الكتاب الخامس: المسألة الجنسيَّة

خُلاصته

لمَّا وصل سقراط إلى هذه النقطة — المذكورة في ختام الكتاب الرابع — تقدَّم لوصف التنظيم السياسي، فقاطعه بوليمارخس وأديمنتس بالاتفاق مع سائر الحضور، مُلتمسين منه بسط الكلام في «شيوعيَّة النساء والأولاد» التي كان قد ذكرها مختصرًا، فقبل التماسهم بعد تردُّد كثير.

فهو يذهب إلى وجوب تهذيب النساء وتدريبهن كالرجال تمامًا؛ لأن المرأة تقدر أن تتقن فن الموسيقى والجمناستك كالرجال، وفيها ما فيه من الكفاءة لمُختلف الأعمال، وينحصر الفرق بين الجنسين في الدرجة دون النوع، وسببه ضعفها إذا قيست بالرجل، فالنساء اللائي يُبدين ميلًا إلى الفلسفة أو الحرب يجب أن يصحبن الحكام أو المساعدين ويشاركنهم في واجباتهم ويصِرن أزواجًا لهم. ويجب أن تكون علاقات الجنسين المتبادلة تحت مراقبة القضاة، وأن تُبارَك بإجراء المراسم الدينية. ويُفصَل الأولاد عن والدَيهم ويُربَّون في معاهد خاصة تُنشئها الحكومة، فبهذه الوسيلة وحدها يمكن الحكام ومساعديهم أن يتحرروا من كل ميل للملكية، ويرغبوا في الاشتراك بالمصلحة التي تضم الفئتين معًا، وتقرن أفرادهما بعضهم ببعض.

ثم تقدَّم سقراط لسن القوانين لانتظام الأولاد الباكر في سلك الحربية، والقوانين المتعلقة بمعاملة الجُبناء والشجعان، وسلب القتلى، وتشييد الأنصاب. هنا سأله أديمنتس مع تسليمه بأن شيوعيَّة النساء والأولاد مستحبَّة باعتبارات كثيرة، أن يُبيِّن: هل يُستطاع تطبيق تلك النظم؟ فأجابه سقراط أن غرضه الخاص تبيان نظام الدولة الكاملة؛ سعيًا وراء الغرض المقصود منها، وهو اكتشاف طبيعة العدالة، أما إمكان إنشاء دولة كهذه بالفعل فهي مسألة أخرى، ليس لها أقل أثر في سلامة النظام وصحة نتائجه. وكل ما يصح أن يُطلب منه هو أن يُبيِّن كيف يمكن الهيئات الناقصة الحاكمة حاليًّا، أن تبلغ أقرب نقطة ممكنة إلى مدى السياسة الكاملة التي مرَّ وصفها.

وهنالك انقلاب واحد لا بد منه لتحقيق هذا الغرض، وهو تسليم مقاليد السياسية إلى الفلاسفة، وللتخلُص ممَّا يُلابس ذلك من وجوه المقاومة يلزم أن نلوي عنان البحث إلى تحديد الفيلسوف الحقيقي.

أولًا: الفيلسوف الحقيقي هو المغرم كلَّ الغرام بالحكمة في كل فروعها، وعلينا أن نُميِّز في هذا الموقف أدق تمييز، بين الفيلسوف الحقيقي وبين المُدَّعي حب الفلسفة تدجيلًا. وتستقر نقطة الفرق بينهما في أن الدجَّال يكتفي بدرس الموضوعات الجميلة مثلًا. أما الفيلسوف الحقيقي فلا يقف عند ذلك الحد، بل يتجاوزه إلى إدراك الجمال المُطلَق. ويمكن وصف حال الأول العقلي بأنه «تصوُّر»، وحال الثاني أنه «معرفة حقيقيَّة»، أو «علم»، فهنالك الوجود الحقيقي الذي يتناوله العلم، واللاوجود أو العدم الذي نسبته إلى الجهل نسبة الوجود الحقيقي إلى العلم، ويتوسَّط بين العلم وبين الجهل التصوُّر. فنستنتج أن التصوُّر يتناول الوجود الظاهري، فالذين يدرسون الوجود الحقيقي يُدْعَون: مُحبِّي الحكمة أو «فلاسفة»، والذين يدرسون الوجود الظاهري يُدعَون: مُحبِّي التصوُّر، لا فلاسفة.

متن الكتاب

قال سقراط: هذه هي الدولة، أو النظام، وهذا هو الفرد، وقد وصفناهما بالإصابة والصلاح، فإذا كانا صوابًا فكل ما سواهما خطأ ورديء، فنُطلق هذه الأوصاف على تنظيم الدول وتكوين خلق الأفراد. ويمكن رد الأنواع الرديَّة إلى أربع صور.

غلوكون : وما هي تلك الصور؟

(قال سقراط: وفيما أنا أتأهَّب لإيرادها بالترتيب كما لاحت لي الواحدة تلو الأخرى، مد بوليمارخس يده وأمسك بثوب أديمنتس عند الكتف، إذ كان جالسًا وراءه، وهمس في أذنه بضع كلمات لم نسمع منها سوى قوله: أفندعه إذًا يُفلت؟ أم ماذا تفعل؟ فأجابه أديمنتس بصوتٍ جوهري: كلَّا البتَّة. فقلتُ لهما: فمن الذي لن تَدَعوه يفلت؟ أجاب أديمنتس: هو أنت يا سقراط.)

سقراط : ولماذا؟
أديمنتس : لأنه يلوح لنا أنك تُحجم ضاربًا على جانب مهم من الحديث، رغبةً في التخلُّص من إيراده. ونراك واهمًا أننا لا ننتبه إلى تجاوُزك عنه مُكتفيًا بإشارةٍ طفيفة إليه، فحواها أن القاعدة القائلة إن «كل شيء مشاع بين الأصحاب» يمكن تطبيقها على النساء والأولاد.
س : أفلستُ مصيبًا في ذلك؟
أد : بلى. على أن كلمة «مُصيبًا» كباقي الكلمات، تفتقر إلى الإيضاح، فيلزم أن نعرف بأي الطرق العديدة الممكنة تُطَبَّق هذه الشيوعيَّة، فلا تتأخَّر عن إفادتنا ما هي الطرق التي تقترحها، فلطالما توقَّعنا أنك تُعين الحالات التي بها يولد الأطفال، وطريقة تربيتهم بعد ولادتهم، وبالأحرى أن تصف شيوعيَّة النساء والأولاد التي تعنيها وصفًا تامًّا؛ لأننا نرى أن لتطبيق هذه النظرية خطأ كانت أو صوابًا علاقة كبيرة بحياة الدولة. والآن وقد لويت عنان البحث نحو نوع آخر من أنواع الحكومات قبلما تُوَفِّي هذه النقطة حقها من البحث؛ رأينا من المناسب ما سمعتنا نقوله: أن لا ندعك تفلت قبلما تأتي على تبيان هذه الأشياء تبيانًا تامًّا كما أبَنت غيرها.
غلوكون : وأنا أؤيد طلبه.
ثراسيماخس : ويمكنك يا سقراط أن تعتبرنا مُجمعين على هذا القرار.
سقراط : ما أعظم المسألة التي تتوخُّون طرقها، كأننا نبدأ من جديد في إنشاء الدولة. ولو اكتفيتم بما قيل وطويتم كشحًا عن هذه النقاط لكان سروري عظيمًا، فقلَّما أدرك خيالكم أي عدد من المسائل تُثيرون بفتحكم أبواب هذه المواضيع، وقد سبقت فرأيت ذلك، فتجاوزته لئلَّا يؤدي بنا إلى اضطرابٍ لا حدَّ له.
ثراسيماخس : أفتظن أننا لسبك الذهب١ حضرنا وليس للبحث الفلسفي؟
س : نعم، ولكن إلى حدٍّ معقول.
غلوكون : حقًّا يا سقراط، إن الشعب يرى أن الحياة كلها هي الحد المعقول لأبحاثٍ كهذه، فلا يهمك أمرنا، ولا يثقل عليك سرد آرائك لنا في المواضيع التي سألناك بيانها، أي ماهية شيوع النساء والأولاد بين حُكَّامنا، وتربية الأطفال بين المهد والمدرسة، وهي أعسر أوقات الحياة وأوفرها مشقَّة، فابنِ لنا على مبدأ ينمُّ ذلك.
س : ليس من الهنات الهيِّنات يا صديقي البارع البحث في هذه القضية.
  • أولًا: لأن إبراز خطتنا إلى حيز الفعل أمر لا يُصَدَّق، وهي أعوَص ما طرقنا من الأبحاث.
  • ثانيًا: إذا فرضنا إمكان تطبيقها إلى حد التمام، فهنالك عراقيل وريب في كونها مُستحبَّة؛ لذلك أُحجِم عن مس هذا الموضوع حذرًا من أن أظهر يا صديقي العزيز أني أطرق بحثًا خياليًّا.
غ : لا تُحجم، فليس سامعوك بُلَداء ولا جاحدين ولا خُصومًا.
س : أفتشجيعًا تقول ذلك لي يا صديقي الفاضل؟
غ : نعم.
س : فاسمح لي أن أقول إن لكلامك أثرًا يُناقض ما تتوقَّع، فلو أني أثق أني فاهم ما أقول لأصاب تشجيعك مرماه؛ لأن التحدُّث في أهم الموضوعات وأجلها شأنًا في جمهورٍ من العُقلاء عمل سليم العاقبة إذا كان المتكلم مالكًا ناصية موضوعه، أما إنه يتناول البحث في مذهب وهو لا يزال باحثًا متردِّدًا فيه — كما يُنتظر أن أفعل الآن — فعمل كثير المهاوي ويحملني على الوجوم، لا خوفًا من تعرُّضي للازدراء — ذلك أمر صبياني — ولكن خشية من أن تزل قدمي عن الحقيقة، فأسقط وأجرُّ أصدقائي معي في ميدانٍ يُخشى فيه السقوط، فاضرع أن لا توقع بي الإلاهة نماسيس يا غلوكون فيما أقول؛ لأني أعتقد اعتقادًا راسخًا أن قتل رجل سهوًا هو جُرم أقلُّ من خديعته في ما يتعلق بالنظم الشريفة والصالحة والعادلة، واقتحام هذا الخطر بين الأعداء أقل إساءة منه بين الأصحاب، فمن حُسن حظك العروج عن هذا التشجيع.
غلوكون (ضاحكًا) : دَمُنا ليس على رأسك إذا أضرَّ بنا رأيك يا سقراط، فإننا نُبَرِّئك من تهمة خديعتنا، فقُل غير هيَّاب.
س : قال الشرع: «إن من برَّأَته المحكمة من ذنبه كان بريئًا في العالم الثاني»، فالأرجح أنه يكون بريئًا في هذا العالم.
غ : حسنًا، فلا يُثنيَنَّ عزيمتك هذا الخوف.
س : فعليَّ أن أرجع إلى قسمٍ من موضوعنا كان يجب أن أبحث فيه قبلًا في موضوعه المناسب، وعلى كُلٍّ فالترتيب الحالي هو الأفضل، فبعد ما مثَّلنا دور الرجال نشرع في تمثيل دور النساء، ولا سيما وهذا طلبكم.
إن الخطة المُثلى لهم في مذهبي في أمر اقتناء الأزواج والأولاد للرجال الذين وُلدوا وتربُّوا على الصورة التي مرَّ بك وصفها، تقوم في اتِّباعهم الدوافع الأصلية التي أبلغناهم إيَّاها. وكان غرض نظريَّتنا في ما أعتقد أن نجعل رجالنا كرعاة قطيع.
غ : نعم.
س : فلنتَّبع هذا السبيل، فنسن قوانين تماثل تلك لتكثير النوع وتربية الصغار، ودعنا ننظر في: هل تلك القوانين مناسبة أو لا؟
غ : ماذا تعني؟
س : ذلك ما أعني: أتظن أن زوجات كلاب الرعاة صالحة لمشاطرة ذكورها حراسة القطيع، والصيد، ومشاركتها في كل واجباتها؟ أو أنها يجب أن تلزم أماكنها لأنها غير قادرة، لاشتغالها بولادة الأجرية وتربيتها، وأن على الذكور العمل والسهر؟
غ : ننتظر أنها تُشاطر الذكور كل شيء، إنما نعاملها معاملة الضعيف، وذكورها معاملة القوي.
س : أفيمكن استخدام الحيوانات في عملٍ واحد ما لم تستعِدَّ له استعدادًا واحدًا تدريبًا وتهذيبًا؟
غ : كلَّا.
س : فإذا رُمنا استخدام النساء في عمل الرجال وجب تهذيبهنَّ كالرجال.
غ : وجب.
س : وقد خوَّلنا الرجال تعلُّم الموسيقى والجمناستك.
غ : نعم.
س : فيجب تهذيبهنَّ في الفنَّين كالرجال مع التدريب العسكري، ومعاملتهن معاملة الرجال.
غ : ذلك ينتُج طبعًا عمَّا قُلتُه.
س : وقد يلوح كثيرٌ من تفاصيل القضية التي أمامنا سخيفًا فوق العادة إذا طُبِّقَتْ في الطريقة التي رسمناها.
غ : هكذا تلوح دون شك.
س : فأيُّ هذه الأمور أبعث على السخرية؟ أليس هو اشتراك النساء مع الذكور في مدارس الرياضة عاريات الأبدان، فتيات وطاعنات في السن — كالطاعنين في السن من الرجال في مدارس الجمناستك — مولعات بالتمارين الرياضية، بالرغم من تغضن أساريرهن وشناعة وجوههن؟
غ : بلى، في الوقت الحاضر يظهرن مُزدرًى بهن.
س : حسنًا، وإذ قد طرقنا هذا الباب فلا نخشيَنَّ صور التهكُّم الجمَّة من جانب الرجال المعتبرين إزاء بدعة كهذه في الجمناستك والموسيقى، زِد على ذلك تقلُّدهن السلاح وركوبهنَّ الخيل.
غ : أصبت.
س : وبالعكس، إذا بدأنا هذا البحث فلنتقدَّم إلى أشد مطالب قانوننا، راجين أولئك الهازئين أن يعرجوا عن ديدنهم ويأخذوا الأمر بعين الجد والترصُّن، ونُذَكِّرهم أنه إلى عهدٍ غير بعيد كان تعرِّي الرجال عيبًا وهُزءًا عند اليونانيِّين، كما هو اليوم عند أكثر البرابرة. ولمَّا بدأ الكريتيُّون فاللقدمونيُّون بالتمارين الرياضية هزأ بهم مُزَّاح عصرهم وتخذوهم موضوع تسلية لهم. ألا تظن كذلك؟
غ : أظن.
س : ولمَّا أثبت الاختبار أن تجريد الجسم خير من ستره، ولَّى التأثير السخري الذي كان لتلك العادة في النظر، أمام الحُجج القاطعة التي أيَّدَتْ فائدته، فحينذاك ثبت أن من يحتقر إلا الرذيلة، ومن يهزأ بغير الشر والجنون فهو أحمق. وكذلك من يترصَّن ويجد في غير ما هو صالح.
غ : بأعظم تأكيد.
س : أفلا يجب أن نتفق في: هل القوانين المطروحة للبحث ممكنة الإجراء أو لا؟ ونُفسح مجالًا لكل واحد هازئًا كان أو جادًّا للبحث في المسألة: هل تُمكِّن الأنثى طبيعتها من مُشاطرة الذكور أعمالهم، أو أنها غير كُفْء لشيءٍ من أعمال الذكور؟ أو أنها كُفْء لبعض الأعمال دون البعض الآخر؟ وإذا كان الأمر كذلك، ففي أي صفٍّ تضع الأعمال الحربية؟ أليس ذلك أفضل بداءة نختارها، وقد تكون أفضل نهاية؟
غ : تمامًا هكذا.
س : أفتريد أن ندخل البحث بعضنا ضد البعض الآخر، كي لا يبقى الوجه السلبي بدون دفاع أمام هجومنا؟
غ : لا سبب يمنعنا من ذلك.
س : فلنقُل بالنيابة عن الخصم:
– «لا لزوم يا سقراط ويا غلوكون لتقديم الآخرين شيئًا ضدكم؛ لأنكم أنتم أنفسكم في بدء سعيكم في تأسيس الدولة سلَّمتم بأنه يجب أن يختصَّ كل فرد من الناس بعملٍ واحد، حسب استعداده الطبيعي.»

– قرَّرنا ذلك فلا يمكننا مخالفته.

– «أفيمكنك أن تُنكر وجود فرق كبير بين طبيعة الذكر وطبيعة الأنثى؟»

– من المؤكد أنه يوجد فرق.

– «أفليس من الحزم تخصيص كل جنس بنوعٍ من العمل يتَّفق مع طبيعته؟»

– دون شك.

– «فأنتم إذًا مُخطئون، وقد ناقضتُم أنفسكم بتحتيمكم عملًا واحدًا على الرجال والنساء مع اختلافهنَّ في الاستعداد.»

فهل عندك من دفاعٍ يا صديقي النبيه؟
غ : ليس من السهل الإجابة فورًا، ولكني سأُفَوِّضك، بل أفوضك الآن في إقامة الأدلة على صحة مذهبنا وفي شرحها لنا.
س : ذلك يا غلوكون وكثير من أمثاله سبقت فرأيته؛ لذلك خشيت التدخُّل في أمر اقتناء الأزواج والأولاد وتربية الأطفال.
غ : حقًّا إن ذلك ليس سهلًا.
س : كلَّا، وواقع الحال هو أنك إذا أُلقيت في بحيرة صغيرة أو في البحر الخضم فعليك أن تجتهد في السباحة في الموضعين على السواء.
غ : تمامًا.
س : أفلا يجب أن نسبح للنجاة من هذا العباب، حتى يُقيَّض لنا دُلفين آخر٢ يحملنا على ظهره إلى شطِّ الأمان، أو تتسنَّى لنا وسيلة غير مُنتظرة.
غ : هكذا يظهر.
س : فهلُمَّ ننظر هل يمكننا أن نجد منفذًا إلى النجاة؟ فقد سلَّمنا أن طبائعهن تختلف عن طبائعهم، ومع ذلك أوجبنا على الفريقين أعمالًا واحدة. أفهذه هي الشكوى ضدنا؟
غ : يقينًا.
س : إن فن التناقُض خارق الحد يا غلوكون.
غ : وكيف ذلك؟
س : لأنه يظهر لي أن كثيرين يسقطون فيه ضد إرادتهم، وهم يزعمون أنهم يبحثون مع أنهم يتجادلون، ولا يقدرون أن يفهموا حدود مسألة واحدة من مسائل أبحاثهم، فيقتصرون على مقاومة ما تقرَّر بمهاجمة الألفاظ، مُستخدمين فن الجدل في البحث الفلسفي.
غ : حقًّا إن هذا هو الواقع، أفينطبق علينا أيضًا الآن؟
س : ينطبق أدق انطباق، وظاهرة الحال تدلُّ على أننا سقطنا في هوة التناقُض اللفظي غير متعمدين.
غ : وكيف ذلك؟
س : إننا أعرنا حرف العقيدة شأنًا خطيرًا في أنه لا يجوز فرض أعمالٍ واحدة لطبائع مختلفة، وبأوضح تعبير أننا نسينا كل النسيان معنى الكلمات: «طبائع مختلفة»، و«طبيعة واحدة»، وماذا قصدنا بتخصيص مختلف الأعمال بمختلف الطبائع، وأعمالًا واحدة بطبيعة واحدة.
غ : حقًّا إننا لم ننتبه إلى ذلك.
س : ففي وسعنا — والحالة هذه — أن نسأل: أسيَّان طبيعتا الصُّلع والمسترسلي الشعر أم مختلفتان؟ وبعد أن نتَّفق في أنهما مختلفتان نتقدَّم للسؤال التالي: إذا صنع الصلع أحذية، فهل يؤذن لمسترسلي الشعر أن يصنعوا أحذية كذلك؟ وإذا صنع هؤلاء أحذية أفنحظر صنعها على أولئك؟
غ : إنها مسألة سخيفة.
س : وهل سخافتها إلَّا في عدم استعمالنا الكلمة «واحدة» و«مختلفة» باعتبارٍ عام، وقوفًا عند أمر التبايُن والتشابُه المتجهين رأسًا إلى الأعمال التي نحن في صددها؟ مثلًا قلنا إن رجلين فيهما ميل عقلي إلى فن الطب لهما طبيعة واحدة. ألا تظن أنهما هكذا؟
غ : أظن.
س : ولكن الإنسان الميَّال إلى الطب يختلف عن الميَّال إلى التجارة.
غ : معلوم أنه يختلف.
س : كذلك طبائع الرجال والنساء إذا بدت لنا مختلفة باعتبار فنٍّ أو وظيفة، قُلنا إنه يجب أن يُناط هذا العمل بأحدهما. ولكنَّا إذا وجدنا أن الاختلاف بين الجنسين مُختَصٌّ بالأقسام التي يشغلونها في النسل علمنا أن اختلافهما لا يتعارض مع مقصدنا، بل على الضد من ذلك، يجب أن يتقلَّد حكامنا ونساؤهم أعمالًا واحدة.
غ : بالصواب تكلَّمتَ.
س : أفلا نتقدم فنطلب من خصومنا أن يُرشدونا إلى ما هو الفن أو الدرس الخاص المتعلق بتنظيم الدولة الذي لا يتساوى فيه الرجال والنساء، بل هما فيه متضادَّان؟
غ : حقًّا إننا مُفوَّضون أن نفعل ذلك.
س : وقد يورد آخرون ما قلته الساعة: ليس من السهل إجابة ذلك فورًا إجابة وافية، وإن الأجابة بعد التأمُّل غير متعسرة.
غ : حقًا إنها غير متعسرة.
س : أفتريد أن نرجو من يثيرون اعتراضًا من هذا القبيل أن يصحبونا لنرى، هل نقدر أن نُريهم أنه ليس في أعمال إدارة الدولة عمل يختصُّ بالنساء؟
غ : من كل بُد أريد.
ص : فنقول له ما يأتي: أجب يا هذا: أليس ما تعنيه لما قلتَ أن رجلًا من الرجال مفطور على موهبةٍ خاصة لدرسٍ خاص وأن رجلًا آخر خالٍ منها، وأن الأول يتعلم بسهولة والآخر بصعوبة؟ وأن الأول يفهم ما قرأه لنفسه بقليل إرشاد، أما الآخر فبالرغم من وافر الإرشاد وعظيم العناية لا يستقر العلم في عقله، وأن عقل الواحد حصل على المساعدة اللازمة، والآخر خانته قوى الجسد؟ أليست هذه هي الفوارق الوحيدة التي بها تحد امتلاك المواهب الطبيعية ولزومها لكل عمل؟
غ : كل واحد يقول هذا القول.
س : أفتعرف فرعًا صناعيًّا ليست النساء فيه دون الرجال؟ وهل يلزم أن نخطو خطوة أخرى فنذكر فن النسج، وصنع الكعك، وحفظ المأكولات، التي يفُقن بها الرجال، حتى إن تقصيرهن فيها مستغرب؟
غ : بالصواب أجبت. إنه على العموم يفوق أحد الجنسين أخاه الجنس الآخر في بعض الأشياء، وأن كثيرات منهم يفُقن كثيرين منهم في أمورٍ كثيرة، ولكن الحكم العام هو ما قلتَهُ أنت.
س : فليس في الأعمال المتعلقة بإدارة الدولة — أيها الصديق — ما يختص بالمرأة كامرأة، أو بالرجل كرجل، ولكنها مواهب موزعة على أفراد الجنسين سواء بسواء، فالمرأة باعتبار جِبِلَّتها صالحة لكل عملٍ كالرجل، مع أنها أضعف منه بوجهٍ عام في الأعمال على كل حال.
غ : حتمًا هكذا.
س : أفنخصُّ الرجال بكل الأعمال ولا نترك للمرأة عملًا؟
غ : وكيف يمكننا ذلك.
س : وبالعكس، نرى إحداهن ميَّالة إلى الطب، والأخرى خالية من ذلك الميل، وإحداهن موسيقية الميل دون أختها.
غ : دون شك.
س : أوَلا نقول أيضًا إن إحداهن مُجهَّزة بصفات تؤهلها للرياضة والحرب، وغيرها لا تميل إلى الحرب ولا ذوق لها في الألعاب الرياضية؟
غ : أظن أننا نقول ذلك.
س : أوَلا يمكن أن تمتلك إحداهن حب المعرفة وأختها كُره المعرفة؟ وأن تكون إحداهن حماسية دون أختها؟
غ : وهذا أيضًا حق.
س : وعليه: فبعضهن صالحات لمنصة الحكم دون البعض الآخر، أوَليست هذه هي الأوصاف التي اخترناها دليلًا على جدارة الرجال بذلك المنصب؟
غ : بلى، هذه هي.
س : فلا فرق إذًا بين طبائع الرجال وطبائع النساء باعتبار حكم الدولة، إنما هو تفاوُت بينهما في الدرجة قوةً وضعفًا.
غ : واضح أنه لا فرق بينهما.
س : فنختار ربَّات الجدارة لمساكنة أربابها ومشاركتهم في الأحكام؛ لأنهن أكفاء في الإدارة، وهنَّ نسيبات الرجال في الطباع.
غ : تمامًا.
س : أوَلا نُنيط العمل الواحد بالطبائع الواحدة؟
غ : نُنيطه.
س : فقد انتهينا الآن إلى مركزنا السابق، وسلَّمنا أنه لا يُنافي الطبع إباحة الموسيقى والجمناستك لأزواج حُكَّامنا.
غ : حتمًا هكذا.
س : فليس تشريعنا هذا خياليًّا غير عملي ما دام مُنطبقًا على حكم الطبيعة، بل بالحري إن تصرفنا الحالي الذي يخالف تشريعنا الجديد يخالف الطبيعة أيضًا.
غ : هكذا يظهر.
س : فمدار بحثنا هو: هل النظام المقترح عملي أو لا؟ وهل هو المرغوب فيه أو لا؟ أليس مدار هذا بحثنا؟
غ : بلى.
س : أمتَّفقون نحن في أنه عملي؟
غ : نعم.
س : فالنقطة الثانية التي نبتُّها هي أن هذا النظام هو النظام المرغوب فيه.
غ : نعم واضح.
س : جيدًا، فإذا كانت المسألة كيف نؤهل المرأة للحكم، أفلا نجعل تهذيبها خلاف تهذيب الرجل؟ ولا سيما والفطرة التي نُهذِّبها فيهما هي واحدة؟
غ : كلَّا، بل يكون تهذيب الفريقَين واحدًا.
س : وأروم أن أعرف رأيك في الفكرة التالية.
غ : وما هي؟
س : على أيِّ أساسٍ تُفاضل بين رجلٍ وآخر؟ أو هل تراهم جميعًا أكفاء؟
غ : لست أفاضل بينهم.
س : فأيُّ الطبقتين في دولتنا المُثلى تراها أفضل؟ طبقة الحُكام المهذبين كما وصفناها؟ أم الأساكفة المُعَدِّين للسكافة؟
غ : السؤال سخيف؟
س : قد فهمتك. أفليس حُكَّامنا أفضل الرجال؟
غ : أفضل كثيرًا.
س : أفلا تكون حاكماتنا فُضليات النساء؟
غ : يكُنَّ.
س : وهل أفضل للدولة من اشتمالها على أفاضل الرجال وفُضليات النساء؟
غ : لا أفضل من ذلك.
س : أوَلا يمكن الحصول على هذه النتيجة بواسطة الموسيقى والجمناستك المستعملين على ما أبَنَّاه؟
غ : بلا شك.
س : فيجب أن تتعرَّى أزواج حُكَّامنا في تمرينات الجمناستك؛ لأنهنَّ يُستَرنَ ببُرَدِ الفضيلة بدلًا من الثياب، ويُشاطرن الرجال الحرب والأعمال التي يشتمل عليها حكم الدولة دون غيرها من الأعمال. على أنَّنا نختصُّهنَّ بأخف الواجبات بسبب ضعفهنَّ الجنسي. أما هزء الرجال بهن بسبب تعرِّيهنَّ من الثياب في أثناء التمرينات الرياضية اللازمة لإدراكهنَّ التهذيب العالي، فلا يجني صاحبه «إلا ثمر الحكمة غير الناضج»،٣ وهو لا يدري على ما يضحك ولا ما يفعل، فإنه كان ولا يزال مبدأ ساميًّا القول: «إن المفيد شريف والضار دنيء.»
غ : بكل تأكيد.
س : فقد عبَرنا ما أدعوه: العقبة الأولى التي كانت تعترض سبيلنا في البحث في شريعة النساء، فبدلًا من أن نحمل بالكلية بتيَّار القول إن الواجب على الذكور والإناث أن يكون لهم كل شيء مشتركًا، ينحصر بحثنا في إمكان ذلك وإيثاره.
غ : نعم، وليست العقبة التي عبرتَها بهيِّنة.
س : على أنك لن تقول إنها كئود متى رأيت ما بعدها.
غ : كمِّل كلامك لأراها.
س : في الشريعة الأخيرة وفي التي قبلها عقبة أخرى من هذا القبيل.
غ : وما هي؟
س : أن تكون أولئك النساء بلا استثناء أزواجًا مشاعًا٤ لأولئك الحُكَّام، فلا يخص أحدهم نفسه بإحداهُنَّ. وكذلك أولادهم يكونون مشاعًا، فلا يعرف والد ولده، ولا ولد والده.
غ : هذه الشريعة أكثر ممَّا قبلها مثارًا للشك في تطبيقها وفي فائدتها.
س : أمَّا من جهة فائدتها فلا أظن أن أحدًا يُمكنه أن يُنكر أن شيوعيَّة النساء ومن يلدن جمَّة الفوائد، اللهم إذا كان تطبيقها ممكنًا، على أني أتوقع أعظم مقاومة في تطبيقها بالفعل.
غ : في الأمرَين كليهما فائدتهما وتطبيقها مجال واسع للجدال.
س : لا بد أن يكون هذان الأمران محطًّا للنزاع، وإني أعدو هاربًا من أحدهما إذا وافقتني في فائدة الفكرة وانحصر بحثي في إمكان تحقيقها.
غ : على أنك لم تتخلَّص من النقد، فإننا نتوقَّع منك شرح الأمرَين.
س : وعليَّ أن أخضع للعدالة فقط إذا جُدتم عليَّ بهذا المبغى، وهو أن تسمحوا لي بيوم راحة، كالبطيئي الأفهام الذين تختمر فكرتهم في وحدتهم. فأُناس كهؤلاء كما لا يخفى يُهملون البحث في إمكان حصول ما يرغبون فيه أو استحالة حصوله قبل ما يكتشفونه، تجنُّبًا للتعب في التفكير، فيفرضون أنهم حصلوا عليه، ويتقدَّمون إلى النظر في سائر أقسام الموضوع، فيروقهم الإسراع في ما يرغبون أن يعملوا في الأحوال التي عيَّنوها، مُغالين في التراخي والاستهتار، فأنحو نحوهم راغبًا في خطة الكسل وفي تأجيل البحث في إمكان حصول هذه الأمور. على أني أفرض الآن أنه ممكن، وأبحث إذا أذنت لي في كيفيَّة تصرُّف حُكَّامنا حين إنفاذ قانوننا، لكي يُبيِّنوا أنه أنفع أسلوب للدولة والحُكَّام، فأبحث بحثًا مدقَّقًا، ثم أتقدَّم إلى حل المسألة الأخرى إذا كنت تشاء.
غ : إني أسمح لك، فتقدَّم.
س : أظن أنه حين يكون حُكَّامنا ومعاونوهم اسمًا لمسمَّى يكون الأولون آمرين والآخرون منفذين، طبقًا لأحكام الشريعة في الجانبين، مُستعملين إرادتهم في ما تركناه لحريتهم واختيارهم.
غ : ممكن، فإن ذلك ما نتوقَّعه منهم.
س : فعليك كشارعهم أن تنتقي أكفَّاء النساء كما انتقيت أكفَّاء الرجال، وأن تجمع بين الفريقين متوخِّيًا بقدر الإمكان أن يكونوا متشابهي الطبائع، ولمَّا كان مسكنهم وطعامهم مشاعًا، ولا أحد منهم يُخصُّ بملك أو عقار خاص، فيعيش الجنسان معًا، ويشتركون بالتمرينات وغيرها من مهام الحياة، فتكون نتيجة ائتلافهم ومشاركتهم الانقياد بالفطرة إلى المودَّة والاصطحاب. ألا ترى أن ذلك ضروريًّا؟
غ : ليس بالضرورة الهندسية، بل بالضرورة الحبيَّة، وهي أقوى من تلك وأبعد نفوذًا في إقناع جمهور الرجال.
س : بالتمام. على أن الاجتماع بدون نظام يا غلوكون أو بالأحرى: الفوضى على أنواعها أمر غير مقدَّس في مدينة السعداء، ولا يُبيحه الحُكَّام.
غ : بالصواب.
س : فواضح أن ثاني واجباتنا تقديس الروابط الزوجية على قدر الإمكان، وهذا التقديس يُلازم الزواج الذي يعود بأعظم فائدة على العامة.
غ : حتمًا.
س : فكيف يمكن بلوغ هذه الغاية يا غلوكون؟ إني أرى في بيتك كلاب صيد، كما أني أرى كثيرًا من أنواع الطير، فأظنُّ أنك تجود عليَّ بالإفادة في: هل وجَّهت الالتفات إلى كيفية مزاوجة هذه الحيوانات واستيلادها؟
غ : بأي اعتبار؟
س : أولًا: مع أن كلها أصيل، ألا يوجد فيها ما هو أفضل من غيره؟ أو ما سيصير أفضل؟
غ : يوجد.
س : أفتستولدها كلها على السواء؟ أم تعني باستيلاد الأفضل بقدر الإمكان؟
غ : أستولد الأفضل.
س : وفي أي عمر تستولدها؟ أفي الحداثة؟ أم في شرخ الصبا؟ أم في الهرم؟
غ : في شرخ الصبا.
س : وإذا لم تسلك في استيلاد حيواناتك هذا المسلك، أفتظن أن جنس الكلاب والطيور ينحطُّ كثيرًا؟
غ : أظن.
س : أفتختلف الخيول وسائر أنواع الحيوان في هذا الحكم؟
غ : لا أظن، ومن العبث أن يُظن هذا الظن.
س : فبالله أيها الصديق الحميم، أيُّ حكام ممتازين نفوز بهم إذا طبَّقنا ذلك على النوع الإنساني؟
غ : لا ريبة في الأمر، ولكن لماذا «ممتازين»؟
س : لأن هنالك ضرورة لوصفهم علاجات في دائرة واسعة، وأراك تُسَلِّم أنه إذا كان الداء لا يفتقر إلى كثير معالجة بل تكفيه الحماية والاعتدال، فطبيب عادي يكفي لسدِّ الحاجة. أما حيث تدعو الضرورة إلى علاجات فالحالة تستدعي أطبَّاء أوفر خبرة.
غ : هذا صحيح، ولكن ما هو وجه الشبه في ذلك؟
س : وجه الشبه ما يأتي: الأرجح أن حُكَّامنا سيضطرون إلى استعمال كثير من الخداع والغش لخير رعاياهم، وقد سبق الكلام في أن ذلك علاج نافع.
غ : نعم، وكُنَّا مُصيبين في ذلك.
س : يظهر أن هذه القاعدة الصحيحة تتطبَّق في أمر الزواج والتناسُل بنوعٍ خاص.
غ : وكيف ذلك؟
س : ينتج عمَّا تقدَّم أنه يجب أن نُكثر من تزويج أفضل الرجال بأفضل النساء، وأن نُقلَّ تزويج أدنياء الرجال بمثيلاتهم من النساء، وأن يُوجَّه الالتفات إلى تهذيب أولاد الأوَّلين وإهمال أولاد غيرهم إذا كنت تروح الحصول على أرقى دولة، ويجب الاحتفاظ بهذا السر، فلا يُكشَف إلا للقُضاة؛ ليكون جمهور الحُكَّام في مأمنٍ من الناس من النزاع على قدر الإمكان.
غ : غاية في الصواب.
س : فعلينا أن نولم ولائم خاصَّة ونزفُّ عرائسنا في أثناء الولائم، فنقدم الذبائح وننشد الأناشيد التي نظمها شُعراؤنا لائقة بالمقام، ولكنَّا نترك عدد الزواجات لاستحسان الحكام، بحيث يحفظون الموازنة في عدد السكان من غير زيادة ولا نقصان، غير مُغضين عن تأثيرات الحروب والأمراض ونحوهما في ذلك، فتظل مدينتنا — ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا — لا أكبر مما هي ولا أصغر.
غ : صواب.
س : ويجب استنباط نظام قويم للاقتراع عليهن يجعل أدنياء الرجال الذين سبقت الإشارة إليهم ينسبون زواجهم إلى القدَر لا إلى الحُكَّام.
غ : حقيق.
س : ويجب أن نخصَّ الشُّبَّان المبرزين في الحرب وغيرها بحرية الاختلاط بهنَّ مع الامتيازات والمكافآت الأخرى؛ لتكثر تحت هذا الستار مواليد والدَين كهؤلاء.
غ : مُصيب.
س : وحال ولادة الأطفال يتسلَّمهم موظَّفون مُختصُّون بهذا الغرض، إما نساء أو رجال أو من الجنسين؛ لأني أرى أن الوظائف في الدولة مُتاحة للجنسين سواء بسواء.
غ : نعم يتسلَّمونهم.
س : فيحمل الموظفون أولاد الوالدين الممتازين إلى المراضع العموميَّة، تحت عناية مُرضعات يسكنَّ أحياء خاصة بمعزلٍ عن الناس. أما أطفال الوالدَين المنحطِّين وكل الأطفال المشوَّهين فيُخفونهم قاطبةً في مواضع مُستترة مجهولة تُلائمهم.
غ : هذا إذا أرادوا أن تكون طبقة الحُكَّام نقيَّة.
س : ويُشرف هؤلاء الموظفون أنفسهم على الأطفال، ويستدعون والداتهم لإرضاعهم حين تفيض ثُديِّهنَّ، متخذين الاحتياطات اللازمة لكي لا تعرف والدةٌ طفلها. وإذا كان لبن الوالدات غير كافٍ يأتون بغيرهن لإرضاع الأطفال. أولًا يجب تحديد أوقات الرضاعة وتعيين مربيات وخادمات، يقُمنَ بواجب السهر وبما تستلزمه الطفولة من المهام.
غ : إنك تُسَهِّل على نساء حُكَّامنا ولادة الأطفال.
س : نعم، وهذا هو الواجب. ولنحوِّل أيضًا النظر إلى ثاني مواضيع البحث، فقد قُلنا إذا كنت تذكر أنه يجب استيلاد الذين في شرخ الصبا.
غ : نعم.
س : فهل توافقني في أن شرخ الصبا هو سن العشرين للإناث والثلاثين للذكور؟
غ : وإلى كم يمتد هذا الطور؟
س : الحد الذي أُعيِّنه للمرأة هو سن الأربعين، أما الرجل فإلى ما بعد اجتيازهم أوعَر مسالك الحياة، فينسُل للدولة إلى الخامسة والخمسين.
غ : لا شك في أن هذا هو شرخ الصبا للجنسين جسدًا وعقلًا.
س : فإذا نسل الرجل قبل هذا السن أو بعده حسبنا عمله تعدِّيًا على الدين والعدالة، فولادة مولود للدولة أمر لا يجوز إخفاؤه، بل يزوَّد بالذبائح والصلوات التي يرفعها الكُهَّان والكاهنات وجميع الأفراد في كل قران، ليكون طرفاه بريئَين نافعَين، فيكون النسل أبرَّ وأنفع. أما الزرع غير المقدس فقد وُلد في ظلمات الخفاء بسبب الاسترسال في المعاصي.
غ : أنت مُصيب.
س : ويجب أن يكون القانون واحدًا لمن نسل من الرجال ضمن حدود السن ولكن دون اطِّلاع القاضي، فنحسبه مجرمًا؛ لأنه أوجد للدولة نسلًا غير شرعي ولا مقدس وبدون كفيل.
غ : غاية في الإصابة.
س : ومتى بلغ الجنسان السن القانوني أبحنا للرجال من يشاؤهنَّ، إلا بناتهم وأمهاتهم وجدَّاتهم وحفيداتهم، كذلك يُباح للمرأة كل رجل إلا آباءها وأولادها وسلَفها وخلَفها، وذلك بعد أن نوصيها بفعل الأفضل، وهو: إذا حبلت إحداهُنَّ عرضًا (في غير الحال المقررة) فلا يرى جنينها النور، وإذا لم تتمكَّن من ذلك فيلزم التخلُّص من الطفل، على أساس أن ثمرة اجتماع هذا لا تجوز تربيتها.
غ : كل ذلك معقول، ولكن أنَّى تعرف بناتهم آباءهن والأقارب الآخرين الذين ذكرتهم؟
س : لا يعرفونهم بتاتًا، لكنهم يدعون جميع الأطفال الذين يولدون بين الشهر السابع والعاشر من قرانهم أبناءهم وبناتهم، وهؤلاء أيضًا يدعون الذكور آباءهم والإناث أمهاتهم، وأولاد المواليد أحفاد، ووالدي الوالدين أجداد وجدَّات، والمواليد الذين وُلدوا في دور التوليد المضروب لوالدَيهم يدعون بعضهم بعضًا إخوةً وأخوات. ويُحظَر على الإخوة والأخوات مس بعضهم بعضًا، ولكن الشريعة تُبيحه إذا أصابتهم القُرعة ووافقت كاهنة دلفي على ذلك.
غ : غاية في الصواب.
س : هذه هي شيوعيَّة النساء والأولاد في حكام دولتك يا غلوكون. وعلينا أن نشرع في تبيان أن هذه الفكرة متمشية مع سائر أنظمة حكومتنا، وأنها أفضل ما يمكن تصوُّره، وإلا فهل تقترح مسلكًا آخر؟
غ : افعل ما قلته من كل بُد.
س : أوَليست الخطوة الأولى نحو الاتفاق في هذه النقطة عرض السؤال الآتي: ما هو الخير الأعظم في إنشاء الدولة الذي يجب على الشارع أن يُراعيه في تشريعه؟ وما الشر الأعظم كذلك؟ ثم نبحث في: هل تتفق شرائعنا مع ما حسبناه خيرًا وتتنافى مع ما حسبناه شرًّا؟
غ : من كل بُد.
س : أفيوجد شر أعظم مما يمزق الدولة تمزيقًا بدل كونها كتلة واحدة؟ وهل من خير أعظم مما يضمها ويحفظ وحدتها؟
غ : لا يوجد.
س : أوَلا تضمها شركة الألم والفرح، فيفرح جميع سكانها معًا أو يحزنون معًا في سرَّائهم وضرَّائهم؟
غ : إنه كذلك.
س : أوَلا يحدث الاستقلال في العواطف انقسامًا، فيكون بعضهم فرحًا وغيره حزينًا في حادثٍ واحد يحل بالدولة وسكَّانها؟
غ : مؤكد يحدث.
س : أوَلا تنشأ تلك الحال عن عدم اتفاقهم في كلمة «لي» وكلمة «ليس لي» في الشيء الواحد، وكذلك باعتبار كلمة «للآخر» و«للغير»؟
غ : حتمًا هكذا.
س : فأفضل الطرائق في سياسة الدول استعمال أكثرية أهلها كلمة «لي»، أو «ليس لي» بفمٍ واحد للشيء الواحد.
غ : هذا هو الأحسن.
س : وبعبارةٍ أخرى: حينما تدنو الدولة من حالة الفرد، فإنه إذا جرحت إحدى الأصابع شعر الجسم كله بالألم لوحدة مركز الشعور، فيشارك الأعضاء جميعهم العضو المُصاب بالألم والحزن، فنقول إن هذا الإنسان مُصاب بأصبعه، وهكذا بالنظر إلى بقية أعضاء الجسم سواء من حيث الألم حين يكون العضو متألِّمًا، أو من حيث اللذة حين يكون مسرورًا.
غ : وهو كذلك. فنعود الآن إلى مسألتك: أن هنالك شبهًا تامًّا بين الجسم وبين الدولة المحكومة أفضل حكم.
س : فإذا أصابت أحد أفراد الدولة أذيَّة، أو حظي بنعمة، هبَّتِ المدينة جمعاء تشعر معه فرحًا وحزنًا؛ لأنه عضو في جسمها، فتفرح معه كلها أو تحزن كلها.
غ : ويجب أن يعمَّ الدولة هذا الشعور إذا حسُن نظامها.
س : قد حان الوقت للعودة إلى دولتنا، لنرى هل تمتلك أوفر نصيب من الصفات التي أوصلنا إليها بحثنا؟ أو تفوقها دولة أخرى في ذلك؟
غ : يلزم أن نفعل ذلك.
س : حسنًا، أليس في الدولة الأخرى كما في دولتنا قُضاة وعامَّة؟
غ : فيها.
س : أوَيدعو الناس بعضهم بعضًا «مواطنين»؟
غ : يدعون.
س : فبماذا يلقبون الحكام غير كلمة مواطنين؟
غ : يلقبونهم في أكثر الدول ﺑ «سادة»، وفي الديموقراطية منها يلقبونهم ﺑ «حُكَّام» فقط.
س : وماذا تطلق عامَّتنا على حُكَّامنا عدا كلمة «مواطنين»؟
غ : يدعونهم: «حفظة ومساعدين.»
س : وماذا يدعو الحكام رعاياهم؟
غ : يدعونهم: «صرافين وكافلين.»
س : وماذا يدعونهم في غير مدينتنا؟
غ : يدعونهم: «عبيدًا.»
س : وماذا يدعو الحكام بعضهم بعضًا؟
غ : «القُضاة الرصفاء.»
س : وحُكامنا؟
غ : «الحفظة الزملاء.»
س : أتذكر أن أحد حكام الدول حين يتكلم عن مساعديه يحسب أحدهم قريبًا وغيره غريبًا؟
غ : كثيرون يفعلون ذلك.
س : أوَلا يعتبر بعمله هذا القريب خاصته ويدعوه كذلك، والغريب بعكسه؟
غ : يفعل ذلك.
س : فهل يحسب أحد حُكَّامك مساعده غريبًا وينعته بهذا النعت؟
غ : كلَّا البتة؛ لأنه أيًّا لقي حسبه أخًا أو أختًا أو أبًا أو ابنًا أو ابنةً أو سلفًا أو خلفًا.
س : كلامك جميل جدًّا، فأجب عن هذه الأسئلة: أتكتفي بالألقاب العائلية؟ أو توجب عليهم أن يطبقوا تصرفهم على أحكامنا في كل الأحوال، فيقومون للآباء بكل واجبات الأبناء، كالطاعة والاحترام والخدمة، وإلا ساءت حالتهم في نظر الله والناس؟ ومن فعل ذلك فعمله تمرُّد على الدين والعدالة، فهل توجب أن تطرق آذان أولادنا هذه الشرائع بادئ ذي بدءٍ نحو من أُقيموا عليهم مقام الوالدين ونحو جميع الأقارب؟
غ : سنسنُّ ذلك؛ لأنه من السخافة الاقتصار في النسب العائلي على الألفاظ الشفاهية دون تطبيقها فعلًا.
س : فأرقى الأمم هي التي إذا أصاب أحد أفرادها خطبٌ أو حلَّتْ به نعمى قالوا في الرواية عنه مثلًا: «مَن لنا مبسوط»، أو «مَن لنا مصاب.»
غ : بأعظم تأكيد.
س : أوَلم نقل إن الشعور العام بالمسرة والألم يصحب هذا الأسلوب قولًا وفكرًا؟
غ : بلى، بالصواب قلنا.
س : أوَلا يمتاز مواطنونا باشتراكهم جميعًا في مصلحة يدعونها «لي»، وإذا لهم هذه المصلحة يتَّصفون إلى حدِّ بعيد بالمشاركة بالمسرَّة والألم؟
غ : نعم، إلى حدٍّ بعيد.
س : أوَليس مرجع ذلك وغيره من أقسام الدستور إلى شيوعيَّة نساء الحكام وأولادهم؟
غ : بلى، إلى الشيوعية بالأخص.
س : وقد سلَّمنا إذا كنت تذكر أن في هذا خير الدولة الأعظم، قياسًا للدولة الحسنة النظام على الجسم العضوي باعتبار مشاركته كلًّا من أعضائه في اللذَّات والآلام.
غ : نعم، وبالصواب فعلنا.
س : فقد اكتشفنا إذًا أن شيوعية نساء الحُكَّام وأولادهم هي سبب خير الدولة الأعظم.
غ : تمامًا هكذا.
س : وهكذا نتَّفق مع ما سبق تقريره لمَّا قُلنا إنه يجب أن لا يملك الحكام ملكًا خاصًّا، لا بيوتًا ولا عقارًا ولا شيئًا آخر، بل يتناولون نفقاتهم من الأهالي جزاء عملهم، وينفقون مشتركًا إذا راموا أن يكونوا حُكَامًا حقيقيِّين.
غ : حقيقة.
س : أفلا تجعلهم القوانين السالفة مع هذه الأخيرة حُكَّامًا ثقات وتحول دون تمزيقهم المدينة بكلمة «خاصَّتي» التي يُطلقونها على كل شيءٍ خاص، عوض إطلاقها على شيءٍ واحد، فيحملون كلٌّ إلى بيته ما أمكنه الحصول عليه دون غيره، ومن الجملة «الأزواج» والأولاد، فيخلقون مسرَّات وآلامًا خاصَّة بواسطة المصالح الخاصة، ويسببون في نفوس إخوانهم آلامًا عميقة باحتكارهم الخيرات، فتحول قوانيننا دون ذلك، وتحملهم معًا على اجتذاب كل خير للمركز العام، فيكون لهم رأي واحد في ما يمتلكون، وشعور واحد في السرَّاء والضرَّاء.
غ : حتمًا.
س : أوَلا تقصى من بينهم الشكايات المتبادلة لعدم وجود ملكية خاصة إلا أجسادهم وكل ما سواها مشاع؟ أوَلا يحررهم ذلك من الضغائن التي تحل بالناس لسبب التنازُع على الأموال والأولاد والأصحاب؟
غ : ليس إلا التجرُّد من هذه الأشياء.
س : ولا يحدث بينهم اغتصاب أو هجوم عدائي أو طعان، وإنما لأجل الدفاع عن سلامة أجسادهم نحسب التعاون في صد هجمات الآخرين منطبقًا على قواعد الشرف والعدالة؛ لأن المحافظة على الحياة ضرورة مقدسة.
غ : بالصواب.
س : ولهذا القانون الفائدة التالية، وهي أنه إذا كان في أحدهم موجدة على أخيه فإنه يجد لها منصرفًا بالمواجهة الشخصية، فلا يتفاقم الشر في ما بينهم.
غ : يقينًا.
س : فيسيطر كبيرهم على صغيرهم ويؤنبه.
غ : واضح.
س : ومن المؤكَّد أنه لا ينتظر أبدًا أن يُحاول الأصغر أن يضرب الأكبر أو يمس كرامته، إلا إذا تعيَّن للتنفيذ من قبل الحكَّام. ولا يهين صغيرٌ كبيرًا بوجهٍ من الوجوه، إذ هنالك مانعان لردعه هما الخوف والخجل، فيحول الخجل دون رفعه يده على أيٍّ كان ممن يحسبهم آباء، كذلك الخوف حذر انتصار الآخرين لهم من أخوة وأبناء.
غ : نعم، هذه هي نتائج قوانيننا.
س : وعلى كلٍّ، تضمن الشرائع السلام بين رجالنا.
غ : ضمانًا وثيقًا.
س : وإذا تحرَّروا من المنازعات الداخلية أمنوا قيام الأهالي عليهم أو قيام بعضهم على بعض.
غ : أمنوا ذلك.
س : وهنالك شرور زهيدة لا أختار ذكرها (في القانون) نظرًا لتفاهتها، كتمليق الأغنياء، واضطراب الرجال وغضبهم في تربية العائلة، وفي إحراز الأموال اللازمة لسدِّ نفقات الأُسر والخدم، تارة يقترضون، وطورًا يُطلِّقون نساءهم، وآونة يستنبطون الحيل لجمع ثروة يضعونها بين أيدي النسوة والخدم واثقين بتدابيرهم، وكل الاضطرابات التي تسببها هذه الأحوال هي واضحة يا صديقي وضوحًا تامًّا، عدا كونها تافهة.
غ : واضحة حتى للعميان.
س : وإذ ينجون من كل هذه الشرور يعيشون بسلام عيشةً أكثر سعادة واغتباطًا من عيشة الذين أحرزوا الفوز في الألعاب الأولمبيَّة.
غ : وكيف ذلك؟
س : إن السعادة المخصَّصة بالفوز في الألعاب هي زهيدة بالنسبة إلى سعادة رجالنا، ففوزهم أمجد وتعضيد الدولة إيَّاهم أكمل؛ لأن فوزهم هو سلامة الدولة كلها، وسينالون التيجان وأكاليل الغار هم وأولادهم جزاء جهودهم. هذا عدا ضمان لوازم حياتهم، ثم يُدفنون بالتجلَّة والاحترام.
غ : حقًّا إنها امتيازات مجيدة.
س : أوَتذكر الاعتراض الذي أورده بعضهم٥ في سياق أبحاثنا السابقة، وهو أننا لم نجعل حكامنا سعداء لأنهم لا يملكون شيئًا، مع أنه في إمكانهم أن بيتزُّوا ثروة الأهالي. ورددنا عليه أننا سننظر في هذه النقطة فيما بعد إذا عرضت لنا في طريقنا؟ وكنا حينذاك ننظر في جعل حُكَّامنا حكامًا حقيقيِّين لأجل سعادة المدينة إجمالًا على قدر إمكاننا، دون تمييز فئة من أهلها وخصها بالسعادة؟
غ : أذكر ذلك.
س : وقد رأينا أن حياة معاوني حكامنا أشرف كثيرًا من حياة الفائزين بالجعالات الأولمبية. أفيمكن أحد أن يتصوَّر أن حياة الأساكفة والزُّرَّاع وغيرهم من أرباب الحرف تقابل بها؟
غ : لا أظن.
س : فمن المناسب على كل حال أن أُعيد هنا ما قلته هنالك، وهو: إذا قُصد بالحُكَّام أن يكونوا سعداء بحيث لا يبقون حُكَّامًا، ولم يقبلوا الحياة المعتدلة الراهنة التي نحسبها الفُضلى، بل علقوا بحماقة الحداثة وغرورها في ما يتعلق بالسعادة، فتدفعهم حماقتهم إلى استخدام قوتهم في انتهاك حُرمة كل ما في المدينة من الخيرات، فحينئذٍ يتحققون حكمة هسيودس٦ أن النصف خير من الكل.
غ : إذا قبلوا مشورتي فإنهم يقفون عند حدهم.
س : فتُسلِّم معي بمبدأ وضع النساء مع الرجال على قدمٍ واحدة كما أوضحنا في التهذيب وفي تربية الأطفال وفي سياسة الأهالي. وفي حال إقامتهنَّ في المدينة وحال خروجهن إلى الحرب يشاطرن الرجال واجبات الحكم، ويرافقنهم في الطراد ككلاب الصيد، ويكون كل شيء عندهم مشاعًا قدر الاستطاعة، وبذلك ينهجن أفضل منهج، ولا يُسئن إلى العلاقة التي تسود أواصر المودة المتبادلة بين الجنسين.
غ : أُسلِّم بكل ذلك.
س : أفليس الباقي لدينا هو النظر في إمكان تعميم الشيوعية بين الناس كما هي بين البهائم؟ وفي أي حال يمكن ذلك؟
غ : سبقتني إلى ما كنت عازمًا أن أقوله.
س : أما بالنظر إلى الحركات الحربية فأرى أنه واضح كيف يتصرفون.
غ : وكيف ذلك؟
س : يخرج الجنسان معًا إلى ميادين القتال، ويصحبان أولادهما الأشدَّاء لكي يروا كغيرهم من أبناء الحرف الأخرى الأعمال التي يجب أن يمارسوها بإتقان متى راهقوا، ومع الفرجة يخدمون في كل ما يلزم الحرب، ويساعدون آباءهم وأمهاتهم في الميدان كخدم، وينتظرون خروجهم من المعارك، ولا شك في أنك تلاحظ ما يجري في الفنون المنوَّعة، فإن أولاد الخزَّافين مثلًا يساعدون آباءهم طويلًا قبلما يمارسون صناعة الخزف بأنفسهم.
غ : حقًّا إني لاحظت.
س : أفيكون الخزَّافون أكثر اهتمامًا بأولادهم من حُكَّامنا بإطلاعهم إيَّاهم على ما يتعلق بحرفهم الخاصة؟
غ : من السخافة أن يكون ذلك كذلك.
س : ثم إن كل مخلوق يبلي البلاء الحسن في الحرب في حضرة أولاده.
غ : هذا هو الواقع. على أن هنالك خطرًا كبيرًا يا سقراط: إذا هم انكسروا فيهلك الأولاد مع والديهم، فتضعف المدينة ضعفًا لا يُحتمل.
س : قولك حق، ولكن دعني أسألك: هل نجعل عدم تعرُّضنا لخطر متوقَّع أول واجب؟
غ : قطعًا لا.
س : أوَلا يكون تعرُّضهم للخطر وسيلة رجولتهم في حال انتصارهم؟
غ : واضح أن ذلك محتوم.
س : أوَتظن أنه أمر زهيد لا يستحق مصادمة الأخطار، أن يشهد الأحداث الحرب منذ نعومة أظفارهم إذا كانوا مُزمعين أن يكونوا جنود المستقبل؟
غ : بل إنه أمر عظيم باعتبار ما شرحته.
س : فيلزم سن قانون لحمل الأولاد على أن يشهدوا الحرب، مع الاهتمام بسلامتهم، وعندها يهون كل أمر، أليس كذلك؟
غ : بلى.
س : أوَلا يحكم آباؤهم، أيَّة الحملات خطرة وأيَّتها غير خطرة؟
غ : الأرجح أنهم يحكمون.
س : فيقودونهم إلى هذه ويعرجون بهم عن تلك.
غ : حق.
س : وأؤكد أنهم يعيِنون ضبَّاطًا لإرشادهم وتعليمهم، وليس أولئك الضباط من حُثالة الجُند، بل من القُوَّاد المدربين الذين حنَّكهم الاختبار.
غ : مناسب جدًّا أن يفعلوا ذلك.
س : ويجب أن نعلم أن كثيرين منهم يلقون خلاف ما توقَّعوا.
غ : نعم، كثيرًا جدًّا.
س : فتدارُكًا لمفاجآت كهذه يا صديقي العزيز يجب أن نضع لأولادنا جناحين ليهون عليهم الفرار حين اللزوم.
غ : ماذا تعني؟
س : يجب أن يمتطوا ظهور الخيل منذ الحداثة، ومتى تعلموا الطراد يؤخذون إلى ساحة الهيجا، لا على متون الصافنات الشديدة المراس، بل على متون أسرع الخيول وأطوعها للعنان، فيكونون في أنسب موقف لملاحظة عملهم المستقبل، وفي الوقت نفسه يتمكَّنون من الهرب متى دعت الحاجة بأتمِّ سلامة وراء قوَّادهم الشيوخ.
غ : أرى خطتك حكيمة.
س : ولنأتِ الآن إلى قوانين الخدمة العسكرية: فما هو موقف جنودك تجاه إخوانهم وتِجاه الأعداء؟
غ : عرِّفني ما هو موقفهم؟
س : ألا يجب أن نهبط بكل من يخلي صفه ويلقي سلاحه أو يأتي عملًا من أعمال الجبانة إلى طبقة الصُّنَّاع والزُّرَّاع؟
غ : حتمًا.
س : وإذا وقع جندي أسيرًا في أيدي الأعداء، أفلا يكون هبة بيد مالكه يصنع به ما شاء؟
غ : بلى، من كل بُد.
س : وإذا برهن أحد الجنود على كفاءة راجحة فربح ثقة الدولة، ألا تظن أنه يجب أن يُكلِّله بالغار رفقاؤه الجنود في ساحة الحرب كبارًا وصغارًا؟
غ : أظن هكذا.
س : وما قولك في مصافحتهم إيَّاه باليمين؟
غ : يُصافحونه.
س : ولكنني لا أراك تقبل اقتراحي التالي.
غ : وما هو؟
س : أن يبادلوه القُبُلات واحدًا فواحدًا.
غ : أقبله بالتأكيد. وأضيف إلى القانون أن لا يتمنَّع أحد منهم والحرب حامية الوطيس من إجابته إلى رغبته إذا أراد أن يُقبِّله، حتى إذا مال جندي إلى أحدهم أو إحداهُنَّ يزداد همَّة لحلول رغبته هذه في قلبه محل شارة الظفر.
س : حسنًا، وقد سبق القول بأن يمتاز الجندي الشجاع على غيره بالتوسُّع في حرية الزواج، ويتمتَّع بحرية خارقة في اختياره الزوجة ما أمكن، حتى يكثر نسل والد كهذا.
غ : صحيح إننا قلنا تلك.
س : وهنالك شرف آخر تقضي العدالة بإسباغه على الشُّبَّان الممتازين بحُسن السلوك، حتى بحُكم هوميرس، فقد رَوَى أنه لمَّا برَّز أجاكس في الحرب، كوفئ في وليمة الظفر بأن خُصَّ بفخذ العجل كله،٧ وذلك الإكرام علاوة على ما فيه من الشرف يؤدي إلى زيادة القوة الجسدية، فالشاب في شرخ الصبا جدير به.
غ : رأيٌ ثاقب.
س : فعلينا بأقلِّ الدرجات أن نتبع رأي هوميرس في إكرام جنودنا المستحقين في حفلات الشكر وفي سائر الحفلات، بالنسبة إلى ما أبدوه من ظاهرات الهمَّة، فيُكافئون بالامتيازات التي مرَّ بيانها، وبالأناشيد، وبكئوس مترعة أيضًا، وباللحوم الطيِّبة، وبمراتب الشرف.٨ فنقوم بإكرامهم خير قيام، ونخدمهم خدمة أكابر الرجال، ولا نرمي فقط إلى إكرام الرجال والنساء، بل أيضًا إلى ترقية الفن العسكري.
غ : فكرة جميلة.
س : حسنًا جدًّا. وإذا قُتل أحد الجنود في الحملة، أفلا نُعلن أولًا أن الذين ماتوا ميتة شريفة هم من الجنس الذهبي؟
غ : بكل تأكيد نُعلن.
س : أوَلا تصدق هسيودس في ما رواه، أنه حين يموت أحد رجال هذه الطبقة:٩
يُضحُّون من أسمى جبابرة العلى
مقصين شر الظالمين عن الملا
غ : مؤكد نصدقه.
س : فنسأل الوحي كيف نُجَنِّز الأطهار الفائقين، ثم ندفنهم بالطقوس التي أوحاها إلينا.
غ : مؤكد نسأل.
س : ونقيم على احترام مدافنهم وإكرامها أبد الدهر كمدافن الجبابرة، ونحرص على إتمام هذه المراسم، كما نُتِمُّها لمن اشتهر من الأهلين بالشجاعة إلى أن يموت حتف أنفه أو تحل به كارثة.
غ : حقًّا، إن هذا هو الإنصاف.
س : وما هو موقف جنودنا أمام أعدائهم؟
غ : بأيِّ اعتبار؟
س : أولًا في أمر الاستعباد. أفمن العدالة أن يَستَعْبِد اليونانيُّون مدنًا يونانية حرة؟ أوَلا يجب أن يأنفوا من ذلك جهد المُستطاع، ويُقيموا على خفارة القبائل اليونانية لئلَّا يستعبدها البرابرة؟
غ : إن إنقاذها أفضل جدًّا من استعبادها.
س : فالأفضل لنا أن لا يستعبد جنودنا يونانيين، وأن يوعزوا إلى اليونانيِّين بلزوم الكف عن هذه العادة.
غ : من كل بُد، وتتفرَّغ أفكارهم حينذاك للبرابرة عوض اشتغالهم بمقاتلة بعضهم بعضًا.
س : أوَيليق بهم تجريد القتلى بعد قهرهم إلَّا من أسلحتهم؟ أوَلا يمنح ذلك العمل عذرًا للجبناء في قعودهم عن مطاردة الأعداء الأحياء اشتغالًا بأشلاء الموتى؟ أوَلم تهلك جيوش كثيرة بسبب النهب؟
غ : لا ريب في أن كثيرين هلكوا.
س : ألا ترى سلب الموتى طمعًا دنيًّا؟ أوَليس من الأوضاع النسائية وصفات العقول الصغيرة، النظر إلى جثة الميت نظرة عدائيَّة، مع أن العدو الحقيقي قد ولَّى قصيًّا، تاركًا وراءه الآلات التي كان يحارب بها (أي الجثة)؟ أوَتحسب من أتى ذلك خيرًا من الكلاب التي تثور على حجرٍ رميت به تاركة راميه؟
غ : ليسوا خيرًا منها ولا قيد أنملة.
س : فعلينا بالتنكُّب عن تجريد الجثث والتدخُّل في نقلها.
غ : ولا نحمل أسلحة المغلوبين إلى الهياكل لتكرسيها، ولا سيما أسلحة اليونانيِّين، إذا رُمنا توثيق عُرى التفاهم معهم، بل يجب الحذر من أن يكون حمل أسلحة إخواننا إلى الهياكل تدنيسًا لها، إلا إذا أوجب الوحي ذلك.
غ : غاية في الصواب.
س : وكيف يعامل جنودك الأعداء اليونانيِّين باعتبار نهب بلادهم وحرق بيوتهم؟
غ : يسرُّني أن أعرف ما هو رأيك في هذا الأمر؟
س : رأيي أن لا يُفعل بها شيء من الأمرين المذكورين، بل تؤخذ منها حاصلات سنة واحدة. أفتريد أن أخبرك السبب؟
غ : نعم أريد.
س : كما أننا نستعمل كلمتي «حرب ونزاع» مختلفتين دلالةً، فهنالك نوعان متباينان من المشادة، أحدهما بين الأقارب والأصحاب، والآخر بين الأجانب، فالخلاف بين الأولين أدعوه «نزاعًا»، وبين الغُرباء أدعوه: «حربًا.»
غ : لا شيء غير معقول في ما تقول.
س : فاصغ وتأمَّل، فإن ما أقوله معقول أيضًا، فإني أؤكد أن أفراد الأمة اليونانيَّة إخوان وأقارب بعض لبعض، ولكنهم غرباء وأباعد عن البرابرة.
غ : أوافقك في هذه الفكرة.
س : فلا يبرح فكرك ما قيل الساعة في أمر النزاع، فإذا حدث شيء من ذلك أينما كان وانشقَّت الدولة، فنهب كل فريق بلد الآخر وحرق بيوته، كانت تلك الخصومة خطبًا فاضحًا، وحُسب الفريقان غير وطنيِّين، ولو كانوا وطنيِّين لما أقدموا على مضرَّة والدتهم ومرضعهم، فحسب الظافر مغنمًا أن هذا الشعور يُعرب عن رقي إنساني أكثر من ذاك.
س : جيدًا، أفليست الدولة التي تؤسسها يونانية؟
غ : هكذا يلزم أن يكون.
س : أوَلا يكون أهلها كرام النفوس؟
غ : من كل بد.
س : أوَليسوا يونانيِّين ويحسبون بلاد اليونان كلها وطنهم؟ ويشاركون إخوانهم اليونانيِّين في شعائر ديانتهم العامة؟
غ : من كل بُد.
س : أفلا يحسبون المشادة مع اليونانيِّين باعتبار كونهم إخوانهم نزاعًا لا حربًا؟
غ : بلى.
س : فيشعرون في أثناء النزاع شعور الأصحاب الذين لا بد أن يتصافُوا؟
غ : تمامًا هكذا.
س : فيصالحونهم بروح الإخاء، ويؤنِّبونهم دون أن يفكروا في استعبادهم ودمارهم، بل يعاملونهم معاملة الأستاذ تلاميذه، لا معاملة العدو أعداءه.
غ : بالتمام.
س : ولمَا كانوا يونانيِّين فلا يدمرون بلاد اليونان، ولا يحرقون البيوت، ولا يحسبون جميع الأهالي أعداءهم رجالًا ونساءً وأولادًا، بل يحصرون هذه التسمية بالقليلين الذين أوروا زنادها، فلا يدكُّون البيوت، ولا يخربون البلاد، فإن أصحابها أصدقاؤهم، بل يقتصرون على خوض غمارها حتى يقتصَّ الأبرياء من المذنبين.
غ : أُسَلِّم أنه على شعبنا احترام هذه القوانين في معاملة أعدائهم، وأريد أن يعاملوا البرابرة كما يُعامل اليونانيُّون بعضهم بعضًا في هذه الأيام.
غ : فعلينا أن نضيف إلى شرائعنا قانونًا يحظر على حُكَّامنا حرق البيوت وتدمير البلاد.
غ : فلنصنع ذلك، وهو مع كل ما قرَّرته صواب.
ولكن يظهر لنا يا سقراط أنه إذا سمحنا لك أن تستمر في هذه الخطة فإنك لا تذكر ما نحيته جانبًا لمَّا ولجت هذه الأبحاث، وهو أن تُبيِّن أن هذا النظام من الممكنات، وتُبيِّن أيضًا طريق تحقيقه؛ لأن في مساق الإدلاء على تحقيقه تتبيَّن المنافع الجمَّة الناجمة عنه لمدينة كانت قاعدة له، وإني أستطيع أن أورد حقائق كثيرة أغفلتها أنت، منها:

أن جنودًا كهؤلاء إنما يبلون في حربهم البلاء الحسن لأنهم يأنفون التخاذل، وذلك لازم عن حسبانهم بعضهم بعضًا آباء وأبناء وأخوة، فيألفون هذه التسميات العزيزة، ويأبون التخلي بعضهم عن البعض الآخر، وإذا صحبتهم النساء إلى الحرب سواء حللن الصفوف كتفًا إلى كتف مع الرجال، أو لبثن وراءهم كاحتياط لإلقاء الرعب في قلوب الأعداء، فحسب رأيي أنهم لا يدحرون. وإني أعلم كل ما حذفته أنت من الفوائد التي يتمتَّعون بها في الوطن، ولكنك ضربت عنها صفحًا، ولمَّا كنت عالمًا بكل مزايا هذا النظام وبألوفٍ من أمثالها فلا لزوم للإطالة في شرحها، فلنقنع أنفسنا الآن بأن المسعى عملي، ولنبيِّن طريقة تحقيقه، ونُغفل ما سوى ذلك.
س : بأيَّة مفاجأة جابهت حُجَّتي، ولم ترثَ لِما بي من نَصَب، وربما إنك لم تفقه أنني جهدت في تخطِّي العقبتين السابقتين، فتسوق الآن عليَّ ثالثة هي أثقل الثلاث وقعًا وأعظمها خطرًا. ولا بد من أنك بعد ما رأيت ذلك وسمعته تعذرني عن ترددي ووجومي، وتُسلِّم بتوافر الأسباب لتخوُّفي من فتح باب نظرية مخيفة والدخول في شعاب تمحيصها.
س : كلما أطنبت في وصف هذه الشدة قلَّت حريتك وتعذَّر إعفاؤك من تبيان إمكان هذا النظام، فهات بيانك وكفى تأخُّرًا.
س : ولا ننسَ أولًا أننا بلغنا هذه النقطة سعيًا وراء البحث في طبيعة العدالة.
غ : حقيق. ولكن ما شأن ذلك هنا؟
س : لا شيء، ولكن إذا عرفنا ما هي العدالة أفنتوقع أن لا تختلف سجية العادل عن حكمها في أمرٍ ما، بل تكون صورتها وقسيمتها حذو القذة بالقذة، أم أننا نكتفي ببلوغه (العادل) أقرب نقطة إليها، وكونه أكثر الناس عملًا بها؟
غ : نكتفي بذلك.
س : فغرض أبحاثنا هو: في طبيعة العدالة نفسها، وسجية العادل الكامل، وإمكان وجوده، وكذلك طبيعة التعدِّي، وسجية الرجل البالغ أقصى حدوده، فلنتَّخذهما نموذجين، ولننظر في كلٍّ منهما لنتبيَّن نسبتهما إلى السعادة وإلى الشقاء، وبذلك يمكننا الحكم أن من اقتفى خطواتهما ونسج على منوالهما شاركهما في مصيرهما. ولم يكن غرضنا النظر في إمكان حصول هذه الأمور بالفعل.
غ : هذا هو الحق الصراح.
س : فإذا رسم فنان مثلًا إنسانيًّا أعلى، ولم يكن رسمه ناقصًا في شيء، أفتظن أنه يجرح لأنه عجز عن نصب الدليل على إمكان وجود شخص ينطبق عليه هذا الرسم؟
غ : لا أظن.
س : أفلم نقُل أنَّا توخَّينا في بحثنا أن نرسم نموذجًا للمدينة الكاملة؟
غ : بالتأكيد.
س : أفيجرح نظريتنا في شرعك العادل عجزنا عن إثبات وجود مدينة منظمة من الطراز الذي وصفناه؟
غ : كلَّا ثم كلَّا.
س : فهذه هي واقعة حالنا، ولكني إذا وجب عليَّ لأجل مسرَّتك أن أجهد نفسي في تبيان تحقيق مثلنا الأعلى بأي اعتبارٍ كان، فأسألك أن تُسلم بما سلَّمت به قبلًا.
غ : وبمَ سلَّمت؟
س : هو هذا: أيمكن إنفاذ نظرية ما، في أي موضوع كان إنفاذًا تامًّا؟ أو أن من شرائع الطبيعة أن التطبيق لا يبلغ مبلغ النظرية من الكمال؟ ولا بأس إذا رأى بعضهم خلاف رأينا، أفتُسلِّم بهذا أم لا؟
غ : أُسلِّم.
س : فلا تطلب مني تطبيق النظرية تطبيقًا تامًّا. على أنه إذا أمكننا أن نثبت إمكان تنظيم دولة في أقرب الحالات التي صوَّرناها، وجب عليك التسليم بأنَّا اكتشفنا إمكان تحقيق الخطة التي سألتني تبيانها، أفلا نكتفي بالفوز بذلك؟ أما أنا فأكتفي.
غ : وأنا أيضًا أكتفي.
س : فيجب أن تكون خطتنا الثانية تبيان ما في دولتنا من نقصٍ يحول دون كمال أوصافها المقررة نظريًّا، مقتصرين على تغيُّر واحد أو اثنين أو أقل ما يمكنَّ من التغيير عددًا وتأثيرًا.
غ : فلنتقدم إلى ذلك بأعلى همة.
س : أرى أن هنالك تغييرًا واحدًا يضمن حدوث الثورة، ولكنه ليس صغيرًا ولا سهلًا، إلَّا أنه ممكن.
غ : وما هو؟
س : أنا الآن على وشك المصارحة بالبيان الذي شبَّهناه بالموجة الكبرى، ولكن الحق أولى بأن يُقال ولو أغرقتني الموجة التي كالموج الطبيعي تنتهي بضجَّة وذعر، فأعِرني سمعك.
غ : تفضَّل.
س : يا عزيزي غلوكون، لا يمكن زوال تعاسة الدول وشقاء النوع الإنساني ما لم يملك الفلاسفة أو يتفلسف الملوك والحكام فلسفة صحيحة تامَّة. أي: ما لم تتحد القوتان: السياسية والفلسفية في شخصٍ واحد، وما لم ينسحب من حلقة الحكم الأشخاص الذين يقتصرون على إحدى هاتين القوتين، فلا تبرز الجمهورية التي صوَّرناها في بحثنا إلى حيز الوجود، ولا ترى نور الشمس. والذي حملني على التردُّد في إبداء هذا الرأي هو شعوري أنه يُضاد الرأي العام كل المضادة؛ لأنه يعسُر الإقناع بأنه وسيلة لحصول الفرد والدولة على السعادة.
غ : يا سقراط، إن اللهجة التي تتكلم بها والآراء التي توردها تُثير عليك جموعًا من عُتاة الخصوم، فسينقضُّون عليك مُستبسلين دون ما تردُّد، فيطرحون أرديتهم ويشرعون ضدك ما طالته أيديهم من سلاح، فإذا لم تصد هجماتهم بقاطع برهانك ليتسنَّى لك الإفلات من أيديهم، حلَّتْ بك عقوبة المستهزئين الجاحدين.
س : أفلستَ أنت الذي جلب عليَّ كل ذلك؟
غ : بلى، وبالصواب فعلت. على أني لن أتخلَّى عنك في هذه المعمعة، بل سأدفع عنك بما لديَّ من سلاح، وسلاحي هو حُسن النية والثقة، وقد أبدي في أجوبتي من الحذق ما يقصر عنه السوي، فتقدَّم مُستنِدًا إلى هذه النجدة وأرِ المُشَكِّكين أصالة رأيك.
س : يجب أن أتقدَّم ما دُمت أنت حليفي العظيم، وإذا رُمنا التخلُّص من المهاجمين الذين أشرت إليهم فأرى من اللازم أن نعطيهم تحديدنا «الفلاسفة» الذين يحقُّ لهم الحكم، حتى متى تجلَّتْ مزاياهم لنظر الجمهور فرأى من نعني بالفلاسفة أمكننا حينذاك الدفاع عن أنفسنا، فندَّعي أن طلب الفلسفة هو حقٌّ طبيعي لهؤلاء الناس، وأن يتقلَّدوا زمام الحكم، وتنحصر دائرة اختصاص الغير في ترك الفلسفة وشأنها، والخضوع للفلاسفة الحاكمين.
غ : إنه وقت ملائم إيراد تحديد كهذا.
س : فهلُمَّ ورائي نُجرب أن نشرح فكرتنا بصورة مقبولة.
غ : تفضَّل.
س : هل يلزم أن أُذكِّرك أو أنت تذكر لذاتك ما قُلناه في خلال البحث؟ وهو: إذا أحبَّ أحد شيئًا فلا يحصر محبَّته في قسمٍ مما أحبَّ دون غيره، بل يُحبه كله بجميع أجزائه؟
غ : أرجو تذكيري، فلم أفهم ذلك تمامًا.
س : إن اعترافًا كهذا يجدر بسواك يا غلوكون، أما رجل ذو فطرة حبية نظيرك فلا يجوز أن ينسى أن من فُتن بالحب شُغف بمن فتنوه وهم في شرخ الصبا؛ لأنه يراهم جديرين بشغفه وتزلُّفه. أليس هذا هو الأسلوب الذي تجري عليه، فتمدح في الفتى قِصَر الأنف لأنه جذَّاب؟ والأنف الأقنى عندك ملوكي المظهر؟ وثالث الأنوف وهو المتوسط بين هذين، يجعل الوجه أكثر اتِّساقًا وجمالًا؟ وترى سُمر الألوان ذوي رجولة، وشُقر الألوان أبناء الآلهة. ومن صاغ هذه العبارة «الأصفر الزيتوني» إلا العاشق الذي انتحل لنفسه عذرًا لمَّا رأى صفرة وجنة الحبيب؟ وبالاختصار: إنك تخلق أنواع الأعذار، وتستخدم كثير الأمثلة، ولا تعرج عن حب من كان في نضارة الحياة.
غ : إذا أردت اتِّخاذي وسيلة للحكم بأن العُشَّاق يتصرفون هذا التصرُّف فإني أُسلِّم بذلك جدلًا.
س : ولنورد مثلًا آخر: ألا ترى أن المولعين بالخمرة يضربون على الوتر نفسه، فيختلقون الأعذار لرشف كل نوع من الخمور؟
غ : بلى يقينًا.
س : وأراك ولا بد تفهم أن عُشَّاق المجد إذا لم يتسنَّ لهم قيادة جيش تعلَّلوا بقيادة فصيلة، وإذا لم يحصلوا على إكرام أكابر الرجال وفُضلائهم اكتفوا بامتداح قليلين ممَّن لا وزن لهم؛ لأنهم مولعون بالمجد بأيَّة صورة كان.
غ : حتمًا هكذا.
س : فأجب عن هذا السؤال سلبًا أو إيجابًا: إذا وصفنا إنسانًا بالشوق إلى شيء، أفنعني أنه يشتاق إلى كل ما يحبه أو إلى قسمٍ منه فقط دون القسم الآخر؟
غ : يشتاق إليه كله.
س : أفلا نجزم أن الفيلسوف أو محب الحكمة هو الذي يشتاق إلى الحكمة اشتياقًا كليًّا لا جُزئيًّا؟
غ : حقيقي.
س : فمن أقام العقبات في سبيل دروسه، ولا سيما وهو حديث السن غير قادر أن يميز بين النافع والضار، حسبناه غير مُحب الدرس أو الحكمة. كذلك من لا يرضيه نوع من الطعام لا نراه جائعًا إلى القوت ولا راغبًا فيه، فبدلًا من أن نحسبه مولعًا بالطعام نصفه بضعف الشهيَّة.
غ : نعم، وإنَّا مُصيبون في ذلك.
س : أمَّا الراغب في تذوُّق كل أنواع المعرفة فيُكِبُّ على دروسه بسرور ورغبة ولا يكف. إن إنسانًا كهذا بحق ندعوه فيلسوفًا. ألا ندعوه؟
غ : إن وصفك هذا يشمل عددًا عديدًا، ويضم طائفة مُستهجنة، وبحسبِهِ كل عشاق الطلب فلاسفة؛ لأنهم راغبون في المعرفة، وكذلك المنصبُّون على سمع القصص هم طبقة خاصة بين الفلاسفة، أعني بهم الذين لا يشهدون محاورة فلسفية ولا غيرها من أنواع المحاورات على أنهم سامعون مواظبون لا يغيبون عن حفلة ديونيسية١٠ في مدينة أو قرية، فكأنهم آجروا آذانهم للسمع لكل جوقة في وقتها. أفنهب لهؤلاء لقب الفلاسفة، ولأمثالهم ممن لاذ بأي نوع من الدروس، ولأساتذة الفنون الصغرى؟
س : مؤكَّد لا، بل ندعوهم فلاسفة زائفين.
غ : فمن هم الذين تدعوهم فلاسفة حقيقيِّين؟
س : هم الذين يحبون أن يروا الحقيقة.
غ : لا يمكن أن تُخطئ في هذا، ولكن هل تريد أن توضح ما تعنيه؟
س : ليس ذلك سهلًا مع غيرك، أما أنت فتجود عليَّ بالتسليم الذي أنشده.
غ : وما هو ذلك التسليم؟
س : هو في ما يأتي: لمَّا كان الجمال ضد القبح فهما شيئان.
غ : مؤكد أنها شيئان.
س : وإذا كانا شيئين فكل منهما واحد على حدة.
غ : وهذا أيضًا حق.
س : ويتمشَّى هذا الحكم نفسه على العدالة والتعدِّي، وعلى كل التصوُّرات العمومية، فكلٌّ منها شيء واحد، لكنه يظهر مُتعدِّدًا باعتبار علاقاته المتبادلة بالأشياء والأعمال التي بها يتجلَى في كل مكان.
غ : أنت مُصيب.
س : واستنادًا إلى هذا المبدأ أميز بين الذين وصفناهم الآن أنهم عشاق النظر والصناعة ومحبة الفنون ورجال العمل من جهة واحدة، وبين الذين نحن في صددهم، وهم وحدهم نسميهم فلاسفة في الجهة الأخرى.
غ : أوضِح ما تعني.
س : أعني أن محبي النظر والسمع يعجبون بالجميل من الأصوات، والأشكال، والألوان، والصور، وكل ما دخلت في تركيبه هذه الأشياء من منتوجات الفن، ولكن فهمهم يقصر عن إدراك كنه الجمال واعتناقه.
غ : نعم، إنه كما تقول.
س : أوَليس القادرون على التفكُّر الحر في الجمال المطلق هم قلائل؟
غ : حقًّا إنهم قلائل.
س : فإذا أدرك امرؤ وجود الأشياء الجميلة ولكنه جحد الجمال المطلق، وعجز عن اتباع من تقدمه إلى إدراكه، أفحلمًا تُحسب حياة إنسان كهذا أم يقظة؟ تأمَّل، أليس الحالم في يقظةٍ أو في منام هو الذي يخلط بين الحقائق وبين الصور المنعكسة عنها؟
غ : أعترف أن امرأً كهذا حالم.
س : وما قولك في من غايره ففهم الجمال المطلق وامتلك قوة التمييز بين هذا الجوهر وبين الأوساط التي يتجلَّى بها، فلا يُخطئ في حسبان المجالي جوهرًا ولا الجوهر مجالي، أفحلمًا تحسب حياة هذا أم يقظة؟
غ : يقظة دون شك.
س : أفلسنا مُصيبين إذ ذاك في تسمية فعل الشخص الثاني العقلي معرفة لأنه أدرك الحقيقة، وفعل سابقه تصوُّرًا لأنه تصوَّر فقط؟
غ : غاية في الصواب.
س : حسنًا، فإذا امتعض من سمَّيناه متصوِّرًا لا عارفًا وغضب علينا مُدَّعيًا أن ما قُلناه غير صحيح، فهل لنا من سبيلٍ لتلطيف غضبه وإقناعه برقَّة ولين، ساترين عنه حقيقة حاله، وهي أنه ليس في حال الصحة؟
غ : ذلك أمر مرغوب فيه.
س : فانظر في ما يلزم أن نقول له، أتستحسن أن نحادثه مُسَلِّمين أنه لو عرف شيئًا لما حسدناه على علمه أقلَّ حسد، بل كُنَّا نُسَرُّ بأنه كما يدَّعي. ولكنَّا نقول له: أجب عن هذا السؤال: إذا عرف ذو الحجى فهل عرف شيئًا أو لا شيء؟ أجب عنه يا غلوكون.
غ : أُجيب أنه عرف شيئًا.
س : أوَموجود ذلك الشيء أو لا موجود؟
غ : بل موجود؛ لأنه كيف يمكن غير الموجود أن يُعرف؟
س : أفمتثبِّتون نحن من هذه الحقيقة في أيَّة صيغة نظرنا فيها؟ أي: إن الموجود حقيقة يُعرَف معرفة تامة، أما المعدوم فمجهول بتاتًا؟
غ : إنَّا مُتثبِّتون منها كل التثبُّت.
س : حسنًا. فإذا كان هنالك شيء متردد في الوقت نفسه بين الوجود وبين العدم، أفلا يوضع في رتبة متوسطة بين الموجود يقينًا وبين المُعدم بتاتًا؟
غ : يلزم أن يوضع.
س : فإذا خُصَّت المعرفة بالموجود والجهل بالمعدوم، أفلا يلزم أن نجد حالة متوسطة بين العلم والجهل تختص بما هو متردد بين الوجود والعدم.
غ : يقينًا.
س : أنقول إن التصور شيء؟
غ : بلا شك.
س : أفنحسبه قوة متميزة عن العلم؟ أم نحسبه العلم نفسه؟
غ : هو شيء متميز عن العلم.
س : فنخصُّ العلم بدائرة نفوذ، والتصوُّر بدائرة أخرى بطبيعة ما في كلٍّ منهما من قوة؟
غ : تمامًا.
س : أفليست طبيعة العلم المختص بالموجود هي معرفة كيف وجد أو لا؟ وإلا فهنالك فرق واضح يلزم تحديده.
غ : وما هو؟
س : إن القوى كمجموع قائم بذاته هي ما نعمل به نحن وكل أحد ما يمكن عمل؛ مثلًا: إني أدعو السمع والبصر قوَّتين، إذا كنت تُدرك الفكرة الخاصة التي أروم أن أُصَوِّرها.
غ : إني أدركها.
س : فاسمع ما أراه فيها: لست أرى في القوة شكلًا ولا لونًا ولا غيرهما من الأعراض التي أراها في مختلف الأشياء، وبها أُميِّز (أي بالأعراض) بين شيء وشيء. أما في القوة فأعتبر وظيفتها ودائرة نفوذها. وبذلك توصلت إلى تسميتها، فأدعو القوى التي من نوعٍ واحد وتعمل عملًا واحدًا ولها وظيفة واحدة: «قوًى واحدة». ولكن القوى التي تختلف دوائر نفوذها وتتفرع وظائفها فأدعوها: «قوًى متنوعة»، فما قولك؟
غ : هكذا بالتمام.
س : فأخبرني يا صديقي الفاضل، في أيَّة رتبة تضع العلم؟ أتحسبه قوة؟
غ : نعم أدعوه قوة، وهو أعظم القوى كافَّة.
س : وهل التصور قوة؟ أو ندرجه في سلكٍ ندرجه في سلكٍ آخر؟
غ : لا آخر؛ لأن ما به نتصوَّر لا يكون إلا تصوُّرًا.
س : وقد اتفقنا الساعة أن العلم والتصوُّر غيران.
غ : وهل يجمع العاقل بين الخطأ والصواب؟
س : أحسنت. فنتَّفق في أن التصور شيء غير العلم.
غ : غيره.
س : فلكلٍّ منهما بطبيعته ميدان نفوذ خاص وتأثير خاص.
غ : الاستنتاج قاطع.
س : فميدان نفوذ العلم هو معرفة طبيعة الموجود.
غ : نعم.
س : وميدان نفوذ التصوُّر هو «الظن».
غ : نعم.
س : أفيتناول التصوُّر حتمًا وفعلًا مادة العلم؟ وبعبارةٍ أخرى هل مادة التصوُّر هي نفس مادة العلم؟ أو أن ذلك مُحال؟
غ : إنه مُحال بناءً على ما قرَّرناه. أي إنه إذا سلَّمنا أن للقوى المتنوعة دوائر نفوذ مختلفة، وأن العلم والتصوُّر قوتان متميِّزتان، وقد جزمنا بذلك، فهذه المقدِّمات تجعل توحيد مادة العلم ومادة التصوُّر مُحالًا.
غ : طبيعي.
س : فإذا كان الموجود مادة العلم فمادة التصوُّر هي حتمًا شيء آخر غيره.
غ : يلزم أن يكون غيره.
س : فهل يتناول التصوُّر المعدوم؟ أو أن تصوُّر المعدوم غير ممكن أصالةً؟ أفتكر من يتصوَّر ألَّا يوجِّه أفكاره نحو شيء؟ أفيمكن أن يكون تصوُّرٌ في اللاشيء؟
غ : غير ممكن.
س : فمن تصوَّر فقد تصوَّر شيئًا.
غ : نعم.
س : ولكن المعدوم لا يُدعى شيئًا، بل هو لا شيء.
غ : بالتمام.
س : وقد التزمنا أن نخصَّ الجهل بالمعدوم والمعرفة بالموجود.
غ : وبالصواب فعلنا.
س : فموضوع التصور ليس الموجود ولا المعدوم.
غ : لا هذا ولا ذاك.
غ : فليس التصور معرفةً ولا جهلًا.
س : أفيستقر وراء أحدهما فيفوق المعرفة يقينًا ويفوق الجهل إبهامًا؟
غ : يظهر أنه ليس كذلك.
س : فقُل: أتحسب التصوُّر أقل وضوحًا من المعرفة؟ وأقل خفاءً من الجهل؟
غ : نعم، وهو متميز عن الاثنين كثيرًا.
س : فهو إذًا بين هذين الطرفين.
غ : نعم.
س : فنحسب التصوُّر إذًا شيئًا بين الاثنين.
غ : بالتمام.
س : أوَلم نقُل الساعة إنه إذا بان لنا شيء أنه موجود وغير موجود في وقتٍ واحد فيجب وضعه بين الموجود الحقيقي وبين المعدوم المُطلق؟ فلا يكون إذًا مادة علم ولا مادة جهل، بل هو مادة قوة ثالثة بين العلم والجهل يجب اكتشافها.
غ : قلنا ذلك.
س : وقد اكتشفنا الآن قوة بين الاثنين دعوناها تصوُّرًا.
غ : واضح أنَّا اكتشفناها.
س : بقي أن نكتشف ما يشترك في الموجود والمعدوم وليس هو أحدهما بكُلِّيَّته. فإذا ظهرت لنا ماهيته دعوناه بحق: «مادة التصوُّر»، ناسبين للطرفين ما هو لهما، وللوسط ما هو له. ألستُ مُصيبًا؟
غ : إنك مُصيب.
س : فإذا وضعنا هذه الفروض فإني أسأل ذلك الرجل المعتبر، الذي يُنكر وجود شيء كلي أو أي صورة من صور الجمال المُطلق التي تظل إلى الأبد كما هي غير قابلة التغيُّر، مع أنه يعترف بوجود أشياء عديدة جميلة، ذلك الذي يحب المنظورات، وهو لا يحتمل أن يُقال له أن الجمال واحد وأن العدالة واحد وهلُمَّ جرًّا، فأقول له: يا سيدي العزيز، أيوجد بين كل الأشياء الجميلة شيء واحد لا قُبح فيه؟ وبين كل الأشياء العادلة عادل واحد لا ظُلم فيه؟ وبين كل الأشياء الطاهرة طاهر واحد لا دنس فيه؟
غ : كلَّا، بل تظهر كلها بلا تخلُّف، جميلة وقبيحة، عادلة ومُعتدية، بارَّة ودُنِسَة باعتبارين.
س : وأيضًا ألا يمكن اعتبار المضاعفات الكثيرة أنصافًا علاوة على أنها مضاعفات؟
غ : تمامًا كما أنها أيضًا مضاعفات.
س : وجريًا على الأسلوب نفسه، هل للأشياء التي ندعوها كبيرة وصغيرة وخفيفة وثقيلة، حقٌّ في أن تُدعى كذلك أكثر من أضدادها؟
غ : كلَّا، بل كلٌّ منها يمكن أن يُدعى بالاسمين على السواء.
س : فتكون أقرب إلى الصحة إذا وصفنا كلًّا من هذه الأشياء بأنه قد يكون وقد لا يكون كما وُصف؟
غ : إنك تُذكرني بأحجية التضاد التي تُتلى على موائد الطعام (للتسلِية)، ولغز١١ الأولاد عن الخصي الذي رمى الخفاش بما رماه به، هو جاثم على ما هو جاثم عليه؛ لأن الأشياء المُشار إليها فيها الغموض نفسه، فلا يمكن الإنسان أن يميز هل هي موجودة أو غير موجودة معًا.
س : أفيمكنك إفادتي ماذا تعمل بها، أو هل عندك رتبة لها أفضل من الرتبة الوُسطى بين الموجود والمعدوم؟ لأنها في مذهبي ليست أخفى من المعدوم لتكون أكثر عدمًا منه ولا أوضح من الموجود فتكون أثبت منه وجودًا.
غ : إنك مُصيب كل الإصابة.
س : فقد اكتشفنا أن الأفكار الشائعة في الجمهور في العدالة والجمال وأخواتهما هي تائهة بين الوجود المطلق وبين العدم المطلق.
غ : اكتشفنا.
س : وقد سلَّمنا سابقًا أنه إذا ظهر شيء من ذلك دعي تصوُّرًا لا معرفة، وأن ما يتراوح بين الأمرين يُفهم بقوة متوسطة.
غ : قد سلَّمنا هذا التسليم.
س : ولذلك حين تقع عين الناس على شتَّى الأشياء الجميلة، ولكنهم لا يقدرون أن يروا الجمال بالذات ولا أن يتَّبعوا من يقودهم إليه، وحين يرون أشياء عديدة عادلة ولا يرون العدالة بالذات، وهكذا في كل مثل. فإنَّا نقول إن لهم في كل موضوع تصوُّرًا لا معرفةً حقيقية في الأشياء التي يتصوَّرونها.
غ : الاستنتاج ضروري.
س : ومن الجهة الأخرى: ماذا يجب أن نقول في أولئك الذين يُفكرون في الأشياء على ما هي في ذاتها، كائنة دون فناء ولا تغيُّر؟ أفلا نقول إنهم عارفون وليسوا متصورين؟
غ : وهذا أيضًا استنتاج ضروري.
س : أفلا نقول إن هؤلاء يُعجبون بمواضيع المعرفة ويُحبُّونها، وأولئك يُعجبون بمواضيع التصوُّر؟ لأننا لم ننسَ أننا قُلنا إنهم يحبون ويطلبون الأصوات والألوان البديعة ونحوها من الأعراض، ولكنهم لم يسمعوا بوجود الجمال المُطلق.
غ : لم ننسَ.
س : أفنُخطئ إذا سميناهم: مُحبِّي التصوُر، بدلًا من تسميتهم «فلاسفة»؟ أو يستاءون كثيرًا إذا سميناهم كذلك؟
غ : كلَّا إذا قبلوا رأيي؛ لأنه من الخطأ أن يسوءنا الحق.
س : فالذين يحبون الموجود والحقيقي في كل موضوع لا ندعوهم محبِّي التصوُّر، بل فلاسفة.
غ : نعم، من كل بُد.
١  أجمع شُرَّاح أفلاطون على أن المراد بهذه العبارة هو: «هل حضرنا لنفشل في ما نُنشده؟» (أدفيس وفوغان).
٢  الإشارة إلى أسطورة أريون، هيروديتس: ١٤.
٣  أورد هذا القول ستوريوس عن بندر.
٤  نورد كلام أفلاطون على مسئوليته.
٥  أديمنتس في أول الكتاب الرابع.
٦  الأعمال والأيام: ٤٠.
٧  إلياذة ٧: ٣٢١.
٨  إلياذة ٧٥: ١٦٠.
٩  الأعمال والأيام ١٢١.
١٠  أو بخشنالية، نسبةً إلى باخس، وهي حفلة شرب ومرح.
١١  تقول الأحجية: قيل إن رجلًا وليس برجل، رمى وما رمى، طائرًا وليس طائرًا، جاثمًا وليس جاثمًا، على غصنٍ وليس بغصن، بحجرٍ وليس بحجر، وهكذا. وقد فسرت هذه الحكاية نوعًا في المتن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤