طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله خالق الكون على نظام محكم متين، والصلاة والسلام على أنبيائه العظام هداة الأمم إلى الحق المبين، لاسيما منهم على النبي العربي الذي أرسله رحمة للعالمين ليرقى بهم معاشا ومعادا على سلم الحكمة إلى عليين.

أقول وأنا مسلم عربي مضطر للاكتتام شأن الضعيف الصادع بالأمر، المعلن رأيه تحت سماء الشرق، الراجي اكتفاء المطالعين بالقول عمن قال: وتعرف الحق في ذاته لا بالرجال، إنني في سنة ثماني عشرة وثلاثمائة وألف هجرية، هجرت دياري سرحا في الشرق، فزرت مصر واتخذتها لي مركزا أرجع إليه مغتنما عهد الحرية فيها على عهد عزيزها حضرة سمي عم النبي (العباس الثاني) الناشر لواء الأمن على أكناف ملكه، فوجدت أفكار سراة القوم في مصر كما هي في سائر الشرق خائضة عباب البحث في المسألة الكبرى، أعني المسألة الاجتماعية في الشرق عموما وفي المسلمين خصوصا، إنما هم كسائر الباحثين، كل يذهب مذهبا في سبب الانحطاط وفي ما هو الدواء. وحيث إني قد تمحص عندي أن أصل هذا الداء هو الاستبداد السياسي ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية. وقد استقرّ فكري على ذلك — كما أن لكل نبأ مستقرا — بعد بحث ثلاثين عاما … بحثا أظنه كاد يشمل كل ما يخطر على البال من سبب يتوهم فيه الباحث عند النظرة الأولى، أنه ظفر بأصل الداء أو بأهم أصوله، ولكن لا يلبث أن يكشف له التدقيق أنه لم يظفر بشيء. أو أن ذلك فرع لأصل، أو هو نتيجة لا وسيلة.

فالقائل مثلا: إن أصل الداء التهاون في الدين، لا يلبث أن يقف حائرا عندما يسأل نفسه لماذا تهاون الناس في الدين؟ والقائل: إن الداء اختلاف الآراء، يقف مبهوتا عند تعليل سبب الاختلاف. فإن قال سببه الجهل، يشكل عليه وجود الاختلاف بين العلماء بصورة أقوى وأشد … وهكذا يجد نفسه في حلقة مفرغة لا مبدأ لها فيرجع إلى القول: هذا ما يريده الله بخلقه، غير مكترث بمنازعة عقله ودينه له بأن الله حكيم عادل رحيم ….

وإني إراحة لفكر المطالعين أعدد لهم المباحث التي طالما أتعبت نفسي في تحليلها وخاطرت حتى بحياتي في درسها وتدقيقها، وبذلك يعلمون أني ما وافقت على الرأي القائل بأن أصل الداء هو الاستبداد السياسي إلا بعد عناء طويل يرجح أني قد أصبت الغرض. وأرجو الله أن يجعل حسن نيتي شفيع سيئاتي، وها هي المباحث:

في زيارتي هذه لمصر، نشرت في أشهر جرائدها بعض مقالات سياسية تحت عنوانات: الاستبداد، ما هو الاستبداد وما تأثيره على الدين، على العلم، على التربية، على الأخلاق، على المجد، على المال … إلى غير ذلك.

ثم في زيارتي مصر ثانية أجبت تكليف بعض الشبيبة، فوسعت تلك المباحث خصوصا في الاجتماعيات كالتربية والأخلاق، وأضفت إليها طرائق التخلص من الاستبداد، ونشرت ذلك في كتاب سميته: (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) وجعلته هدية مني للناشئة العربية المباركة الأبية المعقودة آمال الأمة بيمن نواصيهم. ولا غرو فلا شباب إلا بالشباب.

ثم في زيارتي هذه وهي الثالثة، وجدت الكتاب قد نفد في برهة قليلة فأحببت أن أعيد النظر فيه وأزيده زيدا مما درسته فضبطته، أو ما اقتبسته وطبقته. وقد صرفت في هذا السبيل عمرا عزيزا وعناء غير قليل … وأنا لا أقصد في مباحثي ظالما بعينه ولا حكومة أو أمة مخصصة، إنما أردت بيان طبائع الاستبداد وما يفعل، وتشخيص مصارع الاستعباد وما يقضيه ويمضيه على ذويه … ولي هناك قصد آخر وهو التنبيه لمورد الداء الدفين، عسى أن يعرف الذين قضوا نحبهم أنهم هم المتسببون لما حل بهم، فلا يعتبون على الأغيار ولا على الأقدار، إنما يعتبون على الجهل وفقد الهمم والتواكل … وعسى الذين فيهم بقية رمق من الحياة يستدركون شأنهم قبل الممات.

وقد تخيرت في الإنشاء أسلوب الاقتضاب وهو الأسلوب السهل المفيد الذي يختاره كتاب سائر اللغات ابتعادا عن قيود التعقيد وسلاسل التأصيل والتفريع. هذا وإني أخالف أولئك المؤلفين، فلا أتمنى العفو عن الزلل، إنما أقول:

هذا جهدي، وللناقد الفاضل أن يأتي قومه بخير منه. فما أنا إلا فاتح بابٍ صغيرٍ من أسوار الاستبداد. عسى الزمان يوسعه، والله وليّ المهتدين.

١٣٢٠هـ-١٩٠٢م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤