الحرية الشخصية١

نسير يحدونا الرجاء إلى تحقيق سلطة الأمة، فيسلم شرفها، وننعم نحن بما نعتقده سعادة الاستقلال، غرض كثير العقبات ليس مِنَّا على مقربة، ولكنَّه هو الذي يصح أن يُسمَّى غرضًا حقيقًا بالأمة المصرية الكريمة، وهو وحدَه الذي ينبغي أن يكون مرمى نظر الجمعية والأفراد، ووسيلتنا إليه الاستمرار على العمل والصبر على نتائجه ومحاولة جعل خطة الحكومة المصرية بأطرافها غير معاكِسَة لرُقِيِّ الأمة في فروع الرقي المختلفة من حيث النظامات والفضائل الاجتماعية، وإنماء الكفاءات الاقتصادية والسياسية.

لهذا الغرض نحاول تنبيه الأذهان إلى أَيِّ خُطَطِ الحكم أقرب للاتفاق مع ما تطلب هذه الأمة في معالجة أمراضها الاجتماعية والوصول بالزمان إلى غرضها الكبير، أخطة الجماعيِّين، أم خطة (الحرِّيِّين)، فقد دلتنا المشاهدات العامة على أنَّ الحكم الماضي قد جعلنا عيالًا على الحكومة رعية لها معتمدين عليها في كل إصلاح حتى في التربية، حتى في حماية الفضائل الشخصية، نطلب منها كل شيء نطلب منها حتى التوسط في أن تصلح بين فردين متخاصمين أو عائلتين مختلفتين، ونظن هذه المداخلة من حقها وإصلاح ذات البين من واجباتها كأنَّما الحكومة هي لنا كل شيء ونحن لأنفسنا لا نملِكُ نفعًا ولا ضررًا، ولا شك في أنَّ السير على هذه القاعدة الاشتراكية يوصل حتمًا إلى نتيجة سوداء، هي قتل فكرة اهتمام النَّاس بأمورهم العامة إلا ما يكون من الانتقاء اللفظي لما يتم عمله من جانب الحكومة، وتحديد حركات الفرد في دائرة ضيقة جدًّا هي دائرة أسوار داره، ولا غرابة إن تَمَشَّت هذه القاعدة وتَسَرَّبَتْ إلى داخل الدور أيضًا، فتُناط الحكومة بترتيب دار الفرد على ما تشاء لا على ما يشاء هو، نتطلب من الحكومة أن تحمي أطفالنا من جهل أمهاتهم وتسهر عليهم فتطعمهم بمادة الجدري وتراقبهم في الشوارع أن تدوسهم العربات، ثم تقوم هي بتربيتهم وتعليمهم فإذا رأينا فسادًا في الأخلاق ألقينا عليها مسئولية ذلك، ثم إذا وجدنا الحركة العلمية في البلاد بطيئة، رميناها بسوء القصد أو سوء التدبير، ثم نطلب إليها بعد ذلك أن تُوجِدَ عملًا للشبان الذين لا يريدون اتخاذ الزراعة مهنة لهم، ثم نطلب إليها أن تنقي من غيطاننا دودة القطن وأن تجبرنا بالإكراه على زرع ثُلُثِ الأرض قطنًا، نطلب منها أن تزرع هي لتُرِيَنَا كيف نزرع ونطلب منها ردم البرك التي حفرناها بأيدينا تحت دورنا في القرى، نطلب منها كل شيء ولا نطلب من أنفسنا شيئًا.

ولا شك في أنَّ كل مسئولية تستدعي لصاحبها سلطة تكافئها، فإذا نحن تنازلنا عن واجباتنا لأنفسنا وألقيناها على عاتق الحكومة فإنَّما نحن بهذا العمل نفسه نتنازل عن جميع حقوقنا وحريتنا لنضعها بين يدي الحكومة، ولا يبقى لنا منها إلا ما يبقى للعبد أمام سيده أو للخادم المطيع أمام مخدومه القوي، نعمل ذلك ثم نطلب الحرية الشخصية للفرد، فما هي تلك الحرية إلا أن يحيَى الفرد ويعمل كما يشاء بشرط أن لا يضر بالغير، ولست أدري إلى أي بُعد تقف حدود هذه المشيئة إذا كان للحكومة أن تجعل ميدان هذه المشيئة أضيق ما يكون!

قد تكون هذه الخطة مفهومة قليلة الضرر عند أمة حكومتها ديموقراطية (أي حكومة الشعب أو حكومة الأكثرية)، ولكنَّها طريقة ما أكثر أضرارها في أمة كأمتنا ليست فيها مشيئة الشعب هي مرجع الأمور، هذا المذهب الذي هو مذهب «الجماعيين» إذا استمر تنفيذه في بلادنا على أنَّه خطة حكومتنا يعوقنا كثيرًا فيما نحاول من تكوين أفراد أحرار مسئولين ينهضون بالبلاد إلى طِلْبَتِهَا من الارتقاء؛ لأنَّ كل فرد سيعيش ويموت تحت وصاية القوي، وبعيد أن يستوي في الرجل ملكاته وهو تحت الوصاية أو في حظيرة الحجر، لا أظن أنَّ في هذا التعبير خفاء؛ لأنَّ كل قانون يكسب الحكومة حقًّا أو رقابة، فإنَّما هو يخسر الفرد من الحقوق ومن الحرية بمقدار ما أخذت الحكومة لنفسها، وكل مُدَاخَلَةٍ للحكومة فيما ليس لها أو فيما لا توجبه ضرورة النظام تعتبر ضغطًا على حرية الفرد وتضييقًا في دائرة عمله.

ونحن في بلادنا أحوج ما نكون إلى مداوة الأمراض التي لَحِقَتْ الأفراد من جراء الضغط عليهم، فإذا كان هذا المذهب مفيدًا عند بعض الكتاب الاشتراكيين لبعض الأمم، فإنَّه غير مفيد لنا؛ لأنَّ من البلاد ما تَمتَّع فيها الفرد بحرية العمل في حدود واسعة، فقويت ملكاته ونبغ إلى حَدٍّ أَخَلَّ الموازنة بينه وبين مَنْ دونه في الصفات حتى خِيفَ على حياة الجماهير وسعادتهم من تسلُّط الأفراد القادرين، فأراد الاشتراكيون أن يُسَوُّوا بين النَّاس فيما يُمكن التسوية فيه وهو الثروة، وقسمة الثروة بينهم على مذهب (القسمِيِّين) أو أن يعيشوا متساوين على الشيوع كما هو مذهب (الروكيين) … إلخ، ولا طريقة لتنفيذ هذه المذاهب إلا أن تكون الحكومة (حكومة الشعب) هي كل شيء وإرادة الفرد وحريته لا شيء … أما نحن فإنّي لا أزال أكرر أننا أحوج ما نكون إلى تربية الفرد وإزالة العقبات من طريقه حتى تَنْقَهَ نفسه من الضعف الذي أورثه إياه الحكم الماضي، وليستكمل قِسْطَهُ من القوة حتى يستطيع المزاحمة مع أفراد الأمم الأخرى، وعلى ذرارينا في الأجيال المقبلة أن ينظروا بعد ذلك فيما إذا كانت المبادئ الاشتراكية هي اللازمة لجمعيتهم وقتئذٍ، فإنَّ خُطَّةَ الحكم يجب أن تتغير بتغير الزمان والمكان وطبائع السكان.

أما مذهب (الحريين) أو (الفرديين) فإنَّه يعتبر الحكومة ضرورة من الضرورات، يعتبرها كذلك أيًّا كان شكلها أرسطوقراطية (حكومة الأشراف) أو ديموقراطية (حكومة الشعب) أو حكومة فرد، ولهذا الاعتبار ينبغي أن يكون عمل الحكومة داخل دائرة محدودة بحدود الضرورة، فلا يكون على الحكومة إلا واجبات ثلاث: البوليس وإقامة العدل وحماية البلاد، وكل ما يخرج عن هذه الدائرة لا يحل لها المداخلة فيه، ويعجبنا قول أحد كتاب الإنجليز في هذا الصدد: إنَّ الحكومة لم تدخل في عملٍ خارجٍ عن هذه الدائرة إلا أثبتت عدم كفاءتها له، مذهب معقول؛ لأنَّ الإنسان خُلِقَ حرًّا حرية غير محدودة، فلا يكون حَدُّهَا بضرر الغير إلا ضرورة من ضرورات الجمعية، وعلى ذلك فليس من الصواب التوسُّع في تطبيق هذه الضرورة إلى حد أن يكون القسر هو الأصل الواسع وحرية الفرد هي الاستثناء الضيق، وإلا فما فائدة المرء من أن يعيش في الجمعية إذا كان يخسر بالجمعية أَعَزَّ ما وهب الله في هذه الدنيا وهي الحرية.

وماذا يكون المقابل الذي تُعطيه الجمعية إذا هي سلبت منه كل حريته اعتمادًا على أنَّ هذا السلب إنَّما هو لمصلحة الجمعية؟ أظن أنَّ هذا المقابل ليس شيئًا كثيرًا؛ لأنَّ الأمثلة اليومية تَدُلُّنَا على أنَّ الجمعية لم تَحْمِ من القتل أولئك الأفراد الكثيرين الذين يُقْتَلُونَ ظلمًا وعدوانًا في بيوتهم وفي غيطانهم وفي الطرقات العمومية، سيقولون: كلَّا، إنَّ الحكومة تجدُّ في طلب القاتل وتعاقبه، فنقول: هب أنَّها فعلت ذلك، فماذا استفاد القتيل من ذلك العقاب؟!

ومن الأمثلة أنَّ الحكومة أو الجمعية لم تَحْمِ مال جميع الأفراد الذين سَلَبَتْ من حريتهم ما سلبت، فسيقولون: إن بوليسها يَخِفُّ في طلب السارق، هب أنَّها فعلت ذلك فما فائدة المسروق منه من وضع السارق في الحبس مدة يعود بعدها إلى ارتكاب الجنايات، على أنَّ إحصاء المحاكم يدل في بلادنا على أنَّ أكثر حوادث القتل لم يُعَاقَبْ فيه القتيل، أما في السرقات فما أظن أنَّ البوليس رَدَّ إلى المجني عليه ما سُرِقَ منه ولو في واحدة من المائة، فإذا كانت الحكومة أيًّا كان شكلها أعجز من أن تحمي حياة الفرد دائمًا وماله في بعض الأحيان، أفلا يكون من الغبن الفاحش أن تأخذ الحكومة بقوانينها من حرية الأفراد أكثر من القدر الذي تُوجِبُهُ الضرورة، ضرورة البوليس، أو ضرورة إقامة العدل، أو ضرورة الدفاع عن البلاد!

الفرد والجمعية من حيث القوانين طرفان متضادَّا المنفعة، يجب التوفيقُ بينهما ولا توفيق إلا التصالح أو التنازل من الجانبين، ولا شيء يُبَرِّرُ ذلك إلا ضرورة الجمعية أي ضرورة النظام، فلا يجوز للحكومة — ما دامت هي ضرورة — أن تعمل عملًا أو تُشَرِّعَ قانونًا فيه معنى التسلط على الفرد إلا في حدود الضرورة القصوى، خُذْ مثلًا على ذلك: بعث قانون المطبوعات، هب أنَّ بعض الصحف تطرَّفَتْ في النصح إلى الدرجة المَضَرَّةِ بالجمعية، فما ذنب بقية أفراد الأمة يرمون بقانون يحد أعلى مظهر من مظاهر الحرية الشخصية وهي حرية القلم وحرية الرأي؟ أظن أنَّه لم يكن ثمة ظِلُّ ضَرُورَةٍ يُلجِئُ الحكومة إلى هذا القانون؛ لذلك يرجو الذين يظنون بها الخير أن تلغيه اليوم وغدًا.

ومثلًا آخر: قانون الاتفاقات الجنائية، هب أنَّ ثلاثة أو أكثر اتفقوا على ارتكاب جناية سياسية تهدد الحكومة في وجودها، عاقبوهم بما شئتم، ولكن ما ذنب جميع أفراد الأمة يُرْمَوْنَ بقانون الاتفاقات الجنائية من غير مسوِّغ، إنَّ ضرورة النظام لا يكفي فيها مجرد توهُّم الحكومة أنَّ رجالها في خطر، فتبالغ في تشديد الخناق على حرية الأفراد حتى تحظر عليهم اليوم ما كان مباحًا لهم بالأمس، وتُعاقبهم على ما لم يكونوا يُعاقَبُون عليه من غير ضرورة ظاهرة.

يبين مِمَّا نقول أنَّنَا نفضل مذهب (الحريين) أو (الفرديين) على مذهب (الجماعيين) الذين يضحون الفرد ومصلحته للمجموع من غير قيد ولا شرط، ويعتبرون الفرد ليس له وجود ولا راحة وسعادة، إلا بوصف كونه جزءًا من المجموع، يقولون ذلك ويُنْكِرُونَ المحسوس، والواقع أنَّ لِكِلَا المذهبين مَنَافِعٌ وَمَضَارٌّ، ولكن مذهب الفرديين أنفع في بلادنا في الظروف الحاضرة من كل ما عداه، ولكنَّنَا مع ذلك لا نرى تطبيق هذا المذهب على إطلاقه، فإنَّه لا يزال في حال الأمة ما يدعو إلى أن تَهْتَمَّ الحكومة بالمداخلة في بعض الأمور غير الداخلية في واجباتها الثلاث المتقدمة مداخلة حَثٍّ وإرشاد لا مداخلة حكم وإكراه، فإنَّ المُداخلة من هذا النوع قد تُبَرِّرُهَا أيضًا ضرورة علاج الأمة من الخمول الماضي العميق.

نُقدِّم هذه المقدمات الطويلات لا لمجرد الانتصار لنظرية علمية على أخرى؛ بل لأنَّنا نشعر في البلاد بتيار قوي من جانب الحكومة ومن جانب بعض الأفراد مآله قرب السير على مذهب (الجماعيين) فإنَّهم يطلبون من الحكومة التقنين والمداخلة الفعلية في أمور لا تُبَرِّرُهَا الضرورة، والحكومة تُطاوع في ذلك فتتدخل فيما تقل كلفته عليها وتكثر به سلطتها إجابة لطلب الأمة، ولكنها مع ذلك لا تجيب طلب الأمة فيما طلبت من الدستور.

ومن المضحك في هذا المقام أنْ نذكر السبب الذي أبدته الحكومة لتُبَرِّرَ به بعث قانون المطبوعات، السبب أنَّ الجمعية العمومية كانت طلبته في قديم الزمان، كأنَّها تقول يعز على الحكومة أن لا تخف لإجابة رغبة الجمعية العمومية الممثِّلة للأمة في تضييق الخناق على دائرة الحرية الشخصية التي هي أساس كل صلاح للأمم؟! للأمة أنْ تطلب الإشراف على أعمال الحكومة وتَجِدَّ في هذا الطلب ولكننا نحن الأفراد نطلب من الحكومة — والحكومة في بلادنا سمو الخديو والوزارة والجمعية التشريعية — أن لا تفرط في التعدي على حريتنا بالإكثار من القوانين إلا في حدود الضرورة، وأن تعاوننا نحن الأفراد على أن نستكمل حَظَّنَا من القوة العملية بالكف عن المداخلة في الشئون التي من شأنها أن تترك لعمل الأفراد مهما كان أثر المداخلة مفيدًا لمصالحهم؛ لأنَّه لا مصلحة للفرد تعدل مصلحته من القوة والاستعداد للمزاحمة للحياة.

مثال ذلك مداخلة الحكومة في مراقبة حال الطلبة المصريين في أوروبا، فإننا إذا رَضِينَا بقيام الحكومة في مصر بأمر التربية والتعليم وهما من عمل الأفراد؛ وإذا رضينا بذلك اعتمادًا على أنَّ الأمة لا تزال محتاجة إلى مثل هذه المساعدة، فلا يمكننا أنْ نفهم ما الذي يسوغ لنظارة المعارف المداخلة في التوسط بين الرجل وبين ابنه الذي يتعلم في أوربا على نفقته مداخلة لم يرضها الطرفان، أو التوسط بين التلاميذ المصريين ومدارسهم ولم يطلب منها أحد الطرفين هذه المعونة، إذا رضينا أنَّ الحكومة تكون تاجرة تمسك بين يديها السكة الحديد، وإذا رضينا بذلك اعتمادًا على أنَّه ليس في البلاد شركة مصرية صِرْفة يمكنها أن تقوم بهذا العمل العظيم تشتري السكة وتديرها، فإننا لا يعجبنا مثلًا ما يشاع من أنَّ الحكومة ستزرع على ذمتها أرضًا من خارج الزمام وأنَّها تُبْقِي في يدها أطيان الدومين تستغلها وتزاحم الأفراد المزارِعين في الاستغلال … إلخ.

لذلك نكرر أنَّ التيار الذي يتمشى الآن في الحكومة وفي الأمة نخشى أن يُفضي إلى جعل خطة الحكومة هي خطة التسلُّط على الأفراد والتضييق عليهم للمصلحة الموهومة للجمعية، وما مصلحة الجمعية إلا في أنَّ الحكومة — وهي موجود ضرورة — لا يحل لها أن تخرج في قوانينها ولا في تصرفاتها عَمَّا تلزمها به الضرورات احترامًا لحرية الأفراد ومصالحهم.

١  الجريدة في ٢٨ من سبتمبر سنة ١٩١٣ العدد ١٩٩٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤