الكتاب الرابع: الفضائل الأربع

خلاصته

هنا اعترض أديمنتس قائلًا: إن حياة طبقة الحُكام على هذه الحال لن تكون سعيدة. فأجابه سقراط: ذلك ممكن، ولكن ليس إسعاد الحُكَّام غرضنا، فغرض الشارع الخاص إسعاد طبقات السكان الثلاث: الحُكَّام، والمنفذين، والمنتجين. فقاده ذلك إلى النظر في واجبات الحكام، وهي:
  • (١)

    أن يحولوا دون الميل إلى إثراء بعض الأهالي وفقر غيرهم فقرًا مُدقعًا.

  • (٢)

    أن يسهروا ضد اتساع الأراضي اتِّساعًا سريعًا.

  • (٣)

    أن يُشدِّدوا في قمع البدع في فنَّي الموسيقى والجمناستك، مع ترك بقية القوانين لفطنة القضاة في وقتها، وتُوكل الطقوس الدينية والحفلات لوحي أبلو إله دلفي.

وبعد ما تتبَّع سقراط نشأة الدولة من أولها إلى آخرها أعاد الكرَّة على المسألة: ما هي العدالة؟ وفي أي أقسام الدولة توجد؟

الدولة إذا حسُنَ تنظيمها كاملة الصلاح، وإذا كانت صالحة فهي ولا بد حكيمة شجاعة عفيفة عادلة. فإذا حسبنا فضيلتها عبارة عن الحكمة والشجاعة والعدالة والعفاف فإنَا إذا وجدنا ثلاثة من هذه تمكَّنَّا بواسطتها من اكتشاف الرابعة، فحكمة الدولة تستقر في طبقة القُضاة والحكام القليلة العدد، وتستقر شجاعة الدولة في المساعدين والجنود، وهي تقوم بقدرهم قدرًا صحيحًا، ما هو مخيف أو غير مخيف، ولباب العفاف ضبط النفس، وخلاصته سياسيًّا تقرير حق الحكام إطاعة الأمة وولاءَها، فلا ينحصر العفاف في طبقةٍ واحدة من الأمة كالحكمة والشجاعة، بل ينبثُّ في الأمة عامة، وهي عبارة عن رضًا شامل بهذا الشأن، فعليه قد وجدت الثلاث، فأين الرابعة؟

فبعد إخراج الثلاث: الحكمة والشجاعة والعفاف، بقيت الرابعة، وهي تئول إلى تأصُّل الثلاث المذكورة في جسم الدولة وصيانتها، فهي ولا بد: العدالة. ويمكن تحديدها بأنها: التزام كُلٍّ عمله الخاص، وعدم التدخل في شئون غيره.

فهي تمزج طبقات الأمة الثلاث معًا، وتحفظ كُلًّا منها في مركزها، ونقيضها التعدي السياسي، وهو: روح الفضول الذي يُلابس الطبقات الثلاث، فيقود كُلًّا منها إلى التدخل في وظائف غيرها وأعمالها وواجباتها، فلنطبِّق هذه النتائج على الفرد؛ لأن في الدولة ما في الفرد، وإنما وصل الدولة عن طريق الأفراد الذين منهم تتألَّف، فنتوقع أن نجد في الفرد ثلاثة مبادئ نقارن طبقات الدولة الثلاث، فلننظر هل كان ذلك الترفُّع على أساس.

في العقل عاملان مُتضادَّان لا يمكن نشوءُهما عن أصلٍ واحد: إنسان عطشان ولا يريد أن يشرب، ففيه إذًا مبدآن، أحدهما يدفعه إلى الشرب، والآخر يصدُّه عنه، فالأول يصدر عن الشهوة أو الرغبة، والآخر عن الذهن، فوجدنا في النفس عنصرين متمايزين: الواحد عقلي، والثاني غير عقلي، فهو شهوي. وعلى المبدأ نفسه ترانا مُلزمين بأن نجد عنصرًا ثالثًا، هو مقر الغضب والحماسة والغيظ، ويمكن أن يُدعى القسم الغضبي، فإذا تنازع المبدآن: العقلي والشهوي، كان هذا الثالث أبدًا في جانب العقلي، ففي الفرد ثلاثة عناصر: هي العقلي، والغضبي، والشهوي، يقابلها في الدولة: الحُكَّام، والمنفذون، والمنتجون.

فالفرد حكيم بفضيلة الحكمة في عنصره العقلي، وشجاع بفضيلة الشجاعة في عنصره الحماسي، وعفيف حين يسود عنصره العقلي، مع القبول التام من جانب العنصرين الآخرين، وأخيرًا هو عادل حين تقوم كل من هذه الثلاث بعملها الخاص، غير متدخلة في عمل غيرها. أوَلا يتجلَّى اتفاق قوى العقل الداخلية بإتمام كل الأعمال المحسوبة عادلة وتجنُّب التعدِّي؟

أمَّا التعدِّي فيُشَوِّش هذه الصفات ويُلبكها، ويتجلَّى هذا التشويش في الأفعال الجنائية المتنوعة، فالعدالة نوع من الوئام الطبيعي، وهي حال العقل الصحيَّة، والتعدي نوع من التنافُر غير الطبيعي أو المرض، فمن تحصيل الحاصل السؤال: أي الاثنين أنفع لصاحبه.

متن الكتاب

قال سقراط: هنا تدخَّل أديمنتس في البحث، قال: وبماذا تدفع عن نفسك يا سقراط إذا احتجَّ أحد عليك بأنك لم تبلغ برجال هذه الطبقة (الحُكَّام) أوج السعادة؟ مع أن اللوم عليهم في عدم سعادتهم؛ لأن الدولة دولتهم عند التحقيق، ومع ذلك فليس لهم فيها حظ الذين يملكون الأراضي ويُشيِّدون الأبنية الفخمة ويفرشونها فرشًا يتفق مع فخامتها، ويضحَّون للآلهة، ويولمون للأصحاب، ويملكون الفضة والذهب وكل ما هو ضروري لإسعاد الناس، وقد يُقال إنهم كصغار المستخدمين، ليس لهم في المدينة إلا الخفارة.

س : نعم، بل يظهر أنهم يقتصرون على القوت، ولا يأخذون معه مالًا كالآخرين، فلا يمكنهم السفر على نفقتهم إذا أرادوه، ولا تقديم الهدايا للحظايا، وإنفاق الأموال على الرغائب الأخرى كما يفعل المحسوبون سعداء، وأمثال ذلك من الأمور مما طويتَ عنه كشحًا.
أديمنتس : فأضيف إلى ذلك شكواي.
س : أفتسألني أي دفاع أقدِّم؟
أد : نعم.
س : أظن أننا إذا استأنفنا السير في الجهة نفسها أدركنا الدفاع المطلوب، مع أنه لا يُستغرب كون هؤلاء الحكام أسعد السعداء، حتى في هذه الأحوال. على أننا لم نؤسس الدولة لمجرد إسعاد قسم من أهلها، بل لإسعاد الجميع معًا على قدرِ الإمكان، فغرضنا في إنشاء الدولة اكتشاف العدالة. كما أننا في دولة أخرى ساء نظامها نكتشف التعدي، وبعد اكتشاف هذي وتلك يمكننا البت قي المسألة التي أمامنا، فنحن جادُّون في الوقت الحاضر في إنشاء دولة سعيدة، لا في أن نخصَّ أفرادًا منها بالسعادة، بل أن نسعد جميع أفرادها على السواء. ثم ننظر في دولة هي نقيض هذه أحوالًا، فلو صوَّرنا شخصًا بشريًّا فانتقدنا منتقد بأنا لم نزيِّن أجمل أقسام الصورة بأبهى الألوان لأن العيون — وهي أجمل أعضاء الجسم — لم تُلوَّن بالأرجواني، بل بالأسود، فيجب أن نفكر في أنه دفاعٌ كافٍ قولنا له: أيها الناقد مهلًا، لا تتوقَّع منا أن نلون العيون باللون الجميل بحيث لا تبقى عيونًا. وهكذا يُقال في بقية أعضاء الجسم، ولكن انظر أنَّا جعلنا الجسم كله جميلًا، بتلوين كل عضو فيه باللون الملائم.
فجريًا على الطريقة نفسها في مثلنا الحالي تَوَجَّب علينا أن نُسبغ صنوف السعادة على الحكام، فيصيرون غير ما هم؛ لأنَّا نعرف جيدًا أنه تمكنَّا على المبدأ نفسه أن نكسو الفلاحين الملابس الفضفاضة، ثم نأمرهم أن يحرثوا الأرض على خاطرهم، ونُتَوِّجهم بتيجان الذهب، أو أن ندع الخزافين تجاه الأتُّون، مُرخين أيديهم آكلين وشاربين، مهملين دولاب الخزافة، ولا يشتغلون إلا كما يروقهم، فإننا إنما نسبغ البركات على الجميع لإسعاد الدولة بمجموعها، فلا تنصحنا نصحًا كهذا؛ لأننا إذا وافقناك في رأيك لا يبقى الفلَّاح فلَّاحًا، ولا الخزَّاف خزَّافًا، ولا غيرهما من أصحاب المهن اللازمة لتكوين الدولة.

أما بالنظر إلى وظائف غير الحكام فالأمر أقل شأنًا، فإن عدم جدارة الإسكافِ أو عدمها أو ادِّعاءه فوق جدارته ليس فيه كبير خطر على الدولة، ولكن إذا عدم الحكام وحماة الدولة والقانون الحقيقة، واقتصروا على الظاهر، فإنك ترى مقدار الدمار الذي يحلُّونه بالدولة؛ لأنهم هم وحدهم القادرون على توفير أسباب النجاح والسعادة العمومية. فإذا عيَّنَّا حُكامًا للدولة أقل الناس إضرارًا بها، فإن الخصم ينشئ صفًّا من الفلاحين يسرحون ويمرحون في الولائم والحفلات الرسمية، لا مدنيين ممتازين، وذلك يعني شيئًا آخر غير الدولة. فيلزم النظر في:

هل غرضنا في تعيين الحكام أن نضمن لهم التمتع بأوفر نصيب ممكن من السعادة؟ أو أن واجبنا باعتبار السعادة هو أن نرى الدولة كلها سعيدة؟ موجبين عليهم كحكام مخلصين ومساعدين أمناء للحكم، القيام بواجباتهم خير قيام، وتحقيق غرض وجودهم، وعلى القاعدة نفسها نُعامل جميع الطبقات. ومتى نمت المدينة وكمل نظامها نفتح أبوابًا للقبائل، فيدخلونها ويشتركون في السعادة التي تشتهيها نفوسهم على قدر استعدادهم.
أد : إن ما أبديته هو في أتم صور الهدى.
س : أوَتراني على هدًى أيضًا في شقيق هذا الموضوع؟
أد : وما هو؟
س : هو النظر في أرباب الحرف الأخرى، هل فسدوا هم أيضًا بالحالات الآتية؟
أد : أيَّة حالات تعني؟
س : الغنى والفقر.
أد : وكيف ذلك؟
س : هكذا: أترى الخزَّاف، وقد أثرى يظل مُكترثًا لفنه؟
أد : مؤكد لا.
س : أفلا يتهاون في فنه ويكسل، خلاف ما كان عليه في سالف عهده؟
أد : كثير جدًّا.
س : أفلا يصير خزَّافًا أردأ حينذاك؟
أد : بلى، أردأ كثيرًا.
س : ومن الجهة الأخرى: إذا حاق به الفقر فغلَّ يده عن إحراز ما تحسن به صنعته من آلاتٍ وغيرها من أدوات فنه، انحطَّتْ صناعته وقصَّر أولاده وصُنَّاعه في الفن؟
أد : لا مهرب من ذلك.
س : فبهذين الأمرين، الغنى والفقر، تنحطُّ منتوجات الصنائع ويضعف الصُّنَّاع.
أد : هكذا يظهر.
س : فقد اكتشفنا أشياء أخرى تستدعي سهر الحكام، فيلزم أن يتيقظوا كل التيقُّظ لئلَّا تفوتهم ملاحظتها، فتتسرَّب إلى جسم الدولة.
أد : وأيَّة الأشياء تعني؟
س : الغنى والفقر، يُنشئ أولهما الرخاء والكسل والملاهي، والثاني يُنشئ، عدا الملاهي، الخساسة ويفسد المصنوعات.
أد : هكذا بالتمام. ولكن تأمل يا سقراط كيف يمكن لدولتنا أن تخوض غمار الحرب إذا عدمت الثروة؟ ولا سيما إذا نازلت دولة غنية كثيرة السكان؟
س : واضح أنه يصعب عليها أن تحارب دولة واحدة كهذه، ولكن محاربة دولتين معًا أسهل.
أد : ماذا تقول؟
س : إذا اضطروا أن يحاربوا، أفليس عدوهم غنيًّا وهم جنود مُدرَّبة؟
أد : هذا صحيح.
س : أفلا تصدق يا أديمنتس أن الملاكم الخبير يُنازل اثنين أو أكثر معًا من الأغنياء وهم عديمو الخبرة في فن الملاكمة؟
أد : قد لا يستطيع ذلك مع الاثنين معًا.
س : كيف لا؟ فإنه يتراجع حتى يفصلهما، ثم يبدأ في قتال الأقرب إليه، ثم يوالي هذه الحركة في حر الشمس. أفلا يستطيع ملاكم كهذا أن يغلب أكثر من اثنين على هذه الصورة؟
أد : مؤكد، وليس في ذلك كبير غرابة.
س : أوَلا تظن أن الغني أكثر خبرة في فن الملاكمة نظريًّا وعمليًّا منه في فن الحرب؟
أد : أظن.
س : فالأرجح أنه يهون على جنودنا المدربة أن تحارب ضعفي عددها أو ثلاثة أضعافه.
أد : أُسلِّم معك لأني أراك مُصيبًا.
س : وإذا فرضنا أن جيوشنا أرسلوا سفارة إلى سكان إحدى الدولتين يخبرونهم بواقعة الحال، وقالوا إننا لا نقتني فضة ولا ذهبًا لأن اقتناءهما محظور علينا، أما أنتم فمباح لكم، فحالفونا في القتال ولكم المغنم. أفتظن أن أحدًا سمع ذلك يكون أكثر رغبة في محاربة الكلاب الهزيلة منه في محالفة الكلاب على كباش سمينة رخصة؟
أد : أظن لا. أوَلا تظن أن حشد المال في دولة ما خطر يهدد دولة فقيرة؟
س : أهنئك برأيك، فلا دولة تستحق أن تدعى دولة إلا ما كانت على شاكلة الدولة التي تنظِّمها.
أد : لماذا؟ ماذا عندك؟
س : يجب أن تدعى المدن الأخرى بأسماء أعظم؛ لأن كلًّا منها مؤلف من أقسام عديدة لا من قسم واحد، كما في ألعاب المدائن،١ ففي كل دولة قسمان، قسم غني وقسم فقير، وفي كلٍّ من هذين القسمين فروع عديدة، فإذا اعتبرتها كلها قسمًا واحدًا فقد أخطأت خطئًا عظيمًا، ولكن إذا اعتبرتها عديدة الأقسام وخصَّصت أحد أقسامها لامتلاك الأرزاق والقوة، حتى ونفوس الناس، كنت أبدًا كثير الحلفاء قليل الأعداء. وما دامت مدينتك محكومة بفطنة، جريًا على المبادئ التي أسَّسناها عليها، فيجب أن تكون كبيرة، ولا أقول إنها ستتمتع بالشهرة، بل إنها تكون الكبرى ولو لم يزد حُماتها على الألف؛ لأنه يعزُّ وجود بلدٍ كهذا في اليونانيِّين والبرابرة، مع أنه يمكنك أن تجد مدنًا كثيرة تظهر أكبر منها أضعافًا.
أد : كلَّا لا يوجد.
س : فيمكن اتخاذ ذلك مقياسًا لحكامنا في تنظيم حجم المدينة، فتتفتَّق مساحة أراضيها مع حجمها.
أد : وما هو ذلك المقياس؟
س : المقياس هو: ما دامت المدينة محافظة على وحدتها فلا بأس في نموها، ولكن يجب أن لا تتجاوز ذلك الحد.
أد : حبذا القانون.
س : فيجب أن نلقي على عاتق حُكَّامنا هذا القانون الإضافي، وهو أن يعتنوا اعتناءً زائدًا بأن لا تكون المدينة صغيرة ولا كبيرة، بل تظل معتدلة الحجم مع حفظ وحدتها.
أد : الأرجح أن هذا واجب خفيف عليهم.
س : وسنضيف إليه ما هو أخف منه كثيرًا، وقد لمسناه آنفًا لمَّا قلنا إنه يجب إقصاء من سفل من مواليد الحكم إلى فئةٍ أدنى، ورفع من تفوَّق من أنسال العامة إلى مصاف الحكام، والقصد من ذلك تأهيل كل فردٍ من سكان المدينة لممارسة الفن الذي أهَّلَتْهُ الفطرة له، فيتمكن بذلك من إنجاز عمله، ولا يكون متعدد الذاتية، بل إنسانًا واحدًا، وعلى هذا القياس تكون المدينة كتلة واحدة غير منقسمة.
أد : حقًّا إن ذلك أخف مما سبق ذكره.
س : وليست أوامرنا هذه واجبات ثقيلة أيها العزيز أديمنتس كما يظنها الآخرون، ولكنها تهون إذا اعتصم حكامنا بالنقطة المهمة جريًا على القول: مدينة مكتفية خير من مدينة عظيمة.
أد : وما هي تلك النقطة؟
س : هي الإعالة والتهذيب، فإذا صاروا بالتهذيب الراقي عقلاء تمكنوا من التبصُّر في هذه الأمور بسهولة، وفي غيرها مما نغضي عنه الآن، كالعلاقات الجنسية، والزواج، وانتشار النوع؛ لأن في هذه الأمور جميعها تجب إطاعة المثل القائل: «كل شيء مشاع بين الأحباب».
أد : نعم، إن ذلك أصوب رأي.
س : وإذا تألفت دولة على هذا النسق كانت كالحلقة مُحكمة الاتصال، ومضمونة الثبات والسعادة، استنادًا إلى نظام الإعالة والتهذيب، وحيث توافرت الثقافة والتعليم أنشأ فِطَرًا صالحة، وإذا حازت الفِطَر الصالحة على التعليم الصالح صارت أفضل، وارتقت في أبنائها صفة التوليد، كما ترى ذلك في طوائف الحيوان الدنيا.
أد : بالطبع هكذا.
س : وإذا رُمنا الاختصار قُلنا: يجب أن يحرص نُظَّار الدولة على هذا المبدأ لئلَّا يفسد على غفلةٍ منهم، بل يجب أن يسهروا عليه فوق كل شيء، أعني به المبدأ الذي يحظر إدخال أية بدعة في الموسيقى أو الجمناستك على النظام المقرر، ويحرصوا عليه كل الحرص مخافة أن:
يعشق الناس نشيدًا
فيه للبدعة دخل٢
وقد يظن أن الشاعر لم يعنِ أغنية جديدة، بل أسلوبًا موسيقيًّا جديدًا، فيبيح البدعة، مع أن البدعة يجب أن لا تُباح ولا تُزَكَّى، ولا أن نفهم الألفاظ هكذا، ويجب الحذر من قبول نوع جديد من الموسيقى؛ لأنه يهدد كل الدولة، فلا يحدث تشويشٌ في أساليب الموسيقى ما لم يُحدث ذلك أعظم أثر في الدوائر السياسية. هكذا يجزم دمون وأنا أثق به.
أد : ويمكنك إدماجي في عداد الواثقين بهذا الرأي.
س : وأظهر ما يكون أنه يجب على حُكامنا أن يشيدوا مخافرهم هنا في ميدان الموسيقى.
أد : وعلى كلٍّ فإن الفوضى تتسرَّب إلى هذا الميدان دون أن يُشعر بها.
س : نعم، تتسرَّب من باب التسلية حيث لا يُتوقع ضرر.
أد : لا، لا يُتوقع منها ضرر، إلا أنها تتسرَّب خلسة إلى المسالك والعادات، وتبرز فيها بأعظم قوة وتتطرق إلى العقود، ومنها تتخطَّى إلى الهجوم على الشرائع والقوانين، مُبدية في ذلك صفاقة يا سقراط، فينتهي بها الحال إلى قلب كل شيء فردي وعمومي.
س : حسنًا. أهكذا هو؟
أد : دون شك.
س : وكما قلنا سابقًا، ألا يقتصر أولادنا من البداءة على الملاهي والتسليات المشروعة؟ لأنه متى كانت الملاهي غير مشروعة، وانغمس الأحداث فيها، استحال أن يشبُّوا رجالًا مُخلصين.
أد : دون شك.
س : وعليه: فإذا بدأ صغارنا بتسلياتٍ قويمة منذ حداثتهم، حلَّ الولاء في عقولهم بواسطة الموسيقى، فتكون النتيجة نقيض ما سبق بيانه؛ لأن الولاء يُلازمهم في كل شيء ويوسع نطاق نجاحهم، ويرفع منشآت الدولة بعد خفضها.
أد : نعم، هذا حق.
س : فيكتشف هؤلاء حتى القوانين التي عطَّلها الآخرون إذ حُسبت زهيدة في نظر من سبق ذكرهم من الرجال.
أد : وأيُّ قوانين تعني؟
س : أمثال هذه: التزام الصمت والاحتشام في حضرة الشيوخ، الوقوف لهم متى دخلوا، الاكتراث الكلي للوالدين، كذلك قوانين الزينة ولبس الأحذية، وملابس الجسد عمومًا، وكل ما كان من هذا القبيل. أفما هذا رأيك؟
أد : بلى.
س : على أنه من الحماقة سن هذه الشرائع على ما أظن، وأني أتيقَّن أن ذلك لم يعمل قط، ولا يتناول هذه الأشياء تشريع شفاهي يوجب دوامها.
أد : فما العمل؟
س : الأرجح يا أديمنتس أن ميل الإنسان الناشئ عن تهذيبه هو الذي يعين هذه الأشياء، أفلا يلد الشيء نظيره؟
أد : لا شك في أنه يلد نظيره.
س : وأخيرًا يجب أن نتوقع أن يختم نظامنا بنتيجة كاملة وعظيمة، خيرًا كانت أو شرًّا.
أد : حقًّا إنه يجب.
س : فلهذه الأسباب لا أحاول أن يمتد تشريعنا فيتناول نقطًا كهذه.
أد : أنت على حقٍّ.
س : فأخبرني أيضًا عمَّا يتعلق بالمعاملات العمومية بين الأفراد في الأسواق، مشتملة إذا شئت عقود الصناع، والقدح، والتحامل، ولوائح المحاكم، وقرارات المحلفين، ونظام الضرائب، ونظام جمعها في الأسواق وفي الثغور. وعلى العموم، كل القوانين والمسائل المتعلقة بالأسواق والبوليس والجمرك وأمثاله، أفيلزم سن ما يختصُّ بها؟
أد : كلَّا، لا يناسب تحديد هذه الأمور للأقوام الصالحين المهذبين، فإنهم في أكثر الأحوال قلَّما يجدون صعوبة في استنباط ما يلزم لها من التشريع اللازم.
س : نعم يا صديقي، إذا قدرهم الله على الاستمساك بما سننَّا من الشرائع.
أد : وإلَّا قضوا العمر في التعديل والتغيير في شرائعهم المتعلقة بهذه الأمور، مُغذين السير فيها نحو الكمال.
س : إنك تعني أن أشخاصًا يقضون الحياة كالمرضى؛ نظرًا إلى ضعف سلطتهم على أنفسهم، فلا يتمكنون من التنكُّب عن مسلك الحياة المضر.
أد : حتمًا.
س : ولا بد أن أولئك يحيون حياةً مُحيِّرة! ومع كونهم أبدًا بين أيدي الأطبَّاء لا يستفيدون، بل يسيرون من رديءٍ إلى أردأ، وعلى الدوام يرجون أن يرشدهم أحد إلى علاج به شفاؤهم.
أد : هذا هو الحال في هذا النوع.
س : أوَليس مدهشًا أيضًا أن أبغض الناس إليهم من يصارحهم الحقيقة، ويؤكد لهم أنهم ما لم يعدلوا عن النهم والشرب والفجور والتراخي فلا يفيدهم عقاقير ولا كي ولا بتر أطراف ولا تعاويذ ولا أربطة ولا شيء آخر من أمثال هذه؟
أد : لا خير في من يكره مرشده.
س : والظاهر أنك لا تعتبر هذا النوع من الناس.
أد : حقًّا إني لا أعتبره.
س : حتى ولو أجمعت المدينة كلها على هذا التصرف فلست تستحسنه. أوَلا ترى أن الدول تتصرف تصرُّف أفراد كهؤلاء؟ فحين يكون لها نظام سيئ تأمر رعاياها أن لا يتعرضوا لدستورها تحت طائلة الإعدام، بينما كل إنسان إذا كان في استطاعته أن يخدمهم خدمة مُرضية ضمن حدود سياستهم الحالية ملتمسًا رضاهم بالمصانعة والتمليق وببراعته في استطلاع رغائبهم وسدها، حسبوه فاضلًا مملوءًا بباهر الحكمة، فأوجبوا إكرامه.
أد : نعم، إني لا أرى فرقًا بين الأفراد والدول من هذا القبيل، ولا يمكنني أن أستحسن هذا التصرف.
س : ومن الجهة الأخرى، ألا تعتَبر براعة وشجاعة من الراغبين في خدمة دول كهذه؟
أد : أعتبرهم، إلَّا حينما تخدعهم براعتهم وشجاعتهم، فيتوهَّمون أنهم من كبار السياسيين؛ لأن الكثيرين يمدحونهم.
س : وماذا تقول؟ ألا تتسامح معهم؟ وهل تظن أن رجلًا يجهل القياس جهلًا تامًّا، ينكر أقوال الكثيرين من الجهلاء أمثاله، إذا قالوا إن طوله ست أقدام؟
أد : كلَّا، ذلك غير ممكن.
س : فلا تغضبنَّ عليهم؛ لأنهم حقيقةً أغرب أهل الدنيا، فإنهم يظنون أنهم بواسطة شرائعهم الخالدة وتعديلاتها، فيما يتعلق بمواضيع ذكرناها آنفًا سيجدون طريقًا لإبطال الحيل المستعملة في عقودهم، والمشاكل التي أتيت على ذكرها، وقلَّما يشعرون أنهم إنما يحاولون قتل الهيدرا الكثيرة الرءوس.
أد : حقًّا إنهم لا يحاولون غير ذلك.
س : أما أنا فلا أظن أنه يتحتم على الشارع الحقيقي أن يعبأ كثيرًا بفروع هذه الحكومات والشرائع، سواء كانت دولته مُعتَلَّة النظام أو سليمة الأحكام، أما في الأولى فلأن لا فائدة في قوانين كهذه، وأما في الأخرى فلأنه سهل على كل فرد من أهاليها إدراك بعض القوانين الملائمة بذاته لذاته، والبعض الآخر يتلوها بسبب حسن التهذيب الباكر.
أد : فما بقي علينا كشاعرين؟
س : لم يبقَ علينا شيء، ولكن بقي لأبُلو إله دلفي أن يسن أشرف الشرائع وأعظمها وأسماها.
أد : وما هي؟
س : هي تشييد الهياكل، وترتيب الذبائح، وغير ذلك من طقوس العبادات لإكرام الآلهة والجبابرة والأبطال، وإحراق الموتى، وكل الطقوس المتعلقة بهم التي علينا إدراكها لموافقة سكان العالم الآخر، ولا نقدر بذواتنا أن نفهمها في حال تأسيس دولة، ولا نقبل شرحًا، إذا عقلنا، إلَّا شرح إله البلاد؛ لأن هذا الإله هو المفسر الأوحد لجميع الناس في مواضيع كهذه، جالسًا في نقطة الكون المركزية.
أد : أصبت كل الإصابة، وذلك ما يجب أن نفعله.
س : قد تمَّ إنشاء مدينتنا يا ابن أريسطون، والشيء الثاني الذي عليك أن تعمله هو أن تفحصها، وتستمد النور اللازم من أية ناحية ممكنة، فاستدعِ لمساعدتك أخاك وبوليمارخس ورفقاءهما، وسلهم مساعدتنا لنعرف «مقر العدالة والتعدي فيها»، وبماذا يتباينان؟ وأيهما يؤثر من يروم أن يكون سعيدًا، عرفه جميع الآلهة والناس أو لم يعرفوه.

(فصاح غلوكون: ذلك غير كافٍ، فإنك وعدت أن تبحث فيه على أساس أنك تكون مجرمًا إذا تنكَّبتَ عن نُصرة العدالة بما لك من حولٍ.)

صدقت في ما ذكَّرتني به، ويجب أن أعمل بموجبه، ولكن يجب أن تساعدوني.
غلوكون : سنساعدك.
س : وأرجو أن نكتشف موضوع بحثنا هذا، فإني أرى أن دولتنا، وقد أُحسِن تنظيمها، تكون دولة صالحة.
غ : بالضرورة.
س : فواضح أنها تكون حكيمة، عفيفة، شجاعة، عادلة.
غ : واضح.
س : فإذا وجدنا بعض هذه الصفات في الدولة، ظلَّت الصفات التي لم تُكشف مجهولة.
غ : دون شك.
س : فافرض وجود أربعة أشياء من أي نوعٍ كان، في أي موضوعٍ كان، وافرض أننا كُنا نبحث عن أحدها، فإذا عثرنا عليه قبل الثلاثة الباقية اكتفينا. ولكنَّا إذا لم نجده واكتشفنا الثلاثة الأخرى عرفنا الرابع الذي ننشده؛ إذ لم يبقَ سواه، استدلالًا بالمعلوم على المجهول.
غ : مُصيب.
س : أفلا نختار هذا النوع من التفتيش في البحث عن الغرض الذي بين أيدينا؟ فإن الصفات المذكورة هي أربع أيضًا.
غ : وجوب ذلك واضح.
س : فلنبدأ إذًا. أولًا أرى أن الحكمة ظاهرة في موضوعنا، ولكن يُلابسها شيءٌ من التناقُض.
غ : وما ذلك؟
س : إذا لم أكن مخطئًا، فالمدينة التي أتينا على وصفها حكيمة ما دامت مشورتها حكيمة. أليس هكذا؟
غ : بلى.
س : ومن الراهن أن الحكمة في المشورة هي نوع من المعرفة؛ لأن المعرفة لا الجهل تجعل الناس يفكرون بحكمة.
غ : واضح.
س : على أن في الدولة أنواعًا عديدة من المعرفة.
غ : فيها، دون شك.
س : فهل تكون الدولة حكيمة المشورة باعتبار معرفة النجارين؟
غ : كلَّا، فإنها باعتبار هذا النوع من المعرفة إنما تكون راقية في النجارة.
س : فليست إذًا معرفة الأواني الخشبية في أحسن شكل، هي التي تُزكي تسميتنا المدينة حكيمة.
غ : مؤكد لا.
س : أفبالمعرفة المتعلقة بالأواني النحاسية وما هو من هذا النوع، تُدعى المدينة حكيمة؟
غ : لا، ليست في شيءٍ من هذا النوع.
س : ولا تُحسب الدولة حكيمة بمعرفتها طريقة استغلال الأرض، بل تُحسب بهذا الاعتبار دولة ناجحة في الزراعة.
غ : هكذا أرى.
س : فقل لي إذًا، هل في دولتنا المستحدثة نوع من المعرفة يستقر في قسم من أهاليها، يتناول البحث ليس في قسم خاص فيها، بل في شئونها إجمالًا، ليسير بعلاقاتها الداخلية والخارجية في أفضل اتجاه؟
غ : أؤكد ذلك.
س : فما هو ذلك النوع من المعرفة؟ وعند من يوجد؟
غ : هو علم الوقاية، ومعرفته تستقر في طبقة الحكام الذين أسميناهم الساعة: «كاملين».
س : وبماذا تصف المدينة باعتبار هذه المعرفة؟
غ : أصفها بأنها حسنة الإدارة و«حكيمة».
س : ومن هم أوفر عددًا في المدينة؟ النحَّاسون أم الحُكَّام الحقيقيُّون؟
غ : النحَّاسون أوفر عددًا من الحكام.
س : فهل الحكام أقل عددًا من الفئات العديدة التي في كلٍّ منها معرفة خاصة بفنها، ولها لقبها الخاص؟
غ : أقل كثيرًا.
س : فالمعرفة مستقرة في أصغر طبقة أو أصغر قسم، أعني في الطبقة الحاكمة التي حادت على الدولة، المنظمة تنظيمًا يتفق مع الطبيعة باسم «حكيمة» بمجموعها، تلك الطبقة التي من حقها وواجبها الاشتراك في المعرفة التي بها وحدها بين كل أنواع المعرفة، تُدعى المدينة «حكيمة»، هي على ما يظهر القسم الأقل عددًا في الدولة.
غ : هو ما تقول.
س : فقد عرفنا بطريقةٍ من الطرق واحدة من الصفات الأربع، وعرفنا في أية طبقة من الدولة تستقر.
غ : معرفة تامة حسب حكمي العقلي.
س : فيمكنا أن نؤكد أنه لا تعسُر علينا معرفة «الشجاعة» والفئة التي فيها تستقر، وبسبب شجاعتها تُدعى المدينة شجاعة.
غ : وكيف ذلك؟
س : من ينظر في تسمية الدولة شجاعة أو جبانة إلى غير الفئة المحاربة، القائمة على الدفاع وخوض المعمعان في مصلحتها؟
غ : لا أحد ينظر إلى قوة أخرى.
س : كلَّا؛ ولذلك لا أرى شجاعة الدولة أو جبانتها تستقر في الفئات الأخرى.
غ : لا تستقر.
س : فالدولة تكون شجاعة كما تكون حكيمة بالنظر إلى قسم خاص من سُكانها؛ لأن لها في ذلك القسم قوة تُمكنها من حفظها سالمة انقطاع بالرأي السديد، في ما يخيف من الأشياء التي تنبئ أنها هي ما قصده الشارع في التهذيب المقرر. أليس ذلك ما تدعوه شجاعة؟
غ : لم أفهم كنه ما قلته، فتفضَّل بإعادته.
س : أقول إن الشجاعة نوع من التأمين على النفس.
غ : وأي نوع من التأمين تعني؟
س : تأمين الآراء التي كوَّنتها الشريعة في سياق التهذيب، في ما يخشى من الأشياء باعتبار ماهيتها ونوعها. وحينما قلت «حفظها سالمة بلا انقطاع»، عنيت حفظها سالمة «في اللذة والألم»، في الرغبة والنفرة على السواء، فلا تسقط أبدًا، وإذا كنت تريد فإني أصوِّره لك بمثلٍ أراه ملائمًا.
غ : إني أريد.
س : حسنًا، ألا تعلم أن الصبَّاغين حين يُباشرون صبغ الصوف باللون الأرجواني الثابت مثلًا، يختارون من شتَّى الألوان الصوف الأبيض أولًا؟ ثم يعدُّونه بعمليَّات عديدة ليُمكنه قَبول اللون المطلوب على الوجه الأتم، وبعد إعداده كذلك يصبغونه. فإذا صُبغ الصوف على هذه الصورة كان لونه ثابتًا لا يزول ولو غُسل بالصابون أو بغيره، ولا يزول بهاؤه، وإذا لم يُعد على ما تقدم فأنت أدرى بما يكون من أمره، سواء صُبغ بالأرجواني أو بغيره.
غ : أعلم أن لونه يزول بالغسيل على صورةٍ مضحكة.
س : فاعلم أننا نحن أيضًا بما فينا من مزية قد نحونا هذا النوع لمَّا انتقينا جنودنا وعنينا بتهذيبهم بالموسيقى والجمناستك، فكانت عنايتنا تتجه بنوعٍ خاص إلى إطاعتهم الأوامر، وتشرُّبهم الشرائع على أفضل وجه تشرُّب الصوف الصباغ؛ ليكون رأيهم سديدًا في ما يُخشى وما لا يُخشى، بعامل فطرتهم وتهذيبهم القانوني، فلا تقوى شِداد العوامل على إحالة صبغتهم الفكرية، ومن تلك العوامل «اللذات»، وهي أفعل في حل الصبغة الروحية من القلي والبوتاس في حل الأصباغ والألوان، ومنها «الخوف»، و«الرغبة»، وهي أفعل المحللات في الدنيا، بل يتغلَّبون عليها كلها، فالقوة التي تتشبَّث تشبُّثًا راسخًا بالرأي السديد في ما يُخشى وما لا يُخشى، هي ما أدعوه شجاعة، إلَّا إذا كان عندك رأي آخر.
غ : ليس عندي اسم آخر لها. ويلوح لي أن قوة كهذه إذا نشأت في النفس بدون تهذيب كما في الهمج والعبيد حُسبت غير شرعية، وإنك تدعوها باسمٍ آخر.
س : بكل تأكيد.
غ : فأُسلم بهذا البيان في أمر الشجاعة.
س : فسلِّم أيضًا بشجاعة رجال الدولة تكُن مُصيبًا، وسنبحث فيها فيما بعد أوفى بحث إذا شئت؛ لأنها غير مقصودة بالذات في بحثنا الحاضر، وإنما غرضنا الخاص هو «العدالة»، وأظن أن ما أوردناه في الشجاعة كافٍ.
غ : مُصيبٌ.
س : بقي أمران في الدولة يلزم اكتشافهما، وهما: العفاف والعدالة، والأخيرة هي سبب كل هذه الأبحاث.
غ : تمامًا هكذا.
س : فإذا رُمنا إراحة أنفسنا من البحث في العفاف، فهل لنا من وسيلة لاكتشاف العدالة؟
غ : لا أدري. ولا أريد الابتداء بالعدالة قبل استيفاء البحث في العفاف، فإذا كنت تسرُّني فابدأ به.
س : أريد ذلك على قدر ما أنا أمين.
غ : فابدأ بحثك.
س : سأبدأ. لقد لاح لنا من موقف بحثنا الحالي أن العفاف أكثر شبهًا بالوئام من أختيه السابقتين.
غ : وكيف ذلك؟
س : العفاف على ما أظن: نوع من الاتساق وامتلاك أعِنَّة الرغائب واللذَّات، وعليه: نسمع الناس يقولون: أن فلانًا سيد نفسه باعتبارٍ ما، وما ماثل ذلك من الاصطلاحات الشائعة المُعرِبَة عن المعنى المراد.
غ : وهي كذلك بكل تأكيد.
س : ولكن أليس الاصطلاح «سيد نفسه» أمرًا سخيفًا؟ لأن كونه «سيد نفسه» يستلزم أنه «عبد نفسه» أيضًا، فيكون سيدًا ومَسُودًا في وقتٍ واحد.
غ : دون شك.
س : والظاهر أن مفاد هذا الاصطلاح أن في الإنسان — أي في نفسه — مبدأ صالحًا ومبدأ شريرًا؛ فحين يسود مبدؤه الصالح المبدأ الشرير نعبر عن ذلك بقولنا إنه سيد نفسه، وهو مدح، أما إذا تغلب فيه المبدأ الشرير، إما لسوء تربيته، أو لتأثير المعشر الردي من صحبه الكثيرين، نُعِتَ في هذه الحال بأنه «عبد نفسه» و«زنيم» تهكُّمًا.
غ : يظهر أنه بيان كافٍ عنه.
س : فنظرة ثمة إلى دولتنا الجديدة، تجد فيها أحد هذين الحالين، فإنك تُسلِّم بدعوتها «سيدة نفسها» إذا سادها العفاف وضبط النفس سيادة العنصر الصالح العنصر الردي (في الإنسان).
غ : قد نظرت حسب إشارتك، وأرى قولك حقًّا.
س : فبالأحرى تُسلِّم أن هذه الرغائب واللذات والآلام الكثيرة المنوَّعة توجد على الخصوص في الأحداث، والنساء، والخدم، وفي جمهور العامة، وأيضًا بين الأحرار اسمًا.
غ : هكذا.
س : أما الرغائب المعتدلة البسيطة المقارنة العقل، والرأي السديد المسترشد بالتفكُّر، فإنما توجد في فئةٍ قليلة من الناس، هي مُتَّصفة بأفضل المزايا الطبيعية وأسمى آثار التهذيب.
غ : حقيق.
س : أوَلا ترى ما يوازي ذلك في دولتك؟ وبعبارةٍ أخرى أن رغائب الأكثرية من عامة الناس وأهل الطبقات الدنيا هي محكومة برغائب فئة المهذبين القليلة العدد وفطنها؟
غ : بلى، إني أرى ذلك.
س : فإذا كان هنالك دولة بحقٍّ تُدعى سيدة نفسها وضابطة رغائبها ولذَّاتها، فدولتنا الحائزة على هذه الصفات هي تلك الدولة.
غ : بالتأكيد.
س : أفلا ندعوها عفيفة بناءً على كل هذه البيانات؟
غ : تأكيدًا ندعوها.
س : وإذا ساد دولة الاتحاد بين الحاكم والمحكوم في من يجب أن يتولَّى الأحكام، ففي دولتنا ذلك الاتحاد. ألا تظن هكذا؟
غ : بكل تأكيد.
س : ففي أي القسمين نقول إن العفاف يستقر إذا سلك أهلوها هذا المسلك؟ أفي الحكام أم في الرعية؟
غ : في الفريقين.
س : وهل ترى أننا لم نُسئ التكهُّن لمَّا زعمنا أن العفاف نوع من الاتزان؟
غ : ولماذا؟
س : ليس العفاف كأختيه: الشجاعة والحكمة، ينحصر في فئة خاصة من الناس، وبها تكون الدولة حكيمة أو شجاعة، بل هو صفة تعم جميع الفئات على السواء، فينشئ ترابطًا بين الأقوى والأضعف ومن بينهما، سواءٌ قِسْتَ هذه الطبقات بقياس القوة البدنية، أو بالفهم، أو بالعدد، أو بالثروة، أو بما تشاء من الأقيِسَة، فيحق القول: إن الجامعة العامة هي العفاف: وهو رباط يضمُّ أفضل عناصر الدولة طبعًا إلى أسوئها فطرةً، سواء في ذلك الفرد والمجموع، في ما يتعلق بمن يحق له الحكم.
غ : أوافقك كل الموافقة.
س : حسنًا، فقد اكتشفنا في مدينتنا ثلاثة مبادئ من أربعة على أقل تقدير. هذا هو اقتناعنا الحالي، فما هو المبدأ الرابع الباقي الذي به تشترك الدولة بالفضيلة؟ إننا نؤكد أنه: «العدالة.»
غ : واضح أنه العدالة.
س : فيجب أن نكون الآن يا غلوكون كالصيادين الذين يُحيطون بالغابة كي لا تُفلت طريدتهم، فلننتبه لئلَّا تفلت العدالة من بين أيدينا؛ لأنه ثابت أنها موجودة، فنظرة في المحيط علَّك تلمحها قبلي فتخبرني.
غ : أتمنى لو أن ذلك يتسنَّى لي، وإنك لتُحسن إليَّ كثيرًا إذا عاملتني عوض ذلك معاملة من يقتفي خطواتك ليتمكن من رؤية ما يُشار إليه.
س : فهلُمَّ ورائي بعد أن تُشاركني في الصلاة.
غ : سأتبعك فابدأ.
س : حقًّا إن الطريق أمامي عسرة المسالك كثيرة الشعاب، وسبيل الاكتشاف أبدًا وعر مُظلم، ولكن يجب أن نتقدم.
غ : نعم، يجب أن نتقدم.
س : هنا أرى قبسًا. هه، هه، أمامنا آثار يا غلوكون، فلا أظن أن الطريدة تفلت من أيدينا.
غ : يا للبُشرى.
س : حقًّا إننا كنا في وهدة الحماقة.
غ : وكيف ذلك؟
س : يظهر يا سيدي العزيز أن ما ننشده مضى عليه زمان طويل وهو أمامنا ولم ننتبه له، بل أتينا عملًا سخيفًا كالذين يفتشون عمَّا هو بين أيديهم، هكذا نحن، عوض التحديق في ما هو أمامنا أرسلنا النظر بعيدًا ففاتنا إدراكه.
غ : وماذا تعني؟
س : ذلك ما أعني، كنا نتحدث في العدالة، وفاتنا أننا قد أبنَّاها.
غ : ويا طولها مقدمة على المشتاق إلى الإيضاح!
س : فاسمع وقُل أمصيبٌ أنا أم لا؟ إن القانون الذي وضعناه في بدء تأسيسنا الدولة هو العدالة، فقد قرَّرنا وأعدنا القول مِرارًا إذا كنت تذكر أنه: على كل من أبناء الدولة أن يلوذ بشيءٍ واحد تمثيل إليه فطرته.
غ : قُلنا ذلك.
س : فيظهر يا صديقي أن: العدالة هي اقتصار الإنسان على ما يخصه. أتعلم من أين اقتبستُ ذلك؟
غ : لا، فقُل من أين؟
س : ظننت أن الباقي في الدولة بعد طرح الصفات التي نظرنا فيها — أي العفاف والشجاعة والحكمة — هو الذي يجعل الدخول إليها ممكنًا، ويحفظ من دخلها ضمن حدودها، وقد قُلنا الساعة إن الفضيلة الباقية من طرح ثلاثٍ من الأربع هي العدالة.
غ : نعم، إنها كذلك دون شك.
س : وإذا رُمنا الحكم في أي هذه الفضائل الأربع إذا جدت في المدينة كان لها أعظم أثر في إكمال فضيلة سكانها، عَسُرَ علينا القطع، أهي الوئام بين الحكام والرعية؟ أم هي ثاقب الرأي في الجيش في ما يخشى وما لا يخشى؟ أم في حكمة الحُكَّام وسهرهم؟ أم في ظهور آثار هذه الرابعة (العدالة) في كل ولد وكل سيد، وكل عبد وكل حر، وكل صانع وكل حاكم، في الدولة كافةً؟ موجبة عليهم أن يلزم كلٌّ منهم عمله ويحذر الفضول.
غ : لا شك في أنه يصعب القطع في الأمر.
س : فالظاهر أنه في ترقية فضيلة الدولة، تستطيع القوة التي تحمل كُلًّا على القيام بعمله الخاص، أن تباري حكمتها وشجاعتها وعفافها.
غ : حقًّا إنها تُباري.
س : وإذا كان هنالك مبدأ يباري هذه الصفات في ترقية فضيلة الدولة، أفلا تجزم أنه «العدالة»؟
غ : بكل تأكيد.
س : فانظر إلى المسألة نظرًا آخر، وقل هي تنتهي إلى النتيجة نفسها. هل تخص حكام الدولة بالقضاء في الدعاوى؟
غ : بالتأكيد.
س : أفلا يكون رائدهم في قضائهم فوق كل شيء، أن لا يمس أحد مال غيره، ولا يمس أحد إلَّا ماله؟
غ : بلى، هذا هو همهم الخاص.
س : ألأنَّ ذلك عدل؟
غ : نعم.
س : فنُسَلِّم جريًا على هذا الرأي «أن عمل ما يخصنا وتمتُّعنا به هو العدالة».
غ : حقيق.
س : فتفكر في نفسك، أمن مذهبي التالي أنت؟ إذا أخذ النجار على عاتقه أن يعمل عمل الإسكاف، أو الإسكاف عمل النجار، إما بتبادلهما الأدوات والميزات، أو بقيام أحدهما بعمل الاثنين معًا، مع ما بين المهنتين من التبايُن، فهل يحلُّ بالدولة كبير ضرر من جراء ذلك؟
غ : ليس كبيرًا.
س : على أني أرى أنه إذا ترفَّع قلب أحد الصناع أو المنتجين من أي نوع كان، إما بعامل الغنى، أو بعامل القرابة، أو اعتدادًا بالقوة البدنية، أو بأي عاملٍ كان، فتطاول إلى مصاف المجاهدين، أو إذا تطفَّل أحد المحاربين على مجلس الأعيان عن غير جدارة، أو إذا تبادل هؤلاء الأدوات والميزات، أو إذا زعم أحدهم أنه يقوم بكل هذه الأعمال معًا، فأرى أنك تُسلِّم معي أن ذلك الفضول وتلك الفوضى يؤديان حتمًا إلى دمار الدولة.
غ : بكل تأكيد.
س : فأيُّ تدخُّل من هذه الأنواع الثلاثة أو تبدُّلها إحداها بالأخرى يسبب دمارًا عظيمًا في الدولة، وبكل عدالة وبأصدق تعبير يُدعى عملًا شريرًا.
غ : هكذا تمامًا.
س : أوَلا تُسلم أن إساءة الإنسان إلى الدولة شر إساءة هو تعدٍّ؟
غ : دون شك إنه تعدٍّ.
س : فهذا إذًا تعدٍّ. وإذا تقيَّد كلٌّ منهم بعمله الخاص المنوط به، مُعرِضًا عمَّا لا يعنيه في دوائر الصناعة والحرب والحكم فذلك التصرُّف عدالة، وبه تكون المدينة عادلة.
غ : أُسلِّم كل التسليم.
س : فلا نجزمَنَّ في الأمر كثيرًا، ولكن إذا وجدنا في تطبيق هذا الحكم على الفرد أن ذلك منه ظاهرة عدالة أعلنَّا مصادقتنا، وماذا نروم أكثر؟ وإلَّا حاولنا الدخول في بحثٍ جديد، أما الآن فلنُتمم بحثنا الذي بدأناه، موقنين أننا إذا تصورنا العدالة في الوسط الكبير أولًا هان علينا إدراكها في الوسط الصغير في الفرد الواحد من الناس، وقد رأينا الدولة أفضل وسط نختاره لهذا الغرض؛ لذلك أنشأنا المثل الأعلى من الدول، عالمين أن العدالة تستقر في أفضلها. فلننتقل إذًا من المثال الذي وضح لنا في الدولة إلى تطبيقه على الفرد، فإذا طابقت النتيجة فيه النتيجة في الدولة فبها ونعمت، وإذا اختلفت فيه عنها فيها في أمرٍ من الأمور عُدنا إلى الدولة لاستئناف الامتحان. وبوضع الدولة والفرد جنبًا إلى جنب والجمع بينهما تسطع منهما شرارة العدالة سطوع النور لدى فرك قطعتين من الخشب الجاف إحداهما بالأخرى، ومتى سطعت أنوار العدالة أمام عقولنا حكمنا في حقيقتها.
غ : في اقتراحك أسلوب حسن فلنتبعه.
س : فأتقدم إلى السؤال: إذا دعونا شيئين مختلفين مقدارًا باسمٍ واحد باعتبار الصفة المشتركة بينهما، أفمثلان هما أم غيران؟
غ : مثلان.
س : فلا يختلف الفرد العادل عن الدولة العادلة، بل الاثنان سِيَّان باعتبار اشتمالها على حقيقة العدالة.
غ : سِيَّان.
س : فنحكم إذًا يا صاح في أمر الإنسان الفرد إذا هو امتلك في نفسه أنواع الأقسام المذكورة، أن من الصواب تلقيبه بالألقاب التي أطلقناها على الدولة باعتبار وحدة رغبات هذه الأقسام في الدولة وفي الفرد.
غ : لا مندوحة عن ذلك.
س : فقد عرضت لنا أيها الصديق الفاضل مسألةً ثانية سهلة بخصوص طبيعة النفس البشرية، وهي «الأقسام الثلاثة فيها أم لا؟».
غ : إنها مسألة لا يُستهان بها. ولقد حقَّ القول يا سقراط «إن الجميل عسر المنال».
س : هكذا يظهر، وأقول لك صراحةً يا غلوكون أننا حسب رأيي، لن نبلغ حقيقة هذا الموضوع بالأساليب التي نجري عليها في بحثنا الحالي، ولا يزال السبيل المؤدي إليها طويلًا وعرًا. وأجرؤ على القول إننا قد نُدرك الحقيقة بواسطة أساليبنا الحالية في صورة ليست دون أبحاثنا وحُججنا السالفة.
غ : أفلا نكتفي بذلك؟ أما أنا فأكتفي الآن.
س : وأنا أيضًا أكتفي.
غ : فلا يفتُّ في عضدك إذًا، بل اشرع في البحث.
س : فقُل: أيمكننا أن ننكر أن في كلٍّ منا نفس المبادئ الأصلية والأوصاف التي في الدولة؟ فلست أرى أنها تسرَّبَتْ إلى الدولة من غير هذا الأصل. ومن المُستهجَن التصوُّر أن المبدأ الحماسي اتَّصل بالدولة إلَّا عن طريق الأفراد المتصفين بالحماسة، كما هو الحال في الثراكيين والسكيثيِّين وسكان الأقاليم الشمالية كافَّةً، وكذلك حب المعرفة الذي بحقٍّ يُنسب إلى أمتنا، وحب الثراء المنسوب إلى الفينيقيِّين والمصريِّين.
غ : حقيق.
س : ذلك حقٌّ واضح لا يعسُر علينا فهمه.
غ : كلَّا لا يعسُر.
س : هنا تبرز صعوبة، وهي: هل نُتِمُّ كل أعمالنا بقوَّةٍ واحدة سائدة فينا؟ أو أن هنالك ثلاث قوًى تعمل كلٌّ منها على حدة في أعمالنا المختلفة؟ فنتعلم بإحداها، ونغضب بأخرى، وبثالثة تتوق نفوسنا إلى لذائذ الطعام والشراب والتوليد؟ أو أننا نعمل كُلًّا من هذه الأفعال بمجموع قوى النفس كتلةً واحدة؟ إنه يعسُر علينا القطع في هذه المسألة قطعًا مُرضِيًا.
غ : هكذا أظن.
س : فلنُجرب الخطة الآتية لنرى أمتمايزة القوى العاملة فينا أم واحدة؟
غ : وما هي خطتك؟
س : من البَيِّن أن شيئًا واحدًا لا يمكنه أن يعمل عملين متضادَّين، أو يكون في حالين مُتبايِنَين في وقتٍ واحد وفي موضوعٍ واحد، فحيثما اتَّفق لنا أن نكون في موقفٍ كهذا حكمنا أن الموضوعات ليست واحدة بل متعددة.
غ : حسنًا جدًّا.
س : فتأمل في ما سأقوله.
غ : تفضَّل.
س : أيمكن أن يكون القسم الواحد في الشيء الواحد ساكنًا ومتحركًا معًا في وقتٍ واحد؟
غ : كلَّا لا يمكن.
س : فلنتفاهم أكثر لئلَّا نختلف متى تقدَّمنا، فإذا قيل إن الإنسان الذي يقف ويُحرِّك يديه ورأسه هو ساكن ومتحرك في وقتٍ واحد، فلا نُسلِّم بصحَّة هذا القول؛ لأن قسمًا من ذلك الإنسان ساكن، وقسمًا آخر متحرك. أليس هذا هو الواقع؟
غ : بلى.
س : وإذا قال الخصم موغلًا في المداعبة في قالبٍ لطيف: إن الدوامات «النحلات» تكون ساكنة ومتحركة معًا حين يدور أعلاها ورأسها مستقرٌّ في موضعٍ خاص لا يبرحه، أو إن أي شيء آخر يدور في نفس المكان فهو ساكن ومتحرك معًا، فلا نقبل هذه الأقاويل؛ لأن تلك الأشياء ليست ساكنة ومتحركة في وقتٍ واحد باعتبارٍ واحد. وردُّنا على الخصم هو: أن لها محورًا أو محيطًا، فهي ساكنة باعتبار المحور، دائرة باعتبار المحيط، إذا كانت لا تميل من ناحية إلى أخرى، وإذا مال محورها عن العمودي في أثناء دورانها إلى الأمام أو إلى الوراء أو اليمين أو اليسار، فحينذاك يتعذَّر القول إنها ساكنة.
غ : حقيق.
س : فلا تُخيفنا مقاومة من هذا النوع، ولا تقنعنا بأن شيئًا واحدًا في وقتٍ واحد وفي قسمٍ واحد وبالنسبة إلى موضوعٍ واحد، ينفعل انفعالين متضادين، ويُنتج مفعولين متباينَين.
غ : يمكنني الجواب عن نفسي.
س : فلا نُضيِّعنَّ الوقت في رد اعتراضاتٍ كهذه وفي إقناع أنفسنا بأنها باطلة. فدعنا نفرض أن الحقيقة هي كما قُلنا، ولنتقدم إلى الأمام ونحن على بينةٍ من أمرنا، أننا قبلنا رأيًا مُخالفًا لِما قُلناه، كان كل ما نبنيه عليه من النتائج عُرضةً للسقوط لا محالة.
غ : هذه هي الخطة المثلى.
س : حسنًا، فهل تُدرج في سلك المتضادَّات الاتفاق والتبايُن، قبول موضوعٍ ورفضه، الجذب والدفع، وأمثال ذلك من المتضادَّات؟ وسواءٌ كانت فاعلة أو منفعلة فلا يُغيِّر ذلك حُكمنا؟
غ : نعم إني أُدرج.
س : أفلا تُدرج مطردًا الجوع والعطش والرغبات عامةً، والإرادة الميل لأمرٍ ما، تحت أحد الصفين المذكورَين؟ مثلًا: ألا نقول إن عقل الإنسان يشتهي مدفوعًا بالرغبة في الحصول على مطلوبه، أو يجتذب إلى صدره ما يهواه؟ أو إنه على قدر ما يرغب في امتلاك مطلب ما يستحسن في قلبه الحصول عليه، كأنه يطلبه بلسانه مشتاقًا إلى سدِّ شهوته؟
غ : إني أُدرج.
س : أوَلا تصف الكراهية والنفار والمقت وأمثالها في صف الرفض العقلي والصد، وبالإجمال نقيض اللائحة الآنفة الوصف؟
غ : دون شك.
س : أفتقول والحالة هذه أن الرغبات تؤلف صفًّا واحدًا، وأشهر ما فيها الجوع والعطش؟
غ : نقول.
س : الأول رغبةً في الطعام، والآخر في الشراب؟
غ : نعم.
س : فهل العطش كعطش رغبةً في أكثر من الشراب؟ أي هل هو عطش إلى الشراب الحار أو إلى الشراب البارد مثلًا؟ أو إلى الكثير من الشراب أو إلى القليل منه؟ أوَليس بالأحرى حقًّا أنه إذا صحب العطش حرٌّ كانت الرغبة في الشراب البارد، وإذا صحبه برد كانت الرغبة في الشراب الحار، وإذا اشتدَّ العطش كانت الرغبة في الكثير من الشراب، وإلَّا ففي القليل؟ ولكن العطش بحدِّ ذاته لا يُنشئ شوقًا إلى أكثر من الشراب البسيط الذي تتطلَّبه الطبيعة. وعلى هذا يُقاس الجوع أيضًا.
غ : أنت مُصيبٌ. فكل رغبة في حد ذاتها تتجه إلى غرضها الخاص الذي تطلبه بصورة بسيطة، أما الرغبة في نوع المطلوب أو مقداره فهي إضافية.
س : فلا ندعنَّ أحدًا يُشَوِّش أفكارنا بالمُعارضة لنقص اختبارنا، قائلًا أن لا أحد يرغب في مجرد الشراب، بل في الشراب الجيد، أو في مجرد الطعام، بل في الطعام الجيد؛ لأن الناس عمومًا يرغبون في الجيد من كل شيء. فإذا كان العطش رغبةً فهو رغبة في الجيد من الشراب، والحكم واحد في الشرب وفي غيره سواء بسواء، وينطبق هذا الحكم على كل الرغائب.
غ : حقيقة، قد يكون هنالك سر في المضادة.
س : وعلى كلٍّ فأذكر أنه في كل الحدود النسبية، إذا كان الحد الأول مُقيَّدًا كان الثاني مُقيَّدًا، وإذا كان الأول مُطلقًا كان الثاني مُطلقًا.
غ : لم أفهمك.
س : ألا تفهم أن «الأعظم» حد إضافي ينطوي على حدٍّ آخر؟
غ : حقيقة.
س : فينطوي على «الأدنى» و«الأقل». ألا ينطوي؟
غ : بلى.
س : والأوفر عظمة ينطوي على الأكثر قلة أو صغارة؟
غ : نعم.
س : وهل يُشير الزائد ماضيًا إلى الناقص ماضيًا من باب الطباق، والزايد مستقبلًا إلى الناقص مستقبلًا؟
غ : من كل بُد.
س : أوَلا يتمشَّى هذا القياس على الحدود المطابقة «كالأكثر والأقل»، و«المضاعف والمناصف»، وكل الكميَّات النسبيَّة؟ وأيضًا «الأثقل والأخف»، و«الأسرع والأبطأ»، و«البارد والحار»، وكل النعوت المماثلة؟
غ : يتمشَّى بالتأكيد.
س : وكيف الحال في الفروع العملية المنوعة؟ ألا يصح فيها هذا الحكم؟ أي إن المعرفة المجردة تنحصر في «المعروف» فقط، وكل ما يمكن أن يكون موضوع المعرفة المطلقة، أما العلم الخاص بنوعٍ خاص فله موضوع خاص؟ ولإيضاح ما أعنيه أقول: حين بدأ فن البناء، ألم يتميَّز عن غيره من العلوم فدُعي علم الأبنية؟
غ : دون شك.
س : أوَليس ذلك لأنه ذو صفة خاصة لا يُشاركه فيها علم آخر؟
غ : بلى.
س : أوَ لم تتفرع صفته الخاصة من صفة موضوعه الخاص؟ أوَلا يمكنا إطلاق هذا الحكم على جميع العلوم والفنون؟
غ : يمكنا.
س : فهذا ما عليك أن تفهم أني أعنيه بكلامي السابق، وعليه: فأنت تفهم حكم الحدود الإضافية، فإذا كان أول المتضايفين مطلقًا كان ثانيهما مطلقًا، وإذا كان ثانيهما مقيدًا فأوَّلهما مقيد. ولا أعني بذلك أن صفات الاثنين واحدة، كأني أقول مثلًا إن «علم الصحة صحيح»، «وعلم المرض مريض»، أو إن «علم الشر شرير»، و«علم الصلاح صالح»، لا بل إنه حالما ينسلخ العلم عن الإطلاق ويُضاف بنوعٍ خاص، كالمثل الوارد أعلاه في أحوال الصحة والمرض، تحوَّل العلم إذ ذاك إلى التقيُّد بنعتٍ من النعوت، فلا يُدعى فيما بعد «علمًا» بإطلاق اللفظ، بل يتقيَّد بإضافته إلى موضوعه الخاص، كقولنا مثلًا: علم الطب.
غ : فهمت، وأرى قولك حقًّا.
س : فلنعُد إلى أمر العطش، أفلا تحسبه أحد الأشياء التي تستلزم طبيعتها موضوعًا نسبيًّا مُلائمًا، بناءً على تسليمنا أن هنالك ما يُسمَّى عطشًا؟
غ : أُسَلِّم، وموضوعه الشرب.
س : فللشرب الخاص عطش خاص، ولكن العطش المطلق لا يتقيَّد بكثرة الشرب أو بقلَّته ولا بجودته أو عدمها، وبالاختصار: لا يتناول نوعًا خاصًّا من الشرب، بل هو عطش مُطلق إلى الشرب. أليس كذلك؟
غ : بأتمِّ ضبط.
س : فلا تتناول نفس العطشان رغبة في غير الشراب المطلق، فالشراب ترغب وإياه تطلب.
غ : هذا هو الحال بوضوح.
س : فإذا جذب النفس العطشى جاذبٌ عن الشرب، فذلك الجاذب جزء آخر في النفس متميز عن الجزء الذي عطش وصبا إلى الشرب صبو الأيل إلى الماء. أو لم نقل إن الشيء الواحد يستحيل أن يعمل عملين متضادَين في وقتٍ واحد في وسط واحد باعتبارٍ واحد.
غ : مؤكد أنه يستحيل.
س : وعلى القياس نفسه رامي النبال، لا يجوز أن نقول إن يده تجذب وتدفع معًا، بل إنه يجذب بيد ويُطلق السهم بالأخرى.
غ : حقيقةً إنه يفعل هكذا.
س : أفيمكننا أن نقول إن الناس يأبون الشرب أحيانًا وهم عطاش؟
غ : نعم، كثيرًا ما يحدث ذلك للكثيرين من الناس.
س : فماذا يقول المرء في أشخاص كهؤلاء إلا أن في نفوسهم مبدأ يوجب الشرب، ومبدأ آخر يحظره، وأن الثاني متميز عن الأول وأقوى منه؟
غ : هذا هو رأيي.
س : أَوَلَا ينشأ الوازع الذي يحول دون تهتُّك كهذا في النفس عن القوة الذهنية، بينما القوة التي تقود العقل وتجذبه إلى التهتُّك تنشأ عن مرض في النفس؟
غ : هكذا يظهر.
س : فلنا أساس معقول للادِّعاء أن هاتين القوتين متميزتين في نفس الإنسان، فندعو قسم النفس الذي به تعقل «القوة الذهنية»، والقسم الذي به تجوع وتعطش وتختبر تقلُّب الرغبات الأخرى، نلقبه بلقب غير العقلي أو: «القوة الشهوية»، وهي حليفة اللذة والانقياد.
غ : نعم، التفكير على هذا النمط ليس بدون أساس معقول.
س : فلنحسبها مسألة مبتوتة أن في النفس هذين المبدأين المتمايزين، فهل المبدأ أو القسم الذي به نغتاظ ثالثٌ متميز عنهما؟ وإلَّا فإلى أي القوتين هو أميَل بطبيعته؟
غ : قد يمتُّ بنسبٍ إلى القوة الشهوية.
س : ولكنني سمعت عن ليونتيوس بن أغلايون قصة أصدقها، وهي أنه لمَّا خرج من بيرايوس، وشعر بوجود أشلاء قتلى في مجرى ماء تحت سورها الشمالي والقاتل إلى جانبها، كان في نفسه رغبتان، تهيب به الواحدة إلى رؤية الأشلاء، والأخرى إلى الاشمئزاز منها والإعراض عنها، فكان في داخله حرب شعواء بين هاتين الرغبتين، فأغمض عينيه أولًا ومرَّ بالجثث فلم يرها، على أنه لمَّا تغلبت فيه الشهوة فمال لرؤية الجثث فتح عينيه بأصابعه قائلًا بغضب: «هلُمِّي أيتها العيون التاعسة وتمتَّعي بهذا المنظر الشهي!»
غ : وأنا أيضًا سمعتها.
س : فهذه القصة تُرينا أن الغضب يُضاد الشهوة، والنتيجة أنهما مبدآن متباينان.
غ : حقًّا إنه يُضاد الشهوة.
س : أوَلسنا نرى أن الإنسان وقد حملته الشهوة على مضادة أحكام الذهن يؤنب نفسه ويغضب على القوة المتحكمة في داخله؟ وحين تتصادم القوتان يكون الغضب إلى جانب القوة الذهنية؟ ويخوض معارك حامية ضد الشهوات حين يقرر الذهن أنه لا يجوز أن يتفقا عليه؟ فستقول لي إنك لم تشعر في نفسك بشيءٍ من ذلك قط ولاحظته في غيرك.
غ : لم أشعر بشيءٍ من هذا القبيل.
س : فحين يرى الإنسان أنه قد خطئ أفلا يكون هدوء روحه مقيسًا بكرم أخلاقه، فيتحمل تبعة عمله من جوعٍ وبرد وإضرابهما من يد من أساء إليه، مُعتقدًا أنه نال جزاءه العادل؟ وكما قلت سابقًا إنه لا يستفزه الغضب فيقوم على من عاقبه.
غ : هذا حقيق.
س : ولكنه حين يرى أن قد مسه الضر ظلمًا وعدوانًا ألا تتَّقد فيه جذوة الغضب حنقًا؟ فينضوي تحت ما يحسبه «العدالة» ويتحمل أقصى الجوع والبرد وأمثالهما في سبيل الجهاد، إما فوزًا أو موتًا، أو يصدُّه النهى عن ذلك صد الراعي كلبه؟
غ : ينطبق ذلك على ما تعنيه انطباقًا تامًّا، وحقًّا إننا قد عيَّنَّا المعاونين في دولتنا تحت إدارة الحُكَّام ككلاب رعاة الأمة.
س : أرى أنك فهمت جيدًا ما أعنيه، فاحرص أن تفهم ما يأتي.
غ : وما هو؟
س : هو أن رأينا الحديث في القوة الغضبية نقيض ما سلف، فقد خلناها حليفة القوة الشهوية، والآن نراها بعيدة عنها، وفي حال النزاع الروحي الناشب داخل النفس تنحاز إلى القوة الذهنية.
غ : حتمًا تنحاز إليها.
س : أفمستقلة هي عن القوة الذهنية؟ أو إنها مجرد تعديل، بحيث يكون في النفس قوتان «لا ثلاث متمايزة»، هما القوة العقلية والقوة الشهوية؟ أو إنه في النفس — كما في الدولة — ثلاث قوى متمايزة هي: المفكرة، والمنفذة، والمنتجة، يقابلها في النفس ثلاث قوى، ثالثتها الغضبية، حليفة الذهن الطبيعية ما لم يُفسد بناء النفس سوء التربية؟
غ : بالضرورة هي قوة ثالثة.
س : نعم، إذا ثبت أنها متميزة عن القوة الذهنية كما رأينا أنها منفصلة عن القوة الشهوية تمام الانفصال.
غ : وليس ذلك بخافٍ عن النظر؛ لأن المرء يرى حتى في الأطفال أنهم منذ نعومة أظفارهم يتميَّزون غضبًا، مع أن بعضهم لم يبد فيه أقل أثر للقوة العقلية بعد، ولا يُدركونها قبل مرور السنين الكثيرة، وفي رأيي أن بعضهم لن يُدركها.
س : نعم نعم، إنك لمصيبٌ، ويمكن المرء أن يُلاحظها أيضًا في البهائم، ففيها ما تكلمت عنه، عدا ذلك فإن في البيت الذي أوردناه عن هوميروس، وهو: فقرع الصدر وفي القلب ندم: قد أوضح بهذا البيت اختلافًا بين القوتين، مُبينًا أن القسم الذي يعرف الخير والشر يؤنب القسم الذي انغمس في الشر بدون تفكُّر.
غ : أنت مصيب كل الإصابة.
س : وأرانا قد بلغنا شط السلام ولو بعد جهادٍ مُبرح، وأيقنَّا يقينًا راسخًا بوجود مطابقة تامة بين أقسام الدولة وأقسام نفس الفرد.
غ : حقيق.
س : أفلا ينتج عن ذلك أن الأفراد يُحسبون حُكماء، على القاعدة نفسها التي بها تُحسب الدولة حكيمة؟
غ : دون شك إنهم يُحسبون.
س : وبهذه الصورة وهذا المبدأ الذي به يكون الفرج شجاعًا تكون الدولة كذلك، وقِس عليه الاعتبارات الأخرى، فإن نسبة النفس إليها كنسبة الدولة، وكل ما يُفضي إلى وجود الفضيلة في الفرد يُفضي إلى وجودها في الدولة.
غ : ذلك لازم.
س : فيمكننا القول يا غلوكون إن الرجل عادل كما نقول إن الدولة عادلة.
غ : وبهذا تتفقان ضرورةً.
س : فلم ننسَ أن ما يجعل الدولة عادلة هو التزام كل من أقسامها الثلاثة عمله الخاص.
غ : أظن أننا لم ننسَ.
س : فليرسخ في ذهن كلٍّ منا أنه إذا أتمَّ كل قسمٍ من أقسام العقل عمله الخاص كان صاحبه بهذا الاعتبار إنسانًا عادلًا، عاملًا عمله الخاص.
غ : حقًّا، يجب أن يرسخ ذلك في الذهن.
س : أفليس من الجوهري أن يكون الحكم في قبضة مملكة الذهن لكونها حكيمة، فتقوم بتدبير مصالح النفس كلها، وتكون مملكة الحماسة في النفس بمثابة حليفة ورعيَّة؟
غ : بلى، بالتأكيد.
س : أوَليس اقتران الموسيقى بالجمناستك — كما أسلفنا — يقرن هذين القسمين — الذهن والحماسة — فيغذي الأول ويرقيه بالمحادثات العلمية السامية، ويُلطِّف الثاني ويكسر حِدَّته بالخطاب اللطيف، فيصير إلى الأنس بعد الوحشة بفعل اللحن والإيقاع.
غ : حتمًا هكذا.
س : وإذا تدرَّب القسمان هكذا أتقنا دروسهما وحصلا على التهذيب الحقيقي وسادا القسم الشهوي الذي يؤلف الجانب الأكبر من نفس كل إنسان، وهو طبعًا الأشد نهمًا، وراقباه مراقبة مدققة لئلَّا يعال بما نسميه «اللذَّات الجسدية»، فيزداد نموًّا وقوة، ويتعدَّى حدوده ويأبى أن يلزم عمله الخاص، ويطمح إلى التسلُّط على الأقسام الأخرى سلطة مطلقة لا تجوز له، فيئول ذلك إلى دمار المجموع.
غ : حقًّا إن ذلك يخرب كل قوى النفس.
س : أوَلم يتأهَّبا — الذهن والغضب — أفضل تأهُّب لحراسة النفس والجسد ضد هجمات الأعداء الخارجيِّين، فيمارس الواحد الشورى، والثاني يخوض المعارك إطاعة للقوة الحاكمة، مُجهزًا بالشجاعة لإنفاذ قرارها؟
غ : حقيق.
س : هكذا ندعو الفرد شجاعًا باعتبار العنصر الحماسي في طبيعته، حيث يثبت هذا القسم في الألم وفي السرور، حسبما أملى عليه الذهن ما الذي يخشى وما الذي لا يخشى.
غ : نعم، وبالصواب ندعوه شجاعًا.
س : وندعوه حكيمًا باعتبار القسم الصغير المتسلط في نفسه، الذي يُملي هذه الإرشادات، وله العلم في ما يفيد هذه الأقسام الثلاثة مفردة ومجموعة.
غ : بالتمام هكذا.
س : أوَلا ندعو الإنسان عفيفًا باعتبار تلاؤم هذه الأقسام والقوى واتِّزانها وائتلافها؟ أي حين يتفق القسمان المحكومان مع القسم الحاكم، حاسبين القسم العقلي صاحب الحق الملوكي؟
غ : ليس العفاف إلَّا هكذا في الفرد وفي الدولة.
س : وأخيرًا، يكون الإنسان عادلًا بالطريقة والوسائل التي وصفناها تكرارًا.
غ : لا شك في كونه كذلك.
س : فقُل لي: هل وجدنا في بحثنا في العدالة فارقًا بينها في الفرد وبينها في الدولة؟
غ : لا أظن.
س : لأننا نقدر أن نجعل رأينا مبرمًا بتطبيقنا الحكم العام عليه، إذا كان في عقولنا شكوك من هذا القبيل.
غ : وأيُّ نوع من الأمثلة تعني؟
س : مثلًا، إذا طُلب منا الرأي في معرض الكلام على دولتنا المُثلى والفرد الذي يُماثلها طبعًا وتهذيبًا، هل تظن أن امرأً كهذا يُنكر ما أودعه من ذهبٍ أو فضة؟ أو أن أحدًا يحسب إنسانًا كهذا أكثر تهافُتًا على هذا العمل ممَّن لا يُشاكله؟
غ : لا أحد يظن هذا الظن.
س : أوَلا يكون بريئًا من ريبة السرقة وانتهاك الحرم وزيف الصداقة وخيانة الدولة؟
غ : يكون.
س : علاوة على ذلك لا ينكث عهدًا ولا يحنث في وعدٍ من الوعود.
غ : واضح أنه كذلك.
س : فهو أبعد الناس في الدنيا عن جريمة الزنى، وعقوق الوالدين، وإهمال العبادة الإلهية.
غ : حقيق أنه أبعدهم.
س : أوَليس مرجع كل ذلك إلى أن كل قوة من قوى نفسه الداخلية تلزم عملها الخاص باعتبار العلاقات المتبادلة بين الحاكم والمحكوم؟
غ : يمكن رد كل ذلك إلى ما ذكرت.
س : أفلا تزال تبحث عن بيانٍ آخر للعدالة غير «أنها ما يُنشئ دولًا كهذه ورجالًا كهؤلاء»؟
غ : كلَّا، لن أبحث بعد.
س : فقد صحَّت أمنيَّتنا كل الصحة، وتحققت الأماني التي أيدناها في مُستهلِّ شروعنا في تأسيس الدولة، والظاهر أننا كنا مقودين بعونٍ إلهيٍّ إلى نموذج العدالة الأصلي.
غ : حقًّا قد صحَّ.
س : والحقيقة يا غلوكون أنه وصفٌ غير أنيق للعدالة، ولكنه نافع، المبدأ القائل: خيرٌ للمرء الذي أعدَّته الطبيعة للسكافة أن يلزمها، والرجل الذي أعدَّته للتجارة أن يلوذ بها. وهلُمَّ جرًّا.
غ : هكذا يظهر.
س : فحقيقة العدالة بأجلى مظاهرها هي ألصق بحياة الإنسان الداخلية ومصالحه الجوهرية منها بمظاهر حياته الخارجية وصورة عمله السطحية، فلا يدع العادل قواه الروحية تتجاوز حدود اختصاصها وتتدخل في اختصاص غيرها، فتعمل عمل ذلك الغير، بل يُحسن ترتيب بيته. وإذ هو سيد نفسه يعقل خلقه ليكون على أتمِّ وئامٍ مع نفسه، ويجعل القوى الثلاث تُعطي نغمة واحدة ارتفاعًا وانخفاضًا ووسطًا، وبعد قرن هذه معًا ورد عناصر نفسه العديدة إلى وحدة حقيقية كإنسان دمث متزن يتقدم إلى عمله، سواء كان ذلك في اجتناء الثروة، أو في الحصول على حاجات الجسد، وسواء كان ذلك في مصالح الدولة أو في مصالحه الخاصة في كل ما يؤمن ويعترف أن المسلك الشريف هو ما يصون سجيَّة العقل التي سلف ذكرها ويقوِّيها، وأن المعرفة الصحيحة التي تسيطر على تصرُّفٍ كهذا هي «الحكمة». ومن الجهة الأخرى عنده عمل التعدي يُعرِّض الخلق للدمار، وأن الرأي المُجرَّد المسيطر على التصرُّف الباطل هو حماقة.
غ : كلامك غاية في الصواب.
س : حسنًا جدًّا. فإذا قُلنا إننا وجدنا الإنسان العادل والدولة العادلة وحدَّدنا العدالة فيهما، فلا أرى أننا كاذبون.
غ : لا لعمري.
س : أفنقول ذلك إذًا؟
غ : نقول.
س : وفي الدرجة الثانية علينا أن نفحص التعدِّي لنرى ما هو.
غ : واضح أنه علينا أن نفعل ذلك.
س : أفليس التعدي عبارة عن تنازُع ناشب بين القوى الثلاث تنازُعًا به تتعدَّى هذه القوى حدودها وتتدخل في ما ليس من اختصاصها؟ أو عبارة عن قيام قسم من العقل ضد مجموعه، راميًا إلى الاستئثار بالحكم خارج حدود اختصاصه، بعد ما كان على ذلك القسم أن يخدم بقية القوى ويخضع للقوة الحاكمة خضوعًا صحيحًا؟ وأرى أن ندعو هذا وما ينجم عنه من الضوضاء والتشويش تعدِّيًا وفجورًا وجبانةً وحماقةً، وبالاختصار: «رذيلة.»
غ : حتمًا هكذا.
س : أفلم نُبيِّن بوضوح ماهية التعدي ومن المتعدِّي؟ ومن جهة أخرى: ماهية العدالة، فاهمين طبيعة كلٍّ من العدالة والتعدِّي؟
غ : وكيف ذلك؟
س : لأن هذه الظاهرة في النفس كظاهرة الصحة والمرض في الجسم.
غ : وبأيَّة طريقة؟
س : القواعد الصحية تصون الصحة، وأسباب الأمراض تسبب مرضًا.
غ : نعم.
س : وعليه: أفلا تُنشئ ممارسة العدالة سجيَّة العدل في النفس، ومزاولة التعدي سجيَّة البطل؟
غ : دون تخلُّف.
س : فيقوم إنشاء الصحة بتنظيم قوى الجسد، بحيث تسود أو تُساد حسب مُقتضى الطبع، ويجعل المرض القوى تسود أو تُساد بخلاف مُقتضى الطبع.
غ : حقيق.
س : وبالمثل، أليست ثمرة العدالة تنظيم قوى النفس فتسود أو تُساد حسب حكم الطبيعة؟ وثمرة التعدي جعل قوى النفس تسود أو تُساد خلاف حكم الطبيعة؟
غ : تمامًا هكذا.
س : فالفضيلة صحة النفس وجمالها وسجيَّتها الصالحة، والرذيلة داؤها وتشويهها وفسادها.
غ : حقيق.
س : أوَلا يمكننا أن نضيف إلى ذلك أن السعي الحميد يؤدي إلى طلب الفضيلة، والسعي الذميم إلى الانغماس في الرذيلة؟
غ : بلا شك.
س : فالظاهر أنه بقي علينا أن ننظر في: هل «يفيد» المرء أن يعمل بعدل، ويتبع المقاصد الشريفة ويكون عادلًا، عُرف ذلك عند الناس أو لم يُعرف، أو أن يعمل التعدي ويكون مُتعدِّيًا إذا لم يُعاقَب ولم يُصلحه التأديب.
غ : لا يا سقراط. أرى البحث يتدانى بعد ما ظهرت لنا طبيعة العدالة والتعدي بالنور الذي سبق بيانه، أوَيحسب الناس أن للحياة قيمة وقد تهدَّمَتْ أركان الصحة، ولو توافرت أنواع الطعام والشراب والثروة والقوة بلا حد ولا نهاية؟ وهل للحياة من قيمة في عيوننا، وقد فسد نظام نحيا به فسادًا كُلِّيًّا؟ فليعمل المرء ما تهوى النفس. يُستثنى من ذلك ما يُحرِّره من الرذيلة والتعدي، ويخوله طلب العدالة والفضيلة وإدراك حقيقة الأشياء التي مثَّلناها.
س : نعم يتدانى، وإذ قد بلغنا هذه النقطة فلا يضطرب قلبنا حتى نتأكد أوضح تأكُّد ممكن من صحة نتائجنا.
غ : كل شيء ولا اضطراب القلب.
س : فلننظر كم هي أنواع الرذيلة. أعني الأنواع التي تستحق الذكر.
غ : قُل كم هي، فإني أتبعك.
س : أما وقد بلغنا هذه القمة في المحاورة فإني أستطيع أن أرسل نظري من عَلِ، فأرى للفضيلة شكلًا واحدًا لا غير. أما صور الرذيلة فلا تُحصى، أخصُّ منها بالذكر أربعة.
غ : ماذا تقول؟
س : يظهر أنه يوجد صور للعقل بعدد أنواع الحكومة.
غ : وكم عددها؟
س : أنواع الحكومات خمسة، وصفات النفس خمس.
غ : أفصِح.
س : أولها: التي أتينا على وصفها، ويمكن أن نُطلق عليها اسمين مختلفَين؛ لأنها ملكيَّة إذا حكم الفرد، وأرستقراطيَّة إذا تعدَّد الحاكمون.
غ : حقًّا.
س : ويندمج كلاهما في صفٍّ واحد؛ لأنه سواء توحَّد مرجع السلطة أو تعدَّد فشرائع الدولة الرئيسية لا تتزعزع إذا كان تهذيب الحكام وتدريبهم كما وصفناه.
غ : حقًّا لا تتزعزع.
١  لعبة نجهلها.
٢  أوديسي ١: ٣٥١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤