وداع الوزارة١

قد يكون اليوم هو آخر عهد الوزارة السعيدية٢ بالحكم، إنْ لم يكن هذا هو الحق في الواقع، فهو على الأقل الحق في أمانينا، ليس بأمانينا أن تسقط الوزارة، ولكن ذلك لا يمنع من أن البلاد قد شبعت منها ومن أعمالها وتلقت خبر سقوطها بالارتياح سواء في ذلك خصومها وأنصارها ومن هم في شأنها على الحياد التام، تستغفر المروءة أن يكون قولنا هذا تشفيًا في أشخاص الوزراء، فإنا نعد من بينهم كثيرًا من أصحابنا ومحل جاذبيتنا واحترامنا، نستغفر الرفعة للوزراء أن يكون سقوطهم مصيبة عليهم يألمون لها من جهة ما فيها من قطع المرتبات الكبيرة، كلا! إنَّ وزراءنا يعلمون أنَّ المناصب ضرائب يدفعها الأَكْفَاءُ وتكاليف يقوم بأعبائها الأصلحون، وأنَّها تقليد إلى زمن محدود يستعمله الوزير في تنفيذ المبادئ التي يراها صالحة لرقي البلاد.

وما هي تخليد يصح اعتبارها موردًا من موارد الرزق، فلا يهم الوزير الشريف من أمر سقوطه إلا الحسرة على عدم إتمام ما يكون قد بدأ فيه من المشروعات النافعة للأمة لا لشخصه، وما يخشى أن يفوت النَّاس من المنافع إذا لم يخلفه مَن يستمر على تحقيق مبادئه، وزراؤنا يعلمون ذلك كله على الرغم مما شاع عن أحدهم أنَّه كان يقول حين تكلم معه زملاؤه في أمر الاستقالة: أنا ثابت في مركزي ومحتفظ «بحقوقي» فلا أستقيل مع المستقيلين، كأنَّ الوزارة حق له لا واجب عليه، وكأنَّما هو مستعد لأن يشتغل مع كل رئيس بصرف النظر عن اختلاف المشارب أو تباين المبادئ، ذلك لا يهم، لكنَّ المهم هو أن يشتغل بأية طريقة والسلام.

على الرغم من ذلك فإنَّ الواجب علينا في حق وزرائنا الأماثل أن نعتبرهم غير مستائين من سقوط الوزارة سقوطًا كليًّا أو بعضيًّا، فلا يكون هناك أوفى معنى لأن يحمل ما نكتبه في هذا الشأن على الاشتفاء أو الشماتة، فإنَّ كليهما لا يكون إلا من الأعداء ولا نحسب منهم إلا معارف وأصدقاء فما يكون قولنا إلا ورادًا على الوزارة باعتبار أنَّ لها شخصية متميزة عن شخصية أفراد الوزراء، ولها خطة مرسومة طالما أفضى بعض الوزراء في مجالسهم بأنَّها خطة غير مفيدة لمصلحة البلاد، ولكنهم مع ذلك لم يستقيلوا! لم يستقيلوا؛ لأنَّهم على ما يُقال لا يعرفون في البلاد أكفأ منهم أو بعبارة أقل ادِّعَاءً، لا يظنون أنَّ السلطات ترضى باستيزار الأشخاص الذين هم أكفأ منهم، فهم ببقائهم يخدمون البلاد، يخدمونها خدمة سلبية بقطع الطريق على من هم أقل منهم كفاءة، ومهما تكن الخدمة السلبية عديمة القيمة، فإنَّها مع ذلك — على ما يُقال — كانت هي وحدها التي تربط النظار بمراكزهم دون غيرها من بقية الاعتبارات الشخصية، ومع ذلك فإنَّ الأمة لم يبن عليها أنَّها أقامت وزنًا لهذه الخدمة ولا اعترفت بفضل الوزارة، فهي أسعد ما تكون أن ترى هذه الوزارة تسقط من أساسها وتخلفها غيرها، كما يكون من حال المرء يرجو من صاحبه الصلاح، والإصلاح، ثم يرجو ثم يؤمل ثم يتمنى ثم يقنط بعد ذلك ويأخذه الملل، كذلك مَلَّتِ الأمة هذه الوزارة.

ألا يكون الحال أنَّ الأمة تحل كل وزارة من الوزارات تفرح لسقوطها من غير أن تتدبر في أمر من يليها، كأنَّما هي تفضل التغيير لا لنفع فيه ولكن حبًّا في التغيير.

قد يكون من ذلك شيء، ولكن الواقع هو أنَّ الوزارة الحالية كانت سيئة الطالع، سيئة الطالع إلى غاية النحس، نصبت في ظروف صعبة محزنة، فكانت بذلك وزارة ضرورة أو وزارة وقتية، ولكن استعدادها لاعتناق كل المبادئ والسير في كل الخطط والتفاني في الاتفاق مع كل قوى لمصلحة البلاد وتسليم أمرها وأعمالها لكل من يخدم البلاد بصرف النظر عن الفكرة في أي برنامج يجب اتباعه، والتصريح بأنَّها تقصر همها على اكتشاف وسائل الإصلاح: كل ذلك أطال بقاءها وثبت مركزها إلى هذا اليوم، ولو كان عمل الوزارة قاصرًا على ذلك لخفت على الأمة ريحها ولما ثقل عليها وجودها، وألمت استمرارها وملت عشرتها واستقبلت أخبار سقوطها بالدعوات الصالحات لولاة الأمور، ولكنَّ الأمة والسلطتين حين الْتَقَوْا جميعًا إلى تاريخ أربع السنين الماضيات، رأوا أنَّ ما يجري في البلاد هو غير ما يرضي الجميع، فإنَّ السلطة لم تأمر بالمحسوبية، ولم تأمر بانتشار الرِّشْوَةِ في الإدارات من أقصى البلاد إلى أقصاها، حاشا أولي الأمر أن لا يجدوا كل الوجد على إفساد اخلاق الأمة إفسادًا يَتَعَذَّرُ عليها إصلاحه إلَّا في زمان بعيد، ومهما يكُن من بعد أشخاص وزرائنا المحترمين على مقارفة هذه الآثام أو الرضى بها، فإنَّ الوزارة دون غيرها هي المسئولة عن كل فساد ويقع في مدتها من الموظفين التابعين لها ومن أعوانها وأنصارها، ولو افترضت براءتها إلى حد الجهل المطبق بما يقع من الحوادث في البلاد، فإنَّ الرأي العام والسلطة كليهما ليست محكمة من المحاكم النظامية التي تصوغ الآثام صيغًا محدودة، وتطلب على كل منها دليلًا قضائيًّا خارجًا عما جاء القاضي بطريق علمه الذاتي، كلا إنهما ليسا كذلك، ولكن كليهما يحكم على الوزارة بنتائج الرقي أو الانحطاط الذي وقع في البلادة مدة ولايتها الأحكام.

فإذا خاب في الوزارة أمل السلطة العليا التي تنصبها، فلم تستَطِعْ تنفيذ ميولها الشريفة ومقاصدها الوطنية، ولم تستطع إعلاء شأن الحكومة وتحرير مشروعاتها القانونية في الجمعية التشريعية انعدمت منفعة الوزارة وكان سقوطها واجبًا.

وإذا انقطعت آمال الرأي العام من الوزارة في تأييد كلمة الحق والعدل ونشر راية الأمن على رؤوس الأفراد وحماية مصالح الأمة، أو رأي الرأي العام أن عهد الوزارة مملوء بالجرائم على الأعراض والأنفس والأموال، واتسع ميدان الرشوة للحكام وملأهم التغرض والمحسوبية، إذا رأى الرأي العام ذلك، ثقل عليه احتمال الوزارة وصفق لسقوطها تصفيقًا.

كليات طبيعية يلزمنا الواجب أن نذكرها، نذكرها على مضض، ولكنَّ الحقَّ أحقُّ أن يُقال ويُتبع، وإنْ كان احترام الوزارة والأسف على ما فرطت يأخذ منَّا كل مأخذ على أنَّ الإدارة في مصر صارت إلى أبعد مما نشير إليه وشكوى الناس في مجالسهم الخصوصية أدهى من ذلك وَأَمَرُّ.

لا يهمنا أن تلي الحكم بعد سقوط الوزارة الحاضرة وزارةُ زيد أو وزارة عمرو، ولكنَّ الذي يهم البلاد أن تعتقد بالمثل الحسي أنَّ السلطة العليا لا تسمح بالسكوت على تأخير البلاد في حالها الأخلاقي ولا على أن تكون الوزارة كل عملها — كما يُقال — اكتشاف وسائل الإصلاح وأنْ تبقى الوزارة هذه المدة الطويلة دون أن يكون لها مشروع واحد يُنْسَبُ إليها دون سواها، إلا مشروع المؤامرات أو اكتشاف المؤامرات!

يهمنا أن تأتي وزارة مطلوبة للولاية لا طالبة لها، ذات مركز أعلى من مركز اكتشاف وسائل الإصلاح، وزارة تُؤيد حرية الشعب لا تقصص ريشها ولا تطعنها في قلبها، تعمل لمصلحة المحكومين، ذات برنامج معين وخطط معروفة، تأخذها العزة بالاستقالة قبل أنْ تغلب على أمرها وتعيين الأفراد والمجاميع على استكمال حظوظها من الرقي المدني بهدوء وسكينة فلا ينجم عن أعمالها مؤامرات صادقة أو كاذبة ولا تحتاج في حمايتها إلى قوانين استثنائية تذهب بمظاهر الحرية وتشوِّه جمال الإصلاح الذي يُزاوله المصلحون، وزارة ذات روح عامة مؤتلفة الأجزاء متضامنة الوزراء، لا يسعى أحدهم بالآخر إلى السلطة ولا يصك بعضهم صدره للسلطة، لينفرد بإتيان عمل من وراء الآخرين، وزراء لا يقبل أحدهم الوزارة إلا بعد التدبر والحساب، وبعد أن يعرف شركاءه في المسئولية ويرضى بهم، فإنَّ الوزير هو ذلك الذي يعرف أن يقيس قواه لحمل أعباء الأمة على كاهله لا الذي سرعان ما يجري الطمع المتواضع إلى أن يقدر ما يربحه في المنصب.

إلا أنَّ الوزارة غرم لا غنم، إنَّها مفقدة الصديق ومضرب العدو وكد الضمير وخسارة الاسم، فمن قَبِلَ الوزارة لمال يكسبه فما أقل حسابه! أو لجاه يحصله فقد فات زمن الجاه، ومن قَبِلَ الوزارة وأَعَدَّ لها عدتها من الكفاءة والاستقلال لمجد مُخَلَّدٍ في خدمة أوطانه، فذلك وحده هو الوزير ضحى ماله ووقته وحريته ولذته لمنفعة قومه وبلاده.

على أننا من جهة أخرى يعز علينا أنَّ وزارة سعيد باشا التي استقبلناها بقليل من التفاؤل وكثير من الجاذبية، لم تنجح في أداء وظيفتها فلم تُوفَّقْ إلى إرضاء مصلحة البلاد ولا إلى إرضاء الأمة ولا السلطة التي نصبتها، نأسف لذلك لأنَّ الوزارة مؤلَّفة من أبناء مصر وليس فشلهم في السياسة يشرفنا كثيرًا، ونحن أمة ناهضة كل مثل من أمثلة الفشل يتخذ حجة علينا لا حجة لنا، فلسنا من هذه الجهة كغيرنا من الأمم الراقية التي تعد من يصلح فيها للوزارة بالمئين لا بالعشرات، نأسف لذلك ويرضينا أن نُودِّعَ الوزارة الحاضرة لنستقبل الوزارة الآتية بالآمال الكبار، فإنْ كانت الوزارة الفهمية فأهلًا وسهلًا وحبًّا وكرامة، فإنَّ ذلك الشيخ المحترم يكاد يكون في مصر الرجل الوحيد الذي لا فائدة له من الوزارة، فلا يكون قبوله لها إلا لمحض نفع البلاد، ولقد أظهر مصطفى فهمي باشا في المفاوضات على ما يتغافله الثقات من رفعة الأخلاق وعُلُوِّ المكانة ما يجعل الأمة تستبشر خيرًا بوزارته وما يجعل السلطة ترى نهائيًّا أنَّه هو الرجل الأول اللازم للحالة الحاضرة، والقادر بنفوذه الأدبي على إصلاح ما فسد من أحوال البلاد.

١  الجريدة في أول أبريل سنة ١٩١٤ العدد ٢١٤٧.
٢  محمد سعيد باشا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤