الفصل الثالث

امتداد المركزية الأوروبية

بعد ماركس، لدينا من النماذج ما يوضح أن أوروبا الغربية صارت، وبشكلٍ نهائي، حقل التحليل المعتمد في أبحاث الاقتصاد السياسي. النموذج الأول: روزا لوكسمبورج (١٨٧١–١٩١٩م)، والنموذج الثاني: موريس دوب (١٩٠٠–١٩٧٦م)، أما النموذج الثالث، فهو: روبرت هيلبرونر (١٩١٩–٢٠٠٥م).

١

فلكي تثبت روزا عدم الحاجة لظهور الاقتصاد السياسي قبل الرأسمالية؛ حيث علاقات الإنتاج شفافة، كما تقول، ومظاهر النشاط الاقتصادي، بوجهٍ عام، بسيطة لا تحتاج إلى علم يكشف عن قوانينها الموضوعية، كتبت متخذة من إمبراطورية شارلمان نموذجًا:

«في القرون الوسطى، نجد أن الفلاح الصغير في مزرعته، تمامًا مثل العاهل الكبير في أملاكه، يعملان تمامًا ما يودان الحصول عليه عن طريق الإنتاج. غير أنه ليس في الأمر من سِحر؛ فالاثنان إنما يريدان سد حاجات الإنسان الطبيعية من الغذاء والشراب والثياب، وبعض شئون الحياة الأخرى. أما الفارق الوحيد فهو أن الفلاح ينام على القش، بينما المالك العقاري الكبير ينام على فراشٍ من ريش النعام، والفلاح يشرب إلى المائدة بيرة أو شيئًا يشبهها، بينما يشرب المالك الكبير خمورًا ثمينة. إن الفارق الوحيد يكمن في كمية ونوعية المواد المنتَجة. بيد أن أساس الاقتصاد وغرضه الذي هو سد الحاجات البشرية، يظلان أنفسهما. مقابل العمل، الذي ينطلق من هذا الهدف الطبيعي هناك نتيجته الواضحة. وهنا، مجددًا، في عملية العمل نفسها، ثَمَّة فوارقُ عديدة؛ فالفلاح يشتغل بنفسه، أو برفقة أفراد أسرته، ولا يحصل من ثمار العمل إلا على ما توفره له قطعة الأرض التي يملكها، أو حصته من الأرض المشاعية. ولكن سواء أعمل كل فلاح لنفسه برفقة عائلته، أم عمل الجميع معًا لحساب السيد الإقطاعي بقيادة العمدة أو المشرف الملكي، ليست نتيجة هذا العمل سوى كميةٍ معينة من وسائل العيش بالمعنى الواسع للكلمة؛ أي بالضبط ما يحتاجه الفلاح للعيش أو تقريبًا بمقدار ما يحتاج لهذا العيش. بإمكاننا طبعًا أن ندير مثل هذا الاقتصاد في كل الاتجاهات وأن ننظر إليه من كل جانب، وسنجد أنْ لا سر فيه ولفهمه نحن لا نحتاج لأي علمٍ خاص ولا لأبحاثٍ عميقة١

في هذا المجتمع (الأوروبي الغربي) الذي تحلله روزا لوكسمبورج، علاقات الإنتاج شفافة، لا سر فيها، فلا تُباع قوة العمل ولا تُشترى، ومنتجات الفلاحين ليست مُعدَّة، كقاعدةٍ عامة، للبيع في السوق؛ فلا سلع ولا أجور ولا أرباح! ويتعين أن ننتظر، وفقًا لفرضية روزا، مجيء «الرأسمالية» كي نرى بيع قوة العمل، والإنتاج من أجل السوق، كظاهرتَين غير مسبوقتَين تاريخيًّا؛ أي كما ذهب ماركس بالتمام والكمال!

٢

أما موريس دوب، الذي أكد على صواب تصور ماركس، فقد ذهب إلى أن الرأسمالية:

«نظام للإنتاج من أجل السوق، وفي ظل هذا النوع من الإنتاج صارت قوة العمل سلعة تُباع وتُشترى في السوق كأي شيء يمكن أن يكون محلًّا للتبادل، ولم يكن ذلك ممكنًا إلا بتوافر الشروط التاريخية التي اقتضت تركُّز ملكية وسائل الإنتاج في أيدي طبقةٍ محددة في المجتمع، وفي المقابل ظهور طبقة من المعدمين لا يعيشون إلا ببيع قوة عملهم، وهؤلاء الذين يمثل لهم بيع قوة العمل المصدر الوحيد لكسب العيش يقع على عاتقهم القيام بالنشاط الإنتاجي وذلك عن طريق عقود العمل لا عن طريق القهر، ومفهوم الرأسمالية الذي آمنا به يُوجد ضمنًا في كل حقبةٍ تاريخية.»٢

تمتد إذن، انطلاقًا من المركزية الأوروبية، رؤية ماركس للرأسمالية كي تأخذ في الترسُّخ على يد موريس دوب، وتصبح الرأسمالية قائمة على نفس الأمرَين: بيع قوة العمل والإنتاج من أجل السوق.

ولكن يبدو دوب مرتبكًا؛ هادمًا معياره، متصادمًا مع إيمانه؛ حين يُضطر إلى التسليم بأن «نفس الخصائص كانت موجودة في كل أحقاب التاريخ!» ويكمن الارتباك في أنه طالما أن بيع قوة العمل والإنتاج من السوق كانا دائمًا موجودَين في كل أحقاب التاريخ فلا شيء إذن يجعل الرأسمالية أمرًا جديدًا على المجتمع. ونتيجة كتلك تتصادم مع إيمان دوب القائم على عقيدة ماركس القائلة بأصالة ظواهر الرأسمالية الأوروبية!٣

٣

وابتداءً من المركزية الأوروبية نفسها؛ أي كتابة تاريخ العالم ابتداءً من تاريخ أوروبا الغربية تحديدًا، يقدم هيلبرونر فرضيته، وفقًا للتقليد الأوروبي، وهي أن الذي يميز الرأسمالية هو أن عناصر الإنتاج الممثلة في العمل والأرض لم يكونا قبل الرأسمالية محلًّا للتبادل، وأن الرأسمال أيضًا كأحد قوى الإنتاج لم يكن أكثر من ثروة مكنَّزة، ولكن مع الرأسمالية تبدَّل الحال؛ فوفقًا لفرضية هيلبرونر، لم تكن الأرض، كقاعدةٍ عامة، قبل الرأسمالية، محلًّا للتداوُل، ولم تصبح هكذا إلا عندما تمكَّنَت الرأسمالية من فرض هيمنتها على المجتمعات؛ فصارت الأرض خاضعة لمنظومة البيع والشراء بعدما أصبحت مما يمكن التخلي عنه وبيعه وشراؤه ورهنه والتصرف فيه بجميع أنواع التصرفات الناقلة للملكية؛ فقد كانت القاعدة في الريف، مع نمط الإنتاج الإقطاعي؛ أي قبل الرأسمالية، أن الفلاح في أوروبا في القرون الوسطى يعيش مرتبطًا بضيعة سيده؛ فيخبز في فرن السيد ويطحن في طاحونته، ويزرع حقوله، ويخدمه في الحرب، ولكن نادرًا ما كان يؤدي له أجرًا عن خدماته. وحتى القرن الرابع عشر أو الخامس عشر لم تكن هناك أرضٌ بوصفها ممتلكاتٍ قابلة للبيع الحر. لقد كانت هناك أرض بطبيعة الحال، ضياع وأبعاديات إقطاعية وإمارات، لكنها لم تكن بالتأكيد، كما يقول هيلبرونر، عقارًا يُباع ويُشترى كلما دعت المناسبة؛ فلقد كانت الأرض تُشكِّل جوهر الحياة الاجتماعية وتُهيئ الأساس الذي تقوم عليه سمعة المرء ومكانته في المجتمع. وبالرغم من أن الأرض كانت قابلةً للبيع وفق شروطٍ معينة٤ إلا أنها لم تكن بوجهٍ عام للبيع؛ فالنبيل الذي كان يشغل مركزًا طيبًا لم يفكر في بيع أرضه. إن كل مجتمع يستبعد أشياء لها قيمتها من نطاق البيع والشراء، ومن هذه الأشياء، في نظر القرون الوسطى: الأرض.

ومن جهةٍ أخرى، وفقًا لهيلبرونر أيضًا، فحين يتم الحديث عن سوق العمل مع النظام الرأسمالي، فسيكون المقصود مباشرة تلك العملية من المفاوضة التي يبيع فيها الأشخاص قوة عملهم لمن يدفع أعلى ثمن!

«وكل ما يمكن قوله إن هذه العملية (يقصد عملية بيع قوة العمل م. ع. ز) لم يكن لها وجود في العالم السابق على العصر الرأسمالي. كان هناك خليطٌ من الأقنان والصبيان وعمال اليومية ممن يقومون بالعمل، ولكن هذا العمل لم يكن (يقصد قبل الرأسمالية م. ع. ز) على الإطلاق له سوقٌ يُباع فيه ويُشترى.»٥
وأخيرًا، وفقًا لنفس الفرضية، لم يكن الرأسمال أكثر من تعبير عن ثروةٍ مكتنَزة، إنما مع الرأسمالية فلن يصبح الرأسمال كذلك، بل سيمسي «علاقةً اجتماعية» تنتمي إلى حقل الإنتاج؛ فقبل الرأسمالية كان الأسلوب المفضَّل في الإنتاج (في أوروبا في القرون الوسطى!) هو العملية الإنتاجية التي يستغرق أداؤها أطول فترة وأقل قدر من العمل. وكما كان الإعلان محرمًا كانت الفكرة التي تخطر إلى عضو النقابة الحِرفية أن يُخرج منتجًا أفضل نوعًا من زملائه، فِكرةً، كما يقول هيلبرونر، تنطوي على الكثير من الخيانة! ويستدل هيلبرونر بما كان عليه الحال في إنجلترا خلال القرن السادس عشر؛ إذ حينما أطل الإنتاج الكبير في حقل صناعة الغزل والنسيج برأسه لأول مرة احتجَّت نقابات الحِرف لدى الملك الذي اعتبر هذه الورشة العجيبة التي تضم مائتَي نول ومجموعة من الجزارين والخبازين لتوفير الغذاء للقوة العاملة، خروجًا على الأعراف وانحرافًا عن القانون.٦

إذن نحن أمام، على الأقل، ظاهرتَين جديدتَين على العالم المعاصر من وجهة نظر المركزية الأوروبية، هما: بيع قوة العمل، والإنتاج من أجل السوق. ولكن، هل هاتان الظاهرتان حقًّا جديدتان وغير مسبوقتَين تاريخيًّا؟ وهل حقيقةً لم يكن لهما وجود، كما ذهب ماركس ومَن تبعه، إلا مع نمط الإنتاج الرأسمالي الذي تبلور منذ بضعة قرون فقط؟ أم هما ظاهرتان معروفتان تاريخيًّا قبل الرأسمالية الأوروبية بآلاف السنين؟ إن الطريق الذي سوف يسلكه الذهن في سبيله لتقديم إجابة عن هذه الأسئلة يتعين أن يكون معبَّدًا بموقفٍ واضح رافض للتأريخ ابتداءً من تاريخ أوروبا، والاتخاذ، قدر الطاقة، من تاريخ العالم حقلًا للتحليل.

وعليه، سوف ترمي منهجيتنا، في الفصل القادم، إلى رصد وتحليل ظاهرتَي بيع قوة العمل والإنتاج من أجل السوق، طبقًا لقوانين حركة الرأسمال، في المجتمعات السابقة على الرأسمالية الأوروبية؛ وصولًا إلى نقد النظرية المهيمنة في نمط الإنتاج.

١  التشديد في النص من عندي. انظر: روزا لولكسمبورج، «ما هو الاقتصاد السياسي؟» ترجمة إبراهيم العريس (بيروت: دار ابن خلدون، ١٩٧٧م)، ص١٦٨. ولكن، تنسى روزا أن تقول إن هذا المجتمع يجهل النقود! كما تنسى أن تقول إنه يعيش بمعزل عن العالم؛ ولذلك، وبالتبع، تنسى أن تقول إن الخمور الثمينة التي يشربها العاهل، والملابس الحريرية المذهبة التي يرتديها، والسُّرر الوثيرة التي ينام عليها، كلها من صنع المنتجين في الإقطاعية ولم يتم جلب بعضها من فارس أو بغداد أو بلاد الغال وربما من سهول المغول! والحقيقة التاريخية أن الاتخاذ من إمبراطورية شارلمان نموذجًا لنمط الإنتاج الإقطاعي هو من قبيل اتخاذ الاستثناء قاعدة وتعميمها؛ فإمبراطورية شارلمان تمثل لحظةً استثنائية نرى فيها اقتصاد الإمبراطورية المقدسة أقرب ما يكون إلى اقتصاد الإشباع المباشر وليس الإقطاع؛ فقد حكم شارلمان في فترة تدهورت فيها الحالة الاقتصادية في جنوب فرنسا وإيطاليا بعد أن سيطرت الأساطيل الإسلامية على حوض البحر المتوسط، وازدادت غارات قبائل الشمال. في ظل هذه الظروف تدهورت أمور التجارة وساءت أحوال التجار؛ وبالتالي لم تعُد هناك طبقة تنافس كبار الملاك في الريف. ومع التحول إلى الاقتصاد الزراعي، بغية الاكتفاء الذاتي، خضع الكثير من الفلاحين الأحرار إلى نظام رقيق الأرض الذي أخذ في الانتشار. وحتى العبودية اتسع نطاقها فترة من الوقت نتيجة لحروب الكارولنجيين ضد القبائل الوثنية. وعلى الرغم من ذلك لا تعكس صورة روزا لهذا المجتمع حقيقته؛ فلقد وُجِدَت الأسواق، والسلع، والأثمان، والنقود، والمضاربات … إلخ؛ حيث عمل شارلمان على تدعيم التجارة الداخلية وتنظيمها، فبَسطَت الدولة حمايتها على الأسواق، ووَضَعَت نظامًا دقيقًا للموازين والمقاييس والأثمان، ومَنعَت المضاربات على المحاصيل قبل حصادها، وحافَظَت على ثبات قيمة النقد … إلخ. الاتخاذُ إذن من إمبراطورية شارلمان، كحالةٍ استثنائية، مثالًا ثم تعميمه لا يمكن قبوله إلا ابتداءً من قبول المركزية الأوروبية نفسها!
٢  انظر: M. Dobb, “Studies in the Development of Capitalism”, op, cit, p. 23.
٣  سوف نعرف في الباب الثالث سبب ارتباك دوب، ووقوعه، ومَن ذهب مذهبه، في مثل هذا التناقض!
٤  «كانت الأراضي تُباع أحيانًا، وكان أحد الملوك هو الذي يموِّل المبيعات وقد قام أحد مؤرخي الأديرة في إنجلترا بتسجيل عملية بيع قرية إيلتون لأحد الملوك مقابل ٥٠ ماركًا في عام ١٠١٢م إلا أن مثل هذه العمليات كانت نادرة ولا يبدو أن هناك مَن كان يعرف أكانت إيلتون تستحق هذا المبلغ؟ نظرًا لعدم وجود سوق للأراضي، مثل ما نعرفه اليوم.» انظر: إي. كانتربري، «موجز تاريخ علم الاقتصاد»، ترجمة سمير كريم (القاهرة: المركز القومي للترجمة، ٢٠١١م)، ص٤٦.
٥  انظر: R. Heilbroner, “The worldly Philosophers” (New York: Simon & Schuster, 1961), p. 25.
٦  انظر: Heilbroner, “The worldly Philosophers”, Ibid, p. 28.
«كان العامل في القرون الوسطى يعيش جنبًا إلى جانب رب العمل ويشاركه أعماله في الدكان ذاته وعلى طاولة العمل ذاتها كان كلاهما ينتميان إلى الطائفة المهنية ذاتها ويعيشان عيشةً واحدة. كان كلاهما متساويَين تقريبًا، والشخص الذي تدرب كان باستطاعته في كثير من الحِرَف على الأقل أن يفتح دكانًا إذا كان لديه ما يمكنه من ذلك.» للمزيد من التفصيل، انظر: E. Levasseur, “Histoire des classes ouvrières en France depuis la conquête de Jules C ésar jusqu’à la Révolution” (Paris: Librairie De Guillaumin ET Co, 1858), p. 495-6.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤