تأبين أحمد فتحي زغلول باشا١

أيها السادة:

إنَّ أحمد فتحي باشا زغلول هو أصغر أنجال المرحوم الشيخ إبراهيم زغلول من أعيان إبيانه، ولد في تلك القرية في ٤ ربيع الأول سنة ١٢٧٩ﻫ، مات أبوه رحمه الله إذ كان رضيعًا، وكان شقيقه سعد زغلول فطيمًا، خلفهما أبوهما في حضانة والدتهما التي هي إحدى عقائل عائلة بركات الشهيرة بالغربية، وكانت وقت وفاة زوجها لا يتجاوز عمرها العشرين، فقامت على ولديها ووقفت نفسها على تربيتهما تحت إشراف أخيهما الكبير لأبيها المرحوم الشناوي أفندي زغلول الذي عني بتعليمهما على أحسن ما تُعَلَّمُ به أبناء الأعيان.

تعلم فتح الله الصغير في كُتَّاب البلد، ثم في مدرسة رشيد، ثم المدرسة التجهيزية، ثم في مدرسة الألسن، فاتفق أن زارها المرحوم أحمد خيري باشا ناظر المعارف العمومية، فأعجب بذكاء الشاب فتح الله صبري وأعطاه اسم أحمد، ونحت من «فتح الله» فتحي، وأصدر أمرًا رسميًّا إلى المدرسة بتسميته أحمد فتحي وبأن يرد إليه ما دفع من المصاريف وباعتباره طالبًا مجانيًّا، فلما كانت ١٨٨٤م أرسلته نظارة المعارف إلى فرنسا لدرس الحقوق فحصل على شهادة الليسانس ورجع سنة ١٨٨٧م. وُظِّف بقلم قضايا الحكومة، ثم رئيسًا لنيابة أسيوط، ثم رئيسًا لنيابة إسكندرية، ثم مفتشًا بلجنة المراقبة، فرئيسًا لمحكمة الزقازيق، ثم رئيسًا لمحكمة مصر، ثم وكيلًا لنظارة الحقانية، وظيفته الأخيرة التي مات وهو قائم بها.

كان فتحي باشا كما سمعتم اليوم وقبل اليوم وكما قرأتم في التقارير الرسمية مثال الموظف الفاني في الاشتغال بأداء واجباته القائم بعمله وعمل غيره أحيانًا ولم يمنعه ذلك من أن يكون مترجمًا ممتعًا أمينًا ومؤلفًا كبيرًا، عن هذا الوصف ومن هذه الجهة وقفت أمامكم أؤبِّن فقيد العلم والعلماء.

أيها السادة:

إنَّ شدة الذكاء، وقوة النفس، وحسن الإخلاص، تلك الصفات التي ظهرت آثارها على فتحي باشا منذ شبابه الغض راجعًا معظمها إلى التأثير الوراثي من أبويه وعلى الأخص والدته التي أفاضت عليه من صفاتها بما يفيض الأصل، وما غرست من المبادئ الصالحة مما جعل لفتحي شخصية ممتازة منذ صباه.

لا يأخذكم العجب من قولي؛ فإنَّ من أمهاتنا نحن القرويين، منهن مع بساطة في المدارك العقلية وبُعد عن العلوم والمعارف، على جانب عظيم من الذكاء الفطري ورفعة الأخلاق وعزة النفس وذوق سليم في الحكم وطيبة وتقوى في المعاملات، ينقلن هذه الصفات لأبنائهن بحكم قانون الانتقال الوراثي، فتكون لهم رأس مال في الحياة العملية، ولولا هذه الصفات لهلك القرويون غير المتعلمين بما هم فيه من جهل عميق وما عانوا من استبداد طويل، ولكن هذه الصفات الأولية قد قامت في نجاحهم مقام المعارف زمنًا طويلًا ولا يزال الاتكال عليها وحدها يُؤدِّي إلى الآن نتائجَه المتواضعة في بلادنا، فإذا جاءت العلوم والمعارف على هذه الصفات الأولية، ظهر النبوغ قلة وكثرة تبعًا لقوة الاستعداد أي لقوة تلك الصفات الوراثية.

فللأمهات القرويات أنْ يَقْبَلْنَ أيضًا شكر الجيل الحاضر، وعلينا أن نعترف علنًا ومن غير تردُّد بما للأمهات من الأهمية العظمى من حيث توريث البنين والقيام على تربيتهم الأولى، وأمامنا المثل الحسي أنَّ والدة فتحي باشا يُنسب إليها الفضل الأكبر في أنْ أخرجت لمصرنا نابغتين: نابغة نرجو له العمر الطويل، ونابغة فقدناه آسفين، فقدناه ونقدم اليوم للتاريخ منه صورة هي أقوم صور نوابغنا حجة لحسن الاستعداد وعلو الكفاءة العلمية والعملية جميعًا.

إنَّ الصفات الأولية لفتحي من شدة الذكاء وقوة النفس وحِدَّةِ المشاعر هن أساس نبوغه، كان يحمل نفسًا على قوتها الهائلة، رقيقة المشاعر قلقة لا تستقر أو تبلغ من خدمة العلم مُنَاهَا، هيهات أنْ تبقى طويلًا أمثال هذه النفس في البيئات التي لا تُلائِمُ بقاءها ونجاحها، وهيهات أن تبلغ منًى، كلما تقدمت اتسع أمامها أفق الأغراض وكلما انقضى سبب جاءها سبب جديد.

تَعَلَّم فتحي فصادفت القواعد العلمية من عقله مقامًا رحبًا وقرت فيه أصولها، ووجدت منه نفسًا طُلَعَةً قوية في مركزها مَيَّالَةً للانتشار في مظاهرها الخارجية يناديها صوتها الخفي: أن وفِّ حق العلم، وآتِ زكاة النبوغ.

فأقدم منذ حداثة سنه على نشر العلم إجابة لداعي الضمير، أقدم على هذا المركَب الخشن وكان الواجب عليه أن يُقْدِمَ لأنه استكمل عدة الإقدام: ذكاء مضيء وعقل عاصم وعلم هادٍ ولسان عضب ذلق غواص على موضع الحجة، وقلم سيال، ومركز نبيل! كيف لا يكون مِقْدَامًا من جَمَعَ بين كل هذه الأسباب؟

لا أكاد أبرئ فتحي من الوقوع في حيرة اختيار الطريقة التي يجب عليه اتباعها لخدمة العلم في مصر: التأليف أو الترجمة وأيهما أنفع، وإذا كانت الترجمة، فعلى أي نوع يقع الاختيار؟ حيرة لا بد منها لشاب خارج من المدرسة تتضرم بين ضلوعه نار الشوق إلى مجد الوطن العلمي، خلو من التجارب لا يملك إلا كفاءته العلمية.

نظر فتحي نظرة صادقة إلى حال الأمة المصرية وحكومتها فرأى أننا أحوج ما نكون إلى معرفة المثل الأعلى الذي نبغي الوصول إليه من نظاماتنا السياسية والاجتماعية، حتى تتحد أطماعنا الوطنية على طريقة عامة واضحة.

ورأى فوق ذلك أنَّ أول خطوة يخطوها المصلحون العلميون هي نقل العلم إلى أوطانهم بالترجمة، إنَّ هذه الطريقة كانت هي ألِف باء النهضة العلمية في كل أمة وفي كل زمان.

هذا النظر المزدوج كان رائد فتحي باشا في ترجمته منذ خرج من المدرسة إلى أن مات فإنَّه في سنة ١٨٨٨م يترجم (العقد الاجتماعي) لجان جاك روسو فلم يُتِمَّهْ، ولكنَّه ترجم بعد ذلك «أصول الشرائع» لبنتام، و«خواطر وسوانح في الإسلام» للكونت هنري دي كلتزي، و(سر تقدم الإنجليز السكسونيين) لأديمون ديمولان، و(روح الاجتماع)، و(سر تطور الأمم) لجوستاف لوبون، و(خطاب مصطفى فاضل باشا) نشر ذلك من مترجماته، وله فوق ذلك (جوامع الكلم) لجوستاف لوبون، وقد وزع عليكم الليلة، وكتاب بورجار في الاقتصاد السياسي، و(تمدن العرب) لجوستاف لوبون، و(جمهورية أفلاطون)، و(الفرد ضد المملكة) لسبنسر، وكلها لم يتم تعريبها، أما مؤلفاته المنشورة فهي: كتاب المحاماة، ورسالة في التزوير، وشرح للقانون المدني، وقد ألَّف أخيرًا كتابًا «في التربية العامة» كنت أعلم أنَّه قد تم ولكنه لم يطبع.

قرأت مترجماته المنشورة، وتصفحت من غير المنشورة، وأستطيع بعد ذلك أن أقول من غير تردد: إنَّ فتحي كما كان نابغة في الفقه، كذلك كان نابغة في الترجمة، يمسك الكتاب يقرأه أولًا ثم يدخل بنظره الحاد في طيات نفس الكاتب فيظهر أسرارها بقلمه العربي المبين.

ومن التراجم ما يترجم الألفاظ تحمل معانيها خالية من روح الكاتب وحرارته فلا يكون لها التأثير المطلوب، إلا مترجمات فتحي فإنَّها تقرأ فيها المعاني والأغراض كأنَّك تقرأ كاتبها من غير فرق.

لفتحي باشا شخصية تامَّة ممتازة في طريقته وفي أسلوبه البياني.

أما نحوه في الترجمة فليس هو الالتزام الحرفي للأصل ولا مجافاة الأصل، ولكن نحوه بين ذلك وسط مرضٍ.

أما أسلوبه فهو عربي خالص، لا يعنى فيه بفضلة لزخرف المحسنات اللفظية، ولكنَّه مع ذلك متين الرصف ظاهر الرشاقة جذاب جدًّا.

لم يكن فتحي باشا يترجم لِيترجم، ولا طلبًا للشهرة أو المال من وراء التعريب، فإنهما ليس سبيلهما في بلادنا العلم والكتابة، وكان حسبه شهرةً مناصبه العالية وكفاءته التي ما كانت يومًا واحدًا موضعًا للشك من أحد سواء في ذلك أصدقاؤه وحُسَّادُهُ، عارفوه وغير عارفيه، ولكننا إذا جمعنا مترجماته دَلَّنَا مجموعها على أنَّ فتحي كان له غرض ثابت يرمي إليه من وراء نشر هذه الكتب.

غرضه نشر مبادئ الحرية: حرية الفرد، وحرية الأمة، وتنبيه أطماع الأفراد والأمة جميعًا إلى اتخاذ مَثَلٍ أعلى قِبْلَةً لهم في أطماعهم الوطنية، منذ سنة ١٨٨٨م كان يرى الأمة تتقلب في أغراض أحيانًا متعاكسة ودائمًا مبهمة فكان يُسيئه هذا النظر ويَوَدُّ لو أنَّ الشعور الوطني الذي كان وقتئذٍ في حَذَرٍ مستمر — يُولِّي وجهه قبل الاستقلال على نحو منتج، كان يَوَدُّ لو يدركون أنَّ إبهام الفرض وعدم إدراكه بوضوح، يجعله مستحيل المثال؛ لذلك أراد أن يقدم للجمهور، (عقد الاجتماع) لروسو حتى يتبين الجمهور حق الفرد وحق الأمة، وما يجب أن يكون لها من السلطان، وللأسف لم يظهر هذا الكتاب مع أنَّه بلغ من ترجمته مبلغًا كبيرًا، ولكنَّه أصدر بعد ذلك ترجمة بنتام في أصول الحقوق والواجبات، حتى جاء الزمن الأخير وظهور الشعور الوطني بمظهر جميل، ولكن لا يزال في مقاصده بعض اللبس حتى فيما هو مكتوب من المبادئ في الصحف، وما الصحف إلا ترجمان الرأي العام.

ولعل فتحي باشا أمام هذه المشاهدة أشفق على حرية الأفراد، وتربية الأمة من الميل الظاهر إلى ما يُشبه الاشتراكية، فإنَّ النَّاس لم يقصدوا في طِلبتهم على حقوق الأفراد من الحرية وحق الشعب من السلطة، بل أخذوا مع ذلك كله يُطالبون الحكومة أن تقوم لهم بكل شيء، ومهما كان في أساليب هذه المطالب من الانتقاد الضمني، إلا أنَّ مثل هذه الحركة من شأنها أن تجعل الحكومة هي كل شيء والفرد لا شيء، الاشتراكية قد تكون معقولة إذا كان للأفراد شأن في تنصيب الحكومة، وإلا فإنَّما هي اشتراكية معكوسة النتائج، فأخذ فتحي باشا عن بعد يهدي الأفراد إلى وجوب الاستمساك بشخصيتهم، ويبين لهم أنَّ التربية الشخصية هي التي كانت (سر تقدم الإنكليز السكسونيين)، يطلب إلى المصريين أن يتشبَّهوا بهؤلاء وأن لا يُفنوا شخصيتهم فيفنى وجودهم، واستطرادًا في هذا النظر تصدى إلى ترجمة (الفرد ضد المملكة) وروح الاجتماع وسر تطور الأمم، كل ذلك ليُبقي في الجمهور الأسس العلمية للرقي حتى يطبق النَّاس حالهم على هذه الأصول فينتفعوا بتجارب الأمم.

أيها السادة:

إنَّ التوفيق بين منتخبات فتحي باشا للترجمة فوق ما قدمنا أنَّه كان يعتنق مذهب الحريين سواء كان ذلك في التربية والتعليم أو في الأصول الاجتماعية والسياسية بل الاقتصادية أيضًا؛ لأنَّه لو كان اشتراكيًّا في الاقتصاد لما عمد إلى ترجمة بورجار بل كان عمد إلى ترجمة أحد الاقتصاديين الاشتراكيين الظاهرين بالاشتراكية.

ولو شِئْنَا أنْ نُبيِّن عقائد فتحي باشا من منتجاته ومن أحاديثه لضاق بنا المقام، ولكنِّي أكتفي الآن بالإشارة إلى أنَّ بين اختيار فتحي لتلك المؤلفات وبين مذهبه الحرِّيِّ في محاولة الإصلاح الاجتماعي والسياسي نسبًا متصلًا جد الاتصال.

حسبي الإشارة إلى ذلك وإلى أنَّ فتحي باشا كان ذا مبادئ ثابتة وطرائق معينة في كل شيء، فكما أنَّه ابتدأ في خدمة العلم الابتداء الطبيعي، وهو نقل العلم إلى البلاد، كذلك كان يرى أن البدء في الارتقاء الاجتماعي والسياسي لا يكون بأخذ ثمرات آخر تطور للمبادئ الاجتماعية والسياسية في الأمم التي تَمَدَّنَتْ من قبلنا؛ ولا شك في أنَّ إدخال المبادئ الاشتراكية في آخر تطورها الحاضر على أمة ناهضة من عقال الاستبداد نتيجة اضطراب خطر قد يكون ضرره أكثر من نفعه.

من ذلك نأخذ أنَّ فتحي باشا كان رجل ارتقاء لا رجل ثورة، إنَّه كان يكره الثورة، يكرهها بكل مظاهرها حتى الفكرية منها، فكما إنَّه كان يرى أنَّ خير القوانين ليس هو القانون الحسن في ذاته، ولكنَّه القانون الذي يحتمل الشعبُ تطبيقَه، كذلك كان يرى أنَّ خير المبادئ الاجتماعية والسياسية هو ما كان بينه وبين طبائع الشعب وعاداته نسب، تكمل ما فيها من نقص وتُقوِّم ما بها من اعوجاج.

كان فتحي يسترشد بهذه الآراء الحرة العريقة في الحرية، فإذا لم يكن نشرها ليتفق مع مركزه في الحكومة، فلقد نشرها بالترجمة والعقل ليرضي دواعي ضميره وليثابر على تربية قومه تربية صالحة على قواعد ثابتة مع معرفة الحقوق والواجبات، فليس فقيدنا رحمه الله من أرباب المناصب، بل هو على ذلك من أرباب المذاهب ومن هو كذلك، من شأنه أن يكون شقيًّا بغرضين معذبًا ضعفين، يكاد لا يكون له من وقته شيء، فهو يقسم بين الأعمال الرسمية الشاقة وبين خدمة العلم، يعمل لها بالتأليف والترجمة شطر الليل وأحيانًا طول الليل ومدة العطلة، فإذا لامه في ذلك أصدقاؤه هزَّ كتفه هزة فيلسوف لا يُبالي مات اليوم أو مات غدًا.

نعم كان المؤلف فتحي يعتقد أنَّ الحياة تُقَدَّرُ بما يتم فيها من العمل الصالح لا بعدد السنين.

يكاد كلامي يلقى في الأذهان من فتحي باشا صورة عالم استغرقته أغراضه وشغلته همومه فزهد في الجمعية وفرط في القيام بالاصطلاحات المدنية، كلا! إنَّ فتحي باشا على ذلك كان مترفًا في عيشته متأنقًا في مظاهرها المختلفة، كثير الاختلاط لا تفوته عيادة مريض من أصدقائه، ولا رد لزيارة ولا مؤاساة معارفه في أحزانهم، كذلك لا ينقبض عزمه عن شهود حفلة أنس، ولا تلوي به همومه ومشاغله عن الاعتناء باقتناء التُّحَفِ والطُّرَفِ وتَعَرُّفِ أوضاع الجمال حيث كان، رحمه الله، كان على علمه العميق ومنزلته العالية رجلًا غاية في الوداعة والظرف.

من ذلك يظهر لي أنَّ فتحي باشا كان يعتقد الحياة الفردية كلًّا واحدًا من حقه أن يكون متعادلًا في جميع مظاهره، وأنَّ اعتدال السلوك لا يتم إلا بهذا التعادل فكما يجب على المرء أن يخدم عقله كذلك يجب عليه أن يخدم مشاعره، حتى لا تعطل ملكة من الملكات تضحية لمَلَكَةٍ أخرى، ولا شك في أنَّ خير قاعدة تنتج المثل الأعلى للرجل الكامل بمعنى الكلمة هي قاعدة تنمية مَلَكَاتِ الإنسان وقواه بنسبة واحدة.

كذلك كان فتحي باشا، وعلى هذا كُنَّا نراه في شئونه، غير أنَّ الاستثناء كان يلحق لديه هذه القاعدة أيضًا، فإنَّه يظهر لنا من جهة أخرى أنَّه كان يضحي قواه الجثمانية في سبيل شهوته العلمية.

وهذا المثال مع الأسف هو وقلة الحرص على المال كأنهما أمرانِ عامَّانِ في كثير من أبطال العلم وخَدَمَةِ الأوطان.

عفوًا! أيها السادة، ليس فتحي في عداد الموتى الذين يُؤَبَّنُونَ بقَوْلَةٍ واحدة تردد لكل منهم على السواء: كان وكان … وعليه الرحمة والرضوان. إنَّ فتحي ليس مِلكًا لأهله وأصدقائه بل هو ملك التاريخ، وبهذا العنوان يجب علينا دراسته، إنَّه صورة كبرى من أكبر صور النبوغ المصري بروزًا وأَوْلاهم بالعناية والدرس، إنَّه رجل كبير، كبير في عقله وفي عواطفه بل في أطماعه أيضًا، وما كان يبين عليه أنَّ اقتناء المال داخل في برنامج أطماعه، أقول وليس هو في هذا المعنى استثناء من عظماء الرجال أمثاله، أولئك الذين ماتوا ولا أصفر ولا أبيض، كأنَّهم الأنبياء لا يُورثون، فإن لم يتركوا تراثًا تركوا مجدًا خالدًا.

نعم إنَّ أطماع فتحي باشا كانت كبيرة متناسبة مع كفاءته وثقته بنفسه ولكنها لم تكن من الأطماع الشخصية في شيء، إنَّه كان يألَم لما نحن فيه ويرجو أن يكون له من السلطة ما يسهل لقومه سبيل التقدم إلى الأمام، قد تكون هذه العلة هي العذر العام الذي ينتحله كل المُغْرَمِينَ بالمناصب العالية.

ولكن فتحي ليس من هؤلاء؛ لأنَّه كان يُنفذ الخطة التي رسمها لمشاغله العمومية، فأخذ يسهل التقدم بقلمه، ومن الطبيعي أن يرجو أن يُسهله بعمله أيضًا، فيكون بذلك قد جمع بين سببي النفع، لا كصديقه روسو الذي قال: لو كنت شارعًا أو أميرًا لاعتضت عن الكتابة في السياسة بتحقيق ما أقرر من المبادئ، على أنِّي يجب عليَّ في هذا الموقف أن أسارع إلى التصريح بأنَّ فتحي لم يقدِّم بين يدي أطماعه إلا كفاءته، أمَّا شخصيته واستقلاله في الرأي فلا دخل لهما في هذه الصفقة، بل ربما كان حجر عثرة في سبيل ارتقائه.

على أنَّ فتحي باشا مهما كان محسود القدرة، فإنَّه كان دائمًا عمدة الحكومة في كثير من المشروعات الدقيقة التي تحتاج إلى مفاوضات بين جهات مختلفة وموضع الاستشارة عن نظارته وغير نظارته في وضع القوانين، كما تشهد به الألسُنُ الرسمية والتقارير الرسمية.

أيها السادة، كنا نكرِّم فتحي باشا في نحو هذا الأوان من العام الماضي ونتوِّج مؤلفاته، وها نحن أولاء جئنا اليوم نُؤَبِّنُهُ ونَتَأَسَّفُ على وفاته، فما أقل هذا الوجود حرصًا على الرجال النافعين!

أيها السادة، إنَّ صورة فتحي باشا الذي اشترك في رسمها جميع خطباء هذه الحفلة الممثلين للمعاني والطبقات المتباينة، صورة ندخرها عند الزمان على أنَّها طليعة النهضة العلمية وأثر من آثار المجد المصري الفخيم، ولتكون قدوة للنابغين من أبنائنا على مر الزمان، فاللهم لعبدك الأمين في خدمة العلم رحمة، ولبلاده عزاء، إنك أنت السميع المجيب.

١  الجريدة في ٩ من مايو سنة ١٩١٤ العدد ٢١٧٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤