الفصل الخامس

قبل أيام من سفرنا إلى أوروبا صحبني زوجي إلى منزل مملوك لإحدى الدوائر الكبرى؛ لأرى مبلغ صلاحه سكنًا لنا، وأخبرني أن الدائرة مستعدة أن تدخل عليه من الإصلاح كل ما نقترحه، وأنها ستقوم بهذا الإصلاح خلال الصيف، فإذا عدنا من سفرنا ألفيناه معدًّا لانتقالنا إليه، ويقع هذا المنزل في حي ممتد على النيل، وقد أعجبني موقع المنزل، وأعجبني مجموع نظامه، لكنني رأيت إدخال بعض التعديلات الجوهرية عليه، كما أبديت اقتراحاتي في طلاء غرفه طلاء يوافق أثاثنا، وبعد الظهر عاد زوجي فأخبرني أن الدائرة قبلت اقتراحاتي كلها، وأنه أمضى العقد معها، وعهد إلى صديق قديم لنا أن يشرف على إجراء الإصلاح في أثناء غيابنا.

وكنت قد أعددت لسفرنا إلى أوروبا ما أرضاني، وسافرنا وقضينا هناك صيفًا ممتعًا حقًّا. وقد ألفت حياة الفنادق الكبرى، واغتبطت بها لأنها كانت تعفيني من تدبير المنزل وما يقتضيه من مشقة، ولأنني كنت أرى من نزلائها أشخاصًا أستريح إليهم وأطمئن إلى معاشرتهم، من هؤلاء سيدة أمريكية رقيقة ساحرة الحديث، بلغت رقتها أن كانت تبدو ناحلة الجسم حائلة اللون بعض الشيء، ولكنه شحوب يزيدها رقة، ويزيد حديثها أثرًا في النفس، ويدعو للُّطف بها والميل إليها، وقد اتصلت بيني وبينها مودة اقتضتني أن أسأل عنها كلما قيل لي إنها لم تترك غرفتها، وسمحت لها أن تدعوني إليها إذا لزمت سريرها لتستريح من تعب ألمَّ بها، وكنت أجد عندها أحيانًا من أصحابها من تسلي بحديثهم وحدتها، وقد سألتني يومًا أن أدعو زوجي معي ليعودها وليصف لها دواءها، وكان زوجي يصحبني بعد ذلك أحيانًا إليها، وإن لم تكن في حاجة إلى طبه وعلاجه.

وكانت هذه السيدة تتزين في سريرها أجمل زينة وأبرعها، ولست أبالغ إذ أقول إنها كانت أكثر عناية بزينة سريرها منها بزينة خروجها ونزهتها، وكانت ملابس سريرها آية في الجمال وحسن الذوق، كانت قمصان نومها من حرير رقيق مطرز أبدع تطريز، وكانت ألوان هذه القمصان هادئة: سماوية أو وردية أو بنفسجية أو ما إليها، خلا قميصًا أحمر قانيًا كانت تلبسه أحيانًا، وقد سألتها يومًا عن تباين هذا القميص القاني مع سائر لباسها، فقالت: «إنما ألبسه حين يدمَى قلبي ليعبر بلونه عن دخيلة نفسي»، وكانت كثيرًا ما تضع على رأسها لباسًا ينسجم مع لون وجهها، ولون قميصها، ويظهرها في براءة الطفل المدلل، ويزيدها بذلك إغراء وفتنة.

وكنت أحب في هذه السيدة كل شيء إلا حبها الشراب، وإن قل ما رأيتها متأثرة به، فقد كانت إذا تنصَّف الليل لا تطيق صبرًا على كئوس تحتسيها، ولو كانت في سرير نومها، وقد دعتني غير مرة لمشاركتها في شرابها فاعتذرت ولم أقبل، وكانت إذا أطلق الشراب لسانها تروي من هموم حياتها ما يثير الشفقة بها، هذا مع أنها كانت تنفق عن سعة تشهد بواسع ثرائها، وبأن المال وحده لا يذيب الهموم، ولا يكفل السعادة.

وكانت هذه السيدة تعرف من دقائق الجمال الذي تتزين به الطبيعة في أرجاء أوروبا المختلفة ما لا يعرفه إلا الأقلون، وقد أشارت علينا بجولات في أرجاء النمسا وشمال إيطاليا وفي بلاد الشمال الأوروبي لم نستطع ذلك الصيف أن نتمها جميعًا، ولكن متاعنا بما رأيناه فاق كل ما كنت أتصور، فلما كنا في الأيام الأخيرة من شهر سبتمبر عدنا إلى القاهرة، وأنا أحسب لانتقالنا إلى منزلنا الجديد ألف حساب.

ونزلنا القاهرة فإذا بالإصلاح المطلوب في المنزل لم يتم كله، وإذا ما تم منه لا يعجبني، وأبديت رأيي في ذلك بطريقة أغضبت الصديق الذي تولى الإشراف على الإصلاح في غيابنا، وقد كان يتوقع أن نشكره لا أن نلومه، وأدى به الغضب إلى الإقلال من التردد علينا، وساء زوجي غضبه وانقطاعه، لكن رأيي في الأمر كان حاسمًا!

قال زوجي: «وما العمل الآن؟ إن منزلنا الأول قد سكنه مستأجروه الجدد، وأثاثنا كما تعلمين مودع في مخازنه.» قلت: «ذلك شأنك، فإن شئت بحثنا عن مسكن آخر، وإن شئت نزلنا في الفندق حتى يتم إصلاح هذه الدار التي استأجرتها.» فذهب إلى الدائرة المؤجرة، ثم عاد يقول: إنهم وعدوني أن يتم الإصلاح في شهر، فلا حاجة بنا إلى البحث عن منزل جديد، وقد اتفقت مع إدارة «مينا هاوس» لنقيم فيه ريثما يتم الإصلاح.

واغتبطت بما سمعت، ونزلنا «مينا هاوس»، وكم سعدت بأيام مقامي هناك، وإن شقيت بعد ذلك بمعقباتها. كان زوجي يستيقظ مبكرًا، ويتناول فطوره في غرفة الطعام، ويذهب إلى عمله، فإذا أردت الذهاب إلى المدينة لبعض شئوني أو لأرى ما تم في منزلنا الجديد، طلبت السيارة فأقلتني إلى حيث أشاء، ثم عدت بها مع زوجي إلى الفندق. وكنت قلما أغادر «مينا هاوس» بعد الظهر، إلا أن نجيب دعوة إلى الشاي أو العشاء في المدينة، وكان كثيرون من أصدقائنا يزورننا بالفندق، وكنت أشعر في بعض الأيام بالتعب، فلا أرى بأسًا من أن أستقبل في غرفة نومي أية صديقة تحضر لزيارتي، فإذا كان معها زوجها لم أرَ بأسًا بأن يصحبها إلى غرفة النوم، واضطر زوجي إلى قبول هذا الوضع حين ذكَّرته بأنه كان يصحبني أحيانًا في زيارة الأمريكية ونحن في أوروبا، واقتضاني هذا الوضع أن أحاكي الأمريكية في زينة سريري، وقد جعلت من غرفة نومي بهو استقبال يحضر إليه الرجال مع زوجاتهم، وإن لم أكن قد تسامحت بعد في أن يصعد إليه الرجال وحدهم.

وكان الإصلاح يسير في منزلنا الجديد ببطء شديد، ولعلي كنت مسئولة بعض الشيء عن هذا البطء، وقد تخطت مسئوليتي البطء إلى نفقات الإصلاح، ذلك أنني قدرت أن هذا المنزل سيكون مسكنًا لنا سنوات عدة، ويجب لذلك أن يبلغ الإصلاح غاية ما يرضينا؛ لذا كنت لا أقر الكثير مما قاموا به وسموه إصلاحًا، وكنت أطلب إعادة العمل على الوجه الذي أستريح له، فإذا قيل لي إن الدائرة لا يمكن أن تتكفل بهذا، قلت: «لا يهم، نفذوا ما أطلب على نفقتنا.»

وتحدث إليَّ زوجي يومًا أنَّا ندفع أجر المنزل أول أكتوبر؛ أي منذ عدنا من أوروبا، وندفع أجر الفندق وملحقاته، وندفع نفقة ما أطلب من إصلاحٍ لا تلتزم الدائرة به، وأن في ذلك إرهاقًا لنا طال أمده.

قلت: «فيمَ إذن كان تفكيرك في انتقالنا إلى مسكن جديد إذا كان هذا المسكن لا يرضي ذوقنا؟ لقد كان خيرًا لو بقينا في مسكننا القديم إذا لم نشعر نحن، ولم يشعر الناس جميعًا بالفارق الكبير بين السكنين، وسيتم الإصلاح عما قريب، وتنتهي نفقاته ونفقات الفندق، وينتهي بذلك ما نشكو منه.»

وسكت زوجي ولم يعقب بكلمة، يومئذ شعرت بأنه رجل عاجز الحيلة، فليس يضيق بأمر المال في رأيي إلا الذين يعوزهم الإقدام، فإن من معارفنا من كانوا يتطلعون إلينا أول زواجنا على أننا من الأغنياء واسعي الثراء، ثم إذا هؤلاء المعارف يصبحون بإقدامهم من أصحاب الألوف، بل من أصحاب الملايين، والعجز عن الإقدام نقص وأي نقص.

لم يعقب زوجي بكلمة على مراجعتي في هذا الأمر، ولم يفاتحني من بعد فيه، ولعله استشف ما دار في خاطري، أو شعر من ناحيتي بأني لست راضية عنه كل الرضا على نحو ما عودته، فقد رأيته مشغول البال، بادي الهم، كثير الأرق، وإن لم يتغير في صلته بي عما عودنيه من مودتي والاستجابة لكل رغباتي، وهو لم يكن يستطيع أن يتغير، فقد كان يحبني، وكان يخشى أن أتغير أنا عليه بعد الذي رآه من إعجاب المعجبين بي وإذعانهم لسلطان جاذبيتي وسحر حديثي. والواقع أنني شعرت بعد الذي رأيته من همه وأرقه بأني أبالغ في محبتي وإكباري إياه؛ لأنه لا يجاريني في طموحي، ولا يحاول أن يصعد بي ومعي إلى الصف الأول من صفوف الحياة في مصر.

وتمت الإصلاحات في منزلنا الجديد وانتقلنا إليه، وإن بقيت فيه أشياء لم تنل كل رضاي، وأردت لمناسبة هذا الانتقال أن أقيم حفلة ساهرة كبرى، فاعترض زوجي بأن مألوف عاداتنا المصرية لا يسيغ مثل هذه الحفلات، واقترح إن شئت أن أقيم حفلة شاي يتحقق بها غرضي. ورأيت حفلة الشاي دون ما ترضاه نفسي، فأبيت ولم أقم أيًّا من الحفلتين، وكذلك تم انتقالنا في صمت جنائزي، كما أنني لم أستطع أن أبلغ كل ما أريد من تجديد أثاثنا لينسجم على ما أريد مع الدار الجديدة بعد إصلاحها.

على أنني عُنِيت بتأثيث غرفة النوم عنايتي بزينتي في سريري، فقد أدركت إبان مقامي بالفندق ما لهذه الغرفة من سحر وصاحبتها في سريرها، وفهمت لماذا كانت صاحبتنا الأمريكية في أوروبا تؤثرها على كل ما سواها من أبهاء الفندق الفخم وصالاته، واصطناع المرض أو التعب الذي يُلزِم الإنسان سريره لا يشق على امرأة، هما عندها كالدموع تُليِّن بها قلب الرجل، وتكسب بها عطفه ومودته. وغرفة النوم أشد إثارة لطلعة السيدات، وأدعى لثرثرتهن من غرفة الاستقبال ومن كل غرفة أخرى في المنزل.

وقد أرضاني أثاث هذه الغرفة بعد تمامه، وكان زوجي أشد سحرًا به؛ لأنه كان أعلم بأسراره إذ ذاك من كل مَن سواه.

وكانت كل واحدة من صديقاتي تزور هذه الغرفة تبدي من الإعجاب بها ما يزيد رضاي عنها، أما أزواج صديقاتي الذين كانوا يصحبونهن، فكان نظرهم يدور في أرجاء الغرفة دورة خاطفة ليستقر آخر الأمر على السرير وزينته.

كان الصديق الذي عهد إليه زوجي بالإشراف على إصلاح المنزل في أثناء غيابنا في أوروبا، والذي انقطع عنا أو كاد حين عرف رأيي في الإصلاح الذي تم بإشرافه، قد بالغ في انقطاعه منذ انتقالنا إلى المنزل، فلم يحضر إلينا فيه إلا في زيارة تقليدية لتهنئتنا بالانتقال، وكان هذا الصديق غير متزوج، وكان بطبعه سريعًا إلى رفع الكلفة كثير فلتات اللسان، وكان ما بينه وبين زوجي من صداقة قديمة وود متصل قد جعل زوجي يضيق بانقطاعه عنا، وعدم تردده علينا، وقد قال لي يومًا وكأنه يعاتبني: «لقد أوحشني انقطاعه عن زيارتنا، ولم تحسني أنت جزاءه عن إشرافه على الإصلاح للمنزل في أثناء غيابنا، ولعله يخشى أن يسوءك مجيئه إلينا.» قلت: «عجبًا لكما أنت وهو! إنني لم أزد على إبداء رأيي في الإصلاح الذي تم في غيابنا، ولم يدر بخاطري أن يستاء صديقنا من هذا الرأي حتى ينقطع عنا، وإنه ليسرني أن يعود إلى سابق مودته، وليسرني أن يبدي رأيه في المنزل بعد إصلاحه الأخير، وتستطيع أن تؤكد له أنني لن أضيق بملاحظاته، ولن أغضب منه إذا أبدى من النقد أشده، فالأذواق تختلف، ولا يدل اختلافها على شيء يسوء صاحب هذا الرأي أو ذاك.»

وألح زوجي على صديقه فجاء يومًا معه، فلما فرغ من شرب القهوة قلت له: «الآن تفضل ودُر في أرجاء المنزل، وقل لي رأيك في صراحة في إصلاحه.» قال لي في تهكم: «وهل لمثلي أن يبدي رأيه فيما يتم بإشرافك أنت يا صاحبة الذوق السليم.»

قلت: «لا يسوءني أن تتهكم بي، ولا أن تنقد عملي، ولكني حريصة على أن أعرف رأيك»، فقام بعد تمنُّعٍ ودار مع زوجي في أرجاء المنزل، فلما أتم زيارة الطابق الأول قال: «وهل كانت الدائرة تسمح لي بأن أنفق ما أنفقتم أنتم ليبلغ الإصلاح هذا المدى؟ والآن أفهم شكوى زوجك من باهظ النفقة، أنت جبارة لا تخافين الله، لقد كان خيرًا بدل أن بعثرت ما بعثرت في إصلاح هذا المنزل أن تشتروا منزلًا جديدًا يبقى لكم ولأولادكم من بعدكم.» قلت مبتسمة: «لعلك قلت هذا الكلام لزوجي، فكان ذلك سبب تغيُّره عليَّ؟!»

فنظر إليَّ نظرة خبيثة، وقال: «زوجك يستطيع أن يتغير عليك! مسكين هذا الرجل، لقد كبَّلتِهِ من عنقه ومن يديه ومن رجليه؛ فأصبح لا يستطيع حراكًا أمامك، إنه يوم حدثني في شأن الإصلاح، وما أنفقت فيه استحلفني بقبر أبي ألا أذكر من حديثه حرفًا، ولولا غيظي منك لبررت بوعدي له.» قلت: «ألا تصعد إلى الطابق العلوي؟ لقد عنيت به أكثر من عنايتي بهذا الطابق الذي يزورنا الناس فيه، فالطابق العلوي هو عشنا الحقيقي، هو سكننا بالليل، والجانب الأكبر من النهار، هو ملجؤنا من أعين الناس وفضولهم، ولهذا أخالف الذين يبذلون النفقة إرضاء للناس وخوفًا من ألسنتهم، ولا يبذلونها إرضاءً لأنفسهم ومتاعًا بحياتهم!»

قال: «ألم أقل إنك جبارة لا تخافين الله، إذا كانت نفقة هذا الطابق قد بلغت ما أرى، وكنت قد ضاعفت العناية بالطابق الأعلى، فأي نفقة كلفتكم هذه العناية؟»

قلت: «دعك الآن من النفقة، وقل لي رأيك في الإصلاح»، وصعد معي إلى الطابق الثاني، فلما دخل غرفة النوم الفسيحة، ودار بنظره في أرجائها فتح عينيه واسعتين، وقال: «هذه غرفتك أنت أم غرفة مدام ركامييه؟ أقسم أن غرفة «زبيدة» الملكة زوج «هارون الرشيد» لم تكن في جمال غرفتك هذه وإبداعها، الآن أعترف أن ذوقك لا يعلوه ذوق، ولو أن الأقدار كانت منصفة لوجب أن تكوني من أصحاب الملايين، حتى لا يقف في سبيل ذوقك الجميل عائق.» قلت فيما بيني وبين نفسي: «تُرى ماذا عساه كان يقول لو أنه دخل هذه الغرفة وأنا في زينة سريري؟!» وشرد ذهني لحظة حين كان هو يتفقد كل قطعة من قطع الغرفة، ويقف أمامها هنيهة، فلما عاد إلى ناحية الباب حيث كنت أقف قال: «كل ما هنا بديع بارع، لكن هذا لا يمنعني من أن أقول لك إنك ظلمت زوجك في النفقة ظلم الحسن والحسين.»

ضقت ذرعًا بتكراره عبارة النفقة وظلمي زوجي، فقلت: «وهل يضيق بأمور المال رجل ذو همة وذكاء؟! إنما يقعد العجز بصاحبه عن الإقدام لبلوغ ما يريد! وهل أمطرت السماء ذهبًا على من تعرف ممن جمعوا مئات الألوف بل الملايين، أم أن إقدامهم وحسن حياتهم هما اللذان نصبا للمال شباكه فصادته، وكانوا قبل ذلك فقراء لم يرثوا عن أهلهم ما ورث زوجي عن أبيه؟! معذرة عن كلامي هذا، لكنك أكثرت الحديث عن النفقة وإسرافي فيها، وقد حملت ما قلته أول الأمر على أنه اعتذار عن عدم بلوغ الإصلاح ما يرضيني حين إشرافك عليه، أما الآن فإني أشعر أن زوجي يكرر عليك الكلام فيه ولكأنه يوجِّه إليَّ الاتهام بشأنه، وأنا إنما أردت أن يعيش كما يجب أن يعيش، فإن كنت أسرفت في حسن ظني فاستغفره لي، وقل له إني تبت لعله يقبل توبتي!»

قلت هذا الكلام في حدة روَّعت الرجل فقال: «مهلًا مهلًا، لا تسرفي في التثريب على الرجل إلى حد اتهامه بالضعف والعجز، إن أولئك الذين تذكرين ممن تصيدوا الملايين لم يتصيدوها في عام ولا في بضعة أعوام، وزوجك اليوم أعمق تفكيرًا في التحايل على المال منه في الغضب منك أو في اتهامك، إنه يريد إرضاءك، إرضاءك بكل وسيلة لا تخدش شرفه، ولا تؤذي سمعته بين الناس. ولست أدري أيستطيع إنسان أن يجمع بين المال والشرف وحسن السمعة؟ لكن تصيد المال هو ما يشغل زوجك الآن إرضاء لطموحك، ولعلي لو كنت مكانه لما صنعت صنيعه، ولوقفت في طريق اندفاعك إبقاءً على نفسي من الانزلاق في سبيل لا يغامر بالانزلاق إليها إلا الذين لا يعنيهم شيء، فإن تحقق ما غامروا في سبيله ارتفعوا بثروتهم إلى السماء، وإن لم يتحقق ظلوا في القاع الذي يحاولون الخروج منه.»

وخشينا كلانا أن يسرقنا الوقت إلى ما يثير هواجس زوجي من بطئنا، فلما رآه صديقنا قال له: «هنيئًا لك يا صديقي هذا المنزل الفخم، بل القصر المنيف، لم أكن أتصور أن يخلق الإصلاح من تلك الدار التي رأيت أول الصيف هذه التحفة التي أرى الآن!»

ثم التفت إليَّ وقال: «وأنا أهنئك يا سيدتي، لقد محا إعجابي بذوقك كل غضب أثاره في نفسي عدم رضاك عن إشرافي، وهو إعجاب لا حد له، ولو أن أصحاب هذه الدار كانوا أهل ذوق ومروءة لاحتملوا نفقات هذا الإصلاح كلها، وأنا مستعد لأن أخاطبهم في ذلك، وأحملهم ما أستطيع منها إذا لم يكن لكما على تدخلي اعتراض.»

وشكرناه وقلنا له إنَّا لا اعتراض لنا على تدخله. والعجب أنه لم يمضِ على حديثنا في الأمر غير ثلاثة أيام، ثم إذا هو يحمل إلينا النبأ بأن الدائرة قبلت أن تتحمل نصف ما أضيف علينا من نفقات الإصلاح، وشعرت كأن زوجي انتشل من وهدة لسماع هذا النبأ السار، واغتبطت أنا كذلك، ولكن هذه الفرحة التي بدت على زوجي جعلتني أشفق عليه لعجزه عن أن يفعل ما فعله صديقنا، ويحمل الدائرة على ما حملها هذا الصديق عليه، وكان هو أحرى بهذا وهو صاحب الشأن الأول والمصلحة المباشرة، ولو أنه فعل لرفع عن عاتقه همًّا وأرقًا كاد أثرهما يسيء إلى صحته.

وعاد صديقنا سيرته الأولى إلى مودتنا والتردد علينا، وعاد يعابث زوجي بفلتات لسانه، ويعابثني أحيانًا كذلك، ولم يكن زوجي يجيب معابثته إلا بالسخر منه، وعدم الاكتراث لعبثه، وكان هذا الموقف وذاك من جانب الرجلين طبيعيًّا، ولكن عجبت كيف جمعت الصداقة بين طبعين مختلفين هذا الاختلاف، فزوجي رزين شديد الاتزان يقدر كل كلمة يقولها، ويبالغ في احترام الناس احترامًا لنفسه، وصديقنا على النقيض يلقي الكلام جزافًا، ولا يعبأ بمظاهر الاحترام، وزوجي شديد الحياء إلى حد أضيق به أحيانًا، وصديقنا يجد الحياء سخفًا لا معنى له، وزوجي ودود متخفف مع ذلك في وده، وصديقنا مسرف في الود سريع مع ذلك إلى المغاضبة، ولكن صداقة الرجلين اتصلت منذ كانا طالبين معًا في المدرسة الثانوية، وصداقة الصبا قلَّ أن يعدو عليها الزمان وإن أمكن أن يعدو عليها النسيان!

وكان صديقنا يعرف صديقتي التي مات زوجها منذ عامين فطمع أهله في تركته ومنعوها وذريتها الضعاف من الاستيلاء عليها أو على إيرادها، وكان صديقنا كذلك صديقًا لزوجها ولأمها، وكان فيما يخيل إلي معجبًا بجمالها وبطبعها، وقد كان زوجها شديد الغيرة عليها، وكان يعرف في طبعها خفة لا تؤذي وفاءها وعفتها، ولكن تؤذي غيرته، ولذلك انتقل بها إلى الضواحي وسكن معها فيها، ومنعها من أن تنزل إلى المدينة إلا بإذنه وفي رفقته، فلما مات عادت إلى القاهرة وأظهرت من الحزن عليه ما رق له قلب صديقنا وفاء للزوج المتوفى، وإعجابًا بالزوج الأرمل. ولقد عرف بعد قليل ما تضطرب فيه هذه الزوج الأرمل من مشاكل ميراث مع أهل زوجها لا قِبَل لها وحدها بحلها، فتبرع مشكورًا لمعاونتها، واضطر من أجل ذلك أن يكثر التردد عليها، واقتضت هذه المشاكل مشورة طبيب فأشرك صديقنا زوجي معه في مهمته.

ولم يُبدِ زوجي بادئ الأمر حماسة لهذه المعاونة لولا أن دفعته أنا إليها، وقد أدهشني تباطؤه عن المبادرة إلى عمل إنساني يتفق مع طيبة قلبه وحبه الخير للناس، وزادني دهشة أنه كان يعرف صديقتي في حياة زوجها، وكان يتردد عليها لعيادتها، ولعيادة أطفالها، ثم كان يحدثني عنها حديثه عن أي مريض أو مريضة يعوده أو يعودها، ولم يبد من مظاهر الإعجاب بجمالها ما يريبني، لكنه لم يلبث بعد حين من مشاركته صديقنا في معاونتها أن ازدادت حماسته لهذه المعاونة، حتى بلغت أشدها، وأن صار يتحدث عنها وكأنه يقوم بعمل يمس قلبه، بل يحركه، فماذا حدث؟ أتُراه أذعن لفتنتها فصار يبدي لميراث أبنائها كل هذه الحماسة؟! ثم إنه أخذ يتردد عليها في بيت أمها العجوز الشمطاء، وهي في غير حاجة إلى طبه وعلاجه، فهل تراها تنصب له شباكها ليقع في حبائلها؟ هنالك بدأت الغيرة تدب في صدري، وإن حرصت على ألا يبدو من أثرها أي مظهر، وبدأت أفكر كيف أستعيد هذا الرجل خالصًا لي كما كان.

ولم يكن دافعي إلى هذا التفكير محبتي إياه بقدر ما كان الدافع إليه غيرتي ونفوري من أن تأخذ امرأة مني رجلًا ملكته يدي، وأصبح طوع يميني، فصار لا يستطيع حراكًا بغير إرادتي!

واستخلصت صديقتي ميراثها بمعونة زوجي ومعونة صديقنا، وأصبحت بذلك في سعة تسمح لها أن تنهض بحياتها وحياة أولادها في رخاء ونعمة، فأقامت في مسكن اختارته لنفسها، ولم يكفها أن تذهب إلى الأقصر في الشتاء لنزهتها، بل كانت تصطاف في أوروبا، وتقضي في ربوعها شهور متاع ومرح ومسرة.

ولم ينقطع زوجي عن التردد عليها بعد أن استخلصت ميراثها، ولم تنقطع هي عن زيارتنا برغم قلة زيارتي بيتها، وكانت غيرتي تزداد لذلك ضرامًا، وكنت أومئ إلى زوجي أن الناس يتحدثون في تردده عليها، فلا يأبه لهذا التلميح، مكتفيًا بقوله: «ما دمتِ واثقة بي مطمئنة إليَّ فإن كلام الناس لا يعنيني»، وكانت كبريائي تأبى عليَّ حين أسمع منه هذا القول أن أخبره بمكنون صدري، وإن استبد بي التفكير في التماس الوسيلة للتخلص من هذه المرأة ومن تردد زوجي عليها. وإني لأقلِّب هذا الأمر على وجوهه إذ أخبرني زوجي أن الألماني الذي عرفنا في الأقصر قد جاء إلى القاهرة، وأنه تحدث إليه بالتليفون، وأنه دعاه لتناول الشاي معنا، قلت: «إذن فادعُ صديقنا لنحدث التعارف بينهما، وإذا لم يكن لديك مانع فادع كذلك صديقتي فإنه يسرها لا ريب لقاء الألماني بالقاهرة، بعد أن تلاقيا طويلًا بالأقصر.» ولم يجد زوجي بأسًا بدعوتهما، فكدت أطير من الفرح مؤمنة بأن الحظ الذي جاء بالألماني إلى القاهرة في هذا الوقت لا بد مسعدي في تفكيري، وستتمخض هذه المصادفة الطيبة عن نتائج أرضاها.

وجاء المدعوون ساعة الشاي، وأقبل عليَّ الألماني يحييني وتكاد عيناه لا تنظران إلى غيري، وكانت أول عبارة قالها: «لِمَ لَمْ تحضري إلى الأقصر هذا العام يا سيدتي؟ إن جميع معارفك والمعجبين بك كانوا يسألون عن موعد مجيئك بشغف ليس كمثله شغف، سلي صديقتك، لقد عرفت من ذلك ما عرفت، وأظنها أبلغتك تحياتهم واحتراماتهم.»

لم يثر هذا الكلام من صديقتي أي صدى، بل تشاغلت عن الإصغاء إليه بالحديث إلى زوجي وإلى صديقنا، وزادني ذلك إقبالًا على الألماني، وترحيبًا به، وعملًا على أن أصل الحديث بينه وبين سائر الحاضرين.

لم توجه صديقتي إلى الألماني في أثناء الشاي إلا كلمات متقطعة، لكنها كانت المودة مع زوجي كل المودة، وكانت تلتهم صديقنا بعينيها التهامًا، وتكاد تأكله بهما أكلًا، وكان صديقنا يجاهد لكي لا يغيب عنا مسحورًا بهاتين العينين الفاتنتين، زانهما حَوَرٌ زاده الكحل الرقيق سحرًا، وزاد صاحبته فتنة، وكانت صديقتي تعرف سحر عينيها، وتعرف كيف تزيد نظراتهما فتنة وسحرًا، ومع ذلك جزى الألماني صدها عنه بالإقبال عليَّ وتوجيه الحديث كله إليَّ إلا عبارات كان يبعثرها هنا وهناك حتى لا يحسب زوجي أو صديقنا أنه نسيهما لفرط اشتغاله بي.

فلما فرغنا من الشاي قلت: «ألا تريد أن تنزل إلى الحديقة؟» قال: «بكل سرور»، فدعوت صديقنا وتخطيت مع الرجلين غرف الطابق الأول، ونزلنا من السلم الخلفي إلى حديقة الدار، أما صديقتي فقد اعتذرت، وآثرت المكث حيث هي، واضطر زوجي للبقاء في صحبتها، ولم تطل دورتنا في الحديقة، فلما عدنا منها قال الألماني موجهًا الكلام إلى زوجي: «ما أجمل داركما! إن براعة الذوق في نظامها وتنسيقها لتنطق بأن السيدة قد بثت فيها من روحها بعض ما تنطوي عليه من تناسق وجمال.» وشكره زوجي، ثم ودعنا ضيوفنا وأوصلناهم إلى الباب الخارجي.

فلما خلوت إلى زوجي قلت له: «ما رأيك في أن ندعو الرجل للعشاء غدًا؟ إنه ينزل فندق الكونتننتال، وليس أيسر من أن تحادثه بكرة الصباح تليفونيًّا، وما أحسبه إلا قابلًا دعوتنا»، وأجاب زوجي في هدوء مصطنع لا يتفق مع ألفاظ عبارته: «ألم يكفك أني دعوته اليوم للشاي إرضاء لك، أنت تعلمين كما أعلم أنه لم يخاطبني في التليفون حين جاء إلى القاهرة حرصًا على مقابلتي، بل حرصًا على مقابلتك أنت، فإذا دعوناه للعشاء غدًا أثار ذلك حديث أصدقائنا حولنا، ولا أحسبك تغتبطين بأن يذاع هذا الحديث!»

قلت وأنا أكظم في نفسي سرورًا كادت تلمع به عيناي: «وماذا عسى يستطيعون أن يقولوا؟ هذا رجل مسافر بعد غد إلى بلاده في أوروبا ليقيم بها ستة أشهر أو تزيد، وقد أكرمني في الأقصر العامين الماضيين، فلا عجب أن تكرمه بمناسبة مروره بالقاهرة، وأنا مع ذلك لا ألح عليك في دعوته، وإن كنت أعجب لكلامك عن حديث الناس، وكأنهم لا يتكلمون اليوم عنا لمبالغتك في العناية بصديقتي، ولو أنك عرفت ما يقولون لما ذكرت حديثهم في دعوة بريئة لرجل أكرمنا من قبل، وأكرر أني لا ألح في دعوته، بل أعتذر إليك وأرجوك أن تنسى أني طلبتها.»

وتلجلج زوجي حين سمع هذا الكلام وكأنما طعنته في صدره، فوجم هنيهة، ثم قال: «يغفر الله للذين يتحدثون عني، إنما دفعتني للعناية التي تذكرين عاطفة نبيلة لأطفال ما أحوجهم إلى ميراث أبيهم، وللعطف عليهم، أما أمهم فلا شأن لي بها، ولا شأن لها بي إلا أن تشكرني على العناية بأطفالها، وصديقنا هو المعنيُّ الأول بالأمر، وهو الذي يحفزني كلما ظن أني بحاجة إلى حافز لمضاعفة عنايتي، وقد لا تعلمين أن صديقنا يفكر في الزواج من هذه السيدة، أو أنها هي التي تفكر في الزواج منه.»

كنت أسمع أحاديث عن هذا الزواج، وكنت في ريب منها، فلما أكدها زوجي كنت كمن فوجئ بها، والعجيب أني شعرت حين تحققت منها كأن صديقتي تخونني، وفكرت لذلك في إفساد ذلك الزواج التي تعتزم، كيف نبت هذا الشعور في نفسي وصديقتي مخلصة في مودتها لنا، ولا جناح عليها وهي أرمل أن تفكر في الزواج، ولا حق لي وأنا متزوجة أن ألومها فيه؟ ولم أكن أحسب أن بيني وبين صديقنا عاطفة تسوغ مثل هذا الشعور! لا جواب على هذه الأسئلة، ولكن ذلك ما حدث، وسرعان ما ترعرع هذا النبت فحرك شجوني وأنساني الألماني، وأنساني زوجي، وأنساني حديث الناس، وجعلني لا أُعنَى بشيء إلا بإفساد هذا الزواج!

ولطالما فكرت من بعد: أيُّ داعٍ دفع هذا العزم إلى نفسي؟ وكل ما اهتديت إليه بعد طول البحث والتحليل أني كنت أجد في زيارات صديقنا وأحاديثه متعة أستعين بها على الملال، بل أسعد بها في الساعات الطويلة التي كان العمل يشغل زوجي في أثنائها، وأن عقلي الباطن أوحى إليَّ أن زواجه بهذه المرأة سيشغله عني ويأخذه مني، ومن يدري؛ فلعلها يوم تتزوجه تجعل من دارها ندوة يأوي إليها زوجي فتتم بذلك عزلتي، ويصبح انتصار هذه الفاتنة اللعوب عليَّ حاسمًا يحطم كبريائي ويمرغها في التراب؟! فأما إن استطعت إفساد هذا الزواج فسيبقى صديقنا يؤنس وحدتي، ويبعث المسرة إلى قلبي، وسأجد في أحاديثه مَسْلَاتي، بل هناءتي، وسيبقى منزلي مقصده ومقصد زوجي، هذا ما اهتديت إليه من بعد، تفسيرًا لعزمي على إفساد هذا الزواج.

وأحكمت يومئذٍ تدبيري، فتمارضت ولزمت سريري، وكنت إذا أصبحت وخرج زوجي إلى عمله تزينت للسرير أجمل زينة وأشدها إغراء، وبقيت به طيلة النهار، واستقبلت زائراتي وأزواجهن في غرفة نومي، وجاءني زوجي غداة اعتكافي، وأخبرني أن صديقنا يستفسر عن صحتي، وأنه في بهو الاستقبال، قلت: «لو أن صديقتي كانت هنا لما رأيت بأسًا باستقبالهما في غرفة النوم ما داما يعتزمان الزواج.»

ولم أعجب حين رأيت صديقتي تجيء الغداة ومعها صديقنا، بحجة أنها تريد محادثة زوجي في بعض الشئون المتعلقة بأبنائها، فلما خلا الجو لصديقنا قال: «أشكرك على السماح بزيارتك وأنت في هذه الزينة البارعة، لقد ضاعف وجودك هنا من جمال هذه الغرفة وزادها سحرًا.» قلت: «دعك من هذا الحديث فأنا متعبة لا طاقة لي بسماعه، وأين جمال هذه الغرفة وساكنتها من جمال عروسك وسحر عينيها الفاتنتين؟ فلا تكادان تنظران إلى رجل حتى يخر على قدميه ساجدًا.» وسكتُّ لحظة ثم قلت: «إنني هدني التعب والمرض، وأنا أشكرك لتفضلك بالسؤال عني»، قلت هذا وصحبته بابتسامة حار في دلالتها، أهي التهكم أم الصدق أم مجرد الإغراء؟ ونظر الرجل إليَّ بعينين واسعتين، وقال: «يا ماكرة! أمتعبة أنت حقًّا أم تريدين أن تتعبي من يزورونك هنا لأنهم لا يستطيعون الإمساك عن التفكير في صورتك الجذابة، وفي الإطار البديع الذي أحطت نفسك به.»

وعادت صديقتي فأمسكنا عن الكلام، على أن صديقنا عاد الغداة مع زوجي، وصعد معه إلى غرفة نومي، وقد أقنعته سرعته إلى رفع الكلفة بأنه لم يبقَ ما يمنعه من زيارتي فيها، وابتسمت فيما بيني وبين نفسي لنجاح الخطوة الأولى من خطتي، فلولا أنني أذنت بصعوده إليَّ مع صديقتي لبقي كارهًا في تحفظه. ورآني حين دخل الغرفة في زينة غير التي رآها لأمسه، فانتهز فرصة خرج فيها زوجي لبعض شأنه، وقال: «ما أجمل المرض في هذا السرير!» قلت: «وما لك أنت وذاك وأنت موشك أن تتزوج؟ احتفظ بمثل هذه التحيات لتقولها لأهل بيتك، متَّعك الله في الحياة الجديدة التي تنتظرك، وأرجو يومئذٍ أن تنسيك هذه الحياة أصدقاءك!»

وبعد هنيهة سألته: «ما بال صديقتي لم تحضر معك كما فعلت أمس وهي تعلم أني متعبة؟» قال: مررت بها فألفيتها غادرت منزلها، ولم تذكر لخادمها أيان ذهبت، وسألت عنها في بيت أهلها فلم أجدها هناك.»

كنت أعرف في هذه الصديقة خفة تستسيغ معها أن تصحب المعجبين بها إلى نزهات خلوية، وكنت أعرف من أقاربي شابًّا جميل الطلعة يتردد إليها مسحورًا بجمالها وبفتنة عينيها، وقد شجعته هذه الفترة الأخيرة على مصاحبتها، وعلمت في هذا اليوم أنهما سيخرجان لنزهة على طريق السويس بعد مصر الجديدة، فأوحيت إلى صديقنا أن يذهب إلى هذه المنطقة فإذا صادف قريبي هناك، فليبعث به إليَّ لأمر هام أريد أن أحدثه فيه، ولم يجد صديقي بعد زياراته الأخيرة إياي في غرفة نومي مفرًّا من أن ينزل على رغبتي. وبعد الغروب عاد إليَّ وعيناه تقدحان الشرر وهو يقول: «أهنئك يا سيدتي بنجاحك في إفساد هذا الزواج، وأشكرك، لقد رأيت قريبك مع صديقتك داخل السيارة في جوف الصحراء وهما في وضع لا أستطيع أن أصفه!» قلت: «هوِّن عليك يا أخي، فقد حملني الوفاء لصداقتك على أن أتيح لك فرصة ليس يسيرًا أن تتاح لإنسان، فإن كان قد ساءك ما فعلتُ فلي من حسن قصدي عذير.» قال: «ولكنك قاسية، وكان حسبك أن تنبهيني»، فقلت: «إنني أردت أن ترى بعينيك ما لا تستطيع أن تصدقه حين تسمعه»، فأطرق إطراقة طويلة ثم ارتمى على مقعد، وكأنما ترقرقت في عينيه دمعة، وقال: «شكرًا لك أن أزلت عن ناظري غشاوة حجبت عني خطرًا داهمًا.» وبعد برهة ودَّعني وانصرف.

أما صديقتي فلم تخاطبني ولم أخاطبها بعد ذلك اليوم، ولم يكفها أن قاطعتني، بل ذهبت تذيع في كل صالون، وفي كل نادٍ، وفي كل مجتمع في المدينة أني أحب صديقنا، وأنني أريد أن يطلقني زوجي لأتزوجه، وأن الغيرة دبت في نفسي منها منذ عُني زوجي بشأنها، واهتم بميراث أطفالها، وقد كان عذرها في مهاجمتي أنها تدافع عن نفسها، فقد أخبرني قريبي الذي كان معها في السيارة في الصحراء أن صديقنا فاجأها وهو ممسك يدها بين يديه، وهي ملقية رأسها على كتفه، وأنها حين رأت صديقنا سحبت يدها من يديه، وصفعته على وجهه قائلة: «أَوَبلغ من سفالتك أن تدبر مع قريبتك هذا الموقف المشين يا نذل؟!» وأقسمت أن لن تراني، وأنها ستفضحني. وكان مما قالته له والسيارة تعود بهما أدراجهما: «لماذا تدليتم إلى هذا الحضيض يا أحط من خُلِق؟! هل أخذت منها زوجها؟! لقد كان في مقدوري أن أفعل، فأنا أجمل منها ألف مرة، ولكني حفظت عهد الصداقة، ورعيت ما بيننا من خالص الود. هل أخذت منها الألماني في الأقصر، ولم تكن تراه إلا على مائدتي في «ونتر بالاس»؟ وإذا كانت تعشق هذا الذي كنت أريد أن أتزوجه فلماذا لم تخبرني فأدعه لها وألقيه صاغرًا تحت أقدامها؟ أم حسبت أنني أنافسها في محبته فتآمرت معك هذه المؤامرة الدنيئة؟! إن يكن ذلك ظنها فهي مخطئة، إنه رجل ماجن، ولكنه أظهر صدق الإخلاص إثر وفاة زوجي، وعمل جهده لمعاونتي على استخلاص ميراث أطفالي حتى استخلصه، فقدَّرت له هذا الصنيع وأردت أن أجزيه عنه بالتزوج منه، فإن كانت قريبتك قد ظنت رغبتي في التزوج منه عشقًا أو حبًّا فهي مخطئة، وليس بين الرجال من يستحق في سني أن أحبه، وإن كان منهم من يستحق أن أحترمه، ولست أنت ممن يستحقون الاحترام بعد أن انحدرت إلى هاوية المؤامرة التي انحدرت إليها!»

قصَّ عليَّ قريبي هذا كله غداة حدوثه، واشتد في لومي أن أوقفته هذا الموقف، وطمأنته بكلمات لم تُزِل غضبه، ولم يَرُعْني هذا الغضب وأنا أحسب أني في أوج انتصاري، لقد دبرت فنجح تدبيري، وكنت أعلم أن نجاحي معناه القطيعة الحاسمة بيني وبين صديقتي، وأن تدبيري لن يضير قريبي وهو شاب وسيم، ومن حقه في نظر الناس جميعًا أن يخرج للنزهة مع أي امرأة يغريها شبابه وجماله، فلن يروعني إذن أن ينتج عملي كل آثاره.

وانقضت أيام انقطع صديقنا في أثنائها عن المجيء إلينا حتى خشيت أن يكون قد خاصمني، وإنني لفي غرفة زينتي إذ دخل عليَّ زوجي متجهمًا صامتًا، فسألته ما به؟ فقال إن صديقنا مريض نزلت به الحمى منذ غادرني آخر مرة عائدًا إلى منزله، وإنه قصَّ عليه ما كان بين صديقتي وقريبي، وإنه اليوم أحسن حالًا، وسكت زوجي بعد ذلك طويلًا ثم قال: «وقد سألته لِمَ لَمْ يَدعُني لعيادته لأول ما نزل به المرض، فقال إنه لم يرد إزعاجك، ولست أدري كيف سوَّلت لك نفسك أن تُقدِمي على ما أقدمت عليه!» قلت: «لقد كنت أحسبك أكثر وفاءً لصديقك، وأشد حرصًا على طمأنينته في حياته.» قال: «أَوَقاصر هو لتنصِّبي نفسك وصية عليه؟» قلت وقد بدأ هدوئي يزايلني: «وهل بلغ من حرصك على عواطف صديقتي وعلى رقيق مزاجها أن تلومني من أجلها؟ تزوجها إذن أنت إن كانت قد فتنتك! لقد طالما حدثتني نفسي عن سر عنايتك بشأنها، وطالما حاولت أن أقنع نفسي بأن إنسانيتك وطيبة قلبك وشفقتك على أطفالها هي مصدر هذه العناية، أما الآن فقد فضحت سرك، واستبان لي خفي أمرك، اذهب فتزوجها أنت إن شئت، اذهب يا منافق!»

قلت عبارتي الأخيرة في ثورة غضبي حاولت أن أكظمها فلم أنجح، وأبت كبريائي على أن أصيح لأنفِّس عن نفسي، واستلقيت مُنهَدَّة في مقعدي، وانهمرت الدموع من عيني، وأخذت أبكي بكاء الطفل، وأراد زوجي أن يسكن روعي فدفعته عني ملقية نظري إلى الأرض؛ لأني كرهت أن أرى وجهه. ووقف الرجل قبالتي وانتظر حتى هدأ روعي بعض الشيء، ثم نظر إليَّ نظرة إشفاق وقال: «أولو كان بيني وبين صديقتك من الود ما تنزعجين له، أفكنت أنظر مغتبطًا لزواج صديقنا منها، لينقطع الود بيني وبينها، أم كنت أصنع صنيعك فأفسد هذا الزواج لتخلص لي؟ لقد كنت أحسبك أوفر ذكاء من أن تضل الغيرة الحمقاء بصيرتك، وتدفعك إلى صنيع غير لائق بأمثالك!»

قلت وقد غالبت نفسي حتى ملكت ما استطعت روعي: «أنت تتهم ذكائي وتحسب حجتك تقنعني، كلا يا سيدي، أنت تعلم كما أعلم أنها إذا تم زواجها بصديقنا فسيفتح هذا البيت أمامها على مصراعيه، وسيكون لك من الحرية في استدامة ودها أضعاف ما لك اليوم، ولن أستطيع أنا يومئذ أن أقول شيئًا، فتخير إن شئت حجة أخرى أجدر بقدرتك على استنباط الحيل!» قال وقد كاد يخرج عن طوره: «يا عجبًا! أَوَبلغ من الحطة أن يسلب رجل زوجة صديقه، أو تسلب امرأة زوج صديقتها؟! ذلك أمر لا يمكن أن يدور بخاطري، وأنت فوق ذلك تعلمين أن لك عندي من المكانة ما كنت أحسبه يسمو بي عندك فوق كل شبهة، لقد أصفيتك وأصفيت أولادنا حبة قلبي، فإن كنت في ريب من ذلك فالذنب ذنبك لا ذنبي!»

ثم إنه أخذ بمجامع بدني وجذبني نحوه، وضمني إليه ليسكن من ثائرتي، ولم أستطع إزاء عطفه ورقته أن أتابع المعركة، وإن شعرت بأن شيئًا بيننا قد تحطم، وأن حياتنا الهانئة الهادئة قد أُسدِل عليها ستار كثيف.

وبعد أيام جاءني صديقنا، ولا تزال عليه آثار العلة، فلما رأيته امتلأ قلبي رحمة وشفقة، وشعرت أني أثمت في حقه، فلما استقر به المجلس وتناول بعض المرطبات قال: «جئت اليوم أسألك وأرجوك أن تجيبيني في صدق وصراحة، إني أعرف صديقتك منذ سنين، وأعرف خفتها، لكني لم أعلم أن هذه الخفة جنت قط على عفتها أو على وفائها لزوجها الأول، فهل تستطيعين أن تذكري لي بشرفك أنك تعلمين غير ما أعلم»، وأحسست من نبرة صوته أنه يريد أن يضعني موضع الاتهام فقلت: «وما شأني أنا بهذا؟ إن كنت تريد أن تتزوجها فلست أنا التي أمنعك من زواجها، إنما دفعني الوفاء لصداقتك لنا على أن أفتح عينيك على ما أعرف، فإن لم تجد فيما رأيت ما يريبك فأنت أعلم بما يسرك وما يسوءك، وأنا لا أعرف عن صديقتي أكثر مما تعرف أنت عنها، وأنت كنت تعرف زوجها ولم أكن أعرفه، وكنت تزوره يوم أسكنها الضواحي ولم أكن أزورها، فلا تسلني عما لا علم لي به، وأنت صاحب الشأن في زواجك منها بعد أن انقطعت صلتي بها.»

وتركني صديقنا وخرج، تركني حيرى أَنعَى ما فرحت به من نجاحي، وأَنعَى إخفاقي المشين، وأَنعَى ما تحطم بيني وبين زوجي، وأنظر إلى المستقبل بعين كلها اليأس والأسى. والحقيقة أني لم أكن أعلم عن صديقتي برغم خفتها ما يجرح عفتها، فأي شيطان دفعني إلى ما أقدمت عليه، وما نفَّر مني كل من أحب، وضرب حولي نطاقًا وجعلني أدور حول نفسي في عزلتي، كما يدور الحيوان المفترس الحبيس في قفصه؟

أولو تزوج صديقنا صديقتي برغم ما رأى، فماذا يكون موقفي منه ومنها ومن زوجي؟ وإذا حدث ذلك ودُعِيت مع زوجي لحضور قرانهما فماذا أستطيع أن أفعل؟ أأدعه يذهب وحده فيصدق الناس ما أذاعته من أني أحب زوجها، وكنت أريد أن يطلقني زوجي لأتزوجه؟ أم أذهب معه قطعًا لألسنة الناس؟ وإذا ذهبت فبأي وجه ألقاها؟ مرت بخيالي أمثال هذه الأسئلة المحرجة حتى ضقت ذرعًا بها، وحتى أظلمت الدنيا في عيني.

وهب صديقنا لم يتزوج فهل تظل صلته بي كسابق عهده في الأيام الأخيرة إذ كان يزورني في غرفة نومي وأنا في سريري، أم تراه ينقبض عني ولا يلقاني إلا بحضرة زوجي كما كانت الحال من قبل؟ وبأي وجه ألقى الناس في الحالين: حال إقباله وحال إعراضه؟ فهم لا ريب سيقولون وسيعيدون، ولن تفتأ صديقتي تذيع ثم تذيع لتجعلني أحدوثة المجتمعات، يتندر بقصتي المتندرون، ويرثي لحالي الشامتون، ويذهب من شاء مذاهب أيسرها أن الحب والغيرة دفعاني لأزدري ما تقضي به المروءة، وتفرضه الصداقة.

وعدت أسأل نفسي: أي شيطان وسوس إليَّ ما أقدمت عليه؟ فلو كنت أحب صديقنا حب غرام وعشق لكان حبي إياه عذيري عن مؤامرتي، أو لكنت التمست وسيلة أخرى لإرضاء حبي، ولكني لا أحس نحوه بنار الحب المحرقة التي تبيح لمن تحب أن تفعل ما فعلت، إنني أغتبط بمجلسه وبحسن إصغائه، لكنه ليس وحده الذي يتمتع عندي بهذه المنزلة، بل إن غيره من أصدقائنا المهذبين المثقفين من أحب مجالستهم، وأغتبط بإصغائهم وإعجابهم بحديثي، وإن قل منهم من كان مثله كامل الرجولة جمَّ الوفاء.

وإذا لم يكن حبي صديقنا حب غرام دافعي إلى فعلتي، أفكانت غيرتي على زوجي ومخافتي أن تغصبه صديقتي مني هي هذا الدافع؟ لقد ابتسمت ساخرة حين عرض لي هذا السؤال، فزوجي آخر من تغار امرأة عليه، لقد تزوجته فرارًا من زوج أبي، ومن بيت أبي، وتزوجته طفلة غريرة لا أعرف شابًّا غيره، فأصفيته ودي، ومنحته قلبي، وشعرت بأنه يبادلني حبًّا بحب وودًّا بود، وربما دام شعوري ذاك لو أن الدنيا بقيت كما كانت فلم أعرف رجلًا غيره، لكنني ما لبثت بعد سنوات قلائل أن رأيته يحبني بحكم الواجب لا من أعماق قلبه، ورأيت في طبيعتنا تفاوتًا ينأى به عنه، فليس عنده من الطموح ما عندي، وليست فيه رجولة العقل أو القلب، أو أيٌّ من ألوان الرجولة التي تجعل المرأة تتعلق بالرجل وتفنى فيه، إنه طيب بالغ الطيبة، فيه صفات رب الأسرة العطوف الذي يبذل غاية جهده لإرضاء أسرته، لكنه ليس بالرجل الذي يثير الغيرة؛ لأنه لا يعرف الحب الذي لا يرضى بما دون قلب المحبوب وعقله وروحه وجسمه ليملكها جميعًا ملكًا تامًّا مطلقًا.

ما الذي دفعني إذن إلى ما فعلت؟ لا أدري، وهأنذي أشعر الآن بأني خسرت المعركة، وأضعت كل شيء، أضعت حتى كرامتي، وأذللت نفسي، وكانت أعز من أن تُذلَّ لإنسان، وهأنذي أشعر بالعزلة وكأني من الحياة في سجن مظلم، حتى أطفالي أشعر حين أراهم أني غير جديرة بأن أقبلهم، لقد خانني ذكائي فلم أقدِّر لكل هذه العواقب، إنني تعسة، وليس على الأرض امرأة أتعس مني.

figure
انتهز فرصةً خرج فيها زوجي وقال: «ما أجمل المرض في هذا السرير!»

واستوحشت حتى من نفسي فكنت إذا أقبل الصبح وخرج زوجي إلى عمله، خرجت أضرب في الأرض على غير هدى مخافةَ أن يسأل عني أحد معارفي بالتليفون، أو يسألني من لا أعرف عما اجترحت ويؤنبني عليه، فإذا كنت في الطريق ورأيت الناس وتعرضت لضجة الحياة، عدت إلى نفسي بعض الشيء إبقاءً على نفسي أن تدهمني سيارة، أو يرتطم بي إنسان مشتَّت الذهن لأنه لا يجد قوت عياله، أو آخر نزلت به كارثة اضطرب أمامها ولا يدري كيف يتخلص منها، فإذا كان موعد الطعام رجعت إلى الدار ألقى زوجي وأطفالي، وأنا مضطربة الذهب خائرة القوى.

ودخل عليَّ زوجي بعد أيام والتأثُّرُ بادٍ عليه، وقال: «مسكين صديقنا، لقد انتكس ولزم من جديد فراشه يعاني من الحمى أهوالًا، وقد دعاني صبح اليوم لعيادته، فلما ذهبت إليه وفحصته تولاني القلق عليه، وسأعوده كل يوم مرتين لأرى أثر الدواء فيه، والله يساعدني.»

نزلت عليَّ هذه الكلمات نزول الصاعقة، ألا لئن أصاب صديقنا مكروهٌ لأكوننَّ الآثمة الجانية، وأردت أن أسأل زوجي عمَّا إذا كانت حياته في خطر، فتلجلج لساني في فمي، وعزَّ عليَّ أن يدور هذا الخاطر الأسود بخيالي، فلما أمسيت تولاني أرَقٌ اضطربت في أثنائه بين اليقظة والإغفاء، فإذا أغفيتُ رأيت صديقنا ترعده الحمى وسمعته يناديني، وحين بدت تباشير النهار هببتُ من مرقدي كالمجنونة طائشة الصواب، وحاولت جهدي ضبط أعصابي فإذا بي أرتعد، وكأنَّ بي من الحمى ما بهذا الرجل الذي جنيتُ عليه، واستيقظ زوجي وتناول فطوره وذهب إلى عمله وتركني مستلقية في غرفة أخرى، وقد خُيِّلَ إليه حين دخل ورآني بهذه الصورة أني أرِقْتُ ليلي ثم نمت وجه الصبح، وأن من الخير لذلك أن يدعني أستعيد بالنوم راحتي.

فلما استطعت أن أجمع قواي خرجت إلى الطريق هائمة على وجهي، وجعلت أسير ثم أسير، وأتلفت بين الحين والحين مخافة أن يراني أحد معارفنا، وكأني سجين هارب من سجنه. وطال بي السير وأنا لا أعرف لنفسي غايةً أقصد إليها، ورأيت نفسي بعد حين على مقربة من «كوبري» عباس، فملت إليه وسرت فوقه حتى توسطته، هنالك وقفت وأخذت أنظر إلى صفحة الماء في النيل، أولو ألقيت بنفسي في النهر فابتلعتني لجته، ألا تكون هذه الخاتمة خير جزاء لي؟ مر هذا الخاطر بذهني كلمح البصر، ثم استقر في رأسي لا يبرحها، ولم أذكر لأول وهلة فجيعة أطفالي بموتي، بل اعتبرته الوسيلة الوحيدة لنجاتي من الهم المقيم الذي جثم على صدري منذ انقلب عليَّ انتصاري، وثبت نظري على صفحة الماء، فسحرت بها، ولم أجد عن إدامة النظر إليها منصرفًا، وإنني لكذلك تزداد فكرة الانتحار تشبثًا بنفسي إذا برق طيف الطفلين في خيالي، وكأنما يناديني: «رحماك يا أماه!» هنالك انهملت العبرات من مآقيَّ، وغامت الدنيا في عيني، واستندت بيدي إلى حاجز «الكوبري» ولم أعد أرى شيئًا.

كم بقيت على هذه الحال؟ ساعة أو أكثر أو أقل، لا أدري! وكل الذي شعرت به أن المارة كانوا ينظرون إليَّ ثم يتخطونني لشأنهم، ولا يعنيهم أمري. وإنني لكذلك إذ وقفت إلى جانبي سيدة ربتت بيدها على كتفي، فتنبهت فزعة فنظرت إليها فإذا هي زميلة قديمة من زميلات المدرسة، فلما استيقنتها واستيقنتني قالت: «ما لك يا حبيبتي، وماذا يبكيك؟ إنني لم أرك منذ سنوات، ولكني سرعان ما عرفتك، إنك لم تتغيري عما كنت عليه أيام المدرسة، لماذا تبكين؟ هوِّني عليك، فالحياة أهون من أن تذرفي عليها دمعة واحدة، انظري إلى هؤلاء الذين يمرون الآن بنا، أتحسبينهم أسعد منك حالًا؟ بل أتحسبينهم أقل مني ومنك همًّا وألمًا؟ إن منهم من لا يجد قوت يومه إلا بشق النفس، ومنهم العاجز والمريض، ومن أثقلته الأحزان والهموم، نعم يا حبيبتي، ومن نظر إلى بلوى الناس هانت عليه بلواه، فهوِّني عليك وكفكفي عبراتك وتعالي معي.»

قالت هذا الكلام، ولم تنتظر مني جوابًا، بل جذبتني من يدي وسارت، وسرت أتبعها كأني طفلة، ولا تكاد قدماي تحملاني، فلما جاوزنا الجسر إلى الطريق، قالت: «أراك متعبة، فخير أن نركب عربة أوصلك بها إلى بيتك تستريحين فيه»، ونادت سيارة وطلبت إليَّ أن ألقي إلى سائقها بعنوان منزلي، وألقيت نفسي منقادة لأوامرها كأنني تلميذة من تلميذاتها، فقد عرفت من حديثها أنها مدرسة، وأنها مضطرة الساعة للذهاب إلى مدرستها، ولولا ذلك لبقيت معي حتى أسترد سكينتي، وألقيت إلى السائق بعنوان المنزل، فلما كنا عند بابه نظرت زميلتي إليه، ثم قالت: «أتسكنين هذا القصر ثم تبكين؟!»

وشكرتها من أعماق قلبي، لا لأنها أنقذت حياتي، بل لأنها ردتني إلى الطفلين العزيزين، قالت: «أسعدك الله بهما وأسعدهما بك»، وألقت إلى السائق بعنوان مدرستها بعد أن اطمأنت إلى أنني دخلت المنزل، وعبثًا حاولت من بعد أن أرى هذا الملاك الرحيم.

دخلت المنزل منهوكة القوى محطمة الأعصاب لا أكاد أقوى على نزع ملابسي، فلما استطعت نزعها وألقيت بنفسي في سريري إذا البكاء يغلبني من جديد، وإذا عيناي تجودان بدمع هتون، وبعد برهة إذا جسمي كله ترعده الحمى، وإذا بي أضطرب في فراشي اضطرابًا جعلني أصيح منادية مربية أطفالي، فلما دخلت عليَّ ورأتني ممتقعة اللون أسرعت إلى «الترمومتر»، ثم سارعت بعد أن نظرت إليه إلى إسعافي.

وبعد سويعة أقبل زوجي لموعد طعامه، فلما عرف ما بي أسرع يفحصني، ثم أمر بإقفال نوافذ الغرفة، وبتركي في راحة تامة، وجاء الطفلان بعد ذلك من المدرسة، فاستقبلتهما مربيتهما، وأخبرتهما أنني مريضة، ولذلك يجب عليهما ألا يحدثا أية ضجة أو جلبة تزعجني، وأمسكت الطفلين ودخلت بهما عليَّ، فإذا هما ساهمان وكأنهما حدثتهما نفساهما البريئتان بأن أمرًا حدث، فلما وقفا إلى جانب سريري اغرورقت عيناي بالدمع، ونظرت إليهما كأنما أستغفرهما أن كدت أجني عليهما فأيتمهما، وانصرف الطفلان كسيري الطرف، ثم غلبتهما الطفولة فسمعتهما يضحكان، عند ذلك شعرت بأني كنت مقدمة على عمل جنوني أنجاني القدر منه بأن بعث إليَّ ذلك الملاك الرحيم.

ولم يكن يشغلني أيام مرضي غير نكسة صديقنا وحال صحته! وقد سألت زوجي غير مرة عن حاله، فأنبأني أنه تخطى الخطر وإن كان في حاجة إلى زمن طويل ليسترد عافيته، فلما برئت واستطعت أن أخرج من منزلي سألت زوجي أن أصحبه يومًا في عيادة هذا الصديق العزيز!

وإذ رأيته وتبينت حاله رق قلبي رقة لم يكن يسيرًا معها أن أغالب دمعي، ثم زادت بقلبي رقته، فأمسكت بيده وزوجي واقف بجانبي، وقلت: «أستحلفك بأعز عزيز عليك أن تسامحني، أنا أعلم أن ذنبي لا يسعه الغفران، ولكني أعلم كذلك أن وفاءك لصداقتنا يسمو بك إلى ما فوق المغفرة، يسمو بك إلى الرحمة، وإلى الإشفاق على بائسة مسكينة.»

فنظر إليَّ الرجل وهو ممدد على كرسيه الطويل بعينين يشيع فيهما عطف يكاد يكون الحنان، وقال: «لقد سامحتك منذ زمان طويل، وليسامحك الله، وليسامحنا جميعًا.»

لم أشعر في حياتي بتضاؤل كبريائي مثل ما شعرت في هذا اليوم، لقد شعرت بنفسي — أنا المتعالية المعتزة بنفسي — صغيرةً ضئيلةً تافهةً محتاجةً إلى كلمة عطف تسند ضعفي، وتسكب ماء البر الطهور على ذنوبي، وهأنذي قد سمعتها، لكني بقيت مع ذلك صغيرة ضئيلة تافهة.

وانقضت الأيام والأسابيع وعوفي صديقنا، وعاد يتردد علينا، لكني بقيت برغم ذلك محطمة الأعصاب، فلا بد لي من جوٍّ جديد تتغير فيه نفسيتي، فلما أقبل الصيف قال لي زوجي: «ما أحسبك احتجت يومًا إلى السفر إلى أوروبا حاجتك هذا العام، فأعدي عدتك، وقد لا أستطيع السفر معكم، ولذلك أعددت جواز سفر لك وللطفلين، وأرجو أن يفيدكم تغيير الجو الفائدة التي أرجوها، وشكرته، وأخذت أفكر في السفر وفي إعداد عدته.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤