الفصل الأول

الحضارة المنتجة للاقتصاد السياسي

١

يستلزم نقدُ العلم الاجتماعي إجراءَ النقد الأوَّلي لمُكوِّنات الحضارة المنتجة له؛ وبالتالي نقد الذهن الصانع لهذا العلم الكاشف عن قوانينه الموضوعية. ولأن الاقتصاد السياسي علمٌ أوروبي النشأة؛ فيجب أن نتعرف إلى مُكوِّنات الحضارة الأوروبية التي أنتجته؛ كي نفهم الظروف الموضوعية والتاريخية اللتَين أدَّتا إلى تشكُّله كعلمٍ اجتماعي على النحو الذي هو بين أيدينا الآن؛ ومن ثَمَّ يمكننا نقده داخليًّا وخارجيًّا. والفرضية المنهجية التي نطرحها هنا هي أن الحضارة الأوروبية المنتِجة للاقتصاد السياسي تتألف من ثلاثة مُكوِّناتٍ مترابطة، بل متلاحمة، أثَّرت بدورها في نشأة علم الاقتصاد السياسي وتحديد موضوعه ومنهجه. تلك المُكوِّنات هي:
  • المسيحية الرومانية، بعبارةٍ أدق: النصرانية بعد رَوْمَنَتها.

  • المجد الروماني، الذي سيرثه المحارب الجرماني.

  • العلم اليوناني، الوريث التاريخي لعلوم الحضارات الشرقية القديمة.

ولنتعرَّف الآن إلى كلِّ مُكوِّن١ من هذه المُكوِّنات بالقدر الذي يسعفنا في سبيلنا لتكوين الوعي، الناقد، بمُحدِّدات الحضارة التي أنتجت علم الاقتصاد السياسي.

أولًا: المسيحية الرومانية

لقد نشأت النصرانية، نسبة إلى الناصرة بلدة يسوع، في بيئةٍ يهودية وظلت تنمو في سنواتها الأُولى وتنتشر في أرجاء الإمبراطورية الرومانية، فبلغَت سوريا وآسيا الصغرى وأنطاكية ومصر واليونان حتى قرعَت أبوابَ روما نفسها. وخلال ثلاثة قرون تقريبًا (٥٨–٣١١م)، تعرَّضَتِ الجماعات المسيحية الأُولى للاضطهاد والتنكيل؛ فلقد مثَّل الجانب الثوري في دعوة يسوع ضد القهر الروماني تهديدًا مباشرًا لوحدة إمبراطورية تقوم على التنظيم العسكري الصارم. كما سيُمثِّل الصراع، بعد المسيح، بين الطوائف الرسولية بؤر توتُّر تنذر بحروبٍ أهلية؛ ومن ثَمَّ أخذت روما تنظر إلى الجماعات المسيحية كتياراتٍ سياسية مناوئة أو متمردة يجب قمعها. ظل هذا القمع الرسمي المنظَّم من قِبل الدولة على أشُده حتى صدور مرسوم الإمبراطور جاليريوس (٣١١م) الذي أعلن تسامُح الدولة مع الديانة المسيحية. ومع مرسوم ميلانو (٣١٣م) الذي أصدره الإمبراطور قسطنطين (٢٧٢–٣٣٧م) تم الاعتراف رسميًّا بالمسيحية، كما تقرَّر مبدأ حياد الدولة تجاه العقائد كافة.

خلال تلك الفترة، الممتدة من أوائل القرن الأول حتى منتصف القرن الرابع، تم استكمال البناء الداخلي للتنظيم الكنسي؛ فلقد كُتبت الأناجيل وتشكَّلتِ الطقوس وقُررتِ الصلوات، التي لم يؤدِّها يسوع نفسه، وسُنَّت قوانين الإيمان. كما تبلورت الوظائف الدينية والمراتب الكهنوتية في إطارٍ من الغموض والاحتكار التدريجي للعقيدة والحقيقة من قِبل المؤسسة الكنسية!

وحينما اجتاحت القبائل الجرمانية٢ الإمبراطورية الرومانية، وباتت تمثل خطرًا على العاصمة الإمبراطورية، روما، قام الإمبراطور قسطنطين، في عام ٣٣٠م، بنقل عاصمة الإمبراطورية إلى بيزنطة على مضيق البوسفور. وهناك تسربلَت المسيحية سربالًا إمبراطوريًّا صريحًا؛ فلقد كانت الفترة الممتدة من حكم الإمبراطور قسطنطين حتى حكم الإمبراطور ثيودوسيوس (٣٤٧–٣٩٥م)؛ أي الفترة من عام ٣٠٦م حتى عام ٣٩٥م، كافيةً تمامًا كي يتم استكمال البناء الخارجي للتنظيم الكنسي، كافية كي تصطبغ المسيحية بالصبغة الرومانية! كافية كي تتحول المسيحية من مسيحية الناصرة النقية إلى مسيحيةٍ إمبراطورية! ففي تلك الفترة قرَّب الأباطرة رجال الكنيسة واكتسبوا من خلالهم القداسة والشرعية. في الوقت نفسه شرعَت الكنيسة في التشكُّل كمؤسسةٍ موازية للقصر الإمبراطوري. نعم تخضع الكنيسة بقيادة البطريرك لسلطة الإمبراطور البيزنطي٣ ولكنها تتخذ شكلًا إمبراطوريًّا يليق بمقام عقيدة الإمبراطور نفسه؛ فلقد ارتدى البطريرك المعطف الملكي وأمسك بالصولجان المرصَّع ووضع على رأسه التاج المذهَّب وسكن القصور المنيفة، وأُحيط بهالةٍ لم يَحظَ بها سوى الأباطرة، وهو ما استصحب تأكيد احتكار المؤسسة الدينية للعقيدة وتجريم تفسير الكتاب المقدَّس بالمخالفة لرأي رجال الدين، وكلاء الرب؛ فهم بمفردهم الذين يملكون الحقيقة التي عرَّفها الرب لهم، ولهم وحدهم!
وفي أثناء حكم الإمبراطور ثيودوسيوس وقد صارت المسيحية الديانة الرسمية للإمبراطورية مع عدم الاعتراف بأيِّ عقائدَ دينية أخرى، تم تقسيم الإمبراطورية بين أبناء الإمبراطور: أركاديوس وهونوريوس، فأصبح الشرق من نصيب الأول، وبات الغرب من نصيب الثاني. لم يصمد الجزء الثاني كثيرًا أمام هجمات الجرمان؛ فسقطت الإمبراطورية الغربية، وقامت ممالك الملوك الجدد، ملوك القبائل الجرمانية.٤
ولكن ممالك الجرمان لم تؤسَّس من تلقاء نفسها وبمجرد احتلال الأرض؛ فلقد كانت دائمًا نفس المشكلة تواجههم، وهي المتعلقة بكيفية حكم الأراضي الجديدة؛٥ فمع تهاوي الإمبراطورية الغربية صارت الأراضي في غرب أوروبا بلا حاكم. ولأن الجرمان كانوا عديمي الخبرة في إدارة الدول وفي تشغيل المؤسسات، وكان من مصلحتهم أن تستمر الإدارات الرومانية في عملها، ولأن الكنيسة، في نفس الوقت، كانت المؤسسة المنظمة الوحيدة التي تمكنت من البقاء كأقوى سلطة في غرب أوروبا بعد سقوط روما، فقد استقبلَت الكنيسة الرومانية القبائل الجرمانية وتعاونَت معها فوضعَت لها نظم الإدارة وقواعد الحكم والسياسة، وحوَّلَت زعماء القبائل ومحاربيها من برابرة وثنيِّين إلى مسيحيِّين أتقياء!٦ لقد حولت الكنيسة الرومانية المحارب الجرماني الوثني القادم من شمال أوروبا إلى فارسٍ صليبي روماني. لقد جعلت المحارب الجرماني، المغرم بالحرب، يحارب من أجل العقيدة الإلهية، وليس من أجل النهب والسلب.٧ والواقع أن الكنيسة الرومانية لم تقُمْ فحسبُ بتحويل الجرمان إلى فرسانٍ صليبيين، ولم تكتفِ بتحويل زعماء القبائل إلى ملوكٍ يضعون التيجان فوق رءوسهم، بل جعلت من أحدهم إمبراطورًا رومانيًّا؛ حينما وضع البابا ليو الثالث (٧٥٠–٨١٦م) التاج على رأس شارلمان (٧٤٢–٨١٤م) ملك الفرنجة، في عام ٨٠٠م، وأعلنه إمبراطورًا رومانيًّا، وفي عام ٩٦٢م توَّج البابا يوحنا الثاني عشر (٩٣٧–٩٦٤م) الملك أوتو الأول (٩١٢–٩٧٣م) ملك جرمانيا، إمبراطورًا للإمبراطورية الرومانية المقدَّسة للأمة الجرمانية، الوريث التاريخي للإمبراطورية الرومانية. لقد صَنعَت الكنيسة الرومانية الأباطرة بنفسها!

على كل حال، حينما استولت جحافل الجرمان على أراضي الإمبراطورية الغربية، سيطر رؤساء القبائل، الملوك الجدد، على الأرض التي صارت بدون حُكمٍ مركزي؛ ومن ثَمَّ أقطعوا قادة جيوشهم المساحات الشاسعة من الأراضي في مقابل الطاعة وحماية عروشهم ومد سلطانهم ونفوذهم إلى مناطقَ أبعد؛ الأمر الذي أدى إلى تكوُّن التنظيم الاجتماعي الإقطاعي. في إطار هذا التنظيم نشأ الصراع المرير، والدَّامي أحيانًا، بين الملوك وكبار المُلَّاك من جهة، وبين الملوك والكنيسة من جهةٍ أخرى. كما شاعت الخرافة وتردَّت الأحوال الاجتماعية لفترةٍ دامت ألف سنة تقريبًا. وتمكَّنَت الكنيسة الرومانية في ظل ذلك من ترسيخ سلطانها ووجودها السياسي والاجتماعي كأخطر مؤسسة في القرون الوسطى؛ فمن خلال تنظيمٍ هَرَمي مُحكَمٍ أخذت الكنيسة في تدعيم نفوذها الديني والدنيوي بوصفها المؤسسة الوحيدة المُعبِّرة عن إرادة السماء! والمصدر الوحيد الذي يُكسِب الملوكَ الشرعية وحُكمَهم القداسة! ويُخلِّص الرعية من الخطايا! كما عَمِلَت دائمًا من أجل الحفاظ على المكاسب الاقتصادية الهائلة التي حقَّقَتْها، بوكالتها عن الرب، كأكبر إقطاعي، وأكبر جابٍ للضرائب، وأكبر قاتل للبشر الذين يرتكبون خطيئة التفكير! ويُلخِّص تولستوي (١٨٢٨–١٩١٠م) الوضع الثقافي آنذاك بقوله:

«خذوا كل المراجع العلمية للقرون الوسطى ولسوف ترون أي قوةٍ إيمانية ومعرفةٍ راسخة لا يرقى إليها الشك لِما هو حق وما هو باطل. كان من اليسير عليهم أن يعرفوا أن اللغة الإغريقية هي الشرط الوحيد اللازم للتعليم؛ لأنها لغة أرسطو الذي لم يشُكَّ أحد في صدق أحكامه على مدى بضعة قرون بعد وفاته. وكيف كان للرهبان ألا يطالبوا إلا بدراسة الكتاب المقدس القائم على أُسسٍ لا تتزعزع. من السهل أن نفهم أن المدرسة كان يجب أن تكون دوجمائيةً عندما كان وعي البشر النقدي لم يستفق بعدُ وأنه كان من الطبيعي أن يحفظ التلاميذُ عن ظَهرِ قلبٍ الحقائقَ التي كشَف عنها الله وأرسطو، والروائع الشعرية لفرجيل وشيشرون؛ فلبضعة قرونٍ بعدهم لم يكن بوُسعِ أحدٍ أن يتصور حقيقةً أكثر صدقًا أو رائعةً أكثر روعة مما أتَوا به. كان من اليسير على مدرسة القرون الوسطى أن تعرف ما الذي ينبغي تعليمه عندما كان المنهج واحدًا لا بديل له، وعندما كان كله يتركز في الإنجيل وفي كتب أوغسطين وأرسطو.»٨

ويمكننا أيضًا تلخيص الحالة الاجتماعية للمنتجين المباشرين آنذاك من خلال كتابات المعاصرين الذين بيَّنوا سوء الأحوال التي كان عليها هؤلاء المسحوقون:

«الذين بلغوا حدًّا ليس هناك ما هو أدنى منه، مثل ذلك الرجل الذي كان يقود أربعة عجولٍ عجاف بلغوا من الضعف حدًّا يجعل من السهل أن يحصي المرء عدد ضلوعهم وكان شكلهم يدعو إلى الرثاء، ولا يكاد يطأ الأرض حتى تُطل أصابعه من حذائه المُمزَّق ولا يكاد يُغطِّي سروالُه ركبتَيه بينما تسير زوجته بجواره حافية القدمَين فوق الجليد حتى ترى بَكاتِ الدمِ من أقدامها.»٩
بيد أن تلك السطوة الكنسية الطاغية سوف تتفتت عَبْر ثلاث مراحلَ تاريخية تبدأ بالاحتجاج وتمر بالفصل بين الدين والدولة وتنتهي بالموقف الرافض للدين نفسه؛ فخلال ألف سنة تقريبًا لم تعرف الهيمنة الشاملة للكنيسة الرومانية على روح المجتمع الأوروبي وعقله أي خروجٍ عليها١٠ إلا في أوائل القرن السادس عشر حينما تَزعَّم مارتن لوثر (١٤٨٣–١٥٤٦م)، حركة الإصلاح الديني محتجًّا على احتكار الكنيسة لتفسير الكتاب المقدس، معلنًا أن الخلاص سيكون بالإيمان وليس من خلال رجال الدين، وكلاء الرب، الذين قاموا ببيع صكوك الغفران.١١ وإذا كانت حركة مارتن لوثر، التي أسَّستِ البروتستانتية كتيارٍ إصلاحي مضاد للكاثوليكية، بمثابة خطوةٍ أُولى في سبيل عزل الكنيسة الرومانية اجتماعيًّا وتصفيتها على الأقل معنويًّا، فإن صلح وستفاليا (١٦٤٨م) سوف يمثل الخطوة الثانية في نفس الاتجاه؛ فبعد صراعٍ دموي بين الكاثوليك والبروتستانت، بل وبين جناحَي البروتستانتية ذاتها، اللوثرية والكلفنية، دام عشرات السنين وأسفر عن آلاف المذابح وملايين القتلى، تَقرَّر رسميًّا مبدأ عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول، بصفةٍ خاصة من قِبل السلطة الكنسية، مع إدانة، ومن ثَمَّ منع، فرض الأمراء لأي دين أو مذهب على أتباعهم، بصفةٍ خاصة الأمراء الألمان؛ حينئذٍ شعر الأوروبي ولأول مرة بالحرية. كما أدرك الضمير الأوروبي أن الصراع الديني لم يكن سوى صراعٍ مقيت على السلطة والذهب؛ ومن ثَمَّ تَوجَّه الضمير الجمعي صوب العلم لإعادة فَهم العالم بعيدًا عن الدين والكهنوت والوصاية الكنسية؛ وبالتالي ضعف نفوذ الكنيسة الرومانية١٢ القائم بالأساس على خلق الوعي الزائف. تساوَق كل ذلك مع اضمحلال الإمبراطورية الرومانية المقدسة وتراجع نفوذ الإمبراطور الروماني نفسه بعد أن فقد حوالي ١٠٠٠٠٠كم٢ في الأراضي المنخفضة عقب إعلان استقلال هولندا، وكذلك سويسرا، عن الإمبراطورية المقدسة، مع توسيع السويد لنفوذها في الشمال. بالإضافة إلى تشظِّي السلطة بين مئات الأمراء الألمان الذين أعلنوا استقلالهم وتَمَّ الاعتراف القانوني بسلطاتهم.
أما الثورة الفرنسية (١٧٨٩م)، والتي كانت كذلك خطوةً مهمة في مواجهة استبداد ملوك وأمراء غرب أوروبا، فهي الخطوة الثالثة في سبيل تفتيت نفوذ الكنيسة الرومانية؛ فمع الثورة الفرنسية فقد الدين سطوته خارج أبواب الكنائس؛ فلقد تحررت الحياة الاجتماعية من طغيان وكلاء الرب. والواقع أن الرفض الجمعي للمسيحية، ككهانة وديانة، لم يكن نتيجة لمراجعةٍ علمية١٣ بل كان نتيجة لظروفٍ اجتماعية عصيبة أدَّت إلى مقت سطوة رجال الدين، وهو ما استتبع العمل بلا هوادة من أجل تفتيت قوة المؤسسة الدينية برفض وجود الدين نفسه؛ وبالتالي لم يعُد مقبولًا أيُّ طرحٍ ديني، أو تفسيرٍ لاهوتي، لأيِّ ظاهرةٍ اجتماعية أو طبيعية.

ثانيًا: المجد الروماني

ابتداءً من القرن الثاني عشر قبل الميلاد تدفَّق الرومان من شرق أوروبا إلى شبه الجزيرة الإيطالية مؤسسين روما القديمة عاصمة لهم. وافتتانًا بالحضارة اليونانية نظَّم الرومان دولتهم، وأبدعوا في علوم القانون، وأخذوا في التوسع العسكري حتى تمكنت جيوش روما من فرض هيمنتها على كامل الأراضي الإيطالية، ثم انطلقت لإحكام السيطرة على ممالك العالم القديم؛ فمن الجزر البريطانية وسواحل المحيط الأطلسي غربًا إلى بلادِ ما بين النهرَين وبحر قزوين شرقًا، ومن وسط أوروبا وجبال الألب شمالًا إلى الصحراء الكبرى والبحر الأحمر جنوبًا، نشأتِ الإمبراطورية الرومانية كدولةٍ توسعية ذات طابعٍ استعماري. وحينما سقطت روما في منتصف القرن الخامس الميلادي، وورث الملوك الجرمان النظام الإمبراطوري، نشأت دول غرب أوروبا بخاصة إسبانيا والبرتغال وفرنسا وإنجلترا وهولندا كممالكَ توسُّعية حاملة شعلة المجد الروماني، وسيصبح العالم بأسره حقلًا لعملياتها الاستعمارية. ولم يكن من الممكن أيديولوجيًّا اعتبار العالم مسرحًا لتمدُّد حدود هذه الدول الاستعمارية إلا ابتداءً من أيديولوجيةٍ استعمارية/استبعادية أساسها اعتبار كلِّ ما هو غير أوروبي، تمامًا كما كانت روما تنظر إلى غيرها، خارج الحضارة الإنسانية وفي انتظار أوروبا من أجل «إعماره» وجعله متحضرًا مثل أوروبا! فكما نظرت روما إلى الجرمان كبرابرة، نظر الجرمان، بعد رومنتهم، وأحفادهم من بعدهم، إلى غيرهم نفس النظرة المتعالية؛ فقبائل أمريكا الجنوبية وثنية يجب هدايتها أو إحراقها والاستيلاء على كنوزها، والأفارقة عبيدٌ أدنياء، والعرب أجْلَاف بالسليقة. والمسلمون هَمج رعاع، والحضارة، بجميع مفرداتها وظواهرها الاجتماعية، لم تبدأ إلا من أوروبا!

مع نشأة تلك الممالك تصبح مهمة المحارب الجرماني مُركَّزة في الذود عن المملكة وحماية الملك. وفي مرحلةٍ تالية سيكون مطلوبًا منه ما هو أكبر وأسمى؛ فالمهمة المقدَّسة ستصبح استرداد قبر ابن الرب من خلال الحملات الصليبية.١٤ وما إن انتهت هذه الحملات، التي امتدت من أواخر القرن الحادي عشر حتى منتصف القرن الخامس عشر وهَدفَت، ظاهريًّا، إلى استرداد قبر ابن الرب من يد العرب! إلا وتطورت المهمة المقدسة من استرداد قبر ابن الرب إلى نشر عقيدة الرب، من خلال التوسع الاستعماري،١٥ بين الوثنيين والكافرين في أمريكا وأفريقيا! إن التبشير بدين الرب، تحت راية الرب، لم يمنع أبدًا من الاستيلاء آنذاك على كنوز هذه القارات واستعباد أهلها وإبادة سكانها!١٦
وفي مرحلةٍ تاريخية متقدمة نسبيًّا تفقد مهمة المحارب شكلها الديني وتتخذ شكلًا قوميًّا؛ فقد تم تجنيد المحارب كي يدافع عن الطبقات الحاكمة الجديدة لا عن الملك أو الكنيسة.١٧ فلسوف تُحطِّم الثورة الصناعية في غرب أوروبا كل الروابط الاجتماعية التي كانت تدور في فلك الحمية الدينية وأخلاقيات النبالة ومثاليات الفروسية وستحل محلها علاقات التبادل السلعي والربح النقدي. وسيسحق التثوير المطرد لوسائل الإنتاج الرغبة الجماعية وكل القيم والمثل العُليا التي كانت تسيطر على المجتمع وسيحل محلها سلوكيات الفردية المطلقة والأنانية المفرطة. استلزم كل ذلك التحول من السلطة السياسية المطلقة، أو حتى المقيدة بنفوذ البرلمان أو سلطة الكنيسة، إلى دولة المؤسسات المعبرة عن مصالح الطبقة الرأسمالية الآخذة في النمو آنذاك بقوة كطبقةٍ مسيطرة. كما استتبع الانتقال من التنظيم الاجتماعي الإقطاعي القائم على الملكيات العقارية الكبيرة وعمل الأقنان إلى التنظيم الاجتماعي البرجوازي القائم على حرية النشاط الاقتصادي والملكية الفردية لوسائل الإنتاج والعمل المأجور. ومع هذا التطور، والتغيُّر في شكل وطبيعة التنظيم الاجتماعي ومؤسساته المركزية، أُضيفت إلى المحارب الجرماني، إلى جانب مهمة القتل والتدمير، مهمةٌ أخرى، صارت الأهم، وهي تدعيم النفوذ السياسي والاقتصادي للدول الأوروبية، وترسيخ هيمنتها الثقافية، كدولٍ قومية استعمارية، في البلدان المستعمَرة، التي ستتحول بعد استقلالها الزائف إلى بلدانٍ تابعة سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا.

وهكذا فَرضَت أوروبا، بواسطة مُحاربيها، هيمنتها الثقافية والحضارية ابتداءً من تصورٍ أحادي للعالم، ونظرةٍ شوفينية للتاريخ الإنساني، وانطلاقًا من رؤيةٍ استبعادية لكلِّ ما هو غير أوروبي من تاريخ الحضارة الإنسانية!

ثالثًا: العلم اليوناني

عادةً ما يُقدَّم التاريخ العلمي لأوروبا بل وللعالم بأسره، ابتداءً من أرض اليونان؛ إذ في تلك البلاد، كما اعتاد المؤرخ الأوروبي أن يقول، بدأ العلم؛ حيث ظهرت علوم الفلسفة والفلك والهندسة … إلخ.١٨
ولكن الواقع التاريخي يؤكد على أن البدايات الأولى لتلك العلوم تشكَّلت في سومر وبابل وآشور ومصر وفينيقيا وفارس.١٩ ولم يكن الفيلسوف اليوناني سوى وريثٍ تاريخيٍّ — ربما نبيه ومجتهد — لتلك الحضارات؛ فلقد تلقَّى هذه العلوم عن حضارات العالم الشرقي القديم. وربما نسب، خِلسةً، جلَّ أو كل تلك العلوم إلى نفسه! وهو بتلك المثابة يَدين بالكثير لهذه الحضارات العريقة.
ولقد كانت الطريقة التي تُنتَج بها المعرفة هي أهم ما ورثه الفيلسوف اليوناني عن الحضارات الشرقية القديمة، وهي نفس الطريقة التي سيرثها العالم الإسلامي في عصره الذهبي، ثم يعيد تقديمها إلى أوروبا في عصر النهضة؛ كي تمثل ذات الطريقة عماد عصر الأنوار بعد ذلك. إنها الطريقة القائمة على تصنيف المبادئ والأصول واستخلاص المشترك وجمع المتشابه علوًّا بالظاهرة التي ينشغل بها الذهن عن كلِّ ما هو ثانوي وغير مؤثر. تلك الطريقة سيُصطلح على أن تُسمى «التجريد».٢٠
ومع الوعي بأن الأناجيل نفسها قد كُتبت باللغة اليونانية، ونادرًا ما يُكتب نصٌّ بلغةٍ ما دون أن يحمل ثقافة تلك اللغة، بالإضافة إلى دخول عددٍ كبير من الأمم في المسيحية بما يحملون من ثقافات وفلسفاتٍ يونانية ومحاولاتهم الدمج بين هذه الفلسفات والإيمان المسيحي؛ فلقد قُدِّر للعلم اليوناني (بما يعتمد عليه من طريقة لإنتاج المعرفة) أن يُنقَذ من الضَّياع عَبْر ثلاثِ مراحلَ تاريخية؛ ففي مرحلةٍ أولى قُدِّر له الاستمرار، بعد تفكُّك العالم الهلينستي على يد الجيوش الرومانية، بفضل الدور الجوهري الذي أدَّاه هذا العلم في الجدل الدائر في الإمبراطورية الشرقية٢١ حول طبيعة المسيح والروح القدس،٢٢ بصفةٍ خاصة في المجامع الكنسية الأربعة المنعقدة في نيقية (٣٢٥م) والقسطنطينية (٣٨١م) وأفسس (٤٣١م) وخلقدونية (٤٥١م)، إذ وَجدَت كل فرقة، والكنيسة كذلك، ضالَّتَها في العلم اليوناني٢٣ فاستخدَمت أفكاره ومصطلحاته في سبيل الانتصار لمذهبها ولدعواها في مواجهة خصومها. وهكذا أنقذت الإمبراطورية الشرقية العلم اليوناني وحافظت على طريقة إنتاج المعرفة من الضياع حينما احتضنت بيزنطة، بهذا القدر أو ذاك، الصراع الفكري الدائر بين التيارات المسيحية المختلفة. وفي مرحلةٍ تاريخية ثانية تقوم بإنقاذه الحضارة الإسلامية التي استقبلَته من خلال الاحتكاك الحضاري مع بيزنطة،٢٤ وأضافت إليه (في بغداد والقيروان وقرطبة) طوال القرون الممتدة من القرن العاشر حتى القرن الخامس عشر، ولكي تُقدِّمه إلى أوروبا، بصفةٍ خاصة خلال فترة الحروب الصليبية التي كانت بمثابة أحد المعابر الفكرية لانتقال مركز الثقل الحضاري من الشرق إلى الغرب. وما إن استقبلت أوروبا، بصفةٍ خاصة المدن الإيطالية، هذا التراث، وتلك هي المرحلة الثالثة في تاريخ الحفاظ على التراث اليوناني وطريقة إنتاج المعرفة، حتى نهضت هذه المدن نهضتها العالمية المدهشة٢٥ والتي مهَّدَت لمراجعة ونقد العلم اليوناني نفسه، في عصر الأنوار؛ استخدامًا لنفس طريقة التفكير المنتجة للمعرفة، ابتداءً من القرن السابع عشر، إيذانًا بنشأة الفكر الأوروبي الحديث القائم على التجريد. التجريد الذي سيبسط نفوذه على العالم المعاصر، كما بسط نفوذه عَبْر تاريخ الإبداع الفكري لجنسنا البشري.

٢

في هذا الإطار وُلِد، وتَشكَّل، الاقتصاد السياسي؛ إذ نشأ:
  • علمًا تجريديًّا، يعتمد على تصنيف الظواهر، محل انشغاله، مع العلو بها عن كلِّ ما هو غير مؤثر في الظاهرة محل البحث؛ فهو يستبعد الثانوي، ويجمع المتشابه، ويستخلص المشترك، ويستنتج الأصول الواحدة، دون انشغال بالتفاصيل التي تعوق الفهم الناقد للظاهرة الاجتماعية موضوع بحثه.

  • دارسًا للظاهرة الاجتماعية محل انشغاله بمعزل عن الدين الذي أمسى مرفوضًا وجوده الاجتماعي، ليس ابتداءً من تفنيدٍ علمي للدين الوضعي المسيحي،٢٦ وهو ما كان يمكن أن يؤدي إلى نفس النتيجة، إنما رفضًا للمسيحية نفسها ابتداءً من إدانة تسلُّط رجال الدين، وكلاء الرب، وتحررًا من قهر الكنيسة التي احتكرت الحقيقة الاجتماعية، واسترقَّت أرواح الملايين من البشر طيلة ألف سنة.
  • منطلقًا من غرب أوروبا لشرح وتفسير الظواهر التي برزت في غرب أوروبا ابتداءً من القرن السابع عشر تقريبًا؛ وبالتالي، متخذًا من غرب أوروبا حقلًا للتحليل على الصعيدَين التاريخي والواقعي معًا، مستبعدًا دراسة تاريخ الظاهرة وواقعها في الأجزاء الأخرى من العالم استبعاده لوجود أي حضارةٍ غير حضارة أوروبا؛ ومن ثَمَّ اعتبر جميع الظواهر محل دراسته من قبيل الظواهر غير المسبوقة تاريخيًّا، وأنها بالتالي ظواهر لم تنشأ إلا في أوروبا ثم انتقلَت من أوروبا إلى العالم بأَسره. وفي مقدمة هذه الظواهر في حقل النشاط الاقتصادي، كما سنرى تفصيلًا، بيع قوة العمل والإنتاج من أجل السوق.

على هذا النحو نكون قد تعرفنا إلى مُكوِّنات الحضارة التي أنتجت علم الاقتصاد السياسي وشكَّلته كعلمٍ اجتماعي، ويتعين التعرف الآن إلى الشروط الموضوعية لنشأة العلم الاجتماعي نفسه؛ تمهيدًا لتكوين الوعي بموضوع علم الاقتصاد السياسي.

١  ليس للترتيب الذي اقتضته منهجية الطرح بالمتن أيُّ دلالة على عُلوِّ أيِّ مُكوِّن من مُكوِّنات الحضارة الأوروبية على باقي المُكوِّنات في الأهمية.
٢  في القرن الأول ق.م. تدفَّقَت القبائل الجرمانية، من جنوب اسكندنافيا وشمال ألمانيا وغربها، وتوغَّلَت في غرب أوروبا جنوبًا وشرقًا وغربًا. ومع القرنَين الخامس والسادس الميلاديَّين تمكَّنَت من احتلال معظم الأراضي الواقعة تحت السيطرة الرومانية في غرب أوروبا، فهيمنَت على ألمانيا وفرنسا وإسبانيا واجتازت أعتاب روما بعدما أخضعَت جميع الأراضي الإيطالية.
٣  كان هذا هو الحال في الإمبراطورية الشرقية؛ حيث الإمبراطور رأس الكنيسة، وسلطته بالتالي تفوق سلطة البطريرك. أما في الإمبراطورية الغربية فقد انفصلت السلطة الدينية عن السلطة الزمنية. وكان لكل سلطةٍ مؤسساتها التي أدَّت أدوارًا جوهرية في الصراع الدائم الذي مَيَّز العلاقة بين السلطتَين، كالصراع مثلًا بين البابا جريجوري السابع (١٠١٥–١٠٨٥م)، والإمبراطور هنري الرابع (١٠٥٦–١٠٨٤م)، حول الحق في تعيين الأساقفة، بصفةٍ خاصة في شمال إيطاليا.
٤  للمزيد من التفصيل، انظر: كرستوفر دوسن، «تكوين أوروبا»، ترجمة محمد مصطفى زيادة، وسعيد عبد الفتاح عاشور (القاهرة: مؤسسة سجل العرب، ١٩٦٧م)، بصفةٍ خاصة الفصل الخامس.
٥  فالواقع أن جميع غزوات الجرمان على حدود الإمبراطورية الرومانية لم تكن لتخرج عن حدود الرغبة في السطو على بعض خيراتها والبلاء الحسن في المعارك؛ فهو ما يكسب الجرماني الشرف والمكانة الرفيعة داخل القبيلة. ولم يكن لدى القبائل الجرمانية أي مخطَّطاتٍ فعلية لأي نوعٍ كان من أنواع الاحتلال الحربي للأراضي الإمبراطورية والتوسُّع العسكري داخلها وبسط الهيمنة. للمزيد من التفصيل، انظر: John Hirst, “The Shortest History of Europe” (Collingwood: Black Inc, 2009), p. 47.
٦  انظر: فرنسوا دريفوس، ورولان ماركس، وريمون بوادوفان، «موسوعة تاريخ أوروبا العام»، إشراف جورج ليفه ورولان موسينيه، ترجمة حسين حيدر، مراجعة أنطوان الهاشم (بيروت-باريس: منشورات عويدات، ١٩٩٥م)، ج١، ص٢٣٦.
٧  وعلى هذا النحو، أصبح لدى المحارب الجرماني قضيةٌ مثالية يحارب من أجلها! هذه القضية سوف تتطور، كما سنرى بالمتن، مع تطور المجتمع في غرب أوروبا.
٨  انظر: ليو تولستوي، «كتابات تربوية» (بيروت: دار القلم، ١٩٦٩م)، ص٩٨.
٩  انظر: M. Dobb, “Studies in the Development of Capitalism” (London: Routledge, 1947) p. 58.
وقارب: «نشاهد بعض حيواناتٍ متوحشة منتشرة بالريف، سوداء، مغبرة، قد لفحتها الشمس، ملحقة بالأرض التي تنبش فيها بعناد لا يُغلب تلوح وكأنها تنطق بلغةٍ مفصَّلة، وحينما تقف على أقدامها تظهر لها وجوهٌ إنسانية. الواقع أنهم أناس يأوون بالليل إلى جحورهم حيث يتغذون بالخبز الأسود، بالماء وبالجذور. إنهم يَكْفون الناس الأحرار مشقة البَذْر والحَرْث للمعيشة، وبذلك يستحقون ألا يُحرموا من الحَب الذي بذروه.» مذكور في: بول هازار، «أزمة الضمير الأوروبي ١٦٨٠–١٧١٥م»، ترجمة جودت عثمان ومحمد المستكاوي، مقدمة طه حسين (القاهرة: دار الشروق، ١٩٩٥م)، ص٢٣٦، هامش. ناهيك عن المحارق! ففي الفترة الممتدة من القرن الخامس عشر إلى القرن الثامن عشر تم حرق نحو ٩٠ ألف شخص تقريبًا، بتهمة ممارسة السحر منهم حوالي ٣٥ ألف شخص في ألمانيا وحدها، الأغلبية نساء.
١٠  إذا استثنينا الانشقاق الكبير الذي حدث بين الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية في القرن الخامس؛ حيث أصبحت كنائس الشرق تحت قيادة كنيسة الإسكندرية، وكنائس الغرب تحت قيادة كنيسة روما، وصارت الأولى تُعرف بالكنائس الأرثوذكسية، والثانية تُعرف بالكنائس الكاثوليكية.
١١  على سبيل المثال، في عام ١٥١٧م أصدر البابا ليون العاشر (١٤٧٥–١٥٢١م) غفرانًا شمل العالم المسيحي كله؛ وذلك بقصد الحصول على المال اللازم لبناء كنيسة القديس بطرس في روما! للمزيد من التفصيل، انظر: “The Oxford Dictionary of the Christian Church” (Oxford: Oxford University Press, 2005), pp. 261–4.
١٢  حينما رفض البابا، في بداية مفاوضات وستفاليا، التوقيع على الصلح، تم تجاهله!
١٣  بِغضِّ الطرف عن هجوم ماركس وإنجلز على المسيحية، والذي انصب، بوجهٍ عام، على نقد الذهن المتدين، انظر: «حول الدين»، ترجمة: ياسين الحافظ (بيروت: دار الطليعة، ١٩٨١م). مثلًا: (ص٥–١٠، ٤٦–٥٤، ١٥٥–١٦١)؛ فربما يكون كتاب «الإله والدولة» لميخائيل ألكسندروفيتش باكونين (١٨١٤–١٨٧٦م)، أول عملٍ فكري ذائع الصيت نسبيًّا (على الرغم من تفكُّكه وعدم منهجيته) لنقد آيات الكتاب المقدس، والأناجيل بصفةٍ خاصة، ولكنه يظل في نهاية المطاف نقدًا من خارج الوعي الأوروبي/الغربي. للتفصيل انظر: ميخائيل باكونين، «الإله والدولة»، ترجمة عبد اللطيف الصديقي (دمشق: دار التكوين للطباعة والنشر، ٢٠١٧م). هذا بالتأكيد باستثناء أعمال سبينوزا (١٦٣٢–١٦٧٧م). انظر: سبينوزا: «رسالة في اللاهوت والسياسة»، ترجمة حسن حنفي (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٨١م). بصفةٍ خاصة الفصل السابع: تفسير الكتاب.
١٤  مع تدفُّق الإشعاع الحضاري من سماء الشرق، والذي انتقل عَبْر حركة الأساطيل التجارية التي كانت تجوب البحر المتوسط، ومع رغبة روما في إخضاع القسطنطينية وتوحيد العالم المسيحي بزعامة الكرسي البابوي في روما، بالإضافة إلى استيلاء النورمان على جنوب إيطاليا، وعزم الكنيسة والقصر على التخلُّص من خطورتهم بإرسالهم إلى سواحل الشام في الحرب المقدَّسة، رغب البابا جريجوري السابع (١٠١٥–١٠٨٥م)، في حشد الجيوش الصليبية إلى الشرق بحجة استراد القدس، مدينة ابن الرب، من قبضة العرب المسلمين، ولكنه مات قبل أن يحشد الجيوش، فاستكمل خليفته البابا أوربان الثاني (١٠٣٥–١٠٩٩م) مشروعه. ولقد وجدت جميع الطبقات الاجتماعية، في أوروبا الإقطاعية، فرصة العمر في خطبته التي ألقاها في كليرمون الفرنسية عام ١٠٩٥م والتي تحثُّ الجماهير على الزحف إلى قبر ابن الرب؛ فالأقنان يريدون الفرار من الفقر والفاقة. والنبلاء الذين يملكون الأرض يريدون ضم المزيد منها. والنبلاء الذين بلا أرض، بسبب قانون الإرث الإقطاعي، يريدون الأرض، رمز العزة. والبابا نفسه يريد توحيد العالم المسيحي تحت راية البابوية في روما. والملوك يريدون كنوز الشرق. وما إن توغلت أساطيل المدن الإيطالية، بصفةٍ خاصة: البندقية وبيزا وجنوا، في مياه البحر المتوسط متجهة إلى سواحل الشام وعلى متنها عشرات الآلاف من محاربي أوروبا طمعًا من تلك المدن في الامتيازات التجارية والإقطاعية في الشرق، إلا وانتقل الصراع من غرب أوروبا إلى أرض الشرق؛ فلم يأتِ الأوروبيون بمحاربيهم فحسب، بل قَدِموا كذلك بجميع مشكلاتهم الاجتماعية وكل صراعاتهم الطبقية؛ فلقد جاء الأوروبيون بنظامهم الاجتماعي الإقطاعي، وفقًا للنموذج الجرماني، الذي لم يكن في الواقع مستغربًا على النظام الاجتماعي السائد في الشرق؛ فقد كان للسلاجقة الدور البارز في ترسيخ نظم الإقطاع ومن ثَمَّ كان يسيرًا أن يحلَّ الفارس الصليبي محل الفارس السلجوقي. كما جاء الأوروبيون بجميع الصراعات بين العرش والكنيسة. للمزيد من التفصيل، انظر: ج. دودو، «تاريخ المؤسسات الملكية في مملكة القدس اللاتينية ١٠٩٩–١٢٩١م» (أطروحة باريس، ١٨٩٤م).
Gaston Dodu, “Histoire des institutions monarchiques dans le royaume Latin de Jérusalem 1099–1291” (Thèse présentée à la faculté des lettres de Paris) Paris, Librairie Hachette et Cie. http://clc-library-org-docs.angelfire.com/institutions.html.
وانظر كذلك المراجع المذكورة في [الباب الثالث: النقد الخارجي – الفصل الرابع: بيع قوة العمل، والإنتاج من أجل السوق في مجتمعاتِ ما قبل الرأسمالية الأوروبية المعاصرة – هامش رقم ٩٠].
١٥  يشتمل مصطلح التوسع الاستعماري، لديَّ، على مرحلتَي الكشوف الجغرافية، والاستعمار لمجتمعات أمريكا وأفريقيا، لاشتراك المرحلتَين في نفس الظاهرة؛ ظاهرة نهب خيرات الشعوب.
١٦  سوف ندرس من خلال طرح منهجي، في الباب الرابع، كيف تم نهب هذه القارات وإبادة سكانها!
١٧  تزامن ذلك مع الانتقال من البحث عن إرادة الله، إلى تفسير إرادة المشرع المدني، ومن تَرَقب‎ النهاية الكارثية للعالم إلى الكشف عن القوانين الموضوعية التي تحكم حياة الإنسان وتُنظِّم حركة الكون؛ وبالتالي وجدت الكنيسة، بل المسيحية ذاتها، في مواجهةٍ ضارية مع العلم. وأُرغمت الكنيسة على التراجع وإفساح الطريق للنظريات العلمية التي تثبت عدم صحة ما جاء في الكتاب المقدس من وقائعَ تاريخية، وتنفي، علميًّا، ما ورد به من تصوراتٍ خرافية عن طبيعة الكون ونشأته وتطوره.
١٨  يُعد كتاب جون هيرست، «الوجيز في تاريخ أوروبا»، وعلى الرغم من حيويته، مثالًا واضحًا على استبعاد أي تأثير لأي حضارةٍ سابقة على الحضارة اليونانية على العلم اليوناني، وكذا استبعاد أي تأثير لأي حضارةٍ لاحقة في نقد العلم اليوناني. انظر: John Hirst, “The Shortest History”, op, cit. 87.
وعكس ذلك، انظر المؤلَّف الأصيل لجورج سارتون، «تاريخ العلم»، بصفةٍ خاصة الفصل الرابع؛ حيث حلل، بدقة وموضوعية، مصادر العلم اليوناني المُستقَى من حضارات الشرق القديم. انظر: جورج سارتون، «تاريخ العلم: العلم القديم في العصر الذهبي لليونان»، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة (القاهرة: المركز القومي للترجمة، ٢٠١٠م)، ويصل كتاب «التراث المسروق» لجورج جيمس إلى أبعدِ مدًى حينما يسعى للبرهنة بموضوعيةٍ على الأصول المصرية القديمة للفلسفة اليونانية. انظر: جورج جيمس، «التراث المسروق: الفلسفة اليونانية فلسفة مصرية مسروقة»، ترجمة شوقي جلال (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، ١٩٩٦م)، وكذلك كتاب مارتن برنال، «أثينا السوداء»؛ إذ يقوم برنال، في نفس طريق جورج جيمس، بإعادة التأريخ للفلسفة اليونانية من خلال البحث عن منابعها في مصر والحضارات الشرقية القديمة. انظر: مارتن برنال، «أثينا السوداء: الجذور الأفروآسيوية للحضارات الكلاسيكية»، ترجمة لطفي عبد الوهاب يحيى وآخرين (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، ٢٠٠٢م).
١٩  في العلوم عند الأمم المختلفة قبل اليونان، وعند اليونان، انظر، على سبيل المثال: ابن النديم، «الفهرست» (بيروت: دار المعرفة، د.ت)؛ ابن صاعد الأندلسي، «طبقات الأمم»، ذيَّله و‏حققه لويس شيخو (بيروت: المطبعة الكاثوليكية، ١٩١٢م)؛ ابن العبري، «مختصر تاريخ الدول»، وضع حواشيه خليل المنصور (بيروت: دار الكتب العلمية، ١٩٩٧م).
٢٠  فالعالم تحكمه قوانينُ بسيطة وما على الذهن إلا أن يكشف عنها ويُرتِّبها منطقيًّا على نحوٍ بسيط، حتى يفهم العالم من حوله. وسوف نعالج هذه الطريقة في التفكير في الفصل الرابع.
٢١  يبرز هنا جليًّا دور السريان في ترجمة علم اليونان وإعادة تقديمه إلى العالم الشرقي بصفةٍ خاصة. وفي الشرق سوف تمتزج الروح الشرقية ومدارسها في أنطاكية ونصيبين والرها وقنسرين … إلخ، بالعلم اليوناني. انظر في دور السريان: ابن العبري، «مختصر تاريخ الدول»، ص٥٦٣.
٢٢  فهل يسوع خالق أم مخلوق؟ ولو كان مخلوقًا فهل هو من نفس طبيعة الإله أم له طبيعةٌ مختلفة؟ أم هو الإله المتأنس الذي يجمع بين صفات الطبيعة الإلهية وصفات الطبيعة البشرية؟ وإذا كان كذلك، فكيف يكون ذلك سائغًا عقلًا؟ وماذا عن مريم العذراء؟! فهل هي أم الإله؟ ولكن كيف يُولد الإله؟ وهل الروح القدس أزلية مثل الإله أم هي مخلوقة؟ … إلخ.
٢٣  يُعَد القديس يوستينوس، والقديس كليمندس، والقديس أثناسيوس، والقديس باسيليوس، على سبيل المثال، من آباء الكنيسة الأوائل الذين استخدموا الفلسفة اليونانية وشجَّعوا على تعلمها وتعليمها من أجل التصدِّي إلى المذاهب المخالفة للمفاهيم والمبادئ «الرسمية» للكنيسة كمذهب ماركيون، وسابليوس، ولوشيانوس، وآريوس … إلخ. للتعرف، على سبيل المثال، إلى الرأي الرسمي للكنيسة في مذهب آريوس، والذي ستعتنقه القبائل الجرمانية في الشرق البيزنطي، وكذلك الصراع بين النظرية الكنسية «الرسمية» والمذاهب اللاهوتية المختلفة، والتي تأثرت بالتراث الهليني والهلينستي في حوض البحر المتوسط في القرون الأولى للمسيحية. انظر: متى المسكين، «القديس أثناسيوس الرسولي: سيرته، دفاعه عن الإيمان ضد الآريوسيين، لاهوته» (وادي النطرون: دير القديس أنبا مقار، ١٩٩٣م)، بصفةٍ خاصة: ص٥٦–٦٠، ٧٠، ٣٨٣–٤٤٠، ٤٦٤–٤٧٠.
٢٤  فحينما أخذت الدولة الإسلامية في التمدُّد زمن الخلافة الأموية، وبدأ الاحتكاك الحضاري مع بيزنطة، بصفةٍ خاصة زمن الخلافة العباسية، ومع وجود السريان الذين ساهموا بقوة، وكما ذكرنا، في حركة الترجمة انتقل علم اليونان، المهيمن آنذاك على بيزنطة، إلى العالم الإسلامي.
٢٥  بحال أو بآخر، يمكن القول بأن الثراء الواسع الذي تحقق في المدن الإيطالية، وفلورنسا بصفةٍ خاصة، كان له الأثر الحاسم في إرساء دعائم العلم الحديث؛ فلقد خضعت الحياة في تلك المدن لهيمنة الصيارفة، وأغنياء التجار، وكبار الحرفيين. وبعدما قادت الظروف التاريخية إلى الاهتمام بتحسين وتطوير العمليات الفنية المتعلقة بالنشاط الاقتصادي، توجهت الأذهان، أذهان الأثرياء الجدد بوجهٍ خاص، صوب إحياء الآداب والعلوم القديمة التي حافظ عليها وقدَّمها لهم العلماء والمفكرون المسلمون مع الاحتكاك الحضاري بصفةٍ خاصة أثناء الحروب الصليبية كما ذكرنا بالمتن، فنبغ بترارك، وبوكاتشيو، وفيتشينو، وميكافيللي، ودانتي، وأنجلو، ورفائيل، ودا فينشي، وتيتيان، وباليسترينا، وغيرهم من علماء ومفكري وفناني النهضة الإيطالية. ولقد امتدت تلك النهضة، من نهايات القرن الثالث عشر تقريبًا وحتى القرن السابع عشر إلى جُل أجزاء غرب ووسط أوروبا. وكما يقول كراوثر: «إن اكتشاف معرفةٍ جديدة واستخراج ذخائر المعرفة القديمة قد حفزا من عمليات التعلُّم، فتوسعت الجامعات الإيطالية لتواجه هذا الاحتياج. وفضلًا عن الإيطاليين اندفعت أفواج الرجال ذوي المواهب من أوروبا بأسرها إلى المراكز الناشطة للمعرفة الجديدة؛ فقد أتى كوبرنيقوس من الساحل البلطيقي لبولندا، وأتى فيساليوس من بلجيكا، وهارفي من إنجلترا ليلحقوا بانطلاقة الدراسة والبحث.» انظر: ج. ج. كراوثر، «قصة العلم»، ترجمة يمنى طريف الخولي، وبدوي عبد الفتاح (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٩٩م)، ص٥٩.
٢٦  وإن قاد ذلك، فيما بعدُ، إلى ظهور المشروع الفكري الناقد للدين نفسه، وما يتعلق به من مسائلَ أخلاقية، وهو ما تمثل في كتابات فيورباخ (١٨٠٤–١٨٧٢م)، وماكس شتيرنر (١٨٠٦–١٨٥٦م)، ودافيد شتراوس (١٨٠٨–١٨٧٤م)، انظر على سبيل المثال: Ludwing Feuerbach, “The Essence Christianity”, Translated fro the second German Edition by Marian Evans (London: Trubnee & Co., Ludgate Hill, 1881).
بصفة خاصة: Part II: The False or The Eological essence of Religion.
https://libcom.org/files/The%20Essence%20of%20Christianity.pdf.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤