تضامننا١

إذا كان العلم بقواعد جمعيتنا موجودًا بالفعل بين أيدينا وتحت نظرنا، فمن إضاعة الوقت أن نطلبه عند غيرنا، وإذا كانت أساليب بيانه على أطراف ألسنتنا، فمن التعسف أن نبحث في الكتب لنعثر عليها، فإنَّ العلم الصحيح ما جاء من طريق المشاهدة، وخير البيان ما كان مألوفًا عند جميع الطبقات.

لا شُبهة عند أحد مِنَّا في معنى كوننا أمة متميزة عمَّا عداها بمشخصات خاصة بنا، قد لا يشركنا فيها غيرنا من جميع الأمم، لنا لون خاص وميول خاصة ولغة واحدة شاملة، ودين للأكثرية واحد وكيفيات في تأدية أعمالنا ودَمٌ يكاد يكون واحدًا يجري في عروقنا، ووطننا محدود الجهات بحدود طبيعية يفصلنا عند غيرنا، لا بحدود وهمية كما هو الأمر في بعض الممالك، ولكن بحدود طبيعية تكاد تجعلنا في معزِل عَمَّنْ عدانا، لنا تاريخ قديم وطويل ذو مراتب وأقدار اتصلت سلاسله بحلقات متينة، فأصبحت سلسلة واحدة أولها قبل التاريخ وآخرها هذه الحلقة التي نقطعها، دائرتها في عصرنا هذا وفي سَنَتِنَا هذه، فنحن بذلك فراعنة مصر ونحن عرب مصر ونحن مماليك مصر وأتراكها، ونحن المصريون، فما نحن تحت حكم العائلة الخديوية إلا نحن، نحن بأنفسنا تحت حكم العائلة الأولى الفرعونية أو تحت حكم من قبلها أيضًا بشيء من التطور الزمني قضى به التغيير العالمي المستمر، حافظين لكثير مما ورِثناه من آبائنا الأقربين والأبعدين.

كل هذه المشخصات القومية المادية والمعنوية الوراثية والكسبية، من شأنها أن تجعل بيننا رابطة الجنسية أقوى منها في أكثر الأمم، وأنَّها لكذلك لولا ما يراه النزر اليسير من حب الانتساب إلى العرب دون الفراعنة أو الفراعنة دون العرب أو الترك دون الشركس أو الشركس دون العرب من غير أن يعرفوا أنَّ العوامل الموضعية — عوامل الإقليم والقرابة والنسب والاشتراك في المنافع — قد أخرجت من أهل مصر عجينة واحدة هي أم هؤلاء المصريين على السواء، الأبيض منهم والقمحي والأشقر والأسمر، كل أولئك أبناء مصر، سعادتها لهم وشقاؤها على رؤوسهم، منافعها إلى جيوبهم، وهمومها على مناكبهم؛ لأنَّهم جميعًا هم المصريون.

صيغتنا في هذا التضامن القومي صيغة عامة لا يُوجد لسان مصري لم تَجْرِ عليه سورتها، تعرفها طبقاتنا وهي من أمثالنا الأمية الشائعة فإننا نقول: «أنا وأخوي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب».

تلك هي الصيغة التي تلوكها ألسنتنا في كل مجلس والتي أشبعناها فهمًا، فهي لا تحتاج إلى تفسير ولا إلى الألفاظ الضخمة غير المألوفة والمعاني المترامية الأطراف غير المحدودة في الأذهان، كمعاني المشابهات والفروق وحدود دوائرها، والتشبث بالتزامها وإلزام الناس بفهمها على الطريقة المدرسية، بل صيغتنا المعروفة القريبة تُغني عن الصيغ البعيدة والعبارات العالية.

العائلة هي الوحدة في تأليف الأمة، والعائلة لا تقوم إلا بالعصبية، ومثل العصبية في العائلة الجنسية في الأمة، فالأخ الأقرب، الأخ في العائلة والذي يليه الأخ في القومية، فلا جَرَمَ أنْ يكون هذا المثل العائلي هو بعينه المثل القومي، إذ لا نعرف أنَّ تضامن الأخوين من أبٍ واحدٍ مُؤسَّس إلا على المنافع المعنوية والمادية المشتركة بينهما والجاذبية التي وَلَّدَتْها بينهما المشابهة في الصورة والزي والميول ووحدة التربية، وما تضامن الأخوين في المصرية إلا مُؤسَّس على تلك الأسباب بعينها، وما الأسباب المتشابهة إلا منتجة نتائج متشابهات كذلك، وما هذه المشابهات إلا الجنسية أو العصبية القومية أو المصرية، فبُعدًا لمصري لا يحب المصري أكثر من جميع المخلوقات، أو لا يحترم المصري أكثر من غيره، أو لا يعتد بأنَّ المصري هو أخوه الحقيقي بموضوع حنانه وشفقته ومَحَطِّ خيره ومعقد رجائه ومحل مساعدته.

إنَّ العمل لعصبيتنا الجنسية ضروري لنا؛ لأننا يستحيل علينا أن نعيش أفرادًا، فالذي يذكر العصبية المصرية آناء الليل وأطراف النهار هو الحقيق وحده بشرف الانتساب إلى هذا البلد الشريف، والذي ينفع المصري، إنَّما ينفع نفسه في شخص أخيه.

قد يُقال ما بالنا نُطري العصبية الجنسية ونشوِّق إلى منافعها الباهرة ونجعلها أساسًا ضروريًّا، للحياة في حين أنَّ كثيرًا من أساتذة التمدن الحديث أخذ يهدم بمعول العلم في أساس العصبيات الجنسية ويدعو إلى قطع سلاسل الفوارق بين الأمم المختلفة متوسعًا في معنى الإخاء الإنساني، مجتازًا حدود الأوطان ومعاني الأثرة الوطنية؟ نقول قد يكون ذلك إذا تم أَلْيَقُ بشرف الإنسان وأنفع لهذا العالم، ولكننا نحن المصريين ونحن أمة ناهضة تريد أن تعيش قبل كل شيء عيشة استقلال متواضعة لا مدعية أنَّها تقود العالم أجمع إلى منافعه. نقول ونحن كذلك لا نستطيع أن نبتدئ بتعاليمنا من الآخر، فإن ابتكار «الإنتيرناسيوناليزم» أو توحيد ميول الجنس البشري ومنافعه، هي بالفعل حلقة أخيرة لسلسلة رُقِيٍّ طويل في الأفكار والأعمال، ولكل أمة على قدرها رأي هَادٍ.

لذلك نقرر بأنَّ الذي يُريد أن يطمئن في داره فليعمل لنماء روابط الجنسية المصرية، والذي يريد أن ينجح في الأعمال الحرة فليعمل لنماء الجنسية المصرية، والذي يريد أن يكون من الموظفين مسموعي الكلمة فليعمل لنماء الجنسية المصرية، والذي يريد استقلال مصر فليعمل لنماء الجنسية المصرية، ذلك هو أساس القوة والقوة ركن الحياة وشرط البقاء.

١  الجريدة في ٢ من يناير سنة ١٩١٣ العدد ١٧٦٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤