التقليد١

تعالى بديع السموات والأرض، لا ترانا إلا مقلِّدِين حتى في إبداعنا، في أزيائنا نبدع المودة على مثالٍ قديم نأخذه كله أو نأخذه ممسوخًا أو محسنًا أو نأتي بها على طريق التلفيق بجمع المثل الواحد من مثلين قديمين أو من ثلاثة مع تحسين في الوضع أو تشويه فيه، وتلك طريقة إبداعنا في الأزياء.

في المأكل تنتقل ألوان الطعام وصنوف الآنية وطقوس الخدمة من بلد إلى بلد ومن مدينة إلى مدينة، يأخذها الخلف من السلف ويضيف إليها شيئًا من مقتضيات عصره ويصبغها بصبغته فتأخذ طابعًا جديدًا يسمح للمقلِّد بأن يُسميها باسم فيقولون المطبخ الشامي والمطبخ المصري والتركي والفرنساوي، إلخ إلخ …

تلك طريقة الإبداع في المأكل.

في العادات العامة اليومية كيف نهض المرء من نومه، وماذا يصنع للاستعداد للعمل من تطهير البدن من أعراض النُّعَاس وتطهير النفس بالتَّوَجُّهِ إلى الله استفتاحًا للحياة الجديدة في هذا اليوم الجديد، وكيف ومتى يذهب إلى عمله، ومتى يعود منه إلى راحة تُفَرِّقُ بين التعبين، وتُحلي ما بين المرارتين، ومتى ينقضي وقت الراحة إلى العمل، في هذه العادات اليومية وفي العادات العامة الدورية — المواسم والأعياد — ماذا يلبَس المرء وبماذا يَتَزَيَّنُ على الطريقة اللائقة بالطبقة التي هو جُزْءٌ منها، وكيف يُحَيِّي غيره ومتى تكون التَّحِيَّةُ وكيف يشترك مع الجمهور في أداء الشعائر القومية، في كل هذه العادات اليومية والدورية نحن نقلِّد أسلافنا تقليدًا مشكلًا بأشكال زمام العصر الذي نعيش فيه، مشوبًا بنتيجة تطور أفكارنا الحديثة، تلك طريقة الإبداع في العادات.

في لغتنا نأخذ بالتلقين الألفاظَ المفردة وكثيرًا من التراكيب، ثُمَّ تأتي الحاجات العصرية يتطور بها اللفظ في الدلالة على معناه بل تتغير رويدًا رويدًا وجوه الدلالة فيتكلم ويكتب بعضنا على مثال بعض بتغيير قليل اقتضته شخصية المتكلم أو الكاتب وقوة نفسه أو ضعفها، وما الإبداع في التعبير إلا تقليد قضت به طريقة التفكير في نفس العبقري شاعرًا كان أو ناثرًا أو خطيبًا.

في العلوم والفنون والمعارف الإنسانية الواقع من أمرها أن تعلم؛ أي بتقليد وتفهم، ثم تمثل المعلومات في نفس المتعلم فتختلط بملكاتها، فيأتي بها بعد ذلك كأنَّها له ومن عنده وفضلة إبداعه وما أصلها إلا التقليد.

في الأخلاق، فاضلها ورذيلها، الشأن فيها تقليد مثل صالح أو فاسد وقدوة حسنة أو سيئة، ثم تقليده حتى يصير إتيان الفضيلة أو الرذيلة عادة ثم يصير إتيان الفضيلة أو الرذيلة عادة ثم يصير خلقًا ثابتًا، وإني لا أنكر أنَّ للوراثة في هذا الشأن وفي غيره عملًا كثيرًا ولكِنَّ الانتقال الوراثي كأنَّه ضرب من ضروب التقليد الإجباري في لبسنا ومأكلنا ومشربنا وحديثنا وعاداتنا ومعارفنا وأخلاقنا ومعاملاتنا، نجد معنى التقليد أصلًا من الأصول الأولى، ولا نستطيع أن نفهم الإبداع أي الإيجاد من العدم، إلا مضافًا إلى من تفردت عظمته بالقوة والإبداع، ولا شيء تحت الشمس بجديد، حتى المخترعات التي يبين عليها أنَّها باكورة لجنسها الأول كالطيران مثلًا فإنَّها تقليد صِرف لمثال موجود، لم يُغْفِلِ الطيارون ذكر المثل الذي قلدوه، بل دوَّنه مويليار وغيره من الذين كانوا يراقبون عن كثب ميخانيكية الطيران لدى الطيور المختلفة حتى وصلوا إلى نظرية فَقَلَّدُوا منها مثالًا بالطيارات التي نعرفها الآن.

إذا كان معنى التقليد متغلغلًا هكذا في أعمالنا وأفكارنا ومشاعرنا وميولنا، مختلطًا بها أصلًا كبيرًا من أصول التطور الإنساني كل هَمِّهِ الوصول إلى كماله الممكن، فكيف يمكن اعتبار هذا الأصل الإنساني رذيلة ومسبة ينتقص بها الناس بعضهم بعضًا فيقولون فلان مقلِّد في قوة قولهم خسيس الهمة ذليل النفس تابع لا متبوع وفرع لا أصل وقياس على الناس لا فذ ولا شاذ.

الواقع أنَّ التقليد معنى متفاوت الأقدار، فالاعتدال فيه فضيلة لازمة للرقي والإفراط في تناوله ضرر وسخرية، كالإفراط في غيره من المعاني، وإنَّهم لَيَظْلِمُونَ معنى التقليد إذا أطلقوه على جزئه الرذيل دون جزئه الفاضل، وهو التقليد بعد التدبُّر وظهور المنفعة منه أو وجه الجمال فيه.

نحن في حالنا الحاضرة وحاجتنا في الأخذ عن التمدن الأوروبي حتى نجمع بين أسباب القوة اللازمة للمزاحمة في الحياة، يجب علينا أن لا نقتل فينا خاصة التقليد المفيد بجعله سُبَّةً، بل على الضِّدِّ من ذلك، نرانا في حاجة إلى ترويجه حتى نُقَلِّدَ الأمثلة الصالحة من كل نوع فيكثر فينا عددها، دعونا نُقَلِّدْ فعسى أن تبلغ الصورة ما بلغه مثلها الأول، ولا حقَّ لنا في الخوف من أن تقليد غيرنا يقضي على ذاتيتنا؛ لأنَّ التقليد الكامل غير موجود، ولأنَّ كلَّ واردات أوربا متى دخلت مصرنا كسبت صبغتنا وتَكَيَّفَتْ بكيفياتنا اللغوية والدينية والأخلاقية، ولا يكون بعد ذلك إلا أن تكسب طابعنا وتصير ملكًا تامًّا لنا، كما أنَّ المدنية التي نقلها العرب عن الفرس واليونان قد أخذت طابعهم وصارت مدنية إسلامية، وما نقله اليونان عن المصريين صار أصلًا للمدنية اليونانية مملوكًا لها.

التقليد من أصول التطور، والتطور طبيعي لا نستطيع نحن أن نقف في طريقه فهو سيحصل بالفعل، مهما كان استقبالنا إياه استقبال حفاوة أو استقبال امتعاض ومغاضبة، فخير الذين يقفون في طريق تَطَوُّرِنَا الاجتماعي أن يريحوا أنفسهم من عناء مصادمة الطبيعة ومن شر الْخِذْلَانِ، بل يجب عليهم أن يُساعدوه على أن يأتي بنتيجته السعيدة في أقرب ما يمكن من الزمان.

١  الجريدة في ٤ من مارس سنة ١٩١٣ العدد ١٨١٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤