الفصل الخامس

الإنتاج والتبادل

١

مما لا شك فيه أن الفرد، على الصعيد الاجتماعي، لا يستطيع أن يعيش بمعزل عن باقي أفراد المجتمع. ولكنَّ أمرًا كهذا لا يميز البشر على نحوٍ حاسم. ويمكن، بل يجب، أن تصبح عبارة «الإنسان كائنٌ اجتماعي» محلًّا لكثير من الشك إذا لم يقترن استخدامها بوعيٍ ناقد، بكونها عبارةً نسبية؛ فكثيرٌ من الحيوانات تعيش مثلنا في جماعاتٍ منظمة، وذات تراتُبيَّةٍ دقيقة، ونراها تتعاون، بإحكام ودقة، في مطاردة الفرائس، وتُدافع عن مناطق نفوذها بشكلٍ جماعي، ويمكننا أن نشاهد أحد أفرادها، مسيطرًا، في مركز القيادة باعتراف الجماعة طوعًا أو كرهًا. ولكن، من المستحيل أن نرى حيوانًا يعطي لآخر قطعة من اللحم المطهي ويأخذ منه دجاجةً مسلوقة مثلًا، أو أن يكلف حيوانٌ حيوانًا بأن يقتنص له فريسة في مقابل إعطائه شربةَ ماءٍ أو كِسرةَ خبز؛ فالإنتاج الواعي عن معرفةٍ مكتسبة، والميل إلى تبادل المنتجات، يُعدَّان من أهم الصفات اللصيقة بنا نحن البشر فقط؛ وبالتالي يُعَد فعل المبادلة لِمَا ننتج من أهم الأفعال التي تُميِّزنا اجتماعيًّا، عَبْر التطور، عن أي كائنٍ حَيٍّ آخر.١ ولذلك، لا يمكن أن يأتي التعرف إلى محدَّدات الإنتاج والتبادُل (النشأة والتطور والقوانين الموضوعية)، صحيحًا إلا من خلال التعرُّف إليهم في سياق التعرف إلى عملية تطوُّر الإنسانية ذاتها٢ من الإنتاج بقصد الإشباع المباشر إلى الإنتاج بقصد التبادل، وما أفرزته عملية التطور تلك من ظواهر على الصعيد الاجتماعي: كالقيمة، والثمن، والنقود، والأسواق … إلخ. وهي جميعها ظواهر محل انشغال الاقتصاد السياسي كعلمٍ اجتماعي.

٢

لنذهب الآن إلى ماضي أسلافنا؛ ففي أعماق الزمن السحيق كان أسلافنا هؤلاء مثل جميع الكائنات الحية الأخرى، تحت سيطرة الطبيعة القاسية. ولم يكن سلوكهم ليختلف كثيرًا عن سلوك الوحوش الهائمة في البرِّيَّة. والإنجاز التاريخي الهائل، وربما الوحيد، آنذاك كان نشوء النطق، وهو الأمر الذي اقتضته عمليتا التعاون في مواجهة الطبيعة، والصدام، في الوقت نفسه، بين بني الإنسان، كما فرضَتْه اعتباراتُ نقل المعرفة عَبْر الأجيال بشأن تقنياتِ صُنع الأدوات، والصيد، واستخدام النار، والأهم نقل تقنية الحفاظ على النار مشتعلة؛ إذ لم يتعلَّم الإنسان بعدُ توليدها.

على كل حال، كان أسلافنا في البدايات الأولى عبارة عن جماعات غير مستقرة تجوب أدغال الغابات ووديان الأنهار وأعالي الجبال بحثًا عن الغذاء والمأوى؛ فمن جهة الغذاء كان أسلافنا يجمعون كل ما يمكن تناوُله كغذاء من الجذور والثمار والحيوانات بطيئة الحركة، وربما الجيف. ومن جهة المأوى فلم يكن لدى أسلافنا، في مثل تلك الأزمنة السحيقة، أدنى فكرة عن تقنية صنع البيوت أو حتى الأكواخ. وكانوا على هذا النحو مثل باقي الكائنات التي تتقاسم معهم الغابات والأحراش والسباسب، يبحثون عن الملجأ الذي يحميهم بين الآجام وفي شقوق الصخور وفجوات الكهوف.

وعلى الرغم من كل ذلك، كان الإنسان الأَوَّل يملك موهبةً خاصة جدًّا جعلَتْه مميزًا بين جميع الكائنات الحية الأخرى؛ ذلك أنه أخذ في صنع الأدوات التي يمكن استخدامها في العديد من الأغراض مثل تحطيمِ درقة سلحفاة أو كَسرِ عظمةِ حيوان. تمثَّلَت هذه الأدوات، البدائية بطبيعة الحال، في الأزاميل الحجرية، والفئوس غير المتقَنة، والرماح المصنوعة من فروع الأشجار وقد ثُبِّتَت بها الأنصال المنحوتة من حجر الصوان؛ فلقد تمكَّن الإنسان، من خلال كسر الأحجار الصلداء والصخور وصقلهما، من إنتاج المُدى الحجرية وهِرَاواتِ الحَفْر المسنونة والحِراب والأدوات الثقيلة ذات الحروف الحادة القاطعة؛ ومن ثَمَّ تمكن من أن يقتل الحيوانات الأصغر حجمًا والأسرع عدوًا، ويستخرج الجذور التي تُؤكل، كما أمسى بإمكانه استخدام هذه الأدوات في مواجهة الكائنات الأشد فتكًا، أو في مهاجمة الحيوانات الضخمة؛ ليتزود بطعامٍ أفضل من ناحية القيمة الغذائية.

والواقع أن جدَّنا الأول لم يكن ليخلق وسائل الإنتاج، والتي مثَّلت، إلى جانب قوة عمله، قوى إنتاجه للأشياء آنذاك، وهو ما سوف ينطبق علينا نحن أيضًا، إلا بسبب التهديد اليومي لحياته ابتداءً من صراعه الدائم مع قوى الطبيعة من جهة، ومع غيره من بني جنسه من جهةٍ أخرى؛ ومن ثَمَّ صار جَدُّنا مضطرًّا إلى ابتكار الأدوات التي تعينه في صراعه المزدوج هذا. وكان عليه أيضًا مواصلة ابتكاراته وتحسينها، بل وأصبحت هذه الابتكارات، والصراع من أجل تطويرها، وإن اتسم هذا التطوير بالبطء ربما الشديد، من الأمور التي ارتبط بها وجود الجنس الإنساني ذاته.

وبالتبع لتطور قوى الإنتاج يشرع المجتمع في التطور على الصعيد الاجتماعي، فإذا كان الصراع على الصعيد الاجتماعي هو المحرك الأساسي لتطوير قوى الإنتاج؛ أي المحرك للابتكار، بقصد الحفاظ على البقاء أو فرض الهيمنة؛ فإن قوى الإنتاج الجديدة هي التي تأخذ على عاتقها مهمة تطوير المجتمع وعلاقات الإنتاج بداخله. هنا يتعين علينا أن نقارب بين أمرَين: الابتكار بسبب الصراع، والابتكار بمناسبة الصدفة؛ فالصراع من أجل الوصول لأداةٍ ما تساعد في قتل حيوان، وربما إنسان، أو كسر حجرة، أو تحريك ثمرة، إنما يسبق الصدفة في اكتشاف تقنية ومواد وأدوات إنتاج هذه الأداة. حتى عندما يكتشف الإنسان، صدفةً، شيئًا ما نافعًا، أداة مثلًا، ثم يجد أنها صالحة للاستخدام المفيد بالنسبة له في أمرٍ ما، فإن الأداة، حتى في هذه الحالة، لم تكتسب صفة النفع إلا لسبق تبلور الحاجة إلى وظيفتها في الصراع ضد قوى الطبيعة أو بين بني الإنسان أنفسهم. حتى هذه المرحلة التاريخية، البدائية، لم يكن من المتصور حدوث التبادل بأي شكلٍ من الأشكال؛ فالإنتاج، والذي بطبيعة الحال يشمل الصيد أو حتى كسر بندقة، لم يكن ليتم إلا بقصد الإشباع المباشر. في هذه المرحلة كذلك تنتفي إمكانية الادخار، بل وينعدم الادخار ذاته كهدف لمواجهة الكوارث الطبيعية. كل هذا كان بالإضافة إلى أن العمل الاجتماعي نفسه لم يكن لينتج الفائض الذي يمكن مبادلته.

٣

وحينما وقع الحدث الأكثر أهمية في حياة أسلافنا؛ إذ تعلَّم أسلافنا الآن توليد النار٣ وليس استخدامها فحسب، تم الانتقال خطوةً بارزة تاريخيًّا في الطريق الطويل للتقدم صوب الحضارة؛ فبالإضافة إلى استخدام أسلافنا النار في صنع الأدوات، فقد تمكَّنوا كذلك من استعمالها في الطرق الجديدة لإعداد الطعام؛ إذ بدأ الإنسان بشواء طعامه وصولًا إلى سَلْقه وتحميره؛ وهذا بالتالي زوَّده بغذاءٍ أفضل بصفةٍ خاصة من اللحم المطهي؛ مما ساهم في تطوُّر مخه، وبالتبع أمسى التطور في طريقة التفكير ذاتها أمرًا ممكنًا. كما أن طهي الأطعمة النباتية بواسطة النار جعل الكربوهيدرات المركبة (نشا، سليولوز … إلخ) أسهل هضمًا، وهو ما سمح لأجسام أسلافنا بالقيام بعمليات التمثيل الغذائي بشكلٍ أفضل من خلال امتصاص المزيد من السعرات الحرارية التي مكَّنَتْهم من أداء أعمالهم اليومية على نحوٍ أجود. والآن أصبح أسلافنا يستخدمون النار، وكذلك لديهم الفأس الحجرية وباقي أدوات العمل التي ابتكروها وطوروها عَبْر آلاف السنين؛ الأمر الذي مكَّنهم من صنع الزوارق من الأشجار، ربما بتفريغها في البداية، وإعداد الألواح من الجذوع المشذَّبة لأجل بناء المساكن. ومع تطوُّر قوى الإنتاج؛ حينما يصل الإنسان، عَبْر تطوُّره، إلى أخطر اختراعاته آنذاك، يحدث الانقلاب في حياة أسلافنا؛ فمع اختراع سلاح القوس والسهم، الذي يفترض اختراعه خبرةً متراكمة زمنًا طويلًا جدًّا وكفاءاتٍ ذهنية أكثر تطورًا، صارت الطرائد محلًّا للقتل وقتما يشاء المرء دون ترك الأمر للحظوظ؛ ومن ثَمَّ كان الفائض، العرضي، وبالتبع التبادل، العرضي أيضًا، من أهم النتائج التي ترتَّبَت على تحوُّل القنص إلى نشاطٍ اقتصادي عادي. لم يؤدِّ هذا الاختراع الجديد إلى توفير الطعام الدائم فحسب، إنما كذلك زوَّد أسلافنا بغذاءٍ حيوانيٍّ دائم، وفائض، كما زوَّدَهم أيضًا بالجلود والأوبار التي صَنَعوا منها ملابسهم، وبالقرون والعظام التي صَنَعوا منها أدواتهم، وفي المقام الأهم أمدَّهم بسلاحٍ فتَّاكٍ في قتال بعضهم بعضًا.

٤

وإذ نظهر على الساحة، نحن البشر،٤ تنشأ اللغة المعقدة ونبدأ في الكلام وتأخذ لغتنا في التطور كأهم وسيلة من وسائل التواصل ونقل المعرفة.٥

٥

وابتداءً مما انتقل إلينا من تقنياتٍ عديدة عن أسلافنا،٦ عقب اتصالنا بهم جغرافيًّا وبيولوجيًّا وثقافيًّا، نشرع في صناعة الأدوات الفخارية؛ فأغلب الظن أن طلاء الآنية الخشبية بالصلصال لجعلها مقاومة للحرارة كان له الأثر المباشر في ظهور صناعة الفخار.٧ في تلك اللحظة تأخذ البشرية في السير خطوةً أخرى مهمة في طريق التطور؛ فلقد أصبح ممكنًا استخدام الفخار في العديد من الأغراض كالأطباق والقدور والدوارق … إلخ، التي لم يكن يصلح لها خشب الأشجار.

وحينما نتمكن، بفعل الصراع من أجل تطوير قوى الإنتاج، من القيام بتطوير النشاط الزراعي، نأخذ في الاقتراب أكثر وأكثر من فجر الحضارة؛ فالتحول إلى الزراعة المستقرة جعلنا نحن البشر أكثر استقلالًا في مواجهة قوى الطبيعة؛ إذ أتاح لنا الارتفاع النسبي في إنتاجية العمل الزراعي؛ وبالتالي تحقيق الفائض، أن نتعلَّم تحسين قوى الإنتاج؛ ومن ثَمَّ تعلُّم تكوين المخزون الغذائي لاستخدامه في حالات الكوارث الطبيعية التي قد تصيب الزراعة.

في نفس وقت اكتشاف المزيد من أسرار الزراعة تقريبًا تمت تربية الماشية. كما تم المضي قدمًا في عمليات التدجين؛ فلقد اكتشف البشر أن تربية الحيوانات النافعة أقل جهدًا وأكثر إثمارًا من مطاردتها، ورويدًا رويدًا تبيَّن لنا أن الأنعام على اختلاف أنواعها كالإبل والبقر والخنازير … إلخ، لا يمكن أن تُستأنس فحسب، بل يمكن أيضًا أن تتوالد وتُدجَّن في الأسر، وكان الاهتمام بها أولًا كمصدر للغذاء، ولم تُستخدم كحيواناتٍ للجر أو حمل الأمتعة إلا في مرحلةٍ تاريخية متقدمة نسبيًّا.

وعلى هذا النحو من ظهور الفائض، نتيجة التطور في قوى الإنتاج، وفي إطار من تشكُّل النظام القبلي إثر اندماج العشائر،٨ يتبلور التقسيم الاجتماعي للعمل؛ فالصراع، ضد قوى الطبيعة من جهة، وبين بني البشر من جهةٍ أخرى، يؤدي إلى تطوير قوى الإنتاج، وتطوُّر قوى الإنتاج، الذي يقود عملية تطور المجتمع، يؤدي إلى ظهور الفائض؛ وحينئذٍ، أي حين الفائض، تدرك الجماعة أن التخصص٩ في إنتاج منتَجٍ معيَّن يُوفِّر لها الجهد الذي يتعين عليها إنفاقه في سبيل إنتاج المنتجات الأخرى التي تحتاج إليها؛ إذ يكتشف الزرَّاع أن الفائض الذي تحقق في النشاط الزراعي قد وفَّر لهم الحصول على المنتجات الحيوانية التي يحتاجون إليها، بدلًا من بذل الجهد في إنتاجها. والأمر ذاته بالنسبة للنشاط الرعوي؛ إذ يؤدي الصراع، ضد قوى الطبيعة من جهة وبين البشر من جهةٍ أخرى، إلى تطوير قوى الإنتاج، وقوى الإنتاج التي تُطوِّر المجتمع تؤدي إلى ظهور الفائض، والفائض، بمبادلته، يمكِّن الرعاة من الحصول على المنتجات الزراعية التي يحتاجون إليها بدلًا من بذل الجهد في إنتاجها.١٠
وبما أن جُل المنتجات كان حصيلة عملٍ جماعي، فقد كانت مبادلة الفائض الاجتماعي تقترن إما بالحصول على فائض من منتوجٍ آخر، أو بالحصول على معادلٍ عامٍّ يُقبل اجتماعيًّا. هذا المعادل قد يكون البقر أو صدف البحر. هنا تثور مشكلة قيمة المنتجات المتبادلة، وابتداءً من كون الإنتاج يتم من خلال العمل الجماعي، والعمل الجماعي بدوره يخلق الفائض الاجتماعي، الذي هو شرط التبادل؛ فإن تقييم المنتجات المتبادلة يتعين أن يأتي على نحوٍ وثيق الصلة بهذا العمل الجماعي؛ الأمر الذي جعل للعمل، والعمل وحده، الدور الحاسم في تقييم المنتجات محل التبادل؛ ومن ثَمَّ كان له الدور المركزي في تنظيم قيمة١١ الكميات المتبادلة. استلزم تقييم المنتجات المتبادلة، وفقًا للمجهود الإنساني، اللجوء بالضرورة إلى مقياس لهذا المجهود. وآنذاك؛ أي في الأطوار الأولى من تاريخنا البشري، لم يكن يمكن الذهاب ذهنيًّا أبعد من القياس بغير طول الوقت، الزمن، الذي يُبذل خلاله العمل. وهو التصور البدائي الذي آمن به جَدُّنا الأول واعتنقه الاقتصاد السياسي١٢ بلا أدنى مراجعة، فقاده إلى التشوُّش، كما سنرى في الفصل السادس.

٦

وحينما يصل البشر إلى صهر المعادن١٣ تُقرع أجراس الحضارة معلنةً اقتراب نوعنا البشري من أعتابها؛ فلقد أدى استخدام المعادن إلى حدوث التغيُّرات الجذرية على الصعيد الاجتماعي بوجهٍ عام، وفي أداء النشاط الاقتصادي بوجهٍ خاص؛ إذ تطلبت الحِرَف الجديدة، القائمة على استخراج وتحويل وتشكيل المعادن، تطورًا في التقسيم الاجتماعي للعمل حيث كوَّن الحرفيون، كقسمٍ خاص من المجتمع يمتلك المعرفة والمهارة والأدوات، مجموعةً محددة اجتماعيًّا ومتميزةً من ناحية النشاط الاقتصادي في المجتمع. وكان الجزء الأكبر من عمل هؤلاء الحرفيين بفضل وجود الفائض الاجتماعي، الذي يجنبهم عناء إنتاج مأكلهم على الأقل، يُنفَق في إنتاج الأدوات والأشياء التي يحتاج إليها المجتمع وليس في إنتاجِ ما يحتاجونه هم من أدوات وأشياء؛ فقد مكَّن تطوُّر قوى الإنتاج المجتمعَ من أن يُشبع إلى درجةٍ ما، مطالب جميع أفراده بما فيهم أولئك الذين لا يشتغلون في إنتاج المواد الغذائية بأنفسهم ولكنهم يشتغلون في أعمالٍ ضرورية على الصعيد الاجتماعي.

انعكس التطور التاريخي في التقسيم الاجتماعي للعمل على تطور الزراعة والرعي؛ فلقد صنع الحرفيون المحراث الحديدي، والأدوات الزراعية الأكثر فعالية؛ ومن ثَمَّ أصبح من الممكن حِراثة الحقول على نطاقٍ أوسع؛ وبالتالي زيادة الاحتياطات من المؤن الغذائية زيادةً ملحوظة. أما الغابات فقد تم تحويلها إلى أراضٍ مزروعة، كما تم تقطيع أخشابها لاستخدامها في شتى الأغراض، حتى صُنعَت منه الأساطيل البحرية العملاقة التي راحت تشق عُبابَ البحر العالي للتجارة أو للغزو والحرب، وهو ما لم يكن ممكنًا بدون الأدوات التي صنعها الحرفيون، على اختلاف تخصصاتهم، والذين لم يقتصر عملهم على إمداد النشاط الزراعي فحسب بالأدوات اللازمة، بل تجاوز عملهم ذلك إلى صنع مختلف الأدوات التي يحتاج إليها نشاط الرعي، وتعتمد عليها عمليات تربية الأنعام وتدجينها، كالأواني الفخارية والأدوات الخشبية والمعدنية والأسيجة … إلخ.

٧

ومع ظهور المدن، وإقدامنا على حفظ تاريخنا وتدوين حاضرنا بالكتابة؛ تمهيدًا لبزوغ فجر الحضارة، يأخذ تقسيم العمل؛ ومن ثَمَّ التبادل، في التوسع على نحوٍ أسرعَ وأعم، فيصبح تقسيم العمل داخل طائفة الحرفيين؛ فمثلًا، يتخصص البعض في النجارة أو الحدادة والبعض الآخر في الخياطة أو الدباغة؛ وبالتالي تتقابل منتجات كلٍّ من النجَّار والحدَّاد والخياط والدبَّاغ على مستوى المبادلة. وهو ما يتطلب، وكما ذكرنا، وجود الأساس المشترك الذي ترتضيه الجماعات المتبادلة لإتمام عملية التبادل. بعبارةٍ أدق: وجود الأساس المشترك الذي ترتضيه الذهنية الجماعية آنذاك. هنا، ووفقًا لتصور الاقتصاد السياسي، تتحدد اجتماعيًّا كمية العمل الضروري المبذول في سبيل إنتاج كلٍّ من المطرقة والفأس والثوب والجلد المدبوغ، ويتم التبادل، بصورة أوضح وأكثر استمرارًا وأشد تنظيمًا من ذي قبل، بين وحداتٍ معينة من هذه المنتجات كتبادل بين قيمٍ متساوية وفقًا لكمية العمل، الضروري، المحددة سلفًا على الصعيد الاجتماعي لصنع كل منتوج من هذه المنتجات. ولكن المطرقة والفأس والثوب والجلد المدبوغ … إلخ، لا يمكن إنتاجهم إلا باستخدام أدواتِ عمل وموادِّ عمل بُذل في سبيل إنتاجها قدر أو آخر من المجهود الإنساني؛ وبالتالي حين التبادُل، وفقًا للقيمة، يُؤخذ في الاعتبار العمل المبذول في سبيل إنتاج المطرقة، وكذلك: العمل المبذول في سبيل إنتاج الأدوات والمواد التي تم استخدامها في سبيل إنتاج هذه المطرقة.١٤

٨

ورويدًا رويدًا، وفي ظل ظروفٍ تاريخية مُعيَّنة، يجري تقسيم العمل الاجتماعي داخل فرع الإنتاج؛ فمثلًا يتخصص بعض النجارين في صنع القوارب والبعض الآخر في صنع الأرائك. كما يتخصص بعض الحدَّادين في صنع المحاريث، ويتخصص البعض الآخر في صنع الفئوس؛ وبالتالي تتقابل، على صعيد المبادلة، منتجات هؤلاء جميعًا، وتتم عملية التبادل وفقًا للقواعد العامة؛ أي طبقًا للأساس المشترك الكامن في العمل الاجتماعي المبذول في صنع كلِّ منتوجٍ من هذه المنتجات.

وعلى الجانب الآخر، جانب النشاط الزراعي، يمكننا أن نفترض أيضًا تخصُّص البعض في زراعة بعض الأنواع من المحاصيل، وتخصُّص البعض الآخر في زراعة بعض الأنواع الأخرى وفقًا لطبيعة التربة والمناخ. وهؤلاء وأولئك يحتاجون إلى منتجات الحرفيين كما يحتاجون إلى منتجات الرعاة وباقي منتجات الزرَّاع. والأمر نفسه في إطار نشاط الرعي؛ فيمكن أيضًا أن نفترض وجود مَن يتخصص في رعي الإبل (الإبَّالة) كما نرى مَن يتخصص في رعي البقر (البقَّارة) وبالمثل سوف تتقابل منتجات أولئك وهؤلاء في السوق، وسوف يجري التبادل وفقًا لنفس المبدأ، مبدأ العمل في القيمة. وكما احتاج الزُّراع إلى منتجات الحرفيين والرعاة، فسوف يحتاج هؤلاء الرعاة إلى منتجات الحرفيين والزُّراع. وهو ما يتطلب، وكما ذكرنا، سَبْق اتفاق المجتمع على أساس/محدد مشترك، ومنظمٍ مشترك؛ وبالتالي مقياسٍ مشترك، يُقبل اجتماعيًّا لإتمام التبادل.

٩

ومع صيرورة التبادل فعلًا حياتيًّا يجري يوميًّا على نحوٍ جوهري، تأخذ مشكلاته في الظهور، كصعوبة تجزئة بعض المنتجات والتغيرات المفاجئة والعنيفة في قيم البعض الآخر. ومن جهةٍ أخرى، لم يعُد ممكنًا للمرء إنتاج كلِّ ما يحتاج إليه، من مأكل وملبس على الأقل، وفي الوقت نفسه لم يَصِر بإمكانه سوى التخصُّص في صنع منتوجٍ محدد يبادله بما يحتاج إليه من منتجاتٍ أخرى، بيد أن منتوجه هذا قد لا، ولن، يمكِّنه بالفعل من الحصول على جميعِ ما يريد من منتجاتٍ يحتاج إليها؛ الأمر الذي يدفعه إلى مبادلة منتوجه هذا بمعادل، له القبول العام اجتماعيًّا، ثم يقوم بمبادلة ذلك المعادل بما يحتاج إليه من منتجات. ربما لم تتبلور ظاهرة «الثمن» بعدُ!

وإذ يظهر منتوجٌ ما، كالذهب والفضة، لديه القدرة على أن يحل محل جميع المنتجات لما يتمتع به من قبول عام؛ وذلك لإمكانية تجزئته إلى أصغر وحدةٍ ممكنة مع ثبات قيمته نسبيًّا. تظهر النقود، في مرحلةٍ أولى، في شكلٍ متجسد في هذَين المعدنَين، ولا يصبح التبادل بين المنتجات مباشرًا، كقاعدةٍ عامة، كما كان من قبلُ، بل يتم من خلال وسيط؛ هذا الوسيط، المختَزِن للقيمة، ينبغي الحصول عليه أولًا من خلال عملية تبادُلٍ أوَّلية، لا تعرف التوقف؛ إذ يجب على المرء أن يبيع شيئًا ما، حتى ولو كان هذا الشيء، وسيكون فعلًا، هو قوة عمله، وذلك كي يحصل على هذا الوسيط الذي يستطيع أن يشتري به ما يريد من منتجات؛ وحينئذٍ تتبلور تاريخيًّا ظاهرة الثمن بالتساوُق مع بروز ظاهرة النقود.

ومع التطور تفقد النقود شكلها المتجسد في المعدنَين المذكورَين، كما تتبدد ميزة احتوائها على القيمة التي تُعبِّر عنها، كي تصبح رمزًا معبرًا عن قيمةٍ مُفترَضة.١٥ فلم يصبح جرام الذهب مثلًا مُعبرًا عن كمية العمل المنفَق اجتماعيًّا في سبيل إنتاجه؛ وبالتالي يُبادَل بشيء بُذل في سبيل إنتاجه نفس كمية العمل الضروري،١٦ بل صار بموجب مرسومٍ ملكي أو فتوى شرعية أو قرارٍ إمبراطوري، معبرًا عن كمية من العمل أكثر أو أقل مما يحتوي عليه فعلًا من العمل الضروري.

ومع المزيد من التطور المطَّرد لقوى الإنتاج وتحسين البشر لها باستمرار، تأخذ النقود على اختلاف أشكالها وأنواعها في تجاوز دورها كوسيلة، كوسيط في التبادل، كي تمسي غاية في ذاتها. وتصبح المضاربات المالية من أهم الأنشطة الاقتصادية. التبادل هنا يكون بقصد التبادُل، مبادلة النقود بالنقود من أجل المزيد من النقود! وهو ما ينشئ إمكانية لكي تصبح كمية النقود، كقاعدةٍ عامة، غير مساوية لكمية المنتجات المتداوَلة.

١٠

وإذا تحدد أساس التبادل على هذا النحو المرتبط بالعمل الاجتماعي، فقد لزم تبلور المبادلة مكانيًّا؛ فقد نشأت الأسواق لتجري فيها المبادلة القائمة على تصريف الفوائض. ومع تلك النشأة التي اقتضتها ظروف التبادل، يستمر التطور الجدلي حتى نصل إلى الأسواق الشاملة والدائمة والتي تعرض فيها مختلف المنتجات المصنوعة في شتى الأجزاء التي تُكوِّن اقتصاد العالم بأَسره. كما يصبح لكل مادة من مواد العمل، ولكل أداة، وآلة، من أدوات وآلات العمل سوقها الخاص بها. والأمر نفسه ينطبق على جميع قوى الإنتاج: قوة العمل، والأرض، والرأسمال، بل ومهارات الإدارة وخبرات التنظيم وإنتاج الأفكار الجديدة، جميعها صارت محلًّا للبيع والشراء في الأسواق. في هذه الأسواق تُطرح المنتجات، التي أمست سلعًا، للتبادل، وتتقابل ككميات من العمل الاجتماعي المتجسد في كل منتَج من هذه المنتجات.

١١

يمكننا الآن، إذا ما أخذنا في اعتبارنا الصورة الكليَّة التي حاولنا رسمها أعلاه لمحددات ظاهرتَي الإنتاج والتبادل، إبراز الأشكال التاريخية الثلاثة التي اتخذتها الظاهرتان على النحو التالي:
  • (١)

    «الإنتاج بقصد الإشباع المباشر»: وما يرتبط به من تبادُل بقصد الإشباع المباشر؛ فقد كان الهدف المركزي للنشاط الاقتصادي، على الأقل في عصورِ ما قبل التاريخ، هو الإشباع المباشر للحاجات الإنسانية الأساسية. وحينما يحدث، عرضًا، بعض الفائض تجد الجماعة التي حققَت هذا الفائض الاجتماعي، وليكن في الصيد مثلًا، أن من مصلحتها مبادلة هذا الفائض بدلًا من إهداره. وهو ما يستلزم وجود جماعة أخرى حققت أيضًا بعض الفائض، العرضي كذلك، وتريد مبادلته بدلًا من إهداره أيضًا. في تلك الحالة، ربما البدائية/المعاشية، لا يمكن تصوُّر استخدام هذه الفوائض، التي يجري تبادُلها، إلا في سبيل الإشباع المباشر؛ إذ تكاد تنعدم المساحة لاستغلال تلك الفوائض في سبيل الإنتاج.

  • (٢)
    «الإنتاج بقصد التبادُل»: وما يرتبط به من تبادُل بقصد الإنتاج.١٧ إذ حينما يصبح الفائض قاعدةً عامة؛ وبالتالي يسمح تاريخيًّا للتخصُّص بالظهور، بين: الزرَّاع والرعاة في مرحلةٍ أولى، وبين الزرَّاع والرعاة والصنَّاع في مرحلةٍ ثانية، وداخل الفرع الإنتاجي الواحد في مرحلةٍ ثالثة، ثم التخصص الفني الدقيق على مستوى العملية الإنتاجية الواحدة وأجزاء المنتوج الواحد في مرحلةٍ رابعة. نقول حينما يصبح الفائض قاعدةً عامة، ويميل التخصص، ابتداءً من الاستئثار بملكية وسائل الإنتاج، إلى التشظِّي الدقيق والمنظم، فإن الإشباع المباشر لا يعود هو الهدف من وراء الإنتاج كما كان في السابق؛ إنما يصبح طرح السلع في السوق للتبادل، للبيع، للربح، والربح النقدي بالذات، هو الهدف الأسمى لعملية الإنتاج!
  • (٣)

    «التبادُل بقصد التبادُل»: هنا التبادل يصبح هدفًا في ذاته لِما يُدِرُّ من ربحٍ نقدي، ولا يقتصر هذا الشكل من التبادل على تبادُل السلع فحسب، إنما يشمل كذلك النقود التي صارت سلعًا.

    ولأن التبادل، كظاهرة أساسها التعاوض، وسواء أكان بقصد الإنتاج أم بُغية التبادل، أم حتى بغرض الإشباع المباشر، إنما يتم وفقًا لقانونٍ موضوعي في القيمة، كمركز جذبٍ لأثمانِ قوى الإنتاج، وكمحل صراعٍ اجتماعي حين التوزيع، فيتعين علينا الآن التقدم خطوةً منهجية إلى الأمام كي ندرس أساسيات هذا القانون الموضوعي؛ قانون القيمة.

١  «في الطبيعة البشرية ميل، إلى المعاوضة ومقايضة شيءٍ ما لقاء شيءٍ آخر والمُبادَلة به.» انظر: آدم سميث، «ثروة الأمم»، المصدر نفسه، الكتاب الأول، الفصل الثاني.
٢  حتى منتصف القرن التاسع عشر كان يُنظر إلى تاريخ الإنسان ابتداءً من انقسامه إلى قسمَين كبيرَين: قسم المجتمع البدائي وقسم الحضارة، ولكن مع النصف الثاني من القرن التاسع عشر بدأَت هذه النظرة في التغير والتطور؛ حيث أخذَت الأبحاث العلمية في الظهور، ومن أبرز هذه الأبحاث: كتاب ﻫ. مين (١٨٢٢–١٨٨٨م) «القانون القديم»، عام ١٨٦١م، وكتابه «المجتمعات القروية في الشرق والغرب»، عام ١٨٦١م. وكتاب ي. باخوفن (١٨١٥–١٨٨٧م) «حق الأم»، عام ١٨٦١م. وكتاب دو كولانج (١٨٣٠–١٨٨٩م) «المدينة العتيقة»، عام ١٨٦٤م. وكتاب ج. ماكلينان (١٨٢٧–١٨٨١م) «الزواج البدائي»، عام ١٨٦٥م. وكتاب أ. تايلور (١٨٣٢–١٩١٧م) «أبحاث في التأريخ القديم للجنس البشري»، عام ١٨٦٥م، وكتابه «الحضارة البدائية»، عام ١٨٧١م. وعلى الرغم من هذه المساهمات المهمة كان كتاب «المجتمع القديم: أو البحث في معالم التقدم البشري من الوحشية عَبْر البربرية إلى الحضارة»، لهنري مورجان (١٨١٨–١٨٨١م)، الذي صدر عام ١٨٧٧م، بمثابة نقلةٍ نوعيةٍ حاسمة في سبيل دراسة التطور بمنهجيةٍ أكثر عمقًا وأكبر وعيًا؛ فلقد وجَّه مورجان نقدًا منهجيًّا مهمًّا إلى التقسيم القديم حينما قدَّم فرضيته المستندة إلى المراحل الثلاث للتطور، وهي: الوحشية والبربرية والحضارة. وعلى الرغم من أن مورجان لم يكن واضحًا تمامًا في تحليله، بصفةٍ خاصة، وأنه لم ينشغل بإبراز المعيار الذي يستند إليه في ترسيم حدود المراحل الثلاث، إلا أن مجمل تحليله يمثل منهجًا يمكن استخدامه هاديًا في سبيل فهمٍ أعمق لتاريخ النشاط الاقتصادي عَبْر تطوُّر قوى الإنتاج. انظر: L. Morgan, “Ancient Society; Or Researches in the Lines of Human Progress from Savagery, Through Barbarism to Civilization” (New York: H. Holt & Co, 1877). Ch, 1.
وللمزيد من التفصيل حول التطوُّر الاجتماعي والطبيعي، انظر المصادر الآتية، والتي اعتمدنا عليها في سبيلنا لتكوين التصور العام للتطور ابتداءً من الإنتاج بقصد الإشباع المباشر وصولًا إلى الإنتاج بقصد التبادل: محمد رياض، «الإنسان: دراسة في النوع والحضارة» (القاهرة: دار النهضة العربية، ١٩٧٢م).
M. Nesturkh, “The Origin of Man” (Moscow: Progress Publishers, 1967), part three: Palaeanthropological Data on the Making of Man. “History of Humanity: Prehistory and the Beginnings of Civilization”, Edited by S. J. De Late, Co-edited by.H. Dani, J. L. Lorenzo and R. Nunoo (London: Routledge. Paris: U.N.E.S.C.O, 1994). William Howells, “Back of History: The Story of our own origins” (New York: Garden City Doubleday & Co. 1954) “Mankind in the Making: The Story of Human Evolution” (New York: Doubleday & company publishing, 1959). “The Camridge Encyclopedia of Human Evolution”, (Cambridge: Cambridge University Press, 1994).
٣  انظر، على سبيل المثال: Lewis Morgan, “Ancient Society”, op, cit, Ch, 1. Preece, R. C. “Humans in the Hoxnian: habitat, context and fire use at Beeches Pit, West Stow, Suffolk U.K,” Journal of Quaternary Science. John Wiley & Sons, Ltd, 2006. pp. 485–96. Peter J. Heyes, Konstantinos Anastasakis, Wiebren de Jong, Annelies Van Hoesel, Wil Roebroeks and Marie Soressi, “Selection and Use of Manganese Dioxide by Neanderthals”, James Steven, “Hominid Use of Fire in the Lower and Middle Pleistocene: A Review of the Evidence”. Current Anthropology. University of Chicago Press. Vol. 30, Feb 1998, pp. 1–26. Brown KS, Marean CW, Herries AI, Jacobs Z, Tribolo, Braun D, Roberts DL Meyer MC, Bernatchez J, “Fire As an Engineering Tool of Early Modern Humans”, Science, Aug 2009, Vol. 325, pp. 859–62. David Price, “Energy and Human Evolution”, J.I.S, Vol. 16. N, 4, 1995, pp. 301–19.
٤  من الإشكاليات التي أثارَتْها نظرية داروين (١٨٠٩–١٨٨٢م) وما تَبِعها من حفريات، تلك المتعلقة بالتصادُم الصريح والواضح بين نصوص الدين، العَبْراني في المقام الأول، التي تقول إن آدم، الموجود على الأرض منذ بضعة آلاف من السنين، هو أوَّل إنسان، وبين العلم الذي يناهض ذلك؛ فالحفريات أثبتَت أن عمر الإنسان على ظهر الكوكب يعود إلى ملايين السنين، وليس آلاف السنين فحسب. وللتعرف إلى بدء الوجود البشري، ابتداءً من الصورة الحيوانية وصولًا إلى الصورة الإنسانية، لدينا ثلاثة مصادر أساسية هي الكتب المقدسة، وكتب التراث، والأبحاث العلمية. وبالنسبة للكتب المقدسة؛ فلدينا سِفر «التكوين» وهو أول أسفار التوراة الخمسة، ويُقسم هذا السفر منهجيًّا إلى قسمَين كبيرَين؛ أولهما: ينشغل بذكر موضوع الخلق، ويتناول بالسرد المرحلة من آدم إلى نوح، وما تحتويه هذه المرحلة من مجريات الأمور في جنة عدن بين آدم وحواء والشيطان، ثم ذكر قتل قايين لهابيل، ثم ينتقل السرد إلى ذكر الفترة من نوح إلى إبراهيم وما تحتويه هذه الفترة من أحداث تبدأ بالطوفان وتنتهي ببرج بابل الذي هدمه الرب بعد أن تغطرس البشر وأرادوا الوصول إلى آلهة السماء! أما القسم الثاني: فينشغل بتاريخ الآباء، ويحتوي على تاريخ إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف. وحينما يموت يوسف يترك إخوته وأهله في أرض مصر التي ستذيقهم العبودية، وسيكون تحريرهم وإعادتهم إلى «أرض الآباء» موضوع السفر التالي أي سفر «الخروج». أما القرآن فهو يذكر ثلاث مراحل: مرحلة خلق آدم، الذي كان محل تحفُّظ من الملائكة (البقرة: ٣٠–٣٥)، ثم مرحلة الخروج من الجنة، إثر مخالفة الأمر الإلهي (البقرة: ٣٦)، وأخيرًا بدء الصراع، بقتل قابيل لهابيل (المائدة: ٢٧–٣١). وبالنسبة لكتب التراث، المستقَى أغلبها من مرويات معتمدة على الكتب المقدسة، فمن أبرزها: «الكامل» لابن الأثير، و«تاريخ الرسل والملوك» للطبري، و«البداية والنهاية» لابن كثير، و«الشهنامة» للفردوسي، و«مروج الذهب» للمسعودي … إلخ. ولعل الإشكالية التي أثارتها الحَفْريات هي مدى تعارُض العلم مع الروايات التي وردت في الكتب المقدسة عن الخَلْق؛ فالكتب المقدسة، ومعها التراث بالتبع، تُرجِع الخلق إلى بضعة آلاف من السنين، بيد أن الحفريات تُثبِت أن الإنسان الأول، أسلافنا، على الأرض منذ ملايين السنين. ونحن من جانبنا نرى أن رفع التعارض يبدأ من إعادة فهم النص القرآني لا التوراتي؛ فالقرآن يقول: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ * وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ. والمفهوم من النص أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان (بصيغة الماضي)، ولكنه سيخلق بَشَرًا (بصيغة المضارع التي تفيد الاستقبال)، والبَشر هنا جمع (الواحد والجمع والمذكر والمؤنث فيه سواء. «المعجم الوسيط»). وربما تعني أن البشر أرقى من الإنسان. وبالتالي يصبح آدم، كبشري، أرقى من الإنسان السابق عليه، بصفةٍ خاصة وأن كلمة الإنسان في القرآن دومًا تأتي مقرونة بالذم. والبشر، كما يقول أبو هلال العسكري (٩٢٠–١٠٠٥م)، يقتضي حسن الهيئة؛ وذلك أنه مشتق من البشارة، وهي حُسنُ الهيئة؛ يقال: رجلٌ بشير، وامرأةٌ بشيرة إذا كان حَسَن الهيئة؛ فسُمِّي الناس بَشرًا لأنهم أحسن الحيوان هيئة. ويجوز أن نقول من البَشَرة وهي ظاهر الجلد، وقالوا عبَّر عن الإنسان بالبَشَر لأن جلده ظاهرٌ بخلاف كثيرٍ من المخلوقات التي يغطيها وبرٌ أو شعر أو صوف؛ فسُمِّي بَشَرًا باعتبار ظهور بشرته. ويجوز أن يُقال: إن قولنا بشر يقتضي الظهور، وسُموا بشرًا لظهور شأنهم. كما أن كلمة إنسان مناسبة للمراحل الأولى حيثُ الإنسان في أمسِّ الحاجة إلى المؤانسة في ظل قوى الطبيعة الغامضة والأخطار الدائمة. أما قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ، فيشير إلى انتقال الإنسان إلى مرحلة تلقي التكليف. والملائكة كانت تُعايِن حياة «الإنسان» الأُولى وتراه مفسدًا ولذا تساءلتُ هل سيكون هذا الكائن (المخلوق الجديد) وبمثل تلك الأوصاف محلًّا للتكليف؟ ومن هنا يمكن فهم النص التوراتي، فحينما خلق الله آدم في اليوم، أو المليون، السادس، لم يكن «الإنسان» الأول، بل كان أول «البشر»، أول التطور نحو الأرقى بيولوجيًّا. والمؤمنون، وأنا منهم، لا يرون أي مشكلة في التدخل الإلهي بالخلق الاستثنائي لآدم؛ إعلانًا عن بدء مرحلةٍ ثانية من التطور.
٥  في الفرضيات المختلفة لنشأة اللغة وتطورها، انظر: أبو الفتح عثمان بن جني، «الخصائص»، تحقيق محمد علي النجار (القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، ٢٠٠٦م)، ج١، ص٤٠–٤٧؛ نيقولاس أوستلر، «إمبراطوريات الكلمة: تاريخ للغات في العالم»، ترجمة محمد توفيق البجيرمي (بيروت: دار الكتاب العربي، ٢٠١١م)؛ مايكل كورباليس، «نشأة اللغة: من إشارة اليد إلى نطق الفم»، ترجمة محمود ماجد عمر، عالم المعرفة؛ ٣٢٥ (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ٢٠٠٦م)؛ تيرنس دبليو. ديكون، «الإنسان، اللغة، الرمز: التطور المشترك للغة والمخ»، ترجمة شوقي جلال (القاهرة: المركز القومي للترجمة، ٢٠٠٦م).
Müller, “The Theoretical Stage, and the Origin of Language”. Reprinted in R. Harris (ed.), “The Origin of Language” (Bristol: Thoemmes Press, 1996), pp. 7–41. Paget, Human Speech: some observations experimenrts and conclusions as to the nature and Kegan Paul, 1930). Firth, J. “The Tongues of Men and Speech, Foundations of Language”, Vol. 4, No. 1 (London: Oxford University Press, 1964). pp. 25-6. Stam, J. “Inquiries into the Origins of Language” (New York: Harper and Row, 2001) p. 243-4.
٦  فلقد اقترن ظهور نوعنا البشري بالاحتكاك والتفاعل بيننا وبين أسلافنا أشباه البشر، تحديدًا أسلافنا النياندرتال. ويمكننا القول بأن نوعنا البشري قد تعلم الكثير جدًّا من التقنيات وأساليب الحياة من هؤلاء الأسلاف الذين قطعوا على طريق التطور شوطًا طويلًا عَبْر مئات الآلاف من السنين؛ فلقد تعلمنا من أسلافنا هؤلاء تقنيات الصيد، وصنع الأدوات المختلفة التي استخدمناها في العمل، كالهراوات والرماح، كما تعلمنا منهم استخدام النار … إلخ. ولم يكن على نوعنا البشري سوى استكمال طريق التطور؛ بتطوير ما تعلمه بالكشف عن المزيد من أسرار الزراعة، والتدجين، وتوليد النار، وصهر المعادن وبالأخص الحديد، والأهم اختراع الكتابة، وإنضاج اللغة المعقدة؛ بالمزيد من التواصل والتعاون، وربما العداء، كأهم وسائل نقل التقنية والمعرفة المكتسبة عَبْر الأجيال.
٧  للمزيد من التفصيل، انظر: L. Morgan, “Ancient Society”, op, cit, Ch, 1, pp. 3–19.
٨  كان لاندماج العشائر المتفرقة في قبائل أهميةٌ كبيرة ليس فحسب في تبلور التقسيم الاجتماعي للعمل، بل تبدت أهميته أيضًا في نشر وانتقال مهارات الإنتاج المختلفة. ولقد توافق نظام إدارة العشيرة والقبيلة بأكمله مع علاقات الإنتاج في ذلك الوقت؛ فجميع ما يهم العشائر والقبائل كان في أيدي الرؤساء ومجالس القبائل التي تتم باختيار أفراد القبيلة، وكان نفوذ الرئيس يتوقف فحسب على ميزته الشخصية وخبرته ومهارته في الصيد وشجاعته في الحرب. ومن هنا تبدَّت هيمنة فردٍ معين أو فئةٍ محددة على باقي أفراد الجماعة. يظهر هذا التمايز تدريجيًّا وببطء أثناء التحول من مرحلة البدائية إلى مرحلة الهمجية. ولقد كانت الجماعات المختلفة مهيَّأَةً فعليًّا للتمايُز والتفاوت بين أفرادها؛ فمنذ المرحلة البدائية كان التصادم بين أفراد الجماعة الواحدة من الأمور الطبيعية؛ فحتى بعد عملية القنص، التي تتطلب عملًا وجهدًا جماعيَّين، لم يكن من المتصور حدوث عملية التوزيع بسلام أو عدالة؛ على الرغم من أن قرار الإنتاج وكذا التوزيع يُتخذَان، ولو ظاهريًّا، بشكلٍ جماعي، بل وحينما تم الانتقال من البدائية إلى الهمجية كان على الجماعة أن تسمح طوعًا أو كرهًا للذكر المسيطر بأن يستأثر ببعض الفائض أو الاستحواذ على نصيبٍ أكبر من المنتجات المتبادلة. ومن جهةٍ أخرى، فلا شك في أن ظهور فئةٍ اجتماعية مميزة يفترض سبق التفرقة بين أنواع الأعمال؛ فالأعمال التي تستحق الاحترام كانت تتعلق بالأعمال البطولية أما الأعمال اليومية الضرورية، مثل الزراعة والرعي، والتي لا تنطوي على أي عنصر من عناصر البطولة فلم تكن محل احترام. للمزيد من التفصيل، انظر: Thorstein Veblen, “The Theory of the Leisure Class, an Economic study of institutions” (London: Macmillan and Co; Ltd, 1915), pp. 6–8.
٩  في فرضيات تبلوُر التخصُّص وتقسيم العمل وتنظيم الإنتاج، انظر، رالف بيلز، وهاري هويجر، «مقدمة في الأنثروبولوجيا العامة»، ترجمة محمد الجوهري والسيد الحسيني (القاهرة: دار نهضة مصر للطبع، ١٩٧٦م)، ج١، بصفةٍ خاصة الفصل العاشر.
١٠  الفائض إذن، وعلى العكس مما يُقال للطلاب في الجامعات، هو شرط التبادل، أما الندرة والاحتياج والعَوَز فهي جميعها مجرد أسبابٍ للتبادل.
١١  «… في تلك الحالة المجتمعية المبكرة والبدائية، التي سبقت كلًّا من تراكم الرأسمال وامتلاك الأرض، كانت النسبة بين كميات العمل الضروري للحصول على مختلف المواد تبدو الظرف الوحيد الذي يُحدِّد قاعدةَ مبادلةِ مادة بأخرى.» انظر: آدم سميث، «ثروة الأمم»، الكتاب الأول، الفصل السادس. وعند ريكاردو: «في المراحل المبكرة لتكوُّن المجتمع البشري، اعتمدت القيمة التبادلية للسلع. بشكل شبهِ حصري على كمية العمل المقارنة الداخلة في إنتاج هذه السلعة أو تلك.» انظر: David Ricardo, “On The Principles of Political Economy and Taxation” (New York: Barnes & Noble. 2005), p. 2. وهي الطبعة التي اعتمدت عليها في القراءة والاستدلال بالنصوص.
مقارنة بطبعة جون مورَّاي، لندن، ١٨٢١م. London: John Murray, 3rd edition, 1821.
وهو ما ينشئ ضرورة لتسوية المبادلات المختلفة وفقًا لقانونٍ موضوعي في القيمة؛ أي قيمة المنتجات التي تتحدد بالعمل الضروري المبذول في سبيل إنتاجها، ولسوف نعرف في الفصل القادم، المنشغل بقانون القيمة، أن المقصود بكلمة «ضروري» هو ذلك القدر من المجهود الإنساني المبذول في سبيل إنتاج السلعة منظورًا إليه من زاوية الفن الإنتاجي السائد اجتماعيًّا، لا على أساس المجهود الفردي المنعزل.
١٢  «إن ما يُنتج عادةً في يومَي عملٍ أو ساعتَي عملٍ يستحق ضعف ما يُنتج عادةً في يوم عمل أو ساعة عمل.» انظر: آدم سميث، «ثروة الأمم»، الكتاب الأول، الفصل السادس.
١٣  بالأخص الحديد والبرونز. ويعود أقدم دليل على استخدام البرونز في وادي النيل إلى الدولة الحديثة.
١٤  انظر: ريكاردو، «المبادئ»، الفصل الأول.
١٥  «فاصطُلح على أن يكون الأخذ والعطاء في المعاوضات بمادةٍ نافعة بذاتها تكون سهلة التداول في الاستعمالات العادية للمعيشة: فكانت مثلًا من الحديد، ومن الفضة، ومن أي جوهرٍ آخر مشابه، حُدِّد بادئ الأمر حجمه ووزنه، ثم من أجل التخلص من حَيْرات الأوزان المستمرة طُبع بطابع خاص يدل على قيمته.» انظر: أرسطو، «في السياسة»، ص١٥٥-١٥٦.
١٦  «لو تمكَّن رجل من توصيل أُوقيةٍ من الفضة مستخرجة من مناجم بيرو بإنفاق نفس الوقت الذي لا بد منه لإنتاج بوشل من القمح، فإن المنتوج الأول من هذَين المنتوجَين سيمثل الثمن الطبيعي للثاني. وإذا أصبح بالإمكان، نتيجة لاكتشاف مناجمَ جديدةٍ وأكثر وفرة، استخراج أوقيتَين من الفضة بنفس اليسر الذي تُستخرج به الآن أوقيةٌ واحدة، فإن بوشلًا من القمح سيساوي ١٠ جنيهات إذا كان في السابق يساوي ٥ جنيهات.» انظر: William Petty, “A Treatise on Taxes and Contributions”, London, 1662, p. 32. Karl Marx, “Capital: A Critique of Political Economy” (New York: The Modern Library, 1906), p. 98.
وهي الطبعة التي اعتمدت عليها في القراءة والاستدلال بالنصوص، مقارنة بالطبعة الألمانية ١٩٦٢م (طبعة برلين)، والترجمة الإنجليزية ١٩٦٧م (طبعة موسكو)، والترجمة العربية ١٩٨٥م، ١٩٨٧م، ١٩٨٩م (طبعة موسكو).
١٧  هذا الإنتاج، وإن لم يكن من شروط ظهوره التاريخي سَبْق التبادُل؛ إذ لم يكن على الصانع الحصول على المواد التي يستخدمها في عمله من خلال التبادُل؛ حيث كان بإمكانه الحصول عليها بعمله المباشر، كالحصول بنفسه من الغابات على الخشب الذي يصنع منه الفأس أو القارب؛ فمع التطور صار من الضروري حدوث التبادل من أجل الإنتاج؛ إذ يتعين على المُنتِج المباشر القيام بعملية مبادلةٍ أولية، تمسي بعد ذلك دائمة ومستمرة، من أجل الحصول على مواد عمله التي يمده بها قسمٌ آخر من المجتمع يتخصص في صنع هذه المواد. وما قلناه بصدد مواد العمل إنما ينسحب كذلك على أدوات، ثم آلات، العمل؛ فقد يصنعها الصانع في البداية، إلا أنه لن يستمر كثيرًا في ذلك؛ إذ سوف يحصل عليها، فيما بعدُ، بالتبادل مع قسمٍ آخر من الصناع الذين سوف يتخصصون في صنع هذه الأدوات. ومع تبلوُر ظاهرة النقود ستتم جميع هذه المبادلات، كأصلٍ عام، من خلال وحدات النقد؛ فلم يعُدِ الصانع مضطرًّا الآن إلى الحصول على الماشية أو الأصداف … إلخ، ثم التخلِّي عنها لصانعٍ آخر كي يحصل على منتجه. وإن كان مضطرًّا إلى أمرٍ آخر؛ هو الحصول على وحدات النقود التي سوف تقوم مقام الماشية أو مجموعة الأصداف. والهدف النهائي هو تحقيق الربح النقدي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤