آثار الجمال وجمال الآثار١

لا أظن أنَّه يوجد إنسان صحيح لا يشعر في نفسه بتأثير الجمال أو لا تتحرك عواطفه حركة لذيذة أو مقبولة توجب الرضا برؤية الجميل، ولقد تختلف أذواق الأفراد والأمم اختلافًا قليلًا في تحديد جمال الأشخاص والأشياء تبعًا لتربية الخاصة النفسية التي تتعرف الجمال، فكلما كانت هذه الخاصة التي نُسمِّيها الذوق مصفاة من شوائب الخشونة بحكم التركيب الجسماني والوراثة ودرس الفنون الجميلة، كانت النفس أكثر إحساسًا بالجميل وأدق حكمًا في الجمال، ومهما كان رأي جماعة الزهاد في الدنيا الذين لا يقيمون وزنًا للذائذ الإنسانية ولا يحفلون بالصور الجميلة.

وجماعة الفانين في كسب الأموال الذين يجدون ما عدا ذلك في الحياة من سقط المتاع، فإنَّ إجماع بني آدم أصحاء الأجسام والعقول، واقع على نفوسنا هي أيضًا كأبداننا محتاجة إلى الغذاء، ومن أطيب غذائها الجمال، فإنَّ مشاهدته حيث كان تلقي في نفس الإنسان سكونًا يلطف آثار حركات المشاغل وينوع حال المشاعر فيحميها من الكلل والسآمة ويعيد قوتها سيرتها الأولى، فإذا كان الجمال على هذا القدر من تغذية الروح الإنسانية، كان تعرفه بمرانة النفس على رؤيته حيثما كان، من الأمور الضرورية للعيشة المدنية والتربية الإنسانية، لا أنَّه — كما يزعمون — أمر كماليٌّ صرف يتشبث به أهل البطالة وأتباع الهوى وخفاف الهموم.

زعم باطل وإغراق في اعتبار الحياة حمأة آلام يتمرَّغ فيها الأحياء لا يذوقون فيها من طعوم اللذة إلا تنقُّلًا من أَلَمٍ قديم إلى ألم جديد! إذ ليس ذلك ما يشعر به عامتنا نحن الأحياء.

نحن لا نعرف ماهية الجمال، ولا يهمنا الآن البحث عن ذلك ما دامت تشعر به أنفسنا من غير تعريف منطقي، يقولون: إنَّ الجمال هو عبارة عن مظهر أسرار الكمال في هذا العالم المادي، أو إنَّه مرآة حسن التأليف بين الصور والألوان، ويقولون غير ذلك.

ولست أظن أنَّه يهمنا كثيرًا أن نسبح فيما وراء الطبيعة لنرجع بتعريف للجمال، وهو هو بعينه ذلك الذي نشعر به في أنفسنا عند رؤية ما نُسمِّيه الجميل، سواء كان هذا الجميل مخلوقًا حيًّا أو جامدًا أو فعلًا من الأفعال التي تهز عواطفنا، أو معنى من المعاني التي تقع من النفس موقع الجميل بالحس، وإذا كُنَّا حاصلين على معنى الجميل بالفعل داخل نفوسنا فخير من تلمُّس حدوده فيما وراء معلوماتنا، أن نستمتع بآثاره إذ الواقع أنَّ الجمال معنى من المعاني القدسية التي لا تزال محجبة عن أبصارنا الكليلة، مصونة عن التدهور في هاوية أبحاثنا الوضعية، رفيعة عن إدراكنا المحدود، ومع ذلك فإنَّ آثاره مادية نراها بأعيننا في الصور الحية وفي التماثيل الجميلة، ونسمعها في أصوات الموسيقى، ونشعر بها روحًا تفيض على مشاعرنا رضى بمشهد الأعمال العظيمة أو بسماع أخبارها، ذلك الأثر السعيد أثر الجمال، هو الذي يجب علينا أن ننمي مقداره في أنفسنا؛ لنحصل بها على أكثر ما نستطيع من العيشة الراضية.

إنَّ تربية الحس الصادق الذي يتعرف الجمال ويتأثر منه، ليست على ما نظن خاضعة لقوانين معينة؛ لأنَّها هي تربية الذوق، والذوق شيء ليس في الكتب، على أنَّ نبوغ مصور التماثيل أو رسام الألواح أو صانع التُّحف أو الموسيقي ليس نتيجة لازمة للعلم بأصول معينة بل هو إلهام من الله وفيض من الفيوض، أو كما يقولون: استعداد خاص قد تفسده قوانين العلم، ويُنميه في نفس العبقري خروجه في صناعته عن حدود المألوف.

أجل! إنَّ أرباب الفنون الجميلة في كل زمان لم يقيدوا حريتهم عمدًا بأقيسة فنية، ولكنَّهم كانوا دائمًا خاضعين لانفعالاتهم الذاتية المتولِّدة عن عقائدهم ومشاعرهم ومشاعر أهل زمانهم وحاجات البيئات التي نشأوا فيها؛ ولذلك كانت آثار الفنون الجميلة في كل عصر من العصور مؤتَلِفَة غاية الائتلاف مع عقائد ذلك العصر ومشاعره وحاجاته واصطلاح الجمال فيه، فترى من السهل على كل ذي إلمام بالتاريخ والآثار أن يعرف الأثر الذي تقع عينه عليه، في أي العصور صنع، ومن أي البلاد هو، فإنَّ هذه الآثار الصامتة تُحدِّث الذي يعرف أن يسمعها، تحدثه بأهل زمانها صادقة، كما قيل: إنَّ أصدق الكتب هو ما كتب بالحجارة.

ليس الحس الصادق الدقيق في معرفة الجمال محلًّا لتربية معينة ذات أوضاع متفق عليها، كذلك لا يعرف التاريخ أنَّ أمة من الأمم — مهما كانت آثار فنونها الجميلة ذات شخصية مستقلة عن غيرها — قطعت النسب بين فنونها الجميلة وغيرها، ونبغت فيها، بل التاريخ يدل على أنَّ الفنون الجميلة الفرعونية، إنَّما كان أصلها من أثيوبيا دخلت عند المصريين، فأخذت طابع عقائدهم الخاصة ومشاعرهم وحاجاتهم فتغيرت عن أصلها وصارت ذات شخصية مستقلة، فلما أخذها اليونان عنهم تَغَيَّرَ شكلها تبعًا لعقائد اليونان ومشاعرهم أيضًا، فلمَّا أخذها عنهم الرومان تغيرت تغييرًا جديدًا، وإن كان هؤلاء لم يتفوَّقوا فيها على أساتذتهم اليونانيين، وهكذا أخذت الفنون الجميلة العربية من غيرها وكانت في بدئها خليطًا ثم أفاضت عليها الروح العربية الإسلامية جمالها الخاص فأصبحت ذات شخصية مستقلَّة عن غيرها مميزة عمَّا عداها، سواء كان ذلك في الأنغام الموسيقية أو في تحف الآثار والصناعة الفنية والرسم والتماثيل، وإنْ كانت الصور والتماثيل قليلة في الفنون الجميلة العربية، إلا أنَّ الذي وجد منها في بعض الآثار كالحمراء بغرناطة، والقصر في إشبيلية، وفي دار المستنصر وغيره من بعض الملوك والخلفاء، قد دَلَّ أهل الفن على أنَّ الرسم والتصوير في الإسلام لهما طابع خاص.

على هذا الاعتبار يمكننا أن نقول: إنَّ الحس الصادق الذي يتعرف الجمال من الآثار لا يجوز أن يهمل أمره ويترك للصدفة الصرفة، اعتمادًا على أنَّ الذوق ليس في الكتب، بل يجب أن تمرن النفس على رؤية الجميل من الصور والألواح والمصنوعات وسماع الجميل من الغناء حتى يرق شعورها وتحصل لها هذه اللذة التي تأتي من معرفة الجمال وتقديره، فإنَّها لا تعدلها في صفائها وعلو مكانتها لذة أخرى، لذة ضرورية للفرد نافعة للمجموع.

وأقرب ما يكون هذا المران العملي في زيارة دار الآثار المصرية، ودار الآثار العربية، وزيارة العمارات الأثرية الفرعونية والعربية؛ كالهياكل، والمعابد، والمساجد القديمة، ثُمَّ زيارتها في كل فرصة تُمَكِّنُ من ذلك.

يجد الإنسان آثار الجمال في الطبيعة، فإنَّه إذا صفت نفسه واتَّسَعَ أفق بصره، وعلت مرتبة إدراكه، يرى الجمال في الطبيعة حيثما أدار عينيه، يرى في الرياض جمالًا، وفي البحر الفسيح جمالًا، بل يرى في الطبيعة الجدوب والجبل الأقرع والصحراء الجرداء جمالًا من نوع خاص، كما يرى الجمال في بعض الإنسان وبعض الحيوان. غير أنَّ للجمال في نفوس النَّاس قيدًا خاصًّا يقيدون به معناه العام، وهو جمال الخلقة في بني الإنسان على الخصوص، فإذا أقبلت على أحد الشبَّان تُلقي عليه بغتة هذا السؤال: هل تحب الجمال! تكيف هذا السؤال العام في ذهنه بصورة امرأة حسناء، وكان جوابه عنه مقيدًا عنده بهذه الصورة، إلا إذا ألفتَّ ذهنه إلى معنى الجمال على إطلاقه. ذلك أمر مفهوم لا نُعْنَى باستقصاء مصدره في النفس، ولكننا يجب علينا أن نُطاوع هذا الاصطلاح العام بعض الشيء في تربية الذوق، ومن غير الممكن أن يوفق المرء إلى رؤية امرأة مثل (زهرة روفائيل) في الجمال، بل قد يكون بين جسم المرأة الحية الجميلة وبين روحها، فوارق واضحة تنقص مقدار جمالها إلى ما دون المرأة العادية، وكذلك الرجل.

أما ذلك التمثال الصامت، فإنَّه لا يلوح عليه من الآثار المعنوية إلا ما أراد المصور أن يجعله مثلًا أعلى للمعاني التي تشف عنها أوضاع الجسم، على أنَّه من كثير الوقوع أنَّ المرء لا يقصر النظر إلى الأجسام الحية المتحركة على مشاهدة الجمال المجرد، بل قد يُشارك معنى الجمال في ذهن الرائي معانٍ شتى تشوش على النفس استطلاع الجمال، وليس الأمر كذلك في رؤية الألواح والتماثيل الجميلة، فإنَّ النظر إليها يكون دائمًا خاليًا عن كل ما يزحم معنى الجمال في خيال الرائي، ولهذا الاعتبار نكاد نقول: إنَّ خير نموذج لتربية الذوق في إدراك آثار الجمال هو استدامة النظر إلى جمال الآثار، وربما كان هذا النموذج هو النموذج الذي اتخذه النَّاس من قبل عند التشبث بتعلم الفنون الجميلة؛ لأنَّه لو كانت الطبيعة كفيلة بتقديم نماذج الجمال لاكتفت كل أمة بما لديها من النماذج الطبيعية من غير أن تستعير نماذج الفنون الجميلة من غيرها كما ذكرنا.

لا شكَّ في أنَّ الأمة الأولى أخذت نماذجها عن الطبيعة، ولكن من خلفها من الأمم قد رأى الأخذ عنها أقرب من الأخذ عن نماذج الطبيعة، فإذا كان شباننا المتعلِّمون يجعلون من بعض همهم زيارة دور الآثار واستقصاء ترقي التصوير والصناعة الفنية فيها من عصر إلى عصر، واعتادوا على ذلك حصلوا لَذَّةً لا يحصلها الذين يصرفون وقت الفراغ في غير لذة بريئة، بل في سُكون وسآمة، واستفاد منهم المستعد في صحة حُكمه عن الأشياء، وزاد علمه بمصر وحبه لها وتقديره تقديرًا صحيحًا مَجْدَها في المدينتين الفرعونية والعربية، واحترام قومه ونفسه بالتبع، إذ الواقع يشهد أننا لا نعلم من قيمة وطننا ومجده ما يعلمه السائحون، فإذا نحن تتبعنا آثار الجمال وعنينا بجمال الآثار، حصلنا على بزور جديدة تنفعنا في تمصير المدنية الغربية الحالية؛ لأنَّ أذواقنا تكون بعدئذٍ خليطًا مما تعلمناه من المبادئ الغربية، وما كسبته مشاعرنا من التربية الغربية، ومن ذوق مصري ونزعات مصرية مصدرها مشاعر جنسنا الوراثية مضافًا إليها المشاعر المصرية التي تتكيف في نفوسنا تكيُّفًا مصريًّا حقيقيًّا بالإيغال في تعريف الآثار المصرية فرعونية وعربية.

لا شك في أنَّ آثارنا جميلة ورؤيتها تبعث في النفس الرضى الذي يحصل برؤية الجميل، وخير الفوائد ما وجد منه المستفيد رضى ولذة، فلا يغلو الذي يقول: إنَّ الوقت الضائع هو ذلك الوقت الذي يصرفه أبناؤنا وبناتنا المتروِّضون في غير مواضع الآثار.

لئن قام عذر علمائنا الأثريين في أنَّهم لا يظهرون حبَّهم لنشر معلوماتهم الأثرية بالمحاضرات، فما هو عذر الشبَّان في هجر دور الآثار التي إن لم يجدوا من يعلمهم فيها، ويوضح لهم جمالها، ولم يستطيعوا أن يستفيدوا مما كتبه العلماء في وصفها وسنها، فلا أقل من أن يدركوا جمالها ويحصلوا لذة رؤية الجميل، إنَّه لا تتم وطنية المرء إلا إذا عرف أمته قديمها وحديثها، فإنَّ من جهل قديمها فهو مدَّعٍ في حبِّها؛ لأنَّ من جَهِل شيئًا عاداه.

١  الجريدة في ١٢ من سنة ١٩١٢ العدد ١٧٤٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤