مقدمة المترجم

الدولة برجالها والأمة بآحادها. على هذا المحور يدور القسم الأكبر من مباحث الجمهورية، والتاريخ كله أدلة قاطعة تُثبت هذه النظرية؛ فقد أنشأ الإسكندر المكدوني الدولةَ اليونانية، وشارلمان بابين الدولةَ الفرنسية، وبطرس الكبير الدولةَ الروسية، وغاريبلدي ورفقاؤه الدولةَ الإيطالية، وقِسْ على ذلك مئات الشواهد في كل العصور.

تحيا الأمة أو تموت، وتعلو أو تسفُل، وتسعد أو تشقى؛ بقياس ما فيها من الآحاد — النوابغ — وبقياس معاملتها أولئك الآحادَ، فأمةٌ أو دولةٌ تُقَدِّر آحادها أقدارهم وتُطلق أيديهم في إبراز ما أوتوا من علم أو فن أو إبداع، وتُمهِّد لهم الوسائل للفوز والفلاح؛ هي أمةٌ أو دولة سعيدة خالدة، أما الدولة التي تغُلُّ أيدي نوابغها وتُقِيم العقبات في سبيلهم، فهي دولة مُعتسفة تاعسة.

فتربيةُ الرجال ومكانتهم ورعايتهم وما لهم من النفوذ في الدولة، يشغل القسم الخيالي في جمهورية أفلاطون، وقد رُمِز بذلك إلى الرجل الفذ الأريحي، الحكيم الشجاع العفيف العادل، الذي يدعوه «المثل الأعلى»، وهو ركن الدولة المثلى. فإذا سرَّح القارئ رائد طرفه في الجمهورية رأى أمامه جوًّا صافيًا حافلًا بالمُثُل، مُزدانًا بغُرر الأفكار، فتثور في نفسه محبة الجمال، وتنطبع تلك النفس بطابع الجمال الذي رأت مثله في تفكير أفلاطون من نزاهة نفس، وسديد رأي، وثاقب نظر، وعالي همة، وترفُّع عن التقليد والزُّلفى، وعن مسايرة البيئة؛ وبالإجمال، عن كل ما يغلُّ الفكر من عادات وتقاليد وأوهام؛ ففي هذا الموقف يتجلَّى للذهن جمالُ الحقيقة الخلَّاب، فتصير ضالته المنشودة وإلاهته المعبودة. هذا هو الرجل الذي يفتقر شرقنا إليه، وهو ما أرجو أن تكون هذه الجمهورية من وسائل خلقِه وتنشئته.

فالنتيجة الصحيحة لهذه المقدمة في منطق القارئ النبيه، هي أن تكون ترجمتي سهلة المأخذ، واضحة البيان، لتكون في متناول العامة إذا أمكن، فتقود النفس بسهولة إلى رؤية الجمال. ذلك ما توخَّيْتُه في الترجمة، وقد علَّقتُ على صفحات الكتابِ الهوامشَ، وبدأتُ كل فصل منه بتمهيد يشتمل على خُلاصته، ووضعت في الهوامش الأرقامَ التي تُسهِّل على المُطالِع المراجعةَ والاستشهاد؛ كلُّ ذلك لتسهيل فهمه على مُطالِعِيه.

وقد كان بين يدَيَّ ثلاثُ ترجمات إنكليزية، هي ترجمة تيار، وترجمة سبنس، وترجمة دافيس وفوغان، فكنت أُقابِل كلَّ جملة فيها من أول الكتاب إلى آخره، وأقف على صورة التعبير في كلٍّ منها، وقد بذلتُ وسعي في اختيار أصحها؛ لأنها تختلف في كثيرٍ من مواقفها اختلافًا كبيرًا؛ فكنتُ أوثرُ أقربَها لروح أفلاطون، معتمدًا بالأكثر ترجمةَ دافيس وفوغان؛ لأني علمت أنها معتمَدة في جامعة أُكسفُرد، ولأن أكابر الكُتَّاب والفلاسفة والعلماء يعتمدونها، كدورانت ورسل والإنسكلوبيديا.

ولا يسعني إلا التنبيه إلى ما ورد في كتاب الجمهورية من الأشعار من نَظْم هوميروس وهسيودس، وغرضُ أفلاطون في ذلك نقْدُها وتفنيد ما تتضمَّنه من المبادئ الفاسدة والتعاليم المنكرة؛ فلا يضعَنَّ القارئُ قلبَه عليها، فإن مسألة شاعريَّتها وبلاغتها غير مُرادة هنا.

ولا يفوتني إثبات شكري الوافر لحضرة فؤاد أفندي صرُّوف، رئيس تحرير المقتطف، صاحب الفضل في نشر هذا الكتاب، وفي معاونته لي في مراجعة مسوَّداته، وقد راجعتُ مع ابني توفيق (ب. ع.) مدرس الترجمة في كلية غردون بالخرطوم — بالسودان — كلَّ الكتاب، والترجماتُ الثلاث بين أيدينا؛ فأصلح وعدَّل في الترجمة شيئًا كثيرًا. فإذا شام القارئ في الترجمة شيئًا من الضبط والاتِّساق، فالفضل بالأكثر لشريكَيَّ المذكورَيْن، أما الأغلاط والخطيئات الواردة فيه فهي على مسئوليَّتي وحدي.

ورجائي إلى القارئ النبيه ألَّا يُسرِع في تقليب صفحات هذا الكتاب؛ لأنه ليس كتابَ تسليةٍ ولهو، بل هو من تُحَف الأدهار، وكما هو من نِتاج أزكى العقول، فهو عشيقُ أزكى العقول. وحَسْبُ مؤلِّفه أفلاطون فخرًا أنه قد مرَّ على تأليفه نحو ٢٣٠٠ سنة، وهو يُدرَّس اليومَ في أرقى جامعات الدنيا، مع أن ملايين من المؤلَّفات التي صدرت من عهد أفلاطون إلى اليوم قد أصبحت نسيًا منسيًّا، وكأيٍّ من مؤلف ضربَتِ العناكبُ على تأليفه ولم تفسد أكفانه. وهذا كتاب الجمهورية يحسبونه كتاب الكتب في عصرٍ بلغ النقدُ فيه أسمى مبالغه؛ فأرجو القارئ أن يتأنَّى في قراءته، وأن يُعطيه حقه من الرَّوِيَّة والإمعان؛ لأنه خير كاشف عن باطن أكبر فيلسوف عاش في كل الأجيال.

أجل إننا لسنا نوافق أفلاطون في كل نظريَّاته، وقد نشرناها على مسئوليته، ولكنا مُعجَبون وأكثر من مُعجَبين بنظام تفكيره، ورحابة صدره، وضبطه في الأحكام، وفيض بلاغته وبيانه، ونشاركه في غرض التأليف العام وهو «السعادة»، وفي الوسيلة الخاصة المؤدية إلى ذلك الغرض وهي «الفضيلة»، ونوافقه في أن الفضيلة تُراد لذاتها ونتائجها، وفي أن الفردَ دولةٌ مُصغَّرة والدولةَ جسمٌ كبير، وأن ما يُسعِد الدولة يُسعِد الفرد، وأن الرجل الكامل — المثل الأعلى — هو الذي تحكَّم عقلُه في شهواته، وانقادت حماسته إلى حكمته، وعاش ومات في خدمة المجموع.

حنَّا خباز
مصر، ١٢ أغسطس سنة ١٩٢٩

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤