الفصل الخامس

نقد نظرية نمط الإنتاج

١

ذكرنا في الفصل الثاني من هذا الباب أن نمط/طريقة الإنتاج — كمصطلح يعود إلى ماركس — يقوم على ركيزتَين: علاقات الإنتاج، وقوى الإنتاج. أما علاقات الإنتاج، وهي، كما ذكرنا أيضًا، الروابط الحقوقية التي تحكم عملية خلق السلع والخدمات على الصعيد الاجتماعي، فقد تكون، وفقًا لماركس وتراثه:
  • (١)

    «عبودية» (بين العبد والسيد) في المجتمع العبودي، وتؤسَّس بالتالي على حق السيد في «قهر» عبده؛ إذ لا أهلية قانونية للعبد الذي يُعد من قبيل الأشياء التي قد يرى صاحبها استغلالها أو التصرف فيها بالبيع مثلًا، أو حتى التخلُّص منها بإعدامها!

  • (٢)

    «إقطاعية» (بين القن والإقطاعي) في المجتمع الإقطاعي، وتؤسَّس بالتالي على التبعية؛ فالقن «تابع» للأرض، وحينما تنتقل ملكيتها، بالميراث مثلًا، إلى سيدٍ آخر ينتقل القن أيضًا مع انتقال ملكية تلك الأرض إلى السيد الجديد.

  • (٣)
    «تعاقدية» (بين العامل المأجور والرأسمالي) في المجتمع البرجوازي المعاصر،١ وتؤسَّس على تلاقي الإرادات «الحرة» القادرة على إحداث أَثرٍ قانونيٍّ معين؛ فالعامل بما يملك من إرادةٍ شارعة يظهر في السوق كطرفٍ حُر من أطراف العقد٢ — عقد العمل — في مقابل الرأسمالي الذي يملك هو الآخر إرادةً شارعة، ومن خلال التلاقي بين الإرادات طبقًا للقاعدة التي تقضي بأن العقد شريعة المتعاقدين pacta sunt servanda ينعقد العقد، وهي قاعدة تفترض سلفًا، وبالتصادُم مع الحقيقة والواقع، تساوي طرفي العقد وعيًا وقوة وسلطة!
وعلى هذا النحو، لا يُوجد ما يمنع وجود عدة علاقات إنتاج تعمل جنبًا إلى جنب في المجتمع الواحد؛ فقد تسود علاقاتُ إنتاج عبودية إلى جانب علاقاتِ إنتاجٍ تعاقدية كما رأينا في أثينا أو روما، وقد تسود علاقاتُ إنتاجٍ إقطاعية في الريف؛ وتعاقديةٌ حرة في المدينة كما في فرنسا في القرن السابع عشر.٣

أما الركيزة الثانية؛ أي قوى الإنتاج، وهي الأشياء التي تُستخدم في عمليات تجديد الإنتاج الاجتماعي؛ أي وسائل الإنتاج وقوة العمل، فهي على هذا النحو حاضرة دومًا، وإن كانت بمستوياتٍ مختلفة من التطوُّر، في جميع علاقات الإنتاج (عبودية، وإقطاعية، وتعاقدية) كما رأينا في بابل وأثينا وروما وبغداد وقرطبة … إلخ، ولكنها لن تؤدي في تصوُّر ماركس، وتُراثه من بعده، دور «الرأسمال» إلا، وفقط، مع المجتمع البرجوازي الأوروبي المعاصر!

والآن، فلنلاحظ جيدًا: لقد تمت نسبة مصطلح نمط الإنتاج العبودي (بعد اختزال التنظيم الاجتماعي بأَسْره، وعنوة، في ظاهرة العبودية بشكلٍ انتقائي وتحكُّمي) وكذلك مصطلح نمط الإنتاج الإقطاعي إلى علاقات الإنتاج (دون أي مبررٍ علمي؛ أي دون سبب لتغليب علاقات الإنتاج كي ينسب إليها نمط الإنتاج في المجتمع) ونسبة مصطلح نمط الإنتاج الرأسمالي إلى قُوى الإنتاج (أيضًا دون أي سببٍ علمي؛ أي دون مبرر لتغليب قوى الإنتاج هذه المرة كي ينسب إليها نمط الإنتاج في المجتمع)٤ ولكي يتحدد المجتمع الرأسمالي المعاصر؛ وبالتالي يمكن إسقاط الرأسمالية٥ ثوريًّا، في مذهب ماركس وتراثه؛ كان يتعين إبراز ظاهرتَي بيع قوة العمل والإنتاج من أجل السوق كظاهرتَين غير مسبوقتَين تاريخيًّا! مع استمرار تأكيد نفيهما في المجتمعات السابقة على الرأسمالية الأوروبية! وعلى ما يبدو أن تلك هي الوسيلة الوحيدة التي مكَّنت ماركس، وتراثه من بعده، من الادِّعاء بأن الرأسمالية لا تعرفها المجتمعات السابقة عليها تاريخيًّا؛ وبالتالي هي نظامٌ اجتماعي طارئ؛ ومن ثَم يمكن إسقاطه!

٢

والتصنيف على هذا النحو المذكور أعلاه يؤدي في إطار علم الاقتصاد السياسي دورًا غاية في الخطورة من جهتَين؛ فهو:
  • أولًا: يَحول دون التغلغُل في عمليتَي الإنتاج والتوزيع من أجل الكشف عن القوانين الموضوعية الحاكمة لهما على الصعيد الاجتماعي؛ فهو يقدم — على صعيد علاقات الإنتاج — الشكل الخارجي لعلاقات التنظيم الطبقي (القهر والاستعباد)، مع الخلط بينها وبين علاقات التنظيم السياسي (التبعية والإقطاع)، وبينها وبين غلاف علاقات التنظيم الحقوقي (سلطان الإرادة).٦ يُقدِّم سطح التنظيم الاجتماعي والسياسي؛ وبالتالي يقدم الشكل الظاهري لعلاقات التوزيع. وابتداءً من الانشغال ﺑ «شكل» التنظيم الاجتماعي والسياسي، أو ﺑ «شكل» المركز القانوني أو الطبقي للمنتج المباشر أو مالك وسائل الإنتاج تأثرًا، بلا سندٍ علمي، بالظواهر الاجتماعية الأكثر بروزًا؛ أي تأثرًا بالعبودية والوضع الطبقي للعبيد في العالم القديم، وبالإقطاع ومركز القن في العالم الوسيط، وبمبدأ سلطان الإرادة وخضوع العامل المأجور لسلطة الرأسمال في العالم البرجوازي المعاصر، يجري طمس قوانين الحركة ودورها الحاسم تشكيل القاعدة التي تعمل عليها جميع النظم الاجتماعية في العالم السابق على الرأسمالية الأوروبية؛ حيث يفترض التصنيف أعلاه شفافية وسطحية علاقات الإنتاج في العالم السابق على الرأسمالية الأوروبية، وانعدام ظاهرتَي بيع قوة العمل والإنتاج من أجل السوق بقصد الربح؛ فالسيد في العالم العبودي يملك العبد بما يتضمنه من قدرة على العمل، ولا أهلية للعبد ولا إرادة! نعم ينتزع السيد فائضًا من العبد، ولكن طبيعة هذا الفائض؛ وبالتالي مصدره وتوزيعه، لا يحتاج، وفق نظرية نمط الإنتاج، إلى علم يُفسِّره لأن القهر واضح والظلم فادح والاستعباد سيد الموقف! فالفائض يُنتزع انتزاعًا بالحديد والنار! ويتم، بالتالي، الانتهاء نظريًّا إلى انتفاء الداعي لظهور العلم الاجتماعي المنشغل بالكشف عن القوانين الموضوعية الحاكمة للإنتاج والتوزيع في هذا المجتمع؛ فهي قوانينُ غير موجودة بالأساس!

    وفي المجتمع الإقطاعي لا يختلف الأمر وفق نظرية نمط الإنتاج؛ فالقن، كتابعٍ ذليل يأتي في آخر التدرج الطبقي، يعمل قهرًا في أرض سيده الإقطاعي، ولا يملك من أمره شيئًا، فهو يفلح أرض سيده ويعصر الكروم في معاصره ويطحن الغلال في طَوَاحينه ويدفع بالفوائض إلى مخازنه وخزائنه! ولا ضرورة على هذا النحو أيضًا، وفق نظرية نمط الإنتاج، تستدعي ظهور العلم الاجتماعي الذي يكشف عن القوانين الموضوعية الحاكمة للإنتاج والتوزيع في هذا المجتمع!

    والواقع تاريخيًّا أن الفوائض كانت تُنتزع، باستخدام العنف والقوة والتسخير، من العبيد والأقنان في بعض الأحوال، وليس دائمًا وعلى طول الخط، ولا يصح علميًّا تعميم ظاهرتَي القهر والانتزاع بالقوة، بل يجب البحث عن القوانين الموضوعية التي حكمت الإنتاج والتوزيع وبالتالي الاستئثار بالفائض من قِبل السادة ملَّاك العبيد أو كبار ملَّاك الأرض في الأحوال، وهي كثيرة وشائعة، التي كان العبيد والأقنان يعملون جنبًا إلى جنب بجوار العمال والمزارعين الأُجراء، ويخضعون لنفس القواعد الحاكمة لعمل الأُجراء على صعيد عملية الإنتاج.

    ويجب أيضًا، وربما من باب أولى، البحث عن هذه القوانين الموضوعية في أحوال انتزاع الفائض الاجتماعي بالقهر والقوة؛ وصولًا إلى القوانين الموضوعية الحاكمة للإنتاج والتوزيع عَبْر تاريخ النشاط الاقتصادي للبشر، أيًّا ما كان شكل التنظيم الاجتماعي/السياسي، وأيًّا ما كان الوضع الطبقي للمنتج المباشر أو المركز القانوني لمالك وسائل الإنتاج، وأيًّا ما كان مستوى تطوُّر قوى الإنتاج ذاتها.

  • ثانيًا: يُستخدم هذا التصنيف (عبودية – إقطاع – رأسمالية) أيديولوجيًّا من أجل ترسيخ وجود نظامٍ سياسي قائم، ومحاولة إثبات «علمية وحتمية!» مجيء نظامٍ سياسي معيَّن للمزيد من خداع الجماهير! وقد ساهم خلفاء ماركس، أكثر منه، بفاعليةٍ شديدة في ترسيخ هذا الوضع الأيديولوجي.
    فلقد رأى ماركس بقدر أو آخر، وكما ذكرنا، أن مراحل التاريخ الإنساني تبدأ، وفق المركزية الأوروبية، من المشاعية البدائية وتمر بالعبودية والإقطاع ثم الرأسمالية، وعليه، يصبح علم الاقتصاد السياسي عند ماركس هو علم نمط الإنتاج الرأسمالي، إنما ابتداءً من نظريته في نمط الإنتاج٧ التي تستند إلى شفافية علاقات الإنتاج وانعدام الرأسمال كظاهرة في المجتمعات قبل الرأسمالية حيث الإنتاج في الغالب من أجل الإشباع المباشر! يتلقف خلفاء ماركس هذه النظرية كي يؤسسوا/يُسوِّقوا للشيوعية (علميًّا!) على أساس أن «العلم» يقول ذلك! فمن البدائية تخرج العبودية، ومن العبودية يخرج الإقطاع، ومن الإقطاع تخرج الرأسمالية، ومن الرأسمالية، مرورًا بالاشتراكية، تخرج الشيوعية! الأخيرة إذن قادمة (علميًّا) لا محالة! ويصبح علم الاقتصاد السياسي لديهم، على هذا النحو، هو علم أنماط الإنتاج! أفضت نظرية نمط الإنتاج إذن إلى «أدلجة» العلم.٨

    حقًّا، كم هو مضلِّل ذلك الخطاب الأيديولوجي المسوَّق ضد الرأسمال، والذي يحصر الرأسمالية في ذاك الرجل البدين مشعلًا غليونه وهو يرقب عماله من شرفة مكتبه بمصنعه، ويُمنِّي نفسه بالأرباح الطائلة التي سوف يجنيها باستغلال عماله. تكمن أزمة هذا الخطاب المضلل في شخصنته للنظام الرأسمالي وحصر النضال في الثورة ضد كبار ملَّاك المصانع والأراضي بل وضد الأغنياء بوجهٍ عام! وهو ما استتبع فشل جميع حركات التحرر ابتداءً من إعادة إنتاج شخص المستغِل، أو تغييره الشكلي، دون مواجهةٍ علمية حقيقية قادرة على خلق المشروع الحضاري لمستقبلٍ عادل رحيم.

    فعلى الرغم من أن قوانين حركة الرأسمال تحكم أداء مصانع جنرال موتورز كما تحكم أداء أحقر ورشة لصنع أربطة الأحذية في أحط أحياء القاهرة، كما حكمت مصانع بلاد الغال ودور الطراز السلطانية، طالما تم استخدام العمل المأجور بقصد الإنتاج من أجل السوق، فإن أكبر خدعة تم تسويقها لاغتيال عقول الشباب هي أن الرأسمالية التي يجب مقاومتها والثورة ضدها لا تتجسد إلا في ذلك الرجل الرأسمالي المستغل/الجشع، والذي قد تتعارض مصلحته مع النظام السياسي. النظام السياسي الذي كان يستمد وجوده في السلطة من خداع الجماهير أيديولوجيًّا. تلك الشخصنة هي المسئولة عن الفشل التاريخي لجميع محاولات فهم قوانين الحركة٩ الحاكمة للإنتاج والتوزيع على الصعيد الاجتماعي، ومن ثَم الإخفاق الدائم في تجاوزها.

٣

ويتأكد ارتباك وتناقُض نظرية نمط الإنتاج بالشكل الذي قُدمت به من قِبل ماركس، وتُراثه من بعده، في الآتي:
  • (١)
    هَبْ أن علاقة الإنتاج في مجتمعٍ ما، عبودية أو إقطاعية، وقوى الإنتاج رأسمالية١٠ فكيف يمكن، وبدون تحكُّم، ووفقًا لنظرية نمط الإنتاج، تصنيف نمط الإنتاج في هذا المجتمع؟ ولماذا نقول إن المجتمع عبودي (بالنظر إلى علاقات الإنتاج)؟ ولا نقول إن المجتمع رأسمالي (بالنظر إلى قوى الإنتاج)؟ أو العكس؛ فنقول إن المجتمع رأسمالي (بالنظر إلى قوى الإنتاج)؟ ولا نقول إن المجتمع إقطاعي (بالنظر إلى علاقات الإنتاج)؟
  • (٢)

    في بعض عمليات الإنتاج الاجتماعي قد تكون أحد أجزائها قائمة على علاقةِ إنتاجٍ إقطاعية أو عبودية، وأحد أجزائها الأخرى قائمة على علاقةِ إنتاجٍ تعاقدية حرة! فنفس السؤال: ما هو نمط الإنتاج في هذه الحالة؟

  • (٣)
    وفقًا لنظرية نمط الإنتاج سوف تتطور قوى الإنتاج مع المجتمع البرجوازي المعاصر، حتى تبلغ المستوى الذي يجعلها تتحول من مجرد وسائل إنتاج لمنتجاتٍ تُستخدم في الإشباع المباشر إلى رأسمال! فالسؤال الذي لا تعرف له أبدًا إجابة عند نظرية نمط الإنتاج هو: ما هو، علميًّا، «مستوى التطور» الذي يُحدد هل وسائل الإنتاج بلغت مرحلة الرأسمال أم لا؟١١

ابتداءً من تفرقتنا بين شكل التنظيم الاجتماعي (عبودي/إقطاعي/برجوازي) وبين قوانين الحركة الحاكمة للإنتاج والتوزيع داخل هذا التنظيم الاجتماعي، وانتهاءً برفضنا لنظرية نمط الإنتاج بالحالة التي هي عليها وبالشكل الأيديولوجي الذي قُدمت به، نستبدل نظرية نمط الإنتاج، بعد تصحيحها، بقوانين الحركة وصولًا إلى القوانين الموضوعية الحاكمة للإنتاج والتوزيع على الصعيد الاجتماعي عَبْر تاريخ النشاط الاقتصادي أيًّا ما كان شكل التنظيم الاجتماعي/السياسي، وأيًّا ما كان الوضع الطبقي للمنتج المباشر أو المركز القانوني لمالك وسائل الإنتاج، وأيًّا كان مستوى تطوُّر قوى الإنتاج ذاتها.

١  يجب أن نفرق هنا بين علاقة العامل بصاحب العمل قبل العقد، وبعده؛ فلا إلزام على العامل بإبرام العقد، فهو ظاهريًّا حر يبرمه أو لا يبرمه؛ هو حر أن يعمل أجيرًا أو لا؛ ومن هنا كانت العلاقة تعاقديةً حرة. أما إذا أبرم العامل العقد التزم بكل أحكامه. وقد اهتمت التشريعات البرجوازية المعاصرة مثل: قانون العمل السوري رقم ٩١ / ١٩٥٩م، والإماراتي رقم ٨ / ١٩٨٠م والأردني رقم ٨ / ١٩٩٦م، والمصري رقم ١٢ / ٢٠٠٣م، والعراقي رقم ٣٧ / ٢٠١٥م، بتحديد مفهوم كلٍّ من: العمل، والعامل، وصاحب العمل، والأجر، والمنشأة، وعقد العمل. كما انشغلت تلك التشريعات بتحديد الحقوق والالتزامات المتقابلة وبيان مصادر الحق وأحكام الالتزام وقواعد الإثبات وحدود الجزاءات والعقوبات وتعيين الاختصاص القضائي … إلخ.
٢  في البداية، تحالفت البرجوازية المعاصرة مع الملك في سبيل إقصاء الارستقراطية الإقطاعية، ثم انقلبت على الملك وأعدمَته مع حاشيته ورجال بلاطه. ولأنها ترفض أي قيود على حركتها في الداخل والخارج، فقد بحثت عن شكل أو آخر من أشكال التنظيم الاجتماعي الذي تستطيع أن تباشر نشاطها من خلاله، واختراقه إذا لزم الأمر؛ ولذلك تبلور التنظيم الاجتماعي، الذي تتستر من ورائه البرجوازية المعاصرة، القائم لا على عمل العبيد، ولا على الإقطاع، وإنما على المؤسسات المفترض حيادها! فيصبح النظام الاجتماعي هو التنظيم الاجتماعي المؤسساتي، لا العبودي ولا الإقطاعي، ودون خلط بين التنظيم الاجتماعي وقوانين الحركة الحاكمة للإنتاج والتوزيع في إطار هذا التنظيم الاجتماعي.
٣  انظر على سبيل المثال: F. Quesnay, “Le Tableau Economique”, op, cit, pp. 421–33.
٤  إن نسبة مصطلح نمط الإنتاج الرأسمالي إلى قوى الإنتاج له ما يبرره، ربما في الوعي لا في العلم، على الصعيد الاجتماعي فقد ظهرت في أوروبا الابتكارات الهائلة كمًّا وكيفًا وكانت جميعها بمثابة تثوير لوسائل الإنتاج، التي استُخدمت ﮐ «رأسمال» وهو ما أدى إلى تطوراتٍ غير مسبوقة نسبيًّا في الصناعة، وتغيراتٍ نوعية حادة، وعنيفة أحيانًا، في المجتمعات الأوروبية الغربية المعاصرة بأَسْرها؛ «فالبرجوازية، في غضون سيطرتها الطبقية التي لم يَكد يمضي عليها قرن من الزمن، خلَقَت قوًى منتجةً تفوق بعددها وضخامتها ما أوجَدَته الأجيال السابقة كلها مجتمعة؛ فالآلة، وإخضاع قوى الطبيعة، واستخدام الكيمياء في الصناعة والزراعة، والملاحة البخارية، وسكك الحديد، والتلغراف الكهربائي، واستصلاح أراضي قارَّاتٍ بأكملها، وتسوية مجاري الأنهار لجعلها صالحة للملاحة، وبروز عوامرَ كاملة من الأرض، أيُّ عصرٍ سالف كان يتصور أن مثل هذه القوى المنتجة كانت تهجع في صميم العمل المجتمعي؟» انظر: «البيان الشيوعي»، المصدر نفسه. عَزْو نمط الإنتاج إلى الرأسمال إذن لم يكن إلا تأثُّرًا بالظاهرة البارزة اجتماعيًّا على صعيد النشاط الاقتصادي، دون سببٍ علمي كما ذكرنا أعلاه.
٥  الذي ابتكر مصطلح «الرأسمالية» هو الألماني سومبارت (١٨٦٣–١٩٤١م)، كردِّ فعلٍ لتبلور مصطلح «الاشتراكية». انظر: Werner Sombart, “The Jews and Modern Capitalism”, Translated by M. Epstein (Kitchenr: Batoch Books, 2001).
هو إذن مصطلحٌ حديث، وسياسي في المقام الأول. انظر: أريك هوبسباوم، «عصر رأس المال»، ترجمة مصطفى كرم (بيروت: دار الفارابي، ١٩٨٦م)، ص٩. وباختصار: «إن كلمة الرأسمالية هي مصطلحٌ سياسي ولم تظهر بوضوح في المناقشات ذات الطابع السياسي إلا في بداية القرن العشرين، من حيث هي العكس الطبيعي لكلمة اشتراكية.» انظر: Fernand Braudel, “Civilization Materielle, Economie et Capitalism, XVe–XVIIIe siècle”, Vol. II (Paris: Librarie Armand Colin, 1979), p. 557.
ولقد استخدم كلٌّ من لوي بلان (١٨١١–١٨٨٢م)، وجوزيف برودون (١٨٠٩–١٨٦٥م)، كلمة «الرأسمالية» قبل سومبارت، ولكن كان استخدامًا من قبيل التوصيف العابر لفئةٍ تستأثر بالأموال الطائلة، أو فئة مَن يمتلكون الأرض. ولا نجد لدى الكلاسيك ذكرًا لمصطلح الرأسمالية؛ فهو بوجهٍ عامٍّ غير موجود عند سميث أو ريكاردو، أو غيرهما من كبار مفكري الكلاسيك؛ حيث كان انشغال هؤلاء منصبًّا على تحليل نظامٍ تهيمن عليه الظواهر المتعلقة بالرأسمال دون أن يكون في أذهانهم رأسمالية المجتمع؛ لأن الروابط الاجتماعية لم تكن تحللت والعلاقات الشخصية لم تكن تهاوت كليًّا بعدُ! أما ماركس فقد استخدم الكلمة أيضًا لكنها ظهرت، كمصطلح، خافتة في «رأس المال»؛ إذ لم يُعِرْه ماركس الاهتمام، ولم يستعمله كمصطلح له خصوصية، وكان يستخدم دومًا مصطلح نمط الإنتاج الرأسمالي للتعبير عن العملية الإنتاجية التي ترتكز، لا على عمل العبيد أو التنظيم الاجتماعي الإقطاعي وإنما ترتكز على وسائل الإنتاج التي تحولت إلى رأسمال، وقوة العمل التي صارت محلًّا للبيع والشراء.
٦  يعني مبدأ سلطان الإرادة، وفق المفاهيم البرجوازية، أن الإرادة، بوصفها التصميم الواعي على أداء فعلٍ معين، قادرة على أن تنشئ التصرف القانوني، وتقبل بوعيٍ الآثار التي تترتب عليه. وهذا المبدأ على هذا النحو ذو شقَّين: يتعلق الشق الأول منه بالشكل، وهو مبدأ الرضائية الذي يجعل الإرادة وحدها مجردة عن أي شكليةٍ كافية لإنشاء التصرف؛ فكل ما هو مطلوب أن يصدر تعبير عن الإرادة وهذا التعبير يكون بأي صورة؛ فقد يقع باللفظ أو بالكتابة أو حتى بالإشارة، كما يجوز أن يكون ضمنيًّا. أما الشق الثاني فيتعلق بالموضوع، ومقتضاه أن تكون الإرادة هي صاحبة السلطان في تحديد آثار التصرف. ومن جهة التأصيل الفقهي يمكننا القول بأن الإرادة الحرة هي التي تهيمن على جميع مصادر الالتزام. وهي تتجلى قوية في العقد؛ فالمتعاقدان لا يلتزمان إلا بإرادتَيهما. ولا يلتزم أحد بعقد لم يكن طرفًا فيه، كما لا يكتسب أحد حقًّا من عقد لم يشترك فيه، فالعقد إذن يرتكز على الإرادة، بل هو محض إرادةٍ خالصة. وعقد العمل، على هذا النحو، بين العامل المأجور والرأسمالي يخضع لنفس المفاهيم وعين التطبيقات. في مبدأ سلطان الإرادة، انظر: السنهوري، «الوسيط» (١: ٥٦).
Planiol, Ripert Et Boulanger, “Traite Elementaire de Droit Civil de Marcel Planiol, Obligations-Contrats-S retés réelles”, éd. Nouvelle refondue par Georges Ripert, avec le concours de Jean Boulanger, L.G.D.J. Paris, 1943. pp. 143–55.
٧  ولم يكن ماركس يهدف، في تصوري، من وراء برهنته التاريخية على هذا النحو إلى أكثر من إثبات تأثير تطوُّر قوى الإنتاج في صوغ وتطوير علاقات الإنتاج.
٨  انظر مثلًا: أبالكين وآخرين، «الاقتصاد السياسي»، ترجمة سعد رحمي (القاهرة: دار الثقافة الجديدة، ١٩٨٧م)، ص٥٤. ولدى نيكيتين في كتابه المدرسي: «إن الاقتصاد السياسي هو علم تطوُّر علاقات الإنتاج الاجتماعية. إن الاقتصاد السياسي علمٌ تاريخي، علمٌ طبقي، علمٌ حزبي، فهل زوال الرأسمالية وانتصار الشيوعية أمران محتَّمان لا مناص منهما؟ يجيب الاقتصاد السياسي البرجوازي بالنفي طبعًا ما دام يُمثِّل مصالح النظام الذي أمسى كابحًا للتطور، والمحكوم عليه بالهلاك. إن أهمية الاقتصاد السياسي الماركسي اللينيني تقوم في كونه يُسلِّح الطبقة العاملة، بمعرفة قوانين التطور الاقتصادي، ويتيح للشغيلة أن ينفذوا بنجاح المهام التي تواجههم. إن الاقتصاد السياسي الماركسي اللينيني يُبيِّن في أي اتجاه يجب أن يسير بناء الاشتراكية والشيوعية.» انظر: بيوتر نيكيتين، «أسس الاقتصاد السياسي»، ترجمة إلياس شاهين (موسكو: دار التقدم، ١٩٨٤م)، ص١١–١٣. ويُعد أستاذي د. محمد دويدار من أبرز المفكرين المصريين الذين تبنَّوا تعريف الاقتصاد السياسي كعلم لأنماط الإنتاج. انظر: محمد دويدار، «مبادئ الاقتصاد السياسي»، ص٢٨٧–٣٢٨. وهو ما رفضه د. سمير أمين: «عندما يصف محمد دويدار الاقتصاد السياسي بعلم أنماط الإنتاج فإنه يخلط، في رأينا، بين اقتصاد وماديةٍ تاريخية». انظر: سمير أمين، «قانون القيمة والمادية التاريخية»، ترجمة صلاح داغر (بيروت: دار الحداثة، ١٩٨١م)، ص١٠، هامش.
٩  ويبدأ الفشل في الفهم مع عدم الوعي بأن عملية الإنتاج، عند أعلى درجات التجريد، لا يعنيها كثيرًا شكل القائم بها؛ فهي لا تعبأ هل تمَّت على يد أحدب نوتردام أم على يد داعرةٍ سلافية!
١٠  أو أن «الإقطاعيين» يستخدمون «العبيد» في الزراعة، من أجل بيع المحصول في «السوق» لتحقيق «الربح» النقدي!
١١  ولو كان هذا المستوى يتحدد بمدى استخدام أدوات العمل ومواده في الإنتاج من أجل السوق، فلا شك في أن المجتمع البابلي سيكون رأسماليًّا. ولقد كان كذلك فعلًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤