الفصل التاسع

لم يكن لي بد من أن أشكر مطلقي على ما أسدى إليَّ من يد وطوَّق عنقي به من كريم مروءته ونبله، ولم أكن أستطيع أن أذهب إليه بنفسي وأنا في عصمة صديقنا، وأنا معرضة إن فعلت أن ألقى عنده صديقتي فأضطر للفرار من وجهها فلا يحمد الرجل أدبي، وأنا لا أملك في هذه الحال إلا الفرار، لهذا رأيت أن يكون ولدانا رسولي إليه عني وعن نفسيهما، فلما كان الموعد الذي يذهبان إليه فيه كل أسبوع علَّمت ابنتي ما تقول لأبيها، وجعلتها تكرره حتى حفظته عن ظهر قلبها، فلما عاد الصبيان من عند أبيهما ذكرت لي ابنتي أن أباها بلغ منه التأثر غايته حين قبَّلت يده وقالت له: «إن والدتي تشكر لك برك ومروءتك من أعماق قلبها»، وأنه ازداد تأثرًا حين قبَّلت هي وقبَّل أخوها يديه وقالا له معًا: «ونحن كلانا نشكر حنانك وعطفك»، فقد أجلسهما عند ذلك إلى جانبه وأوسعهما تقبيلًا، ولم يستطع وعبراته تنهمل من عينيه أن يقول كلمة واحدة.

تعاقبت الأيام بعد ذلك وأنا في غبطة بما ظفرت به من بقاء طفلي في كنفي وتحت جناحي، فلقد كنت أراهما نهاري، فإذا جاء موعد نومهما ذهبت إلى غرفتهما أتحسسهما بيدي أريد أن أطمئن اطمئنانًا ماديًّا إلى أنهما بجانبي وتحت سقفي، كأنما كنت أخشى أن يختطفهما أثيم فيحرمني متاع عيشي وموجب حياتي.

وفعل الزمن فعله فهدأت بمرور الأسابيع نفسي، وعدت سابق سيرتي، لكن الزمن لا يرضيه أن يبقى مطمئنٌ في طمأنينته ولا سعيدٌ في سعادته، فقد عاد الصبيان من عند أبيهما يومًا فذكرا أنهما رأيا هناك صديقتي ومعها كبرى بناتها، وأنها نظرت إليهما وقالت — توجِّه الكلام إلى أبيهما: «ما شاء الله! لقد كبر الصبيان وترعرعا.» لقد انتفض جسمي كله حين سمعت ما ذكرا؛ أكان ذلك لأنني خشيت أن تحسدهما عيناها الجميلتان؟ أم أن وجودها مع ابنتها عند مطلِّقي أثار نفسي وحرك ما كاد يندمل من شجوني؟ لست أدري، لكن عاطفة الشكر لمطلِّقي بدأت من هذه اللحظة تضطرب في نفسي، وبدأت أشعر بأنني لم أُخلَق لأكون يومًا على وفاق معه.

وأخذ ذهني يفيق من السبات المسعد الذي كان قد استراح إليه، وجعلني أستعيد ماضي حياتنا، وآخر أحاديثه عني للرسول الذي كان سفيره إليَّ وسفيري إليه، ولقد وقفت عند كلمة قالها لهذا الرسول وقالها قبل ذلك لي: إنه لولا غروري وغَيْرَتي لما جررت عليه وعلى نفسي وعلى ولدينا ما أصابنا من المتاعب، وإنه مع ذلك لا يزال يحبني ولن يحب غيري، وابتسمت حين استعدت هذه العبارة وخيِّل إليَّ أنه لولا هذا الغرور وهذه الغيرة لما أحبني، ولما ظل متشبثًا بحبي برغم ما أذقته من أهوال، لكن ابتسامتي لم تلبث على شفتي غير لحظة ثم تلاشت؛ لأن طيف صديقتي تعرض أمامي وكأنها تقول: «لا تخدعي نفسك، فما يدور بخاطرك الساعة ليس إلا أثرًا من آثار غرورك وغيرتك.» أزعجني هذا الطائف ودفعني لأن أتساءل: «إذا كان مطلقي لا يزال يحبني وإن لم أحبه فما تردد هذه المرأة عليه؟ وما استماعه لها حتى كاد يتردد في إجابة مطلبي بقاء ولدي في كنفي ورعايتي؟!»

واضطربت في نفسي عاطفة الشكر لمطلقي حتى بلغ من اضطرابها أن عدت ألعن يوم تزوجنا، وأسأل نفسي كيف استطعت حينذاك أن أحبه، وكيف استطعت أن أعيش معه السنين التي عشناها جبنًا إلى جنب، ولم يكن قد جد ما يحرك هذا الشعور عندي إلا إحساس بأنه يخدعني حين يذكر أنه لا يزال يحبني وإن كنت لا أحبه، فلو كان ما يقوله صحيحًا لأقصى عنه صديقتي، ولما سمح لها بزيارته منفردة أو مع ابنتها، ولا سمح لها بأن تتدخل في أخص شئونه. لعلي كنت ظالمة، أو على الأقل كنت مبالغة في ثورتي هذه برجل أحسن إليَّ ولا يزال يظهر لي خالص الود بإحسان معاملته ولديه، ولعلي كنت يومئذ لا أجد جوابًا إذا سألني سائل: وماذا تقولين إذا تزوج مطلقك صديقتك كما تزوجت أنت صديقه؟ وهلا يكون يومئذ قد جزاك أعدل جزاء؟ بل لقد كان حقًّا أن أذكر أنا ذلك وإن لم يسألني عنه أحد، لكني لم أفعل، وبقي طيف صديقتي يتبدى الحين بعد الحين أمامي ليزيد ثورتي احتدامًا، وليزيدني حنقًا على الرجل ومقتًا له وغضبًا منه.

على أنني لم أكن أستطيع أن أجاهر بثورتي هذه أو أبرز لها في الخارج أثرًا، وهل تراني كنت أستطيع حجب ولديه عنه إعلانًا لغضبي؟ إنه لم يقصِّر قط في حقهما، فلو أنني فعلت لاتهمني الناس جميعًا بالجحود وإنكار الجميل، ولم يبق بيني وبينه غير الولدين، فلأكتم إذن حفيظتي في قلبي حتى إذا حانت الفرصة لإظهار هذه الحفيظة من غير أن يلومني الناس لم أتركها وانتهزتها.

لقد كنت أعلم أنه عسير أن تحين هذه الفرصة، فلم يكن الرجل يقصر في حق الولدين ولا في نفقتهما، وكانا كلما ذهبا إليه أغدق عليهما من فيض حنانه وبره ما يجعلهما يعودان إليَّ ولساناهما يلهجان بالثناء عليه ومحبته، فلا بد لي من أن أصبر، والصبر وحده يحسم الأحداث والنوب.

وتراخت الشهور يتلو بعضها بعضًا وتكاد نفسي تضيق بها، وإنني لكذلك إذ عاد ولداي يومًا من عند أبيهما متجهِّمَيْن وفي أعينهما أثر البكاء، قلت: «ما بكما؟» قالا: «إن أبانا مريض اشتدت به الحمى ولم نستطع المكث معه إلا قليلًا، ولم نستطع مغادرة بيته قبل الموعد الذي تعودنا أن نغادره فيه.» وخُيِّل إليَّ أن هذه فرصة سنحت لمنعهما من الذهاب إليه محافظة على صحتهما حتى لا تمتد إليهما العدوى منه، وجاء زوجي فذكرت له ما مر بخاطري فقال: «ليس هذا من حقك إلا أن يمنع الطبيب دخولهما عنده، لقد أكرمك الرجل فلا تشُقِّي عليه في علَّته، وسأستفهم عن الطبيب الذي يعالجه حتى نستطيع تتبع أخباره، والله أرجو من كل قلبي أن يتم شفاءه.» وبدت عليَّ الدهشة لما قال فأردف: «إننا يا عزيزتي عرضة كلنا للسقم وللعجز وللموت! وليس يشمت بإنسان في هذه الحالات إلا نذل وضيع، وقد كان مطلقك زوجك كما كان صديقي، وإذا جاز لنا أن نخاصمه وهو في صحته، فأقل ما توجبه المروءة علينا أن نتألم لحاله وهو في علته، وأن نرجو له الشفاء.»

وأطرقت لسماعه وتولاني العجب أن تصدر عنه هذه العبارات بعد الذي عرف من اتهام مطلقي إياه بخيانة العهد، وخفر ذمة المروءة، وبعد أن كان حريصًا على أن يستأنف الحكم الذي صدر لمصلحة مطلقي لينتقم لنفسه منه في مرافعة محاميه. عند ذلك أيقنت أن في بعض النفوس الإنسانية عنصرًا يسمو على الحقد ساعة عسرة الصديق، وأن للصداقة قدسية لا يكفر بها إلا الجاحدون!

وأخبرني زوجي الغداة أنه عرف الطبيب المعالج الذي يتولى العناية بمطلقي، وأنه سأله عن حاله فقال له إن ما به من حمى لا يمكن تبين نوعه قبل بضعة أيام وقبل التحليل، ولما سأله: أتجوز زيارته؟ طلب إليه أن يُنظِره خمسة أيام ثم يبدي في الأمر رأيًا، وفي ختام الأيام الخمسة قال إنه لا يرى بأسًا بالزيارة على ألا تطول. ونبَّهت المربية إلى ذلك وقلت لها إنها إن استطاعت أن يبقى الولدان لا يدخلان على أبيهما حتى يجيء الطبيب فيدخلان معه كان ذلك خيرًا، ونفذت المربية ما ذكرت، ثم عادت مع الولدين لموعد الغداء فأخبرتني بأنها تأثرت أشد التأثر حين رأت مطلقي وقد هدَّه المرض وأضنته الحمى.

وبعد أيام دق التليفون وأخبرني المليونير أنه يريد أن يراني، وجاءني في الموعد الذي ضربته له وأخبرني أن مطلقي دعاه إلى سرير مرضه وطلب إليه أن يدفع إليَّ نفقة الولدين، وأضاف أنه يخشى على حياة الرجل من هذا المرض، فلما رآني المليونير صامتة قال: «ولست أدري إذا أصابه المقدار كيف أقتضي ديني، لقد باع كل ما يملك جزءًا بعد جزء، وقد أصبح مستغرقًا، ولولا مرضه، ولولا أن ما طلب إليَّ أن أدفعه اليوم يتعلق بنفقة طفلين بريئين، لما قبلت أن أدفع عنه شيئًا إلا أن يجيئني بضمان مليء يتضامن معه في سداد ديونه.» وسكت بعد ذلك هنيهة ثم قال: «أَوَتقبلين يا سيدتي أن تضمنيه أو يضمنه زوجك ولك ما تشائين؟» فابتسمت ابتسامة ساخرة وقلت له: «ليتك لم تقبل يا سيدي دفع نفقة الطفلين اليوم لتأخذ مقابلها ضمان تضامن مع مطلقي، وأنا أعفيك من دفع هذه النفقة إن شئت.»

قال الرجل: «لقد أسأت فهمي يا سيدتي، إنما أردت أن تتصل العلاقة بيني وبينك، إذا حمَّ القضاء في هذا الرجل المريض.»

قلت: «شفاه الله يا سيدي ولا أحوجك أن تتصل هذه العلاقة، وما أحسب مرضه من الخطورة بما ترى.»

وانصرف الرجل بعد أن دفع نفقة الولدين، كما أراد مطلقي، فلما جاء زوجي وأخبرته بما حدث وأظهرت العجب له، وبخاصة بعد الذي كان يبديه المليونير من محبة لمطلقي وإخلاص لصداقته، قال: «لا تعجبي، إن رجال المال هؤلاء لا يخلصون لشيء غير المال، ولا يؤمنون بشيء غيره؛ هو دينهم وعبادتهم بعد أن بذلوا للحصول عليه ما يأنف الرجل الكريم من بذله، ولو أن مطلقك مات — لا قدر الله — لرأيت هذا الرجل يظهر أمامك وفي يده من الوثائق التي احتاط بها لنفسه ما لا يدور بخاطرك، وهو إذ طلب ضمانك أو ضماني إنما أراد مزيدًا من الاحتياط، ولعله هو الذي اشترى ما كان يملك مطلقك أو أكثره، هذا إذا لم يكن قد ارتهنه قبل بيعه لديونه، وحسنًا فعلت إذ رفضت ما طلبه منك حتى لا يكون تردده علينا من بعد مثار شبهة، أيسر معانيها أننا مدينون له، وخير عندي أن يبيع الإنسان بعض ملكه من أن يستدين من هذا الرجل.»

لم يعنِنِي أمر المليونير بعد أن رفضت طلبه، وإنما عناني ما ذكره من أن مطلقي باع ما يملك جزءًا بعد جزء، أترى اضطره لذلك ما أنفقه في أسفاري، ولإصلاح البيت الذي كنا نقيم به وتجديد أثاثه، ولغير ذلك من مطالبي؟ أم أنفقه مذ كان يعاون صديقتي لاستخلاص ميراثها وميراث أبنائها؟ وأيًّا كان سبب إنفاقه، ألم يكن واجبًا عليه أن يقدِّر لمستقبل ولديه حتى لا يتركهما فقيرين عالة على غيرها؟ ولكن لا عجب، فهذا الرجل كما وصفه زوجي من سنين، من طراز الأعيان الذين يبددون كل ثروتهم في سبيل التظاهر بأنهم من أهل الثراء، وكل ما أكسبه إياه تعليمه العالي، وما أكسبته إياه أسفاره وتجاربه، لم يزد على طلاء ظاهر يستر الفلاح الكامن وراءه، ثم لم يغير من طبعه شيئًا، أولو حمَّ القضاء فيه فماذا يكون مصير هذين الصبيين؟! أحسبني يومئذٍ في حِلٍّ من أن أحمل زوجي على أن يتبناهما وأن ينتسبا إليه، ثم لا يكون لإنسان أن يلومني على ما فعلت وقد أردت خيرهما وكفالة مستقبلهما.

وعنيت بتتبع الأنباء عن مطلقي وسير مرضه، وقد وثَّق زوجي صلته بالطبيب المعالج، وكان يسأله كل يوم عن حال مريضه، ثم يحمل إليَّ ما يبلغه من الأنباء، ولقد طال هذا المرض حتى مله المريض نفسه، برغم تردد أصدقائه الكثيرين عليه، وإبدائهم أرق العواطف نحوه، ودعائهم له بالشفاء والعافية. لقد كانوا مخلصين في دعائهم؛ لأن الرجل كان في نظرهم مثال الطيبة والوداعة ودماثة الخُلُق، ولأن عطفهم اشتد عليه منذ طُلِّقت منه اقتناعًا من بعضهم بأنني كنت ظالمة له، متجنِّية عليه، ومن الآخرين بأنه كان سيئ الحظ غير موفق في زواجه.

وفكَّرت حين طال به المرض أن أحجب ولديه عنه، محتجة بأنه يشتد تأثره حين يراهما فيسوء أثر ذلك في صحته، لكن زوجي لم يرض ما أردت، بحجة أن امتناع الولدين عن زيارة أبيهما يُدخِل في رُوعِه أن الطبيب هو الذي منعهما خوف العدوى من مرض فتاك، وأن هذا الوهم إذا تمكن من نفسه فقد يقضي على حياته. وأهاب بي زوجي — بعد أن ذكر لي حجته هذه — ألا أحمل هذا الوزر لجسامته، فإذا قضى الرجل نحبه — لا قدر الله — بقي ضميري يؤنبني ما بقيت من أيام حياتي.

وقبلت حجة زوجي ونزلت على رأيه إكرامًا له، لا خوفًا على مطلقي، فإن ما عرفته من أنه أصبح مستغرقًا لا يملك شيئًا، وأنه لن يترك لولدينا ميراثًا قلَّ أو كثُر، قد زاد حفيظتي عليه وغضبي منه، وإنني لأفكر يومًا إذ استأذن عليَّ الرسول الذي كان سفير مطلقي إليَّ وسفيري إليه في أمر الولدين وحضانتهما، وأذنت له، فلما حيَّاني وتناول القهوة قال: «جئت سفيرًا مرة أخرى من قِبَل مطلقك، ما أشد جزعي على هذا الرجل النبيل ذي المروءة! وما أعظم خوفي على حياته! إنه يذبل يومًا بعد يوم، ويرى بعينيه أجله يدنو، وهو طبيب، وهو لذلك أشد جزعًا على نفسه؛ لأنه يعرف سر علته، ويذكر في ألم وحسرة أنه لا بُرء له منها، وهو يشكرك من أعماق قلبه ويكرر هذا الشكر كلما بعثت له بالولدين يزورانه ويؤنسانه، فهو يرى فيهما صورتك أنت مجتمعة إلى صورته، ويذكر كلما رآهما أسعد أيام حياته، ويتولاه الأسى والحزن لأنكما لم تستطيعا أن تعيشا في هذين الولدين ولهما، ولقد كنت أعجب يا سيدتي كلما ذكر لي أيام صحته وعافيته أنه لا يزال يحبك، وكنت أحسبه إذ ذاك يتغنى بحبكما الأول ويتشبث به لأن قلبه لم يعرف حبًّا بعده، لكن هيامه بك اليوم وهو موشك أن يلقى ربه، يدلني على أنه كان صادقًا، وأن قلبه ظل حياته مليئًا بك ولم يعرف غيرك، وهو قد أرسلني اليوم إليك في أمر لا أدري كيف أصوره، إنه يريد أن يراك ليستغفرك عن كل ما مضى من ذنوبه، طامعًا في عفوك وإحسانك.»

قلت في دهشة: «يريد أن يراني؟!»

قال الرسول: «مهلًا يا سيدتي، فلا يأخذ منك العجب، ولا تتولك الدهشة، ولو أنك رأيت هذا المريض، المشرف على الموت، كيف ينسى مرضه، وكيف ينسى الموت كلما ذكرك وخُيِّل إليه أنك زرته، لما ترددت لحظة في زيارته، إحسانًا منك تبذلينه صدقة لوجه الله، فهذا الرجل لم يعد يعرف في الحياة سواك، ولم يعد يجري على لسانه إلا اسمك، أنت القبس الباقي له من نور الدنيا، والأمل المرجو عنده في الحياة الآخرة، أنت حلمه في يقظته وفي نومه، أنت مصدر راحته حين تنحدر به علته إلى هاوية الفناء، إنه حين يرى ولديكما يقول إنه يحبهما لأنهما ولداك أكثر مما يحبهما لأنهما ولداه، إنه يناديك باسمك مبتهلًا مستغفرًا، كما ينادي المؤمن ربه في صلاته، إنه يهذي بحبك هذيان المجنون بليلى، أولا يمس ذلك كله من قلبك أوتار رحمتك وبرك؟ أولا تحسين — وقد وصفت لك حاله — أن من حق المروءة عليك لا أن تزوريه وكفى، بل أن تلازميه حتى يلفظ نفسه الأخير؟»

اشتدت بي الدهشة وبقيت مشدوهة لا أدري ما أقول، فلما رأى الرسول حالي قال بعد برهة: «إنني عائد إليه الساعة يا سيدتي، ولن أقول له إني رأيتك، سأعود إليك غدًا في مثل هذا الموعد، وأكبر رجائي ألا تخيبي أمل رجل أبقى على حبك حياته برغم يأسه منك وانفصاله عنك، قد تكون آخر سويعاته في هذه الدنيا حين يقع نظره عليك، وحين يحاول أن يرفع إليك يديه مستغفرًا من ذنوب يعلم الله براءته منها، سيقول لك إنه أخطأ ولم تخطئي، وإن عليه كل الوزر فيما أصابك ولا وزر عليك أنت في شيء قط، سيرفع إليك أكُفَّ الضراعة لتسامحيه فيسامحه ربه، إن لك قلبًا يا سيدتي يعرف الرحمة وينسى الموجدة، فاستشيري قلبك، وإلى غد في مثل هذا الموعد لنذهب معًا إليه.»

قال الرسول هذا الكلام واستأذن وانصرف، ولم أملك التفكير وأنا فيما أنا فيه من دهشة بلغت الذهول، كيف تراني أستطيع أن أفكر وهذا السيل الجارف من عواطف رجل تهدده المنون ينساب نحوي ويكاد يغرقني؟ وخرجت إلى حديقة المنزل أستنشق الهواء لعله يرد إليَّ بعض سكينتي، ومع هذا بقيت عاجزة عن كل تفكير زمنًا غير قليل، فلما أردت أن أفكر انتفض أمامي طيف صديقتي وكأنما تقول: هأنذي. وانتفض إلى جانبه شبح المليونير يطالب بديونه، وأقبل ولداي في هذه اللحظة فقبلتهما على عجل، ثم أسرعت إلى مخدعي مضطربة الذهن لا أرى ما أمامي.

وجاء زوجي وشاهد اضطرابي فذكرت له ما جاء به الرسول، وقصصت عليه حديثه، قال: «الأمر لك يا عزيزتي، إن شئت ذهبت غدًا معه، أو شئت التمست لنفسك عذرًا من عدم إجابة مطلبه، ليس عندي ما أشير به في موقف تملي فيه العاطفة ولا شأن للعقل به، ولو أنني وُجِّهت إليَّ مثل هذه الرسالة بوصفي صديق هذا الواقف على أبواب الأبدية لحرت في أمري، ولترددت ماذا أصنع بعد الذي كان بيننا آخر الدهر من قطيعة وخصومة، لكنه أحسن إليك يوم ترك لك ولديك، فأنت في غير موقفي، وهو على كل حال لم يطلب إليَّ أن أزوره، فلا شيء يحملني على أن أفكر في الأمر أو أعتزم فيه رأيًا، فاصنعي ما تشائين ولا اعتراض لي على أي قرار تتخذينه.»

زاد هذا الحديث حيرتي، هبني أبيت أن أذهب فبأي عذر أواجه الرسول؟ أأقول إن قلبي لا يطاوعني أن أراه وقد ترك ولديه معدمين ينفق عليهما من يبعث الله إلى قلبه الشفقة بهما؟ أم أقول له إن ما يهرف به ليس إلا هذيان الحمى، وإنه لو شفاه الله كما أرجو لأسف أن جرى اسمي على لسانه في أثناء مرضه؟ وإن أنا قبلت رجاء الرسول وذهبت معه، فماذا يكون موقفي من هذا الرجل المضطرب بين الحياة والموت؟ ما الذي أستطيع أن أقوله له إذا هو خاطبني باللهجة التي خاطبني بها الرسول؟ لن أزيد على أنني سامحته، ثم أضطر أن أرجوه كي يسامحني فيما لعلي هفوت فيه، وهبه تأثر بلقائي ولفظ نفسه الأخير في وجودي فأية مأساة عند ذلك أواجه؟!

وقضيت ليلي في حيرة من أمري، وأَرِقت ولم يعرف النوم سبيلًا إلى جفني، على أنني كنت كلما قلَّبت الأمر ازددت اقتناعًا بأني لا قِبَل لي بالذهاب إلى مطلقي، ولا فائدة لمطلقي من ذهابي إليه، سيقدِّر الرسول حين أرفض الذهاب معه أني لا قلب لي، وسيرى أنني أسأت إلى من أحسن إليَّ، ولكن ذلك خير من أن أتعرض ويتعرض مطلقي لموقف لا طاقة لي به، ولا جدوى له من ورائه.

وجاء الرسول الغداة لموعده، فلما سلم عليَّ قال: «لعل الله قد هدى قلبك إلى خير تبذلينه لهذا المسكين، لقد رأيته بعد أن غادرتك أمس، فكان أول ما فاتحني به أن سألني إن كنت قد لقيتك وأديت إليك رسالته، فلما أبلغته أن وقتي لم يتسع لما أراد انهملت عبراته وقال: «حتى أنت يا صديقي تتنكر لصداقتي حين تراني على حافة القبر، ما ضرك لو ذهبت إليها فرددت إليَّ روحي بزيارتها أو بوعد منها أن تزورني!» لست أكتمك يا سيدتي أنني أوشكت أن أفضي إليه بما حدث بيني وبينك أمس دفعًا لاتهامه إياي أنني جحدت حتى الصداقة، ولكنني وعدتك ألا أفعل حتى أعود إليك اليوم آملًا أن تذهبي معي فتردي أنت روحه، أَفَتُراني أطمع منك أن تكوني كريمة معه كما كان هو كريمًا ذا مروءة يوم خاطبته باسمك في أمر ولديك؟»

قلت بعد هنيهة: «أرجوك يا سيدي أن تمنحني شيئًا من صبرك ومن حلمك حتى أعرض عليك أمري: لقد قضيت ليلة لم أذُقْ فيها النوم أفكر فيما تطلب إليَّ وأقلِّبه على كل وجوهه، ولم أنسَ منذ بدأت تفكيري أنني مدينة بالشكر الخالص لسفارتك الناجحة عني عند مطلقي في شأن ولدي، كما أني مدينة له بالشكر على مروءته ونبله، ولهذا وددت لو استطعت أن أجيبك إلى ما طلبت مني إن كان في إجابته أي فائدة، أنت تطلب إليَّ يا سيدي أن أزور مطلقي ليسمع مني أني سامحته فيما لعله أخطأ معي فيه إبَّان زوجيتنا، إذن فأبلغه عني — وهو لا شك مصدِّقُك — أنني سامحته من كل قلبي، وأنني أطلب إليه كذلك أن يسامحني وأن يغفر لي، لعل الله يشملنا نحن الاثنين بعفوه ومغفرته، أقول ذلك صادقة مخلصة عن نفسي، أما ولدانا فأمرهما إلى ربهما ولا أملك أنا من ذلك شيئًا، إنه إن اختاره الله إليه سيتركهما فقيرين إلى عطف أجنبي يكفلهما أو يتبناهما، أتراني أستطيع أن أقول ذلك لمطلقي وهو — فيما تقول — موشك أن يلقى ربه؟ وهل يرضيك أن أكتم ذلك فأبوء بإثم الولدين في غير ذنب ولا جريرة؟ وهبني ذهبت معك إليه ورضيت أن أكتم أمر الولدين إبقاء عليه، واندفع هو يذكر أمامي ما قلت أنت لي من أنه يحبني ولا يحب غيري، أفأجيبه صادقة: «لكني لا أحبك»، أم أجيبه كاذبة بأني أحبه وأنه ملء سمعي وبصري؟ إنك تحدثني باسم عواطفه التي تتحكم فيه، فهل تريدني أن أقف أمامه صلدة جامدة أسمع ولا أنطق، أم تريدني باسم الرحمة كاذبة مرائية؟! ثم هبني ذهبت معك إليه فكان ما تقول وقضى نحبه سعيدًا بوجودي عنده، فماذا يقول الناس عني؟ إنني أشقيته صحيحًا وقتلته مريضًا؟! ذلك بعض ما دار بخاطري يا سيدي طول ليلي، وأعفيك من سماع ما بقي مما سواه، فهل تراني أصبت الرأي، أم ترى أن تشير عليَّ بما يخالفه؟»

وظل الرجل صامتًا كأني لا أزال أتكلم، وكأنه لا يزال يسمع، فلما فطن إلى سكوتي التفت إليَّ وقال: «يبدو لي يا سيدتي أنك اتخذت في الأمر قرارًا لا سبيل إلى الرجوع فيه، فقد فرضتِ كل الفروض وأجبتِ عليها جوابًا لا يحتمل المناقشة، ولعلي لو قلت لمطلقك إنك سامحته وصفحت عنه فيما لعله فرط منه أرضاه ذلك وطمأنه، ولعله يزداد اطمئنانًا حين أذكر له أنك تريدين أن يغفر لك كما غفرت له، وأن يسامحك كما سامحته، ولكني شدَّ ما أخشي أن يبقى يعذبه ضميره إذا عرف أنك سامحته عن نفسك وأبيت أن تسامحيه عن ولديكما، أنا أفهم ما تقولين من أن أمرهما ليس لك، وأنهما هما اللذان يملكان مسامحته يوم يكبران، وهو لا ريب يفهم ذلك كما أفهمه، ولكنه يطمع في ألا يكون قلبك غاضبًا عليه من أجلهما، أفأستطيع أن أبلغه ذلك؟ فلو أنني فعلت لسهَّل ذلك عليَّ التماس العذر من عدم ذهابك إليه، ولا أحسبك تأبين عليَّ ما أطلب من ذلك وأنت تعلمين أنه لم يبعثر ماله في ترف لنفسه، أو في عبث مما يتلهى المسرفون به، كما أنك تعلمين أنه لو استطاع أن يضاعف ثروته لما أقعده دون مضاعفتها من طريق شريف أي اعتبار.»

قلت: «عزيز عليَّ يا سيدي أن أرفض لك مطلبًا في مقدوري إجابته، ولو أنني كنت امرأة واسعة الثراء لأجبتك إلى ما تريد، ولجعلت لولديَّ من مالي ما يغنيهما عن ميراث أبيهما، أما وليس لي هذا الثراء فلا بد أن يكفلهما غيري، فكيف يرضى قلبي عن بقائهما عالة على الغير وقد أَلِفا منذ مولدهما حياة النعيم؟! فإن يكن أبوهما قد أضاع ماله مضطرًّا فإن الله وحده هو الذي يغفر له؛ فمن اضطُرَّ غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه. أما إن كان قد أضاع ما يملك في غير ضرورة فالله يتولى جزاءه، إن شاء غفر له وإن شاء لم يغفر، ذلك غاية ما أستطيع قوله، ولعلك تراني منصفة فيه كل الإنصاف.»

لم يجد الرجل ما يجيبني به، ولم يطمع في إقناعي بتعديل قراري، فاستأذن وانصرف مشكورًا.

ولست أدري على أي وجه أبلغ حديثنا لمطلقي، ولكنني علمت من بعد أن هذا المريض المسكين حزَّ في نفسه أن أبيت زيارته، وأن تراخت زيارة ولديه له، وإن كان لا يراهما حين يذهبان إليه إلا لحظات لا تغني ولا تروي ظمأ ظامئ.

مع ذلك استطال من بعد مرضه حتى رحمه شانئوه، وحتى كان أحباؤه يتوجهون بالدعاء إلى الله أن يريحه بالموت من عنائه، وفي الأيام الأخيرة من شهر نوفمبر من تلك السنة أُبلغت أنه مات، فترحَّمت عليه، وقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون.

هدأت نفسي حينًا بعد وفاة مطلقي، وخُيِّل إليَّ أن الموت حسم ما بيني وبينه إلى الأبد، وأقام ستارًا كثيفًا حجب عني ماضيًا ذقت فيه غصصًا وآلامًا، وتوهمت أن في مقدوري أن أنسى هذا الماضي فلا يبقى له في ذاكرتي ولا في أي مظهر من مظاهر وجودي أثر، وهل شيء كالنسيان ينقذنا مما نود أن نتخلص منه، ويتيح لنا أن نكيِّف ماضينا على ما نريد، لننعم بما يحويه من خير وإن قل، ونجسم هذا الخير ونمجده، ونمحو ما أصابنا فيه من بأساء وكأنها لم تكن، ونزيف بذلك لأنفسنا تاريخها كما تزيف الأمم تاريخها؟!

وأول ما دار بخاطري، لأجعل هذا الذي توهمت حقيقة واقعة، ولأمحو من ذاكرة الوجود أنني كان لي زوج قبل زوجي الذي يحبني اليوم من كل قلبه، أن أنسب ولديَّ إلى هذا الزوج الثاني وأمحو نسبتهما إلى أبيهما الذي أنجبتهما منه، ولم يكن ذلك عسيرًا والقانون يبيح تغيير الأسماء إذا اتخذت لهذا التغيير إجراءاته، ولكنني لم أكن لأقوم بتنفيذ ما أردت إلا أن يوافق زوجي عليه، وأن يعاونني في الإجراءات التي تحققه.

ولم يكن عسيرًا عليَّ أن أقنعه وأن أزيل من نفسه شبهات أبداها حين بدأت حديثي معه في هذا الأمر، فقد ذكَّرته بأنه قَبِل شرطي يوم خطبني إلى نفسه أن يتبنى الولدين حتى لا تبقى بيني وبين مطلقي أية صلة، وأنني كنت معتزمة يومئذ أن أنسبهما إليه لولا أن رفع مطلقي الدعوى يطلب فيها ضم الولدين إليه، ولولا أن حكمت المحكمة له بما طلب، فاضطرني حكمها إلى مصالحته على بقائهما في رعايتي، لولا ذلك لما تردد زوجي في تنفيذ شرط قبله، ولم يُبدِ الرجل اعتراضًا إلا خشيته من قالة الناس فيَّ، وفساد ظنهم بي، وسوء حديثهم عني.

واتخذ المحامي الإجراءات وحكمت المحكمة بتبديل اسم الولدين وجعل نسبتهما إلى زوجي، ومحو اسم أبيهما وإزالته عنهما، وقد اغتبطت يوم صدر هذا الحكم بقدر ما اغتبطت يوم قبل مطلقي أن يتنازل عن ضم الولدين إليه ليبقيا في كنفي، فقد أيقنت أني لن أسمع من بعد اسم هذا الرجل، ولن أقرأه في الشهادات التي تبعث المدرسة بها إليَّ عن امتحان الولدين، ولن يبقى له فيما يتصل بي أي ذكر أو أثر.

وذكر لي زوجي بعد صدور الحكم بتسمية الولدين باسمه أنه يريد أن يوصي لهما بثلث ماله، وأنه لو وجد في القانون حيلة لأوصى لهما بكل ماله، قلت له: «لا تعجل فهما ولداك، والأب لا يوصي لأبنائه، أطال الله بقاءك وبقائي حتى نراهما شابًّا وفتاة ملء العين، وحتى تكفل لهما عنايتك مستقبلًا يرضيك.» ولقد كنت أعبِّر صادقة عما يدور بقلبي، فقد أكرم زوجي ولديَّ منذ تزوجنا إكرام الأب لبنيه، ورعاهما رعايته، فملك بحنانه عليهما كل قلبي، وجعلني أشعر بأن المثل القائل: «رب أخ لك لم تلده أمك» كان يجب أن يضاف إليه: «رب أب لك لم تخالطه أمك.»

وهل الأبوة والأمومة إلا الحنان والعطف؟! أذكر وأنا أكتب هذه العبارة تمثيلية شهدتها في باريس تصور زوجة سامحها زوجها بعد أن أنجبت ولدًا من خليلها، ونُسِب الولد بحكم القانون إلى الزوج الذي أغدق عليه من يوم مولده كل عطفه وحنانه، وشب الولد وكبر وهو يؤمن بأن هذا الزوج أبوه، ثم إنه عثر يومًا في أوراق أمه بخطاب عرف منه سر مولده، فثار في عروقه دمه أن حمل هذا الرجل الذي لم يكن أباه كل ما يحمل الأب من عبءٍ لتنشئة أولاده، وتطوع للجندية ونُدِب كطلبه للسفر إلى الهند الصينية فرارًا من بيت ليس بيته، عبثًا حاول الرجل أن يقنعه بحماقة ما يصنع، وأن طيش لحظة طاف بأمه لا يمحو عطفه هو عشرين سنة أو تزيد. وسافر الرجل يودع الشاب على الباخرة التي تبحر به إلى منفاه ويرجوه أن يعدل من عزمه، وأبى الشاب، فلما بدأت الباخرة تتحرك ووقف الرجل على رصيف الثغر يودعه ويشير إليه بمنديله الأبيض، صاح الولد: إلى الملتقى يا والدي. وطفح قلب الرجل سرورًا بكلمة والدي هذه مقتنعًا بأن الشاب آمن برأيه في اللحظة الأخيرة، وأنه لم يقل هذه الكلمة بحكم العادة، ولا بدافع المجاملة.

وهذا الرجل في رأيي على حق، فما قيمة الأبوة أو الأمومة العاقة إلا أن يفرض القانون على هذا الأب أو على هذه الأم أداء الواجب للجيل الناشئ، فإن لم يفعلا لم يكن أيهما حقيقًا باسم الأب أو الأم، هذا الاسم الكريم الذي يحمل في طياته أكرم المعاني وأنبلها، وقد حمل زوجي عبء الأبوة لولديَّ من يوم تزوجنا، فلم أكن مبالغة ولا مغالية في قولي له إنهما ولداه، ولا فيما فعلت من نسبة اسميهما إليه، وإن كان من الحق عليَّ اليوم، وقد مرت السنون على وفاة زوجي الأول، أبيهما، ألا أجحد أنه إلى أن وافته المنية لم يقصر في واجبه إزاءهما، وكان كله الحنان والعطف عليهما.

وتعاقبت السنون وقد وضعت زوجي الأول من ذاكرتي ومن قلبي في قبر سحيق أشد صمتًا من القبر الذي يحوي رفاته، فلم يكن اسمه يجري على لساني، بل لم يكن يمر بخيالي، وتعود الولدان أن يخاطبا زوجي مخاطبة الولد لوالده، وألا يذكرا أنهما كان لهما أب سواه، وأن يقدرا ما يحبوهما به من عطف، وما يسبغه عليهما من حنان، ولقد أدهشني منه وأثار إعجابي به أنه لبس ثوب الأب في سلطانه وفي حنانه، وكأن محبته لي أدخلت إلى قلبه من عواطف الأبوة ما احتواه قلبي من عواطف الأمومة، فكان ذلك مدعاة لانسجام الحياة بيننا جميعًا كما تنسجم الحياة في الأسرة الواحدة بين الوالدين والبنين.

وظل ذلك شأننا، وظل الولدان يكبران بأعيننا وعنايتنا، لا شيء يكدر صفونا أو يشوب سعادتنا، ولا نطمع من الحياة في خير مما أعطتنا. لم أعد أفكر في السفر إلى أوروبا أو إلى الأقصر، ولم تعد مغريات المجتمع تجذبني إليها، بل أصبحت مملكة البيت مملكتي، والعناية بالبيت ومن فيه مصدر سروري وسعادتي، وقد بلغني في أثناء هذه السنوات الهنيئة أن صديقتي تزوجت فدعوت لها بالتوفيق، ولم يتعرض طيفها لي، ولم يثر جمالها تأثيري، وما لي أنا ولها؟ بل ما لي أنا ولغيري من الناس وقد ظفرت بما كنت أرجو من طمأنينة وسعادة؟ ولقد أَنِست إلى زوجي وولدي وأنسوا إليَّ، وقد أصبحت أدعو للناس جميعًا بما حباني الله به من فضله.

يقولون إن الأمم السعيدة لا تاريخ لها، ويبدو لي أن الأسرة السعيدة لا تاريخ كذلك لها، إنها تتخطى في هون على متن السنين مألوف حياتها، فلا يثير طلعة أحد، ولا تدعو أحدًا للكلام عنها أو للتندر بها، وإن غبطها الناس لما أفاء الله عليها من ستره ورعايته.

وتخطى ولدي الثانية والعشرين من سني حياته، وإنني لجالسة يومًا في غرفة نومي إذ دخل عليَّ يبدو على سيماه اشتغال البال، ولم أرد أن أسأله عما يشغله، واثقة أنه لم يحضر هذه الساعة اعتباطًا، وإنما جاء يحدثني في أمر يراه جليل الخطر، وللشباب عذرهم إذا اضطربوا لما لا يوجب الاضطراب، فليست لهم من تجارب الحياة مناعة ترد عنهم شتات البال وتبلبُل الفكر في كل شأن جلَّ أو صغر. وأمسك الشاب عن الكلام هنيهة بعد أن جلس إلى جانبي، وكأنه يدير الأمر في رأسه ليصوره لي، على أنه ناء بالصمت بعد قليل فاندفع يقول: «جئت أحدثك يا أماه في أمر أجل من كل ما تتصورين خطرًا، لقد أعجبتني فتاة تعرفينها وتعرفين أهلها، وأردت أن أخطبها إلى نفسي، ورأيت أن أسألها أتوافقني على أن نتزوج؟ فقالت في حياء وخفر إن الأمر في ذلك لوالديها، ولم أُرِد أن أفاتحك في الأمر قبل أن أطمئن إلى رأي أمها، فأنا أعلم أن الأم إذا رضيت بعد أن رضيت ابنتها، فقلما يرفض الأب ما رضيتاه، فلما ذهبت إلى تلك الأم الطيبة القلب وعرضت عليها الأمر وقلت لها إن ابنتها تركت الحكم في ذلك لأبويها، قالت: «إنني يا بني لا أعز عليك شيئًا، ولا أعز عليك ابنتي، لقد كان والدك — عليه رحمة الله — صديقنا، وكان من خير الناس وأطيبهم قلبًا وأكثرهم مروءة، لكنك يا بني محوت اسمه من اسمك، وأبدلته باسم زوج أمك، ولم أكن أنا ولم يكن زوجي راضيين عن ذلك من يوم حدث، فذكرى أبيك أعز علينا من أن تمحى، وأسألك يا بني: إذا تزوجت ابنتي وأنجبت منها وسأل الناس ولدكما عن جده لأبيه فماذا يقول؟ أيذكر أباك الحق أم يذكر زوج أمك؟ فإن شئت يا بني أن أخاطب زوجي فيما تطلب فأعد قبل كل شيء اسمك كما كان، انتسب لأبيك لا لزوج أمك، فإن فعلت فحبًّا وكرامة، ولك عليَّ أن أحاول إقناع زوجي لتكون زوج ابنته، أما إن أبيت فعزيز عليَّ أن أبلغك أننا آسفون إذا لم نستطع أن نجيبك إلى ما تطلب، ولا أريد منك الساعة جوابًا، بل تروَّ في الأمر واستشر فيه.»

كذلك قالت لي يا أماه، وقد رأيتها على حق، فجئت أعرض الأمر عليك قبل أن أتخذ فيه إجراء أو أخطو فيه خطوة، فأشيري عليَّ.»

بمَ أجيب؟ ليس الأمر الذي يعرضه عليَّ ولدي نزوة شباب، ولا هو من ضآلة الشأن بما يثير ابتسامتي، بل هو أجلُّ خطرًا بالفعل من كل ما توقعت، فلا بد لي من مواجهته بشيء من الحزم يرد عني وعن أسرتنا كلها ما يهددها في صميم كيانها، لذلك لم أتردد في أن قلت: وما لأم هذه الفتاة أن تتدخل في أخص شئوننا وشئونك؟! وهلا ترى من تدخلها اليوم أنك إن صاهرتها غدًا فستظل مستبدة بك تحاول توجيهك في الجليل والحقير من أمورك؟ لذلك أنصحك أن تعدل عن التفكير في هذه الفتاة، وأنا كفيلة بأن أجد لك خيرًا منها يفرح بها قلبك، ويفرح بها قلبي، هذا إن كنت مصرًّا على الزواج وأنت لا تزال في هذه السن المبكرة، أما إن أردت الخير لنفسك فأجِّل تفكيرك في إقامة أسرة قد تنوء اليوم بأعبائها، حتى يعاونك عمل تنهض به، ويدر عليك أخلاف الرزق لتسعد أنت بأسرتك، وتسعد هذه الأسرة بك.

وأجابني الفتى: ليس الأمر الساعة أن أؤجل التفكير في الزواج أو أعجل به، وإنما الأمر في هذا الاسم الذي أحمله بغيًا بغير حق، ولقد خاطبت أختي في أن نعود باسمينا إلى اسم أبينا الذي أنجبنا فوافقتني على ذلك، ولم يُبدِ زوجها اعتراضًا، هذا لب الموضوع في حديثي لك اليوم، فإن أنت وافقتني ثم اعترضت على زواجي من هذه الفتاة لأسباب تعرفينها فإني عند رأيك، ولا أعصي أمرك، فهل ترين ما يمنع عودتنا إلى التسمي باسم أبينا؟ إننا الآن راشدان أنا وأختي، ونستطيع هذا الأمر من تلقاء أنفسنا، لكنا لا نُقدِم عليه حتى تكوني راضية عنه مطمئنة إليه.

قلت وأعصابي تضطرب وأكاد أرى أسرتنا تنهار أمام عيني: أَنظِرني إلى غد أروِّي في الأمر وأشير بالرأي فيه، فإنني الساعة متعبة وأشعر بالحاجة إلى الراحة.

وقام الشاب وفي نظراته معنى الدهشة وقال: إلى غد إذن يا أماه، وأرجو لك راحة الجسم وطمأنينة النفس.

ولم ألبث حين خرج أن رأيت الدنيا تدور من حولي، وكأنني على زورق في بحر لُجِّيٍّ لا شاطئ له، أفأستطيع أن أفاتح زوجي في شيء مما قاله ولدي ليرى كل ما أسداه لأخته وله ينقلب جحودًا وعقوقًا؟ وهل أستطيع أن أنكر على ولدي حقه في التسمي — إن شاء — باسم أبيه؟ وأي داعٍ دعا هذه السيدة، وهي من أكثر أصدقائنا إخلاصًا لنا، أن تثير هذا الأمر، وأن تقفني هذا الموقف؟ لست أعرف بيني وبينها حقدًا ولا غيرة، فما كان أجدرها أن تخاطبني في الأمر قبل أن تفضي بما قالت إلى ولدي! وكيف تراني أنقض اليوم ما أبرمته أمس فيظن زوجي أنني خدعته لغاية في نفسي؟!

figure
فلما دخل زوجي إلى غرفة الاستقبال رأى صورة مكبَّرة لزوجي الأول.

وتوارد طوفان من هذه الخواطر على ذهني فشعرت بقلبي يخفق وأعصابي تزداد اضطرابًا، ثم أحسست برعشة كأنها الحمى، ولقد حمدت الله أن كان زوجي مدعوًّا للغداء ذلك اليوم، ثم كانت عنده مشاغل تمسكه عن الحضور إلى البيت حتى المساء، وقلت في نفسي: لعلي أكون قد تدبرت الأمر ووجدت حلًّا قبل موعد حضوره.

وأقبل المساء فإذا الحمى تلازمني وتمسكني في سرير نومي، فلما جاء زوجي ورأى حالي أراد أن يدعو الطبيب فقلت له: دعني الليلة فإني أحسبها رعشة طارئة، فإذا أصبحنا ولم تنصرف عني كان لدعوة الطبيب موضع، ورجوته أن يقضي ليله في غرفة أخرى، ولست أدري بعد أن بقيت وحدي ما الذي أصابني، أفنمت فعبث بي كابوس أزعجني، أم أنه هذيان الحمى الذي استبد بي؟ فقد تبدى أمامي طيف مطلقي وهو ملتف في أكفانه، وأخذ يحملق فيَّ، وسمعته وكأنه يهتف بي: هأنذا سترينني الليلة وسترينني من بعد، سترينني بينك وبين زوجك في يقظتك وفي نومك، سترينني بينك وبينه في ثيابي وعاريًا كيوم ولدتني أمي، سترينني بينك وبينه حتى في سرير نومك، وسترينني حتى يعود ولداي إلى التسمي باسمي، فإن عادا تواريت لا عن رضًا، ولكن لأدع زوجك يتم قضاء الله فيكما، والله أعدل الحاكمين.

واستيقظت جوف الليل مذعورة أصيح من هول ما رأيت، وأسرع إليَّ زوجي من المخدع الذي كان فيه يسألني ما بي؟ قلت والحمى تهزني: «إنه كابوس أزعجني فلا تتركني.» وقضى الرجل بقية ليله على كنبة في الغرفة، وبقيت مؤرقة حتى إذا نادى مؤذن الفجر غفوت فرأيت في غفوتي كأن والدي يقول لي: «فيمَ تنزعجين يا ابنتي؟ دعي الأمر لولديك يقضيان فيه برأيهما، لا تحملي أنت تبعته، قولي ذلك لولدك إذا جاء اليوم إليك يريد مشورتك، ونبهيه إلى أن الأمر أخطر بالنسبة له ولك من أن يقضي فيه بخفة ومن غير رويَّة.»

نمت بعد ذلك وطاب نومي، ولم أستيقظ إلا قرابة الظهيرة، واستيقظت وقد نزلت عني الحمى وإن بقيت منهوكة الجسم، محطمة الأعصاب، وكان زوجي قد خرج لعمله فأتاح لي فرصة أتدبر فيها الأمر من جديد، ولم أجد خيرًا من المشورة التي أسداها إليَّ طيف أبي، لكني آثرت ألا أبُتَّ في الأمر قبل التحدث فيه مع زوجي. وجاء ولدي ورآني ملازمة فراشي، فأبت عليه بنُوَّته أن يعيد الكلام عليَّ ويسألني رأيي حتى أستعيد نشاطي، فلما جاء زوجي ودخل إليَّ يسأل عن صحتي استبقيته عندي، وذكرت له حديث ولدي، وأن هذا الحديث هو الذي أركبني الحمى وأزعجني، فسكت طويلًا ثم قال: «هل نستطيع أن نمنعه أو نمنع أخته وقد بلغا رشدهما ولم يبقَ لي ولا لك عليهما سلطان؟ ليفعلا ما يشاءان فذلك حقهما، ثم يكون لنا بعد ذلك في الأمر رأي.»

وجاء ولدي الغداة فألفاني على مقعدي الطويل، فجلس عند قدمي وسألني عن صحتي، وحمدت له الله على أن أعاد إليَّ العافية، ثم قلت له: «إنك شاب عاقل تحسن وزن الأمور، فلك أن تتصرف كما تشاء فيما حدثتني عنه أول من أمس، ولا اعتراض لي على ما تفعل، وكل الذي أريد أن تعلمه أنني يوم بدلت اسميكما إنما أردت خيركما ومصلحتكما، عزَّ عليَّ أن تشعرا كلما دخلتما هذا البيت أو خرجتما منه أنكما غريبان عنه، وأن يشعر زوجي كذلك مثل هذا الشعور، فأردت أن أخلق فيه جو الأسرة بمعناه الكامل، وقد أقرني زوجي على ما أردت وأعانني فيه، ثم ذهب إلى أبعد من المعونة، فأراد أن يوصي لكما بثلث ماله، بل بكل ماله، وعارضت يومئذ إرادته حتى لا يظن أني قصدت إلى منفعة مادية مما صنعت، ولا أراه إذا نفذت أنت عزمك وبدَّلت اسمك واسم أختك ألا يصر على تحرير وصيته تلك، فهو رجل طيب القلب، عاملكما منذ دخلتما بيته معاملة الأب لأبنائه، بل اعتبركما ابنيه بالفعل وبذل لكما كل عطفه وحنانه، أما وقد بلغتما رشدكما وأصبح من حقكما أن تختارا البقاء على ما اخترت لكما أو تعدلا عنه لما كنتما عليه، فلكما من ذلك ما تشاءان، وأنت قبل أختك خير مَن يقدِّر ما يترتب على تصرفه من آثار ونتائج.»

قال ولدي في غير تردد: «أشكرك يا أماه من كل قلبي، ولا تثريب لي عليك فيما فعلتِهِ إبَّان صغري، سواء فعلته غضبًا من أبي أو التماسًا لخيري ومصلحتي، فإن كانت الأولى فلا أحسب الموجدة باقية في قلبك بعد كل هذه السنين على رجل يذكر عارفوه جميعًا مروءته، ويذكرون أنه أكرمك طول حياته بعد غضبك منه وانفصالك عنه، وإن كانت الثانية فما كنت لأبيع اسم أبي بثمن وإن عَظُم، فاسمه هو الدم الذي يجري في عروقي، والحياة التي ينبض بها قلبي، والنعمة التي يشع بها نور عيني، ولن ينسيني هذا الدم وهذه الحياة وهذه النعمة ما لزوجك الذي ندعوه اليوم أبانا من فضل علينا وبرٍّ وحنان ذُقنا كل هذه السنين حلاوته، فلسنا يا أماه عاقَّيْن، ونحن ابناك وابنا أبينا، وإذا كنتما قد انفصلتما في الحياة لأمر، فذلك طارئ يحدث ثم يُنسى، أما الاسم الذي حملناه يوم مولدنا فهو الذي يجب أن يبقى علمًا على محبتكما وبركما، فالحياة محبة، وما سوى المحبة هباء يذهب مع الريح ولا تبقى منه باقية.

تأثرت بهذا الذي سمعت من ولدي أبلغ التأثر فقبَّلته من أعماق قلبي، وقلت له: «رعاك الله يا بني، وهداك السداد والحكمة، ألا ترى أن تفضي لأبيك زوجي بهذا الذي ذكرت الساعة عنه؟» وأجاب: «بكل سرور يا أماه، لولا أن أخشى تأويل ذلك بأنني أطمع في وصيته، فأستأذنك في اتخاذ الإجراءات لأستعيد اسم أبي لي ولأختي، فإذا تم ذلك واستقر أمره جئت معها فأدَّينا لأبينا واجب الشكر وعرفان الجميل.»

وانصرف ولدي مستأذنًا في أن يدعني أستريح، وأخذت أفكر في هذا الحديث الجديد ومقدماته ونتائجه، ولعنت الساعة التي عرف فيها ولدي هذه الفتاة حتى ليريد أن يخطبها إلى أهلها، والساعة التي استشار فيها أمها، وقد أدت مشورتها إلى هذا الاضطراب الذي أعانيه اليوم، وقد تؤدي إلى اضطراب أوسع نطاقًا تتأثر به صلتي بزوجي، وينتهي إلى تشتيت شملنا بعد إذ كان مجتمعًا في انسجام واتساق.

ودخل علي زوجيَّ وهذه الأفكار تتناوبني وترتسم صورتها على محيَّاي، فلما رأى ما يبدو من ذلك عليَّ قال: «لا تجسِّمي الأمر يا عزيزتي ولا تنزعجي له، فهو واقع غدًا إن لم يقع اليوم؛ لأنه نزول على حكم الطبيعة، فما كان الدم لينقلب ماء في يوم من الأيام، وللوراثة حكم لا سبيل إلى مغالبته، وقد أصبحت ابنتك في عصمة رجل، وأصبح ابنك قديرًا على الكفاح في الحياة فأغناهما ذلك عنا، وأتاح لهما من الاستقلال في التفكير ما نزع عنهما سلطاننا، وإن استبقى لهما حبَّنا وعطفنا.» فشكرت له سمو عواطفه وقلت له: «لو أنك سمعت ما قاله ولدي عما يضمره لك من إكرام، ومن اعتراف بفضلك وجميلك، وتقدير لحنانك وبرك كل هذه السنين، لسرَّك أن أثمرت تربيتنا هذه الثمرة الصالحة، وقد ذكر لي أنه سيؤدي ما عليه لك من واجب الشكر بعد أن يعيد إلى اسمه واسم أخته اسم أبيهما ليكون الشكر خالصًا بريئًا من كل شائبة.»

وجم زوجي لسماع هذه الكلمات الأخيرة ثم قال: «فليلهمه الله السداد والحكمة.» وعاد الرجل إلى وجومه، ثم انصرف عني إلى مكتبه، فلما آذنت الشمس بالمغيب جاء إليَّ يخبرني أن أصدقاءه دعوه إلى طعام العشاء وإلى سهرة قصيرة بعده، وأيقنت حين غادر البيت أن حديث ولدي فعل فعله في نفسه، وأنه مضطرب له اضطرابي، حائر في أمره حيرتي، مقدر أنه لا يملك رده، متألم من أجل ذلك له، وأنه ابتكر هذا العشاء وهذه السهرة حتى لا ينكشف لي اضطرابه وألمه، وقد زاد هذا اليقين في حيرتي واضطرابي، وفي خشيتي من المستقبل القريب وما ينطوي عليه من نذر.

وإذ جن الليل وآن لي أن أسكن إلى مضجعي، وأن أطفئ أنوار غرفتي، شعرت بالرعشة من جديد تهزني، وتراجعت عن سريري فزعة مخافة أن أرى الطيف الملتف في أكفانه يندس إلى جانبي ليكون بيني وبين زوجي، عند ذلك همل الدمع من عيني، وعدت حيث كنت على مقعدي، ورفعت أكف الضراعة إلى الله أن يعفو عني، وأن يريح بالي، وأقمت على ذلك زمنًا ذهبت بعده إلى مرقدي أحاول النوم فلا يطاوعني، وبعد منتصف الليل أحسست بزوجي يدخل الغرفة ولا يضيء نورها، ويتمطى في مكانه من السرير، وأنا متناومة لا أبدي حراكًا، فلما تبينت من صوت أنفاسه أنه نام أخذتني الشفقة عليه لاضطرابه وحيرته، فهو قد حاول أن يقيم أسرة تسعد بها كهولته وشيخوخته، وبذل في سبيل ذلك حر عواطفه وماله، وها هو ذا يرى محاولته تنهار من أساسها ولا يستطيع شيئًا لدعمها واستبقاء كيانها، وهأنذي شريكته في محاولته، أشاركه الحسرة لانهيارها، ثم أنا بعد ذلك أشد منه حيرة، أضطرب بينه وبين ولدَيْ أحشائي، ولا أقدر على منع كارثة تهددني!

وبعد أسابيع جاءني ولدي متهللًا يذكر أن المحكمة حكمت بإعادة اسم أبيه إلى اسمه واسم أخته، وأنه قد آن له أن يجيء معها إلى زوجي يعترفان له بسابغ فضله، وعظيم حنانه وبره.

قلت: «لقد كنت تخشى أن تفعل ذلك قبل حكم القضاء مخافة تأويله بأنكما تطمعان في وصيته، فهلا تخشى مثل هذا التأويل اليوم؟» وأجابني: «كلا، فالرجل لم يحرر وصيته بعد، فإذا هو حررها برغم ما فعلنا كان ذلك إقرارًا منه لعملنا، وإعلانًا لإبقائه على محبتنا والعطف علينا، وإن لم يحررها فذلك شأنه، ولن يُنقِص إحجامه عن تحريرها من اعترافنا بجميله وفضله.»

واستأذن الشاب في الانصراف لبعض شأنه، فلما كان موعد الغداء حضر زوجي، ثم رأيت ابني وشقيقته يدخلان علينا وتقول ابنتي: «لقد جئنا نتناول الطعام معك يا أماه ومع عمنا»، ولاحظت لون زوجي يتغير لسماعه كلمة العم ممن تعودت شفتاه أن يدعوه أبي، وكأنما لاحظ ولدي ما لاحظت فأسرع يقول: «نحن يا عماه ابناك، وقد جئنا إليك نعتذر عن العود باسمينا إلى اسم أبينا، لم يكن ذلك إنكارًا لفضلك ولا تنكرًا لجميلك، لكنني أعلم أنك كنت أوفى الأصدقاء لأبي، فلما اختاره الله إليه اتخذتنا وديعة عندك، فأسبغت علينا مثل بره وحنانه، وسميتنا باسمك حتى نشعر بأبوتك لنا وبنوتنا لك، فلما بلغنا أشدنا وآن أن ترد الوديعة، أحسست بما في ذلك من مشقة عليك لرقة عواطفك وفرط حنانك، ولأن مر السنين ربط بيننا وبينك بأوثق رابطة، فاحتملت أنا العبء عنك، مطمئنًّا إلى أنك سترضى صنيعي؛ لأنك رجل أمين لا ترضى أن تحتفظ بما استُودِعت، وتحرص على رد الأمانات إلى أهلها، أما وقد رُدَّت فقد جئت وشقيقتي الآن نضاعف لك الثناء والحمد على عنايتك بنا، وجميل عطفك علينا، وسمو أبوتك لنا، طامعين في أن تقبل شكرنا لك وثناءنا عليك، والله يتولى جزاءك.»

انفرجت أسارير زوجي لهذا الكلام، فانتقلنا بالحديث إلى جو أكثر طمأنينة، بذلك استأنفنا حياتنا وأنا أرجو أن تعود سابق سيرتها، لكنني شعرت بأن حجابًا قام بيني وبين زوجي، وكأن هذا الاسم الذي استعاده ولداي — اسم صاحب الطيف الملتف في أكفانه — قد حال بيني وبينه حتى كاد يجعلني غريبة عنه، ويجعله غريبًا عني.

وجاءني ولدي بعد أيام يسألني رأيي في أمر الفتاة التي يريد أن يخطبها لنفسه، واستمهلته حتى أروِّي في الأمر كما قلت له، وحتى أسأل زوجي لكيلا يزداد الحجاب كثافة بيني وبينه، فلما سألته قال إنه لا اعتراض له على مصاهرة هذه الأسرة فهم أصدقاؤنا ومن طبقتنا، لكنه أضاف: «لكنك توافقينني على أن هذا المسكن الذي نقيم به لا يتسع لأسرتين، وأنا أقترح أن يسكن ابنك وعروسه العمارة التي تقيم بها أخته حتى تسهل عليك زيارتهما كلما هفا لذلك قلبك.»

أحسست من هذه الكلمات الأخيرة أن الرجل لم يعد يطيق حياة ولدي معنا، برغم ما يبديه لي من مجاملة ولطف، فلما حدثني ولدي الغداة قلت له إني أوافق على الزواج، وأقترح عليه أن يسكن العمارة التي تقيم بها أخته، وكذلك فعل، وجهَّزت العروس مسكنها جهازًا حسنًا، وأخذت أتردد مع أمها عليه نُعنى بنظامه وحسن تنسيقه.

وانتقل الشاب إلى مسكنه الجديد، وكنت أزوره هو وأخته الحين بعد الحين، وكان زوجي يرافقني في هذه الزيارات أحيانًا، فيرى في كل مرة جديدًا في أثاث ولدي يسره ويعجبه، وإن شعرت دائمًا بأنه يقوم بهذه الزيارات معي مجاملة لي، لا بدافع من قلبه ووجدانه.

فلما اطمأن ولدي إلى أنه أفاء على مسكنه آخر سمة له، دعانا يومًا لتناول الشاي عنده، وذهبنا عنده فاستقبلتنا أخته؛ لأن عروسه شعرت بوعكة لعلها من أثر الحمل، فلما دخل زوجي إلى غرفة الاستقبال رأى فيها صورة مكبَّرة لزوجي الأول أبي الولدين، فوقف يتأملها ووقفنا من حوله أنا وولدي، فنظر إلينا وإلى الصورة وقال: «هذه هي الأسرة الأولى اجتمعت من جديد.»

وشعرت في نبرة صوته بأسى المنهزم الذي حاول أن يقاوم الطبيعة فلم تنجح محاولته، وحاول أن يرث ما ليس له بحق فلم ينل ما أراد، هنالك أيقنت أنني أصبحت فريسة بينه وبين الولدين يجذبني كلٌّ إلى ناحيته، وأني لن يهدأ لذلك بالي، ولن يطيب لي عيش بعد اليوم.

رباه! ماذا أصنع لأنجو من موقف أنوء باحتماله؟! إنني لا قدرة لي على مغاضبة ولديَّ، ولا قدرة لي على مغاضبة زوجي، فولداي هما ولداي، وزوجي هو الذي افتداني من موقف لم يكن أحد لينقذني منه لو لم يمد هو إليَّ يده، إنني أضرع إليك، أنا المرأة الضعيفة المؤمنة بقضائك وعدلك، فهبني من لدنك رشدًا، وهيِّئ لي من رحمتك سندًا أحتمي به من هول هذا الموقف.

ولم تكذب مخاوفي، فقد بدأ هذا الصراع الصامت بين زوجي وولديَّ يتجاذبني يمنة ويسرة، وبدأت أشعر كأني الكرة يتجاذبها المتنافسان، وكلٌّ منهما في موقفه لا يريم عنه، فكان ولداي يذكران أن اشتغالي براحة زوجي يشغلني عنهما، وكان زوجي يتهكم بي قائلًا إن لي العذر أن طغت عليَّ أمومتي فشغلت عنه، وزوجي وولداي لا يبدي أيٌّ منهم للآخر إلا المودة والحسنى، والقلوب مطوية على التنازع على هذه المرأة المسكينة المغلوبة على أمرها؛ لأنها زوج تُقِرُّ لزوجها بفضله ومروءته ونبله، وأم تحب ولديها حب العبادة.

رباه! ماذا أصنع؟! عاودني إذ ذاك رجع من تقوى صباي يوم كنت رضوان الجنة، فأعددت في بيتنا مصلى عُنيت به كما كنت أُعنَى بمصلى المدرسة، وأكببت على فروضي أصليها لأوقاتها، أستيقظ مع الفجر أصليه حاضرًا قانتة إلى ربي داعية إياه، أستغفره وأتوب إليه، وألبِّي داعي المؤذن كلما نادى: «حي على الصلاة»، فأهرع إلى مصلاي فأجد في الصلاة سكينة نفسي وطمأنينة قلبي بانقطاعي إلى ربي.

وذكرت يومئذ عمتي الحاجة وطرحتها البيضاء، وكانت قد انتقلت منذ سنوات إلى جوار الله، فاتخذت للصلاة طرحة بيضاء كطرحتها، وإنني لأصلى الفجر يومًا وأقرأ القنوت إذ هتف بي هاتف: «ما لك لا تحجين بيت الله أداء لفرضه؟ إنك إن تفعلي يغفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، وتبعدين بذلك عن صراع أنت وحدك فريسته وضحيته.»

ما أرحمك يا رب، وما أعظم فضلك! لقد اطمأن قلبي لهذا الهاتف، واعتزمت لساعتي أداء هذه الفريضة الخامسة من فرائض ديني، فلما جاء زوجي أفضيت له بعزمي فقال: أنت وما تريدين. وأخبرت ولديَّ كذلك بأني خارجة إلى الحج، وما كان لهما أن يصداني عنه.

وبدأت أتجهز للحج وأعد له عدتي، ومن يوم بدأت هذا التجهز شعرت بالإيمان يطرد الهم من قلبي ويُحِلُّ محله النورَ والطمأنينةَ، وشعرت بزوجي وولدي يحوطونني بعناية سعدت بها من قبل ثم نسيتها من يوم حملق فيَّ هذا الطيف الملتف في أكفانه وصاح بي مهددًا ونذيرًا.

ما ألذ حلاوة الإيمان، وما أعظم سعادة المؤمنين! فمنذ نذرت الحج وشُغِلت بالتجهز له تقشَّعت من حولي كل سحابة داكنة، وأقبل عليَّ أهلي وأصحابي يهنئونني بما اختار الله لي، ويطلبون إليَّ أن أدعو لهم بالخير وأنا عند بيت الله المحرم، وجاءني زوجي يومًا يقول: «ناشدتك الله إلا ما استغفرت لي ربي وأنت تلبين على عرفات للصفح عني إن كنت قد أخطأت في حق صديقي زوجك الأول»، وأخذ ولداي يسألاني عما يكملان به جهاز سفري، ويطلبان إليَّ أن أباركهما، وأن أدعو الله لهما، وسمت بي صلواتي في هذه الفترة فوق نوازع النفس كلها، فهانت عليَّ الدنيا وما فيها، وأيقنت حقًّا أنها متاع الغرور!

واقترب موعد السفر وتلاحقت زيارات المهنئين والمودعين، فلما كانت ليلة البرزة وهفا بي النوم إلى مرقدي، رأيت أبي وأمي وهما في ثياب الآخرة، وكأنهما ملكان يرفرفان بأجنحة من نور فوق رأسي، ويحمدان الله أن رضي عني بما وهبني من تمام الإيمان بتقواي وبحجي، ثم رأيت الطيف الملتف في أكفانه يبدو وعلى ثغره ابتسامة، ومحياه كله الضياء، وهو يقول: «غفر الله لك وغفر لي، وسعت رحمته كل شيء، إنه رب التقوى ورب المغفرة.»

واستيقظت الفجر وصليته، ثم إذا زوجي وولداي وطائفة من أهلي يحيطون بي ويقبلونني، وليس في قلوبهم جميعًا إلا المحبة الخالصة، وركبوا جميعًا معي قطار السكة الحديد إلى السويس، وظلوا جميعًا معي على ظهر الباخرة المسافرة إلى جدة، فلما آن لها أن تبحر ودعوني وكلهم يرجون الله لي حجًّا مبرورًا وذنبًا مغفورًا، وأنا أرجو لهم جميعًا من الله الهدى والرحمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤