الفصل الأول

إمبراطوريات الذهب والدم

١

لأن تاريخ أوروبا الحديث، بل والمعاصر كذلك، هو تاريخٌ دموي حافل بحروب المجازر وحملات الإبادة؛ فسوف نتخذ من التكوُّن التاريخي للتخلُّف الاجتماعي والاقتصادي في قارة أمريكا اللاتينية١ حقلًا للتحليل؛ لأنها تمثل النموذج الأمثل لأعمال السلب والنهب والإبادة التي قامت بها أوروبا الاستعمارية في فجر تاريخها الحديث؛ فجر الرأسمالية الظافرة! وعادةً ما يجري تقسيم تاريخ أمريكا اللاتينية، سياسيًّا، إلى أربع مراحل: الأولى (١٤٩٢–١٥٤٢م) مرحلة الغزو. أما المرحلة الثانية (١٥٤٢–١٨١٠م) فهي مرحلة الاستعمار. والثالثة (١٨١٠–١٨٢٤م) مرحلة الكفاح من أجل الاستقلال السياسي. والمرحلة الرابعة (١٨٢٤م إلى الآن) فهي مرحلة الحياة السياسية المستقلة.٢ أما نحن فنُقسِّم هذا التاريخ، اقتصاديًّا، إلى ما قبل الرأسمالية الأوروبية المعاصرة وما بعدها.
ولكي نكوِّن الوعي، الناقد، بمحدِّدات المرحلة التاريخية التي شهدت مولد التاريخ الأوروبي الحديث على جماجم البشر، ونفهم كيفية استكمال الولايات المتحدة الأمريكية مهمة إبادة البشر حتى أيامنا تلك، فيتعين أن نتزود منهجيًّا بالآتي:
  • (١)
    الوعي بالعدوانية المباشرة للرأسمال الأوروبي الاستعماري (الإسباني والبرتغالي في مرحلةٍ أولى) على مجتمعات الاقتصاد المعاشي (بكل خصوصيته، وحضارته المدهشة: الإنكا، والأزتك) في أمريكا اللاتينية؛ فحينما وصل الغزاة لم يكن السكان الأصليون، ومنذ آلاف السنين، يعرفون الملكية الفردية للأرض ولا ملكية العقارات بوجهٍ عام؛ فلم يكن لديهم سوى الملكية الجماعية للأراضي، وقرارُ الإنتاج يُتخذ بشكل جماعي، وتوزيع المنتَج، حتى ما كان نتيجة القنص والصيد، يتم بشكلٍ جماعي.٣ والنقود والأرباح والرأسمال أشياء هي من قبيل الأمور غير المفهومة لديهم على الإطلاق! فالتبادل، مع ندرته، كان يتم عن طريق المقايضة. والذهب، إله الأوروبي الغربي، لم يكن يُستخدم سوى في بعض أشكال الحُلي وبعض الأدوات والمصنوعات البسيطة. ولم يَرقَ هذا المعدن حتى إلى منزلة وسيط التبادُل لدى المايا أو الإنكا أو الأزتك أو غيرهم في أرجاء أمريكا اللاتينية.٤ أما هؤلاء الغزاة، عَبَدَة الذهب، فهم قادمون من مجتمع التجارة والأرباح والمضاربة والتبادل النقدي المعمَّم٥ ولكنهم، مع الغزو، لم ينقلوا التنظيم الاجتماعي والاقتصادي الآخذ في التشكل في بلادهم الأوروبية إنما نقلوا جميع نُظم الاستغلال الهمجية البالية،٦ فلقد نشأ التنظيم الاجتماعي الإقطاعي بكل قسوة العبودية في المستعمرات، في نفس الوقت الذي تَحلَّل فيه الإقطاع، كتنظيمٍ اجتماعي، في العالم الوسيط، وانزوت فيه العبودية في الأعمال المنزلية في بعض الأجزاء اليسيرة المتفرقة من العالم المعاصر!
    ومن المؤكد تاريخيًّا أن أوروبا، في عام ١٥٠٠م، لم تكن أكثر تطورًا أو تقدمًا من الحضارات الأخرى بل كانت أوروبا الأشد تخلفًا والأكثر بلادة! إن الغزو النهبوي هو القادر على تفسير نهضة أوروبا؛ فبفضل الموقع الجغرافي الذي احتلته القارة الأوروبية تمكنت سفن الغزاة عَبَدَة الذهب من بلوغ العالم الجديد، ولكن، كي تفرغ شحنات البارود في قلوب السكان الآمنين وتملأ بدلًا منها الذهب.٧
    وفي المستعمرة، فبحدوث الصراع الجدلي بين رغبة الغزاة المحمومة في الأرض الشاسعة، والذهب بطبيعة الحال، وبين مجابهة السكان الأصليين،٨ الذين كانوا في الأصل مالكين لشروط تجديد إنتاجهم الاجتماعي. تبدأ العملية التاريخية «الدامجة» للأجزاء المستعمرة في الكُل الرأسمالي الناشئ. تزامنت هذه العملية مع ضخ المزيد من قوة العمل «المقتنَصة!» من خلال تجارة سيطر عليها آنذاك التاج الإسباني والتاج البرتغالي، وتبعهما في ذلك فيما بعدُ باقي القوى الاستعمارية الأوروبية بصفةٍ خاصة فرنسا وإنجلترا.
  • (٢)
    الوعي بالهمجية والقسوة والبشاعة التي اقترنت بالحقبة الاستعمارية وفجر الرأسمالية المشرق! فعلى سبيل المثال كان عدد سكان المكسيك في عام ١٥١٩م نحو ٢٥ مليون نسمة، انخفض هذا العدد إلى مليون وتسعمائة ألف مع حلول عام ١٥٧٩م! وكي يبلغ ذروة انخفاضه مع عام ١٦٢٩م حين بلغ مجموع سكان المكسيك نحو مليون نسمة! أي إن عملية الإبادة، التي تمَّت في مائة وعشر سنين، قضت على ٢٤ مليون مكسيكيٍّ تقريبًا! وفي منطقة الكاريبي، على سبيل المثال أيضًا، انخفض عدد السكان من ٥٫٨٥٠ ملايين نسمة في عام ١٤٩٢م إلى نحو ١٫٩٦٠ مليون نسمة في عام ١٨٢٥م!٩
    يتعين إذن البحث في دور الغزو الاستعماري الأوروبي (الإسباني والبرتغالي في مرحلةٍ أولى) في دمج الاقتصادات المستعمَرة ذات الاكتفاء الذاتي؛ أي الإنتاج خارج فكرة التداول النقدي، في اقتصاداتها المستعمِرة كأحد الأجزاء التابعة؛ فلقد ظل الإسبان، عقب استقرارهم في جزر الهند الغربية وسماعهم عن بلاد في الغرب يكثر فيها الذهب والفضة بكميات لا تُحصى، يرسلون البعوث الاستعمارية لاستكشاف شواطئ أمريكا الوسطى؛ فعهدوا إلى حملة صغيرة بقيادة «كورتيز» لغزو هذه البلاد، المكسيك حاليًّا، التي كانت موطن قبائلَ ذات كنوزٍ هائلة وحضارةٍ رائعة وديانات وفنونٍ راقية. إنها حضارة الأزتك، التي أُبيدت ومُسحت من على خريطة العالم! وحينما سمع الإسبان عن بيرو، وهي موطن قبائلَ أخرى ذات كنوز وحضارة لا تقل في روعتها عن الأزتك، إنها حضارة الإنكا، أعدُّوا حملة بقيادة «بيزارو» للاستيلاء عليها، وتحكي لنا المراجع المختلفة في هذا الشأن أن أهل تلك البلاد أهل سلام وسلم وسكينة، يملكون من الذهب ما لم يخطر على بال أوروبيٍّ واحد، حتى إن ملك الإنكا، أتاهوالبا، افتدى نفسه لمَّا أُسر، كما يُروى،١٠ بملء الحجرة التي كان فيها ذهبًا، ولكنه لم يُدَع كي يمضي في سلام، إنما تمَّ تقديمه إلى المحاكمة بتهمة عبادة الأوثان وارتكاب الزنا! وأُعدم في ١٥٣٣م.
  • (٣)
    الوعي بالكيفية التي تم من خلالها فرض الزراعة الأحادية على أغنى أراضي قارة أمريكا اللاتينية وأخصبها وأوفرها إنتاجًا: البرازيل، وباربادوس، وجزر سوتابنتو، وترينداد وتوباجو، وكوبا، وبورتوريكو، والدومينيكان، وهاييتي؛ الأمر الذي كوَّن، تاريخيًّا، بلدانًا كالإكوادور على سبيل المثال، يتوقف مصير سكانها على تقلُّبات الأسعار العالمية للبن أو الكاكاو، أو الموز! هنا يجب الوعي أيضًا بالكيفية التي تمت من خلالها عملية تعميق هذا الشكل من الزراعة من خلال هيكلة اقتصادات بلدان القارة على نحوٍ يخدم، بإخلاص، اقتصادات الأجزاء الاستعمارية؛ بجعل بلدان القارة موردًا دائمًا للمواد الأولية. الحال الذي أفضى، بعد استنزاف التربة، إلى استيراد المواد الغذائية؛ فالأرض آلت ألَّا تُنتج سوى المحصول الواحد. المحصول الاستعماري: سُكر، كاكاو، مطَّاط، بُن، قطن؛١١ وهو الأمر الذي تزامن مع نشوء المزرعة الاستعمارية (اللاتيفونديات) وتبلوُر الطبقات الاجتماعية المكونة تاريخيًّا في ركاب الرأسمال الأجنبي (الإسباني والبرتغالي والإنجليزي والفرنسي والهولندي، ثم الأمريكي كامتداد للهيمنة الاستعمارية الأوروبية)؛ ومن هنا نشأت أرستقراطية السكر، وأوليجارشية الكاكاو، كما ظهر أثرياء الغابة (المطاط) وأباطرة البن … إلخ. ولسوف تنهض هذه الطبقات، فيما بعدُ، بتأدية دور البطولة المطلقة، من خلال الأرباح التي تجنيها بفعل القانون الموضوعي للقيمة، في تدعيم بنية الخضوع والهيمنة وتكريس عوامل التخلف التاريخي لدول القارة؛ فتلك الطبقات التي تربَّت في كنف المستعمر وتلقَّت تعليمًا استعماريًّا راقيًا لا تُوجِّه (ولا يمكن، على هذا النحو، أن تُوجِّه) هذه الأرباح إلى الحقول الاستثمارية الوطنية، بل يُعاد ضخها في نفس العروق إلى الخارج!
  • (٤)
    الوعي بدور متطلبات عملية دمج الأجزاء المستعمَرة في الاقتصادات المستعمِرة، كأحد الأجزاء التابعة، في قلب الميزان الديموجرافي في معظم بلدان القارة١٢ وهو الأمر الذي يتعين معه الوعي بطبيعة التنظيم الاجتماعي/السياسي الذي استخدمته الاقتصادات المستعمِرة في سبيل إنهاك الاقتصادات المستعمَرة وتصفيتها ماديًّا، وسلبها لشروط تجديد إنتاجها الاجتماعي. والتنظيم الاجتماعي الذي استخدمته القوى الاستعمارية إنما يحتاج (لارتكازه على السخرة والعبودية) إلى قوة عمل وفيرة، ربما أكثر من وسائل الإنتاج (مواد العمل وأدوات العمل)؛ ولذلك سيكون من الضروري أن تقوم قوى الاستعمار الأوروبي بِضَخِّ نحو ٨ ملايين عبدٍ (إنسان!) أفريقيٍّ١٣ إلى مناطق البرازيل وغرب الإنديز وجيانا في الفترة من ١٥٥٠–١٨٥٠م بعد أن قضى الاستعمار على السكان الأصليين! ولقد تركَّز ضخ العبيد في معظم جزر الكاريبي ومناطق زراعة القصب ومناجم الذهب ومزارع البن. الأمر الذي أفضى إلى تكوُّن طبقة «الكريوليس» التي ستنهض بدورٍ مهم في سبيل ترسيخ الهيمنة الاستعمارية؛ فلقد كرس الاستقلال في بداية القرن التاسع عشر تحويل السلطة إلى أيدي الملاك العقاريين والبورجوازية الكمبرادورية. عقب ذلك استمر التحويل وتدعيمه على امتداد القرن إزاء تكثيف التبادلات مع المتروبول الجديد، بريطانيا العظمى.
  • (٥)
    الوعي بالكيفية التاريخية التي بمقتضاها أمست القارة اللاتينية للأوروبيين عالمًا جديدًا بكلِّ ما تحمله الكلمة من معنى؛ إذ تُبيِّن سجلَّات الأشخاص المرخَّص لهم بالذهاب إلى الهند الغربية أسماء كثيرٍ من أصحاب الحِرَف والصنَّاع المهرة. ونستطيع أن نستخلص من تحليل هذه السجلات، وما تضمنته من حرف ومهن، الأحوال الاجتماعية المعقدة التي كانت تتزايد في المجتمعات المدنية الآخذة في التطور، ليس في الأجزاء المستعمِرة فحسب، إنما في الأجزاء المستعمَرة كذلك؛ فمن الذين رُخِّص لهم بعبور الأطلنطي في الفترة من ١٥٠٩م حتى ١٥١٧م: مزارع، وبغَّال، وتاجر، وصيدلي، وصنَّاع أحذية، وصانع آلاتٍ قاطعة، ومتخصص في أعمال السباكة، وفاحص معادن، ونجَّار، وحلَّاق، وحفَّار، وحائك ملابس، ونقَّاش، وحدَّاد، وصانع جوارب، وصانع عربات، وصانع فضيات، وصيرفي، وصانع شموع، وصانع معادن، وجرَّاح خلع أسنان، وراعي غنم، وزارع فاكهة، وثمانية بنائين، وخرَّاطون، وخزَّافون، وصنَّاع صهاريج، ومُطرِّزون، وحدَّادو أقفال، وخبَّازون.١٤
  • (٦)

    من المهم أن نعلم أن الغزاة، عَبَدَة الذهب، قد نهبوا، من بوليفيا وبيرو والمكسيك والهند الغربية والبرازيل وتشيلي، في الفترة الممتدة من ١٥٤٥م حتى ١٨٠٠م نحو ١٥١٧٣٫١ مليار مارك من الفضة، ونحو ٤٥٧٢ مليار مارك من الذهب؛ وبالتالي تدفَّقَت إلى أوروبا ثروات، هي بالأساس أدواتُ دفع، غير مسبوقة تاريخيًّا؛ الأمر الذي انعكس على الوظائف التي تؤديها النقود في الحياة اليومية داخل الأجزاء المستعمرة؛ فلقد زادت كمية النقود في نفس الوقت الذي نشطت فيه التجارة عَبْر بحار ومحيطات العالم الحديث، وتمكَّنَت أوروبا من الوصول إلى مراكز التجارة البعيدة شرقًا وغربًا.

    في الوقت نفسه، والذي بدأ فيه التراكم الرأسمالي، بدأت الاكتشافات المعرفية والمخترعات العلمية،١٥ وأصبحت النقود تلعب دورًا يتعدى الاكتناز إلى الرأسمال. النقود التي تُستخدَم من أجل الإنتاج. وهو الأمر الذي تطلَّب البحث عن قوى الإنتاج الأخرى؛ فالرأسمال موجود بكثافةٍ عالية، وأدوات العمل يجري اختراع المزيد منها وتطويرها بوتيرةٍ متسارعة. وقوة العمل متوافرة أيضًا والريف يدفع بالآلاف صوب المدن للعمل في المصانع. يتبقى بالتالي مواد العمل أي المواد الخام؛ حينئذٍ تكون المستعمرات هي المورد الأساسي لهذه المواد مثل السكر والمطاط والموز … إلخ. يجب إذن الوعي بطبيعة التراكم الرأسمالي على الصعيد العالمي وحقيقة التكون التاريخي لاقتصاد المبادلة النقدية المعممة في أوروبا في القرن الخامس عشر؛ هذا التكون التاريخي الذي تم من خلال التواطؤ بين الرأسمال التجاري (عقب تبلوره الطبقي) وبين السلطة المُعبِّرة عن فكرة الدولة القومية الساعية إلى تحطيم الاصطفائية التي نهض عليها التنظيم الاجتماعي الإقطاعي الآخذ في التحلل (مع ظاهرة تنقيد/تأجير الأرض) والمتجهة نحو الانسلاخ عن الجسد اللاتيني وذلك حتى أواخر القرن السابع عشر،١٦ ثم توسع الرأسمال الصناعي، حتى أوائل القرن الثامن عشر، الذي تزامن مع هيمنة نمط الإنتاج الرأسمالي في طريقه إلى خلق السوق العالمية وتدويل الإنتاج من خلال أنماطٍ مختلفة للتقسيم الدولي للعمل والتغلغل في هياكل المجتمعات المتخلفة مُشكِّلًا بذلك أجزاءً للاقتصاد العالمي بمستوياتٍ مختلفة من التطور. فأضحت أجزاءً متقدمة، وأمست أخرى متخلفة.
  • (٧)
    بانتهاء الحرب العالمية الثانية يشرع الاقتصاد الرأسمالي العالمي المعاصر في استكمال تكوُّنه من خلال مؤسسات دولية (صندوق النقد، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة) تعمل على ترسيخ تبعية البلدان المنهوبة للأجزاء المتقدمة من النظام الرأسمالي العالمي، من خلال:
    • فتح أسواق الأجزاء المتخلفة لتصريف الإنتاج، بل والنقد، الفائض.

    • إغراق الأجزاء المتخلفة في فخ المديونية الدولية، وبالتالي نهب ثروات البلدان الأشد فقرًا سواء عَبْر هذه الديون أو الاستثمارات الأجنبية المباشرة؛ بالإضافة إلى تصدير التضخم.

    • ومن ثَمَّ: فرض سياسات للتنمية يكون انشغالها الأساسي تعبئة الموارد الوطنية لصالح الدائنين والمستثمرين الأجانب. وحين يتم التركيز، وبشكلٍ هامشي، على التصنيع فإنما يكون ذلك بغرض الإنتاج للتصدير من أجل النقد الأجنبي؛ الذي يُعاد تصديره إلى الأجزاء المتقدمة من النظام الرأسمالي العالمي.

    • توجيه الأجزاء المتخلفة نحو التعديل الجذري لتشريعاتها المعوِّقة لحرية السوق.

    • إعادة هيكلة اقتصادات الأجزاء المتخلفة على نحوٍ خدمي يفقد تلك الأجزاء الشروط الموضوعية لتجديد إنتاجها الاجتماعي؛ فتظل معتمدة على الخارج في إنتاجها؛ فاقدة القدرة على التنمية المستقلة المعتمدة على الذات.

  • (٨)

    الوعي بالكيفية التاريخية التي تبلور من خلالها التاريخ النقدي للهيمنة الأمريكية في القرن التاسع عشر بعد سلسلةٍ متصلة من العلاقات الجدلية بين القوى الأوروبية المتصارعة (هولندا، وإنجلترا، وفرنسا، وروسيا، والنمسا، وألمانيا، وإيطاليا، وبروسيا، والدولة العثمانية) وانتهاءً بالحرب العالمية الأولى التي خرج منها الاقتصاد الأوروبي حطامًا، بينما خرجت الولايات المتحدة الأمريكية كأغنى وأقوى دولةٍ رأسمالية في العالم، يزيد مجموع أرصدتها الذهبية عن مجموع الأرصدة الذهبية التي تملكها فرنسا وألمانيا وبريطانيا، وكأن الحرب لم تفعل شيئًا سوى تحريك التراكم؛ أي نقل ثروات أمريكا اللاتينية (وخيرات المستعمرات بوجهٍ عام) من أوروبا إلى الولايات المتحدة الأمريكية. هنا ينبغي الوعي بالظرف التاريخي الذي تمكَّن الذهب من خلاله من إرساء منظومة الأثمان المُعبَّر عنها بعملاتٍ وطنية مختلفة نظير سلع تم إنتاجها في أماكنَ متفرقة من العالم وفي ظل ظروفٍ إنتاجية يميزها التغير المستمر.

ولم يكن من الممكن للذهب أن يؤدي هذه الوظيفة إلا ابتداءً من تداوله كنقود داخل الاقتصاد الرأسمالي القومي الأكثر تطورًا والذي كان في سبيله للسيطرة على الجزء الأكبر من المعاملات الدولية: الاقتصاد البريطاني. وتُمكِّن قاعدة الذهب الدولية بدورها الرأسمال البريطاني من تأكيد هيمنته داخل الاقتصاد العالمي، وهي هيمنة استمدها من تفوق الإنتاجية النسبية للعمل، عمقًا ومدًى، وبفضل هذه الهيمنة يصبح الجنيه الإسترليني، العملة الوطنية البريطانية، سيد العملات دوليًّا، ويمكن أن يحل محل الذهب لعملات بلدانٍ أخرى تخضع لهيمنة الرأسمال البريطاني.

وهكذا تحل هيمنة رأسمال أحد البلدان على الصعيد الدولي محل سلطة الدولة على الصعيد القومي، وتُمكِّن هذه الهيمنة عملة الرأسمال المهيمن من القيام في المعاملات الدولية بدور النقود الدولية، سواء كانت هذه العملة تستند إلى الذهب أم لا تستند، وإن يكن من الضروري أن تبدأ فترة سيطرتها التاريخية، بحكم تاريخية النقود، بالاستناد إلى الذهب.

ويكون من الطبيعي عند انتقال الهيمنة من رأسمالٍ قومي إلى رأسمالٍ قومي آخر أن ترث عملة المهيمن الجديد وظيفة النقود الدولية حالَّةً بذلك محل عملة الرأسمال الذي فقد هيمنته على الاقتصاد الرأسمالي الدولي.١٧ وذلك ما حدث في فترة الحربَين العالميتَين عندما فقد الرأسمال البريطاني هيمنته على الاقتصاد الدولي (تاركًا الاقتصاد الدولي كي يُقسَّم إلى عدة كتلٍ نقدية)؛ فقد ظهر الرأسمال الأمريكي ليفرض هيمنته على الصعيد العالمي (وارثًا التركة الاستعمارية النهبوية الأوروبية)١٨ ولكي تأتي الحرب العالمية الثانية لتؤكد الهيمنة الجديدة التي تفرض جميع تبعاتها في الفترة التالية للحرب.

•••

ولندرس الآن الظروف التاريخية والموضوعية التي أدَّت، في إطار تطور الرأسمالية المعاصرة، إلى إعلان نهاية علم الاقتصاد السياسي، وظهور ما يُسمى «علم الاقتصاد».

١  الذي هو الوجه الآخر، الصادق، للتكوُّن الهيكلي للرأسمالية المعاصرة. مع ملاحظة أن نفس الخطوات المنهجية نفترض إمكانية اتباعها حين البحث في تاريخ النهب الاستعماري في أفريقيا. على أساس من أن القارتَين تمثلان التاريخ الأصيل للقهر الاستعماري والأرض الخصبة لعملية تجديد إنتاج التخلُّف على الصعيدَين الاجتماعي والاقتصادي.
٢  انظر: أوخينيو تشانج رودريجث، «ثقافة وحضارة أمريكا اللاتينية»، ترجمة عبد الحميد غلاب وأحمد حشاد (القاهرة: المركز القومي للترجمة، ١٩٩٨م)، ص٣٨.
٣  «توصَّل العالم الروسي ماكسيم كوفاليفسكي في سبعينيات القرن الماضي إلى استنتاجٍ يقول بأن إمبراطورية الإنكا الخرافية في البيرو، كانت مجرد بلدٍ تهيمن عليه تلك الشيوعية الزراعية البدائية التي كان فون مور قد اكتشف وجودها، قبل ذلك، لدى الجرمانيين القدامى، وأن هذه الشيوعية كانت مهيمنة ليس فقط في البيرو، بل كذلك في المكسيك وفي طول وعرض القارة التي غزاها الإسبانيون حديثًا. ولقد أتاحت كتبٌ وتقاريرُ نُشرت فيما بعدُ، أتاحت دراسةً معمقة للعلاقات الزراعية القديمة في البيرو أدَّت إلى رسم صورةٍ جديدة للشيوعية الريفية البدائية في قارةٍ جديدة، ولدى عرقٍ آخر، وعند مستوًى آخرَ من مستويات الحضارة، وفي عهد يختلف تمام الاختلاف عن العهد الذي درسته الاكتشافات السابقة. كان أمامنا ها هنا تشكيلٌ قديم جدًّا للعلاقات الزراعية. لقد كان هذا التشكيل عبارة عن تجمُّع يرتكز على علاقات القربى والعائلة، وهذا التجمع كان المالك الوحيد للأرض في كل قرية أو مجموعة من القرى، أما الحقول فكانت تُوزَّع عن طريق القرعة سنويًّا، عن طريق كل أعضاء القرية. هذا بينما كانت القضايا العامة تُسوَّى عن طريق مجالس للقرية، ويتولى كل مجلس بنفسه انتخاب زعيم هذه القرية. ولقد تم العثور حتى في هذا البلد الأمريكي الجنوبي البعيد لدى الهنود على آثارٍ حية تشير إلى شيوعيةٍ كانت أكثر تقدمًا من مثيلتها في القارة الأوروبية: كانت ثَمَّةَ منازلُ جماعية هائلة تعيش فيها عائلات بكاملها عيشةً مشتركة ويُدفن الأموات فيها بصورةٍ مشتركة. وثَمَّةَ من يتحدث عن وجود مساكنَ جماعية يضم كلٌّ منها ما لا يقل عن أربعة آلاف رجلٍ وامرأة. أما المقر الأساسي لأباطرة الإنكا، مدينة «كوزكو» فكانت تتألف بشكلٍ خاص من مساكنَ جماعية يحمل كل منها اسم عائلة من العائلات.» مذكور في: روزا لوكسمبورج، «المجتمع البدائي وانحلاله»، ترجمة إبراهيم العريس (بيروت: دار ابن خلدون، ١٩٧٦م)، ص٤٥.
٤  «في العالمَين المكسيكي والإندياني، توافَر معدنا الذهب والفضة، توافرًا أذهل الغزاة الإسبانيين. إلا أن أهل البلاد الأصليين لم يفكروا إطلاقًا في الاستفادة منهما وسيطًا للتبادل.» انظر: أرنولد توينبي، «مختصر دراسة للتاريخ»، ترجمة فؤاد محمد شبل (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ٢٠١٥م)، ج٣، ص١١١.
٥  في هذه المرحلة التاريخية نقابل مجموعة من الكُتاب، وُجدوا في بلدانٍ مختلفة وذات مستوياتٍ مختلفة أيضًا من التطور الاجتماعي والاقتصادي، ولكن كان انشغالهم المشترك يتعلق بأسس التجارة (الخارجية بوجهٍ خاص، وهو الأمر الذي لم يمنع أنطونيو سيرا من تمجيد الصناعة، كما لم يمنع دي مونكرتيان من الإشادة بالزراعة والتجارة الداخلية بل وتقديمهما على التجارة الخارجية نفسها)، نقول ربط هؤلاء الكتاب الانشغال بالتجارة الخارجية وما يتعلق بها من أدواتٍ فنية تتمثل في ميزانَي التجارة والمدفوعات (على الرغم من عدم استعمال المصطلح الأخير صراحة من قِبل كُتاب التجاريين)، ابتداءً من مناقشة مشكلات العملة المعدنية وما يرتبط بها من سياسات للدولة تهدف إلى السيطرة على الصرف وإحكام الرقابة على منع خروج المعدن النفيس؛ ومن ثَمَّ، تم الانشغال بحقل التبادُل على الصعيد الدولي إنما ابتداءً من حقل الإنتاج في الداخل، وهو الأمر الذي قاد، انطلاقًا من التركيز على الثروة في مظهرها النقدي، إلى مجموعة من الأفكار المستقاة من الواقع: فتم حظر خروج الذهب والفضة، المسكوكَين وغير المسكوكَين، في إطارٍ محكم من تَدَخل الدولة (المُعبِّرة عن فكرة القومية) في النشاط الاقتصادي والتي يتعين عليها أن تتخذ جميع الإجراءات اللازمة لمنع خروج الذهب بالتضافُر مع التزامها بتوفير المواد الأولية للصناعات المختلفة مع التزامٍ مُوازٍ بتسويق المنتجات عن طريق قيامها نفسها بالشراء من المنتجين المباشرين. مع منع استخدام السلع الأجنبية، إلا بما هو ضروري جدًّا في الصناعة المحلية؛ فقد تم العمل على الحد من الاستيراد في مقابل المزيد من التصدير بالتزامن مع فرض القيود الجمركية والإجراءات الحمائية أمام السلع الأجنبية بقصد حماية الإنتاج المحلي. أضف إلى ذلك التوجه نحو تشجيع النمو في السكان وما صاحب ذلك من إجراءات تخص ذلك ابتداءً من الإعفاءات الضريبية لمن يتزوج مبكرًا، وانتهاءً بمنع خروج اليد العاملة والترحيب بقدوم واستقدام العمالة الماهرة. ويمكننا التمييز في داخل كتابات التجاريين بين تيارَين: ساد أولهما في بدايات تبلور فكر التجاريين، وهو الذي ذهب إلى أن الميزة المركزية للتجارة الخارجية تتمثل في اجتذاب المعادن النفيسة، وهو ما قاد إلى الاهتمام بالإنتاج لأنه سبب الحصول على تلك المعادن ومنع خروجها من أجل شراء السلع الأجنبية؛ فتحليل التداول لدى التجاريين كان ابتداءً من انشغالهم بحقل الإنتاج، وهو ما يبعد هذا التيار الفكري عن النيوكلاسيك الذين سوف ينشغلون بالتداول ابتداءً من حقل التداول! أما بالنسبة لكتابات التيار الثاني فلم يعُد المعدن النفيس يؤدي دورًا يتعدى قياس النشاط التجاري بعدما تم التحول نحو الانشغال، الأكبر والأوضح، بالأرض والصناعة والعمل. انظر، على سبيل المثال: E. Misselden, “Free Trade or, The Meanes to Make Trade Florish” (London: Printed by John Legatt, for Simon Waterson, dwelling in Paules Church-yard at the Signe of the Crowne, 1622). “The Circle of Commerce, or, The ballance of trade, in defense of free trade” (London: Printed by Iohn Dawson, for Nicholas Bourne, 1623). Antoine de Montchretien, “Traité de l’économie politique”, op, cit. Thomas Mun, “England’s Treasure by Forraign” (London: Macmillan and Co, 1895).
٦  «كان من الطبيعي أن تتأثر أُسُس الرق بظهور الرأسمالية تأثرًا نوعيًّا؛ ذلك لأن الرأسمالية بطبيعتها كان من شأنها، منذ ظهورها، ولا سيما بعد تطورها، أن تجر وراءها حتى أكثر الشعوب بربرية. وعلى الرغم من أن أسلوب الإنتاج الحديث يعتمد على استغلال العامل الأجير الحر، إلا أن الرأسمالية لم تتردَّد في اللجوء إلى استخدام أساليبِ ما قبل عصرها، بما فيها عمل الرقيق، حيثما وجدت ذلك ممكنًا ومربحًا، ولكن في إطار التحديث حسب متطلبات المرحلة طبعًا؛ فلقد فرض الإسبان والبرتغاليون، ومن بعدهم الهولنديون والفرنسيون والإنجليز، أعمال السخرة على السكان المحليين أينما حلوا خارج بلدانهم.» للمزيد من التفصيل، انظر: كمال مظهر أحمد، «الرأسمالية وتجارة الرق»، في: «مسألة الرق في أفريقيا» (تونس: المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، ١٩٨٩م)، ص١٢٨، وما بعدها.
٧  «إن الشيء شديد الوضوح ولا يتطلب أي إشارةٍ صريحة، وكان موضع تجاهلٍ غريب من الذين يعالجون نظريات التجاريين هو أن ذلك العهد كان عهد إمبراطورية القراصنة وكانت التجارة مرتبطة بالاستعمار وبالاستغلال الشرس للمستعمرات المكتشفة.» انظر: Schumpeter, “History of Economic Analysis”, op, cit, Ch.VII.
٨  لقد كتب المرسل الإيطالي أنطونيو ريباريو، عن السكان الأصليين، في كتاب بعث به إلى ميلانو سنة ١٦٣٧م: «لا بد من توفير الطعام لكل واحدٍ منهم، وتوزيع الأراضي لبذر الحب فيها، والتردُّد عليهم للتثبُّت من أنهم بذروا ما فيه الكفاية واعتنَوا بالزرع وقطفوا الثمار في حينها.» وبعد نحو قرن من ذلك التاريخ، روى كاهن حاضرة بابيو، الأب خوسيه كردييل، ما لا يختلف في جوهره عن الخبر نفسه. حيث كتب: «قد تكفي، لزراعة هذه الحقول، أربعة أسابيع، كما أثبته أنشطهم في العمل، ولأن الأرض في غاية الخصب؛ إلا أنه لا بد من ستة أشهر أو أكثر بسبب خمول الهنود. وينبغي على المرسل أن يسعى بكل قواه وبمزيد العناية ليؤمِّن القوت لسائر العائلات. كما أنه من الضروري، لحمل الكثيرين على العمل، أن يُضربوا بالعصا.» انظر: ألبرتو أرماني، «جمهورية اشتراكية مسيحية: اليسوعيون وهنود البركواي»، ترجمة كميل حشيمة (بيروت: دار المشرق، ١٩٩٠م)، ص١١٩. والواقع أن الموضوع ليس له علاقة بخمول المواطنين الأصليين، إنما هو، وبالأساس، الرفض الوجودي للمستعمر الذي جاء إلى بلادهم محملًا بآلات القتل، والجشع، والمرض. انظر: Friedrich Katz, “The Ancient American Civilizations” (London: Phoenix Press, 1969).
ولقد أصدرت «إيزابيلا» مرسومًا ملكيًّا عام ١٥٠٣م يُلخِّص تاريخ القارة بأَسْرها: «أما وقد بَلغَنا أنه نظرًا للحرية المفرطة التي يتمتع بها الهنود، فهم يتجنَّبون الاختلاط بالإسبان، لدرجة أنهم يأبَون العمل لديهم لقاءَ أجر، ويُفضِّلون أن يهيموا بلا شاغل، وأن المسيحيين يعجزون عن تحويلهم إلى العقيدة الكاثوليكية. إنني آمرك يا أيها الحاكم أن تُجبر الهنود وتُرغمهم على الاختلاط بالمسيحيين، وعلى العمل في بناياتهم، وعلى جمع الذهب والمعادن الأخرى وتعدينها، وفلاحة الأراضي، وإنتاج الغذاء للسكان المسيحيين.» للمزيد من التفصيل، انظر: بول هاريسون، «في قلب العالم الثالث: السقم يلتهم الأرض»، ترجمة إلهام عثمان (نيقوسيا: ميد تو للتنمية، ١٩٩٠م)، ج٢، ص٢٣٩.
٩  «إن اكتشاف مناجم الذهب والفضة في أمريكا، واقتلاع سكانها الأصليين من مواطنهم واستعبادهم ودفنهم أحياءً في المناجم، وبدايات غزو ونهب الهند الشرقية، وتحويل أفريقيا إلى ساحة محمية لصيد ذوي البشرة السوداء، إن ذلك كله يميز فجر عهد الإنتاج الرأسمالي، وإن هذه العمليات الرغيدة هي العناصر الرئيسية للتراكم الأوَّلي.» انظر: ماركس، «رأس المال»، الكتاب الأول، القسم الأول، الفصل الرابع عشر. ناهيك عن الأوبئة والأمراض التي نقلها الأوروبي. انظر: “Between 1520 and 1620, Mexico indigenous population fell drastically, partly due to wars and slavery, but mostly due to viruses and bacteria”. “Latin American History on File”, Media Projects Inc. Victoria Chapman & Associates, p. 437.
وللمزيد من التفصيل عن الأمراض التي نقلها الغزو الاستعماري الأوروبي، انظر: «الطب الإمبريالي والمجتمعات المحلية»، تحرير دافيد أرنولد، ترجمة مصطفى إبراهيم فهمي، عالم المعرفة؛ ٢٣٦ (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ١٩٩٨م)؛ فلقد شكل الأوروبيون صلاتٍ وبائيةً جديدة، إما بتوصيل أمراض (كالجدري والحصبة) كانت موجودة في أوروبا منذ زمنٍ طويل، أو بإرساء روابط بين أجزاء من العالم لم يكن يُوجد قبلها إلا صلاتٌ محدودة. وقد ساعدت وسائل التجارة والنقل الأوروبية على نشر الأمراض. لقد تم نقل بعض الأمراض انتقالًا مباشرًا بواسطة الأوروبيين أنفسهم. وكان الزهري يُعرف في هند القرنَين السادس عشر والسابع عشر باسم فرانجي روجا؛ أي المرض الأوروبي.» انظر: دافيد أرنولد، «المرض والطب والإمبراطورية»، في: «الطب الإمبريالي والمجتمعات المحلية»، المصدر نفسه، ص١٧-١٨.
ولقد قُدِّر الذهب المنهوب بنحو ٢٠٠ ألف طنٍّ في الفترة ١٥٢١–١٦٦٠م. انظر: Michel Beaud, “A History of Capitalism 1500–1980”, translated by Tom Dickman and Anny Lefebvre (London: Macmillan press, 1988), p. 19.
وانظر كذلك الإحصاءات — التي توضح مقدار النهب للذهب والفضة — الواردة في: رمزي زكي، «التاريخ النقدي للتخلف: دراسة في أثر نظام النقد الدولي على التكون التاريخي للتخلف بدول العالم الثالث»، عالم المعرفة؛ ١٩١ (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ١٩٨٧م).
١٠  «أوقد الإسبان المشاعل في الساحة وربطوا أتاهوالبا إلى عمود الإعدام تحيط به حُزَم الحطب المُعدَّة لحرق جثته، ثم ظهر القسيس الذي كان أَوَّل من ألقى عليه محاضرة حول فضائل المسيحية، وأمسك بالصليب ووضعه أمامه وحذَّرَه من اللعنة الأبدية التي ستصيبه إذا لم ينبذ دينه الوثني ويقبل دين المسيح. رفض أتاهوالبا الإذعان. وفي النهاية، وَعَد القسيس أتاهوالبا أنه إذا تحول إلى الدين المسيحي فإنهم سيُوفِّرون له موتًا سريعًا بالخنق بالطوق الحديدي، بدل معاناة آلام الخازوق! استسلم أتاهوالبا وقد هدَّه اليأس، وتقبَّل المعمودية باسم جوان دي أتاهوالبا وذلك تكريمًا للقديس يوحنا المعمدان، الذي صادف وقوع هذا الحدث الحزين في يوم عيده، ثم قام الجلاد بتنفيذ مهمته الشنيعة بينما وقف الإسبان يُتمتِمون بصلواتهم من أجل خلاص روح ابن الشمس.» انظر: بيتر بيرنشتاين، «سطوة الذهب: قصة استبداده بالقلوب والعقول»، ترجمة مها حسن بحبوح (الرياض: مكتبة العبيكان، ٢٠٠٢م)، ص٢٠٠. أما مأساة هاتوي فيرويها لاوريت سيجورنه: «فحين علم أن الغرباء سيغزون الجزيرة جمع أبناء قومه، وبعد تحليل للوضع، أوضح لهم أن سبب سلوك البيض هو التوقير الذي يُكِنُّونه لملكٍ عظيم يعرفه جيدًا. وفيما هو يقول ذلك كشف عن سلةٍ مملؤة بالذهب: ها هنا ترون سيدهم، الذي يخدمونه ويحبونه ويسعون إليه؛ ومن أجل هذا السيد يذيقوننا الويل؛ ومن أجله يطاردوننا؛ ومن أجله قتلوا آباءنا وإخوتنا وكل أهلنا وجيراننا، وحرمونا من كل أملاكنا، ومن أجله يمتهنوننا؛ ولأنهم كما علمتم يريدون المجيء إلى هنا، ولا يرغبون بشيءٍ آخر سوى البحث عن هذا السيد، وللعثور عليه واستخراجه سيعملون على مطاردتنا وإنهاكنا، مثلما فعلوا في وطننا من قبلُ، ولذا فلنُقم حفلًا لهذا السيد ولنرقص له، فلعله يقول لهم حين يجيئون ألَّا يؤذونا أو لعله يبعث إليهم بذلك. ومع ذلك لم يَهتَزَّ ذلك الإله لتوسُّلات هاتوي ورفاقه؛ فلقد جرى اغتيال جميع المقاومين وأُحرق هاتوي حيًّا؛ فحين أعلمه أحد الآباء الفرنسيسكان، وهو مقيد إلى عمود المحرقة، بأن التعميد يتيح له كسب فردوس السماء، سأله هاتوي عن مصير المسيحيين بعد موتهم، وحين علم أن الأخيار يذهبون إلى الفردوس رفض التعميد قائلًا إنه يفضل الجحيم على صحبة أناسٍ بهذه الهمجية والقسوة.» للمزيد من التفصيل، انظر: لاوريت سيجورنه، «أمريكا اللاتينية: الثقافات القديمة ما قبل الكولومبية»، ترجمة صالح علماني (القاهرة: المركز القومي للترجمة، ٢٠٠٣م)، ص١٥٢. ونعرف من ألبرتو أرماني: «أن اليسوعيين، على الرغم من قولهم بالتزام جانب الاعتدال ومراعاة أحكام الضرورة، قد انصرفوا في أعمالهم التجارية إلى مدًى بعيدٍ ملحوظ.» انظر: أرماني، «جمهورية اشتراكية مسيحية»، المصدر نفسه، ص١١٩.
١١  وعلى سبيل المقاربة، نجد أن نفس الأمر قد حدث في أفريقيا الشرقية والوسطى: «… بعد إعادة فتح السودان مباشرة، شرعت السلطات البريطانية في زراعة القطن طويل التيلة من أجل توفير منتج للتصدير ومصدر للدخل الحكومي. وأثبتت التجربة التي أُجريت، والتي استُخدم فيها الري بالضخ، ملاءمة المحصول. ومع استكمال العمل في سد سنار في عام ١٩٢٥م افتُتح مشروع الجزيرة، القائم على زراعة القطن، وأصبح القطن على الفور هو المحصول النقدي وسلعة التصدير الأساسية في السودان.» انظر: شارل عيسوي، «التاريخ الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا»، ترجمة سعد رحمي (بيروت: دار الحداثة، ١٩٨٥م)، ص٢٢٧-٢٢٨. وانظر أيضًا البحث المهم: يوسف فضل، وب. أغوث، «السودان، من ١٥٠٠ إلى ١٨٠٠م»، في: «تاريخ أفريقيا العام: ج٧: أفريقيا من ظل السيطرة الاستعمارية، إشراف ب. أغوث، تاريخ أفريقيا العام» (القاهرة: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، «د.ت»)، ص٤٦٣–٤٦٨. م؛ كانيكي، «الاقتصاد الاستعماري: المناطق التي كانت خاضعة للنفوذ البريطاني»، في: «تاريخ أفريقيا العام»، ج٥، المصدر نفسه، ص٣٩٣.
١٢  من الدراسات القيمة في هذا الصدد، بصفةٍ خاصة بشأن البرازيل، دراسة: ماريا فيليلا بتيت: «التحام الكثيرين في واحد: التجربة البرازيلية». وهذه الدراسة على الرغم من استهدافها أساسًا الدفاع عن الهوية البرازيلية؛ فإنها تمدنا بفكرةٍ عامة وجدية معًا عن تركيبة «شعب البرازيل ذات الطبيعة التي جعلت تزاوج الأجناس يأخذ وضع واقعٍ حقيقي وأيضًا موهبة صادقة.» على حدِّ ما ذكرت في دراستها. انظر أيضًا: بارتولمي بيناصر، «مناس جيريس: ذروة عالية لامتزاج الأعراق». انظر: «ديوجين» (المجلس الدولي للفلسفة والعلوم الإنسانية)، العدد ١٩١ (٢٠٠٢م).
١٣  فعلى سبيل المثال: في السنوات ١٤٨٦–١٦٤١م تمَّ جلب ١٤٠٠٠٠٠ عبد من ساحل أنجولا فقط، وفي السنوات ١٥٨٠–١٦٨٨م جُلب إلى البرازيل ١٠٠٠٠٠٠ عبد (أي بمعدَّل ١٠٠٠٠ سنويًّا) وخلال الإحدى عشرة سنة من ١٧٨٣ إلى ١٧٩٣م تم شحن ٣٠٠٠٠٠ عبد عن طريق ليفربول! للمزيد من التفصيل، انظر: Basil Davidson, “Old Africa Rediscovered” (London: Littlehampton Book Services Ltd; 1959), p. 365–7.
١٤  للمزيد من التفصيل، انظر: وليم ليتل شورز، «حضارة أمريكا اللاتينية»، ترجمة محمد سيد نصر (القاهرة: دار نهضة مصر، ١٩٧٠م)، ص١٩٩–٢٠١.
١٥  فعلى سبيل المثال: في حقل صناعة الغزل والنسيج، توصل جون كاي (١٧٠٤–١٧٦٤م) إلى ابتكار المكوك الذي ساعد على زيادة الإنتاج، كما تمكن جيمس هارجريفز (١٧٢٢–١٧٧٨م) من تطوير اختراع كاي مخترعًا النول الآلي الذي مكن من مضاعفة الإنتاج. وفي الوقت نفسه طور إدموند كارترايت (١٧٤٣–١٨٢٣م) اختراع هارجريفز على نحوٍ ساهم في التقليص من كلفة اليد العاملة. وفي حقل التعدين: توصل أبراهام داربي (١٦٧٧–١٧١٧م) إلى صهر الحديد باستخدام فحم الكوك بدلًا من الفحم النباتي؛ ومن ثَمَّ تمكن من تحويل الحديد إلى معدنٍ أقل صلابة. واستطاع هنري كورت (١٧٤٠–١٨٠٠م) صنع قضبانٍ حديدية أكثر صلابة. وفي حقل الطاقة: توصل توماس نيوكمان (١٦٦٤–١٧٢٩م) إلى اختراع أول محركٍ بخاري يعمل على ضخ المياه، وحينما وقع اختراع نيوكمان في يد جيمس واط (١٧٣٦–١٨١٩م) عمل على تطويره محولًا الحركة الخطية إلى حركةٍ دائرية، الأمر الذي جعل المحرك البخاري آلةً حاسمة في التطور الاقتصادي. للمزيد من التفصيل، انظر على سبيل المثال: توماس أشتن، «الانقلاب الصناعي في إنجلترا (١٧٦٠–١٨٣٠م)»، ترجمة أحمد محمد عبد الخالق (القاهرة: مكتبة نهضة مصر، ١٩٥٦م)، بصفة خاصة: الفصل الثالث: الابتكارات الآلية. ولتكوين التصور المنهجي عن تطور مسيرة تلك الاكتشافات العلمية بوجه عام، انظر: كراوثر، «قصة العلم»، بصفةٍ خاصة: الفصل الحادي عشر والفصل الثاني عشر.
١٦  انظر: بول هازار، «أزمة الضمير الأوروبي»، المصدر نفسه، ص٢٣٦؛ كرين برنتن، «أفكار ورجال: قصة الفكر الغربي»، ترجمة محمود محمود (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، ١٩٦٥م)، بصفة خاصة الفصل العاشر.
١٧  انظر: محمد حامد دويدار، «الاقتصاد الرأسمالي الدولي في أزمته» (الإسكندرية: منشأة المعارف، ١٩٨١م)، ص١٢٤.
١٨  لا شك في أن الولايات المتحدة الأمريكية، ومنذ إعلان مبدأ مونرو في ١٨٢٣م، ذات تاريخٍ حافل بالأحداث المثيرة، والدموية غالبًا، المتعلقة بأمريكا اللاتينية، التي اعتبرتها الولايات المتحدة ملكًا لها، وفي سبيل تأكيد هذا الاعتقاد، قامت الولايات المتحدة برسم العديد من خُطط الانقلاب، ودعم الأنظمة الديكتاتورية القمعية، وتمويل الحكومات المتهمة بارتكاب جرائمَ واسعة النطاق ضد الإنسانية بزعم حماية الإنسانية! فلقد احتلت قوات مشاة البحرية الأمريكية نيكاراجوا بين عامَي ١٩١٢م و١٩٣٣م من أجل قمع تمردٍ يساري! كما قامت اﻟ CIA بالتخطيط لانقلابٍ في جواتيمالا في ١٩٥٤م أطاح برئيسٍ منتخب، وأطلق شرارة حربٍ أهلية دامت أكثر من ثلاثين سنة خلَّفت وراءها نحو ربع مليون قتيل! ومنذ الستينيات، أطلقت اﻟ CIA حملة لإسقاط حكم «كاسترو»! وفي ١٩٧٣م ساعدت اﻟ CIA، ومعها كبرى شركات الاتصالات العالمية، على التخطيط لانقلابٍ آخر في تشيلي وخلع الرئيس «سلفادور أليندي»، وهو أول رئيسٍ وطني منتخب في النصف الغربي للكرة الأرضية، وتم تنصيب الجنرال «بينوشيه» الذي أَسَّسَ ديكتاتوريةً دموية قامت بقتل وتعذيب المواطنين، تاركةً وراءها آلاف الضحايا! وفي الثمانينيات، أيضًا، تدخَّلَت الولايات المتحدة وساندَت نظام سفاح السلفادور، الذي ذبح القساوسة والراهبات والمزارعين والمعلمين، وقطع رءوس الضحايا وعلقها على الأوتاد! ومع حلول التسعينيات وبدء انتهاء معظم الأنظمة الديكتاتورية في أمريكا اللاتينية، وإن كان ظاهريًّا، فقد توجهت الولايات المتحدة نحو تمويل المعارضة مع تأجيج الفتن؛ فلقد ضخت بعض الوكالات الممولة من الولايات المتحدة، مثل مؤسسة المنحة الوطنية من أجل الديمقراطية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، ملايين الدولارات إلى فنزويلا بهدف «تعزيز الديمقراطية». ولم تزل تسعى من أجل التخريب في فنزويلا البوليفارية. ويمكننا أن نُجمِل ونوجز التاريخ الدموي للولايات المتحدة في قارة أمريكا اللاتينية وفقًا للتسلسل الزمني على النحو التالي: غزو نيكاراجوا ١٨٢٣م، ثم بيرو ١٨٢٥م. احتلال تكساس المكسيكية ١٨٤٦م، وكي تُضم نهائيًّا في أعقاب ١٩٤٨م. تدمير ميناء جاجراي تاون في نيكاراجوا ١٨٥٤م. غزو كولومبيا ١٨٧٣م. التدخل في هاييتى ١٨٨٨م، ثم في تشيلي، ثم في نيكاراجوا ١٨٩٤م. الحرب الأمريكية الإسبانية المفتعلة طبقًا لأرجح الأقوال ١٨٩٨م. التدخل في كولومبيا ١٩٠١م و١٩٠٢م. الاستيلاء على ست مدن في هندوراس ١٩٠٧م. دخول المارينز هاييتي وقيامهم بالسطو على البنك المركزي سدادًا لأحد الديون! ثم احتلالها من ١٩١٥م وحتى ١٩٣٤م. قصف المكسيك ١٩١٦م. غزو خليج الخنازير ١٩٦١م. ضرب الحصار الجوي على كوبا. غزو الدومينيكان ١٩٦٥م، ونشر الأسطول على سواحلها ١٩٧٨م. غزو جرينادا ١٩٨٣م. التدخل في تشيلي ١٩٨٨م. غزو بنما واختطاف رئيسها ١٩٨٩م. تدعيم الانقلاب على تشافيز في فنزويلا ٢٠١٢م، والتلويح بالتدخل العسكري ٢٠١٩م. ولم تزَلِ الجرائم تتوالى كل ساعة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤