزوج بعدما أنجب بنين، سواء تزوج في حياة زوجه الأولى أو بعد وفاتها، وما حاجة الرجال إلى الزواج بعد أن يصبحوا آباء؟! إن نساء كثيرات يكرسن حياتهن لتربية ذريتهن، وحق على كل امرأة وكل رجل أن يكون ذلك شأنه.

لست أدري لِمَ أنزع الساعة للدفاع عن امرأة الأب بعد الذي كنت فيه من حيرة وعزلة وعدم رضا منذ تزوج أبي إثر وفاة أمي؟! فلأدع هذا ولأعد إلى قصتي، لقد انقضت الشهور منذ اشترى والدي لي البيانو، ومنذ عكفت نهاري على استذكار دروسه عكوفًا أنساني شئون المنزل، وكيف تكون العناية بتدبيره، مع ذلك بقيت أشعر بالوحدة والعزلة برغم عطف أبي وحنانه، ولقد زاد في شعوري هذا حادثٌ لم أكن أحسب أنه سيترك في نفسي أثرًا، فقد كان طبيب من كبار الأطباء المتخصصين في أمراض النساء يتردد على المنزل ويعود زوج أبي، وقد كان أول أمره لا يبدو عليه حين انصرافه ما يدل على جديد، واستمر كذلك شهورًا حتى رأيته يومًا متهللًا، ورأيت والدي يودعه إلى الباب الخارجي وعلى ثغره ابتسامة عريضة تنم عن مسرته واغتباطه، وسرعان ما علمت أن زوج أبي حامل، وذكرت لسماع هذا النبأ حديث عمتي لأبي بعد قليل من وفاة أمي تحرضه على الزواج لينجب الخلف الصالح، وليكون له بنون يحفظون له اسمه وذكره. عما قريب إذن سيشركني في عطف أبي طفل يستأثر بقلب أمه وبكل روحها ووجودها.

أتراني يومئذ أحب هذا الطفل كما لو كان ابن أبي وأمي؟ وماذا يكون موقف أمه مني؟ لعلي لم أبلغ من تحليل الموقف ما يجول الآن بخاطري، ولكني ازددت إكبابًا على البيانو نهارًا وعلى القراءة ليلًا، ولم أُلقِ بالًا لما بدا على زوج أبي من أعراض كانت تلزمها سريرها أحيانًا، وتدعوها لتكليفي بمراقبة ما يدور في المنزل، أما أبي فقد ازداد حدبًا على زوجه ورعاية لها، وجعل يدعو الطبيب ليراها كل أسبوع أو أسبوعين مبالغة في العناية بها، وبالطفل المستكن في أحشائها، وكان الطبيب يستصحب في بعض زياراته طبيبًا شابًّا يعاونه في قياس الضغط، أو في إجراء بعض تحاليل سريعة يرى الطبيب المباشر أنه في حاجة للوقوف على نتائجها لوقته.

وكان هذا الطبيب الشاب وسيمًا دقيق العناية بهندامه، وفي عينيه بريق خاص ينم عن الذكاء والطيبة مجتمعين، وقد كان يسرع بالدخول مع الطبيب الكبير إلى غرفة الحامل، فكان قُصَارَايَ أن ألمحه من وراء حجاب ساعة دخوله وخروجه، وكانت نظراته وحركاته تجعلني أغتبط بما أرى منه، وأود لو أستطيع التعرف إليه، أما هو فكان في شغل عني بما يُوكَّل إليه إجراؤه في أثناء الزيارة، فإذا انصرف مع الطبيب الكبير المتخصص في أمراض النساء تابعته بنظري من نافذة غرفتي.

ولم يكن لي سبيل إلى التعرف إليه، والحجاب المضروب على النساء كان يومئذ على أشده، فلم يكن يتاح لواحدة من بنات طبقتنا أن تقف مع رجل أو تتحدث إليه أيًّا كانت سنه، بل لقد كانت الفتاة تُخطَب إلى شاب لم تعرفه ولم تره، ويكون القول الفصل في زواجها منه لأمها ولأبيها، وكان العار أكبر العار أن يكون لها في الأمر رأي، أو تكون لها فيه كلمة.

وانقضت مدة الحمل، ووضعت زوج أبي غلامًا جميلًا ابتهج والدي بمولده، وفاض عنه السرور به، وجاءت أخت زوج أبي، وأقامت لها حفلَ «سبوع» منقطع النظير، بدأت أشعر نحو هذا الطفل البريء بعاطفة الأخوة التي لم أعرفها من قبل، فلما صَلُب عوده وأصبح مستطاعًا حمله كنت آخذه من مربيته وأضعه في العربة في بهو الطابق الأول، كما كنت أجد في النزول به إلى الحديقة خير تسلية، حتى لقد كانت هذه التسلية تصرفني إلى حد كبير عن استذكار دروس البيانو.

وتوعك الطفل فجن جنون أمه، وأسرعت إلى استدعاء الطبيب الشاب الذي عرفته أيام حملها، وفحص الطبيب الطفل وطمأن أمه وأباه، وأخذ يحدثهما عما يجب من رعاية «لولي العهد»، ورغبت الأم أن أسمع كلام الطبيب اقتناعًا منها بأنني أقدر من المربية على العناية بالطفل، ولم يجد أبي بأسًا بدعوتي، فلو أنني مرضت لعادني هذا الطبيب وأنا في فراشي، فلما ناداني وعرفت أن الطبيب لا يزال في غرفة الطفل شعرت بقلبي يخفق، ثم هدأت نفسي إذ وجدت الفرصة سانحة لما كنت أطمع فيه من التعرف إلى هذا الشاب الذي كان يكبرني بعشر سنوات أو نحوها ومن محادثته، واستمعت إليه يصف الدواء، فأخذت أسأله عن تفاصيل طعام الطفل وشرابه ونومه واستحمامه، وسُرَّت زوج أبي بما بدا من عنايتي بابنها، فنظرت إلى الطبيب نظرة استعطاف، وقالت: لا تؤاخذها يا دكتور، فهي تحب أخاها أصدق الحب، وهي تتولى الكثير من شئونه.

ووصف الطبيب دواء بسيطًا، وقال إنه سيعود بعد ثلاثة أيام ليطمئن على صحة الطفل وعلى أثر الدواء، وعنيت أنا خلال هذه الأيام الثلاثة بتنفيذ أوامره في شأن الطفل بدقة أثارت إعجاب أمه ومسرَّة أبي، وكنت أنتظر اليوم الثالث بصبر نافد، وبخاصة لأنني رأيت الطفل قد زالت وعكته وعاودته الابتسامة البريئة الملائكية التي تجعل الأطفال جميعًا أحباب الله، وتجعل هذا الطفل الجميل ملاكًا يشع منه نور يسعد كل من حوله.

وجاء اليوم الثالث، وجاء الطبيب ورأى الطفل، وأبدى اغتباطه بشفائه، ولم تضن عليَّ زوج أبي بشهادة طيبة؛ إذ قالت إنني أنا التي بذلت كل العناية في تنفيذ العلاج، وأدار الطبيب الشاب نظره إليَّ وقال: يظهر أن للآنسة غرامًا بالطب، أم أن حبها لأخيها وعاطفتها الرقيقة نحوه كانا أشد أثرًا من الدواء في سرعة بُرْئِه، وأنا مع ذلك سأعود بعد أسبوع لأزداد اطمئنانًا على صحته، فالأطفال في سن التسنين معرضون لوعكات لا خطر منها، ولكنها تزعجهم وتزعج أمهاتهم أحيانًا.

وجعل الطبيب يعود الطفل بعد ذلك كل أسبوع، وجعلت أنا أزداد بهذا الأخ الصغير الجميل عناية، وله حبًّا، أفكانت عاطفة الأخوة وحدها مبعث هذه العناية؟ أم كان مبعثها فطرة الأمومة التي تتحرك في أحشاء كل شابة لمرأى طفل جميل ولاجتلاء ابتسامته ولاتصال جسمه بجسمها؟ أم تُرَى كان لهذا الطبيب وزياراته المتعاقبة أثر في هذه العناية؟ يصعب عليَّ أن أبدي حتى اليوم رأيًا في الأمر، ولعل هذه الدوافع جميعًا كانت ذات أثر فيه، ولكن الذي أذكره أدق الذكر أنني برغم ما شعرت به نحو هذا الطبيب من جاذبية، وما كنت أجد في حديثه من متعة، كنت شديدة الحرص على ألَّا تبدر مني بادرة تكشف عما في نفسي، بل كنت أبدو أشد حرصًا على أن أثير إعجابه وتقديره لعنايتي بأخي مني على أن أكشف له عن عواطفي.

فقد سمعت أن إحدى زميلاتي في المدرسة أحبت شابًّا نابهًا، وعرضت نفسها عليه ليتزوجها، فرغب عنها وخطب غيرها، فلما تمت الخطبة حاولت هذه الزميلة الانتحار، وإن كبريائي لتسمو بي عن أن أعرض نفسي على كائن من كان، بل إني لأشعر بأن الحب إذا انحدر بصاحبه — رجلًا كان أو امرأة — إلى هذه المنزلة كان ضعفًا يجب أن تتنزه عنه كل نفس مهذبة.

وقد استأثر أخي الطفل بقلب أمه وبعقلها وبكل وجودها، فلم تكن ترى في محيطها غيره، ولم تكن تسمع غير صوته، لقد كنت أراها جالسة إلى أبي يتحدث إليها وتستمع هي إليه، ثم أراها تندفع قائمة نحو غرفة الطفل تقول: إنه يبكي!

هذا ولم يكن أيُّنا سمع بكاءه، وتجيء به وقد حملته إلى صدرها وقلبها، فإذا الدموع بالفعل في عينيه، وإذا هو حقًّا كان يبكي في صمت لا يسمعه إلا قلب الأم، ولم يكن أبي يسمع هذا البكاء الصامت، ولكنه لم يكن لذلك أقل إقبالًا على الطفل وإعزازًا له من أمه، كنت أرى هذا الرجل الرزين الحصيف يدخل إلى البيت وفي يده غير مرة في الأسبوع لعبة من لعب الأطفال ممن هم في مثل سن أخي، وكان يجد متاعًا بل سعادة كلما رأى الطفل يبتسم، أو سمعه يضحك، وكان الوالدان يزدادان للطفل حبًّا كلما تقدم نموه، فلما استطاع أن يقف على قدميه ليمشي كانت حركاتهما لتشجيعه تثير الضحك، لكنني لم أضحك لأنني كنت أحب أخي كما كانا يحبانه، وكنت سعيدة كسعادتهما به.

وشغل «ولي العهد» خدم البيت كما شغل سادته، فلم تكن مربيته وحدها تلحظ حركاته وسكناته بعطف وعناية، بل كانت كل واحدة من الخدم تود لو استطاعت أن تخدم سيدها «البيه الصغير» لتسعد بهذه الخدمة، ولتنال بها حظوة عند أمه وأبيه وأخته، ولست أبالغ حين أذكر أن الكل كانوا يسعدون لعنايتهم بهذا الطفل البريء الذكي الجميل، وكانت أمه مع ذلك تخاف عليه من خياله، فإذا سقط على الأرض وهو يمشي أقامت الدنيا وأقعدتها، وإذا صاح لأن أحدًا أخذ منه شيئًا مخافة تلفه صاحت لصياحه، وأثارت في البيت ضجة كأن حادثًا خطيرًا حدث، ولم يكن أبي يلومها على شيء من ذلك أو يسدي إليها النصيحة لخير الطفل، بل كان يجاريها في غضبها ورضاها؛ لأنه كان لا يرى إلا بعينيها، ولا يسمع إلا بأذنيها، ولا يعرف في الحياة منطقًا غير منطقها.

بدأتُ برغم حبي لأخي أضيق ذرعًا بهذه المبالغات، وأشعر أنني أصبحت من رعاية أبي في المحل الثالث لا في المحل الثاني، وأن أخي وأمه مفضلان عليَّ عنده، فازداد برمي بزوج أبي، وأحسست أن البيت على سعته يضيق بي، وكنت قد تجاوزت إذ ذاك السابعة عشرة من سِنِي حياتي، وكانت صديقتي التي تعيش مع أبويها على مقربة من بيتنا قد خُطِبت إلى شاب موظف في الحكومة أثنى عليه أبي غير مرة أمامي.

قلت في نفسي: أولا يكتب لي الحظ ما كتب لها فأنتقل إلى بيتي أنا بدل أن أبقى حبيسة مع امرأة أبي؟! وتصورت يومًا قريبًا يكون لي فيه طفل كأخي أسبغ عليه من حبي ومن قلبي ومن عنايتي ورعايتي كل ما يحتويه قلب الأم من بر وحنان.

ساورتني هذه الأحلام واشتد أخذها بخناقي حين اشتدت لهفة زوج أبي على ابنها الطفل حتى جعلت تلومني على ما سمته عدم عنايتي به، وهي قد زادت في التثريب عليَّ منذ رأتني عدت أستذكر دروسي على البيانو، وأقضي وقتًا غير قليل أمامه، فقد كنت أهملت هذه المذاكرة شهورًا عدة لفرط اشتغالي بأخي، فلما رأيت مخاوف أمه ولهفتها عليه، وتعلُّق أبيه به أخذت أعود إلى دروسي أتسلى بها عن هذا الشعور الذي استبد بي، وجعلني أشعر أنني صرت من رعاية أبي في المحل الثالث، ولئن حزَّ هذا الشعور في نفسي لقد دعاني من بعد إلى أن أتساءل: تُرى لو أن أمي لم تمت وأنجبت غلامًا كما أنجبت زوج أبي، أكانت الرعاية الأبوية تنصرف إليه عني كما انصرفت إلى أخي من غير أمي؟ أم كنا نعيش أسرة واحدة يجري في عروقها دم واحد هو ماء الحياة الذي يمتصه جذع الشجرة ليبعث منه إلى فروعها البهاء والنماء والحيوية المترعرعة بمعاني النعمة والسعادة؟ فأين نحن الآن من هذا الوضع؟ إن الفرنسيين يعبرون عن الأخ أو الأخت لأب، وعن الأخ والأخت لأم أنه نصف أخ، أو أنها نصف أخت، وقد يكون لهذا التصنيف المادي ما يسوغه، ولكني أحسب أن للتعبير الفرنسي معنًى أعمقَ من ذلك بكثير، معنى يتناول الجانب العاطفي في صلات الأسرة وأفرادها بعضهم ببعض، فصلة الأم بأبنائها صلة مباشرة، هم من دمها ولحمها، ومن قلبها وروحها، ومن أعماق وجودها، أما صلة الأب بالأبناء فصلة بالواسطة، والأم هي هذه الواسطة، فإذا كان له أبناء لأكثر من أم تأثرت عواطفه لأبناء كل أم بمبلغ ما بينه وبين الأم من مودة، وإن اختلف هذا الأثر في نفس أب عنه في نفس أب آخر، هذا إذا كانت الأمهات جميعًا أحياء.

أما في مثل حالنا حين تكون أم حية وأخرى قد انتقلت إلى جوار الله، فذكرى المتوفاة تقوم في نفس الأب مقامها، وإن كان الحاضر أفعل أثرًا من الغائب، وأبي كان يحب أمي أشد الحب، وهو اليوم يحب زوجه أشد الحب، ولا يستطيع الحاضر أن يحجب الماضي، وإن استطاع أن يتغلب عليه، ولطفولة أخي ولجمال أمه أثر في هذا الغلب.

ولعلي لو أتيح لي من الحظ ما أتيح لصديقتي التي تقيم مع أبويها قريبًا منا فخُطِبتُ ثم تزوجتُ لاسترددتُ رعاية أبي كاملة، ولتخلصت من لوم زوجه إياي وتثريبها عليَّ.

وفيما تساورني أحلامي عاودت الوعكة أخي ودُعِي الطبيب الشاب لعيادته، فلما رآني أخذ يسألني عنه، ثم يسألني عن نفسي، وكان هذا الطبيب هو الشاب الوحيد المثقف الذي أتيح لي أن أتحدث إليه غير الشباب من ذوي قُرباي وأبناء أسرتي، ولم يكن واحد من هؤلاء يطمع في يدي؛ لأنهم كانوا ينظرون لأبي على أنه أكبر مقامًا وأوسع ثروة وأعرض جاهًا من آبائهم جميعًا، ولم أكن أشعر نحو أحد منهم بمحبة ولا بجاذبية خاصة؛ ولذلك كنت أتمنى لو أن هذا الطبيب خطبني إلى أبي، ولو أن أبي قَبِل هذه الخطبة وبشَّرني بها.

ومن يومئذ جعلت أخلق لنفسي منه تمثال المحبوب العزيز الذي أتمناه لنفسي، وكان أشد ما جذبني إليه ما تنم عنه نظراته من طيبة قلبه، ورقة شعوره، وهو قد بلغ من ذلك مبلغًا غير مألوف، كان — برغم أنه طبيب — يتحدث عن مرض أخي والدمعة تترقرق في عينيه، وكان إذا قص على والدي نبأ من الأنباء بدا عليه التأثر لكل مصاب أو محزون، وكان إلى ذلك محبًّا للحياة ومتاعها، تبدو عليه آثار اليسار والنعمة. كانت السيارات في ذلك العهد مركبًا نادرًا، وكانت له مع ذلك سيارة أنيقة يسر العينَ مرآها، أما وذلك شأنه فلا بد أن يكون خلقه رضيًّا، وأن تكون الحياة معه حياة طمأنينة ونعمة وسعادة.

وجاء يومًا يعود أخي، وكان والدي قد استُدعِي إلى العزبة على عَجل، فلما أتم فحصه وبدأ يكتب تذكرة الدواء أخذ يتحدث إليَّ فيما يجب للعناية به، وقبل أن يتم حديثه نهض فنهضت معه وسرت إلى جانبه، وأخذ يكمل حديثه ونحن على السلم في طريقنا إلى الطابق الأرضي، وبعد عدة درجات هبطناها على السلم قال: اسمعي يا آنسة، إنني فكرت أن أخطبك إلى أبيك، لكنني رأيت ألا أفعل ما لم تكوني أنت موافقة على ذلك.

فألقيت ببصري إلى الأرض، واحمرت وجنتاي خجلًا، وقلت في شيء من الكبرياء: ليس ذلك شأني، ولكنه شأن أبي.

وكان تعليقه على عبارتي: يكفيني هذا منك، وأنا أشكرك أجزل الشكر.

وعدت مسرعة إلى غرفة أخي مخافة أن تظن أمه بي الظنون، وأخبرتها أن الطبيب ذكر أن ما به ليس إلا سوء هضم بسيط سرعان ما يزول أثره، وبعد أن طمأنتها أويت إلى غرفتي، وجعلت أركز في ذهني ما سمعته عن خطبتي من أبي، وأخذت أسائل نفسي أأحسنت أم أسأت في إجابتي، وأمنِّي نفسي الأماني للمستقبل، وأرقب عَوْد أبي من العزبة بصبر نافد، أفلا يجب أن أذكر له ما حدث أول ما أراه؟ وهب الطبيب عدل فلم يخطبني إليه ولم يذكر شيئًا! وأقمت زمنًا أضرب أخماسًا لأسداس، وأبني قصورًا في الهواء، ولما جن الليل جفا النوم عيني وأنا بين الأمل الواسع الفسيح أقيم في قصوره بعد أن أنظمها على هواي، وبين الخوف أن يفلت مني هذا الأمل فلا أفوز منه بسراب.

وارتسمت أمامي صورة الطبيب الشاب كما أرادها خيالي، وشعرت لمرآها بأن قلبي ينبض بعاطفة كانت مستكنة فيه، وكان الحياء والكبرياء يأبيان عليها أن تبرز إلى الوجود، أما الآن وأنا في دثار من جنة الليل وحمايته فقد تجسم الحب في قلبي، وانتقل منه إلى وجداني، بل إلى حسي المادي، فشعرت كأني أضم هذه الصورة إلى صدري، وأرى في صاحبها ملاكي الحارس وحصني الأمين.

وعاد أبي من العزبة بعد أيام عاد الطبيب خلالها أخي ثم انصرف ولم يذكر لي شيئًا عن اعتزامه خطبتي إلى نفسه، وإن حدثني في حضرة زوج أبي عما يجب للطفل — وقد زالت وعكته — من احتياط حتى لا تعاوده، وبعد أيام جاءت زوج أبي إلى غرفتي تقبِّلني وتهنئني بمفاتحة الطبيب أبي في أمر خطبتي، وتسألني عن رأيي، فألقيت بصري إلى الأرض، واحمرت وجنتاي خجلًا، وقلت: لا أرى إلا ما يراه أبي.

فقبَّلتني مرة أخرى وقالت: نِعم الجواب يا حبيبتي، فهكذا يكون الأدب، وهذا ما كان ينتظره أبوك وما كنت أنتظره منك.

وفي الغد جاء الطبيب ومعه صديق له وقابلا والدي في السلاملك، فلما انصرفا جاء والدي فقبَّلني وأخبرني أنهم سيقرءون فاتحتي بعد غد.

وبعد غد جاء الطبيب ومعه أهله، واستقروا مع والدي في السلاملك، وقرءوا الفاتحة، وأديرت عليهم المرطبات، هنالك انطلقتْ ألسنُ الخدم بالزغاريد، وهنالك شعرت بأني خطوت خطوة واسعة نحو آمالي في حياة جديدة.

وأصبح خطيبي أكثر حرية في التحدث إليَّ حين زياراته إيانا، وشعرت بأن الحظ أسعدني بما لم أكن أسعد به لو أن أحدًا غير هذا الطبيب قد خطبني، فلو أن ذلك حدث لما رأيت خطيبي إلا في فرجات النوافذ، ولما استمعت إلى صوته إلا إذا تسمعت من وراء الأبواب حين حديثه مع أبي، كان ذلك حكم الوقت على كل فتاة تُخطَب، أما وقد سعدت بما لم تسعد به غيري فقد أيقنت أن الحظ يبسم لي، وأن القدر سيعوضني عن فقد أمي عاطفة جديدة، تلك عاطفة الحب المتبادل.

وشُغِل أبي وشُغِلت معه بجهازي، وكانت زوج أبي تشاركنا الرأي في بعضه، وتكون صاحبة الرأي الأخير في أمر الحلي والثياب، وكانت فيما تقوم به من ذلك غير ضنينة ولا متلكِّئة، فلما أتممنا الجهاز أقيمت حفلة الزفاف، حفلة نادرة باهرة، وبدت زوج أبي ليلتها في أبهى حللها وأبدع زينتها، وقد تلألأ جمالها حتى كانت كأنها عروس الحفل، أما أنا فكنت أنتظر بصبر ذاهب نهاية الاحتفال؛ لأذهب مع زوجي إلى بيتي، ولأنسى في أحضانه متاعب الحياة.

وانتقلت معي إلى بيتي خادم كانت عندنا من عهد أمي، وكانت أمي قد وعدتها بأن تكون في خدمتي حين أتزوج، فلما اطمأننت في غرفة نومي، وآن لي أن أخلع ثيابي، وجاءت هذه الخادم تعاونني قالت في ابتسام: أسمعت يا سيدتي كلام السيدات في الفرح؟! أحسبك كنت مشغولة عن كل شيء بانتظار المجيء إلى هنا.

قلت: هذا صحيح، وماذا قلن؟

وأتمت الحديث بقولها: لقد أدهشتهن زينة سيدتي زوج أبيك حتى قالت إحداهن: لمن الفرح؟ أهو للبنت أم للست؟

وأجابت الأخرى: هو للبنت اغتباطًا بذهابها إلى بيتها، وهو للست اغتباطًا بتخلصها من بنت ضرتها واستقلالها بالبيت وسيده فلا يكون لها فيهما شريك.

وابتسمت لحديثها، ولم تلبث حين رأتني خلعت ثيابي أن غادرت الغرفة ليجيء إليها رب البيت، ليجيء إليها زوجي العزيز الحبيب الطبيب الشاب.

وبدخوله الغرفة بدأت سنوات هانئة سعيدة ليتها دامت!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤